زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

وما روي عن علقمة والحسن : أنّ كلّ شيء نزل فيه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) مكّيّ و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فمدنيّ ، على تقدير صحّته لا يوجب تخصيصه بالكفّار ، ولا أمرهم بالعبادة حالة الكفر ، فإنّ المأمور به هو المشترك بين بدء العبادة والزيادة فيها والمواظبة عليها. فالمطلوب من الكفّار هو الشروع فيها بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع ، فإنّ من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتمّ إلّا به ، وكما أنّ الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فالكفر لا يمنع وجوب العبادة ، بل يجب رفعه والاشتغال بها عقيبه. ومن المؤمنين (١) ازديادهم وثباتهم عليها. فلا يرد أن الكفّار لا يعرفون الله ولا يقرّون به فكيف يعبدونه؟ والمؤمنين عابدون ربّهم فكيف أمروا بها؟ وإنّما قال : ربّكم ، تنبيها على أنّ الموجب للعبادة الربوبيّة.

وقوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة جرت عليه تعالى للتعظيم والتعليل. ويحتمل أن يكون صفة موضحة مميّزة إن خصّ الخطاب بالمشركين وأريد بالربّ أعمّ من الربّ الحقيقي والآلهة الّتي يسمّونها أربابا. والخلق : إيجاد الشيء على تقدير واستواء. وأصله التقدير ، يقال : خلق النعل ، إذا قدّرها وسوّاها بالمقياس.

وقوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) متناول كلّ ما يتقدّم الإنسان بالذّات أو بالزمان ، منصوب معطوف على الضمير في «خلقكم». والجملة أخرجت مخرج المقرّر عندهم ، إمّا لاعترافهم به كما قال الله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٢) (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٣) ، أو لتمكّنهم من العمل به بأدنى نظر.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) حال من الضمير في «اعبدوا» كأنّه قال : اعبدوا ربّكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتّقين ، الفائزين بالهدى والفلاح ، المستوجبين

__________________

(١) عطف على قوله : فالمطلوب من الكفّار ، أي : والمطلوب من المؤمنين.

(٢) الزخرف : ٨٧.

(٣) لقمان : ٢٥.

٨١

لرحمة الله. نبّه به على أنّ التقوى منتهى درجات السالكين ، وهو التبرّي عن كلّ شيء سوى الله إلى الله ، وأنّ العابد ينبغي أن لا يغترّ بعبادته ، ويكون ذا خوف ورجاء ، كما قال الله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (١) (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) (٢). أو من مفعول «خلقكم» والمعطوف عليه ، على معنى : أنّه خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى ، لترجّح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه.

وتحقيق المرام في هذا المقام : أن «لعلّ» في الآية واقعة موقع المجاز لا الحقيقة ، لأنّ الله عزوجل عالم الغيب والشهادة ، فإطلاق الرجاء عليه حقيقة غير جائز. فالمعنى المراد منه هاهنا : أنّ الله عزوجل خلق عباده لتعبّدهم بالتكليف ، وركّب فيهم العقول والشهوات ، وأزاح العلّة في إقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النجدين ، ووضع في أيديهم زمام الاختيار ، وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة المرجوّ منهم أن يتّقوا ليترجّح أمرهم ، وهم مختارون بين الطاعة والعصيان ، ومصداقه قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٣) ، وإنّما يبلو ويختبر من تخفى عليه العواقب ، ولكن شبّه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار.

وقد جاء «لعلّ» و «عسى» الموضوعان للترجّي في مواضع كثيرة من القرآن على سبيل الإطماع ، ولكن لأنّه إطماع من كريم رحيم ، وإذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة ، لجري إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به. وأيضا لمّا كان من ديدن الملوك وما عليه أوضاع أمرهم ورسومهم أن يقتصروا في مواعيدهم الّتي يوطّنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا : عسى ولعلّ ، ونحوهما من الكلمات ، أو يخيلوا إخالة ، أو يظفر منهم بالرمزة أو الابتسامة أو النظرة الحلوة ، فصدور ذلك من

__________________

(١) السجدة : ١٦.

(٢) الإسراء : ٥٧.

(٣) الملك : ٢.

٨٢

مالك الملوك ذي العزّ والكبرياء أولى وأحرى.

وقيل : تعليل للخلق ، أي : خلقكم لكي تتّقون ، كما قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١). وهو ضعيف ، إذ لم يثبت في اللغة مثله. وغلّب المخاطبين على الغائبين على إرادتهم جميعا. ولمّا كانت التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدّي ذلك إلى تنافر النظم ، فلا يرد : هلّا قيل : تعبدون ، لأجل «اعبدوا» ، أو : اتّقوا لمكان «تتّقون». والآية تدلّ على أنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيّته واستحقاقه للعبادة النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله.

ثم بيّن نعمة اخرى موجبة لاستحقاق معبوديّته فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً). وهو صفة ثانية ، أو مدح منصوب أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره «فلا تجعلوا». و «جعل» يجيء بمعنى : أوجد ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٢). وبمعنى : صيّر ، ويتعدّى إلى مفعولين ، كقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) أي : صيّر بعض جوانبها بارزا عن الماء ، مع ما في طبع الماء من الإحاطة بها ، وجعلها متوسّطة بين الصلابة واللطافة ، حتى صارت مهيّأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط ، وذلك لا يستدعي كونها مسطّحة ، لأنّ كرويّة شكلها مع عظم حجمها واتّساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها.

(وَالسَّماءَ بِناءً) أي : جعلها قبّة مضروبة عليكم. والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدّد ، كالدينار والدرهم. وقيل : جمع سماءة. والبناء مصدر سمّي به المبنيّ ، بيتا كان أو قبّة أو خباء. ومنه : بنى على امرأته ، لأنّهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديدا.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) عطف على جعل. (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً

__________________

(١) الذاريات : ٥٦.

(٢) الأنعام : ١.

٨٣

لَكُمْ). خروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ومادّة لها كالنطفة للحيوان ، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفيّاتها على المادّة الممتزجة منهما ، وأودع في الماء قوّة فاعلة وفي الأرض قوّة قابلة يتولّد من اجتماعهما أنواع الثمار. وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلّها بلا أسباب وموادّ ، كما أبدع نفوس الأسباب والموادّ ، ولكن له في إنشائها مدرجا من حال إلى حال صنائع وحكم ، يجدّد فيها لاولي الأبصار عبرا ، وسكونا إلى عظيم قدرته ، ليس في إيجادها دفعة.

و «من» الاولى للابتداء ، سواء أريد بالسماء السحاب ، فإن ما علاك سماء ، أو الفلك ، فإنّ المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض ، كما دلّت عليه ظواهر الكتاب والسنّة ، أو من أسباب سماويّة تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء فتنعقد سحابا ماطرا.

و «من» الثانية للتبعيض ، بدليل قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) (١) ، واكتناف المنكرين له أعني : ماء ورزقا ، كأنّه قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم. وهكذا الواقع ، إذ لم ينزل من السماء الماء كلّه ، ولا أخرج بالمطر كلّ الثمار ، ولا جعل كلّ المرزوق ثمارا. أو للتبيين و «رزقا» مفعول به بمعنى المرزوق ، كقولك : أنفقت من الدراهم ألفا.

وإنّما ساغ «الثمرات» والموضع موضع الكثرة ، لأنّه أراد بها جماعة الثمرة الّتي في قولك : أدركت ثمرة بستانه أي : بعضها ، أو لأنّ الجموع يتعاور بعضها موقع بعض ، كقوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) (٢) وقوله : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٣) موضع

__________________

(١) فاطر : ٢٧.

(٢) الدخان : ٢٥.

(٣) البقرة : ٢٢٨.

٨٤

الأقراء ، أو لأنّها لمّا كانت محلّاة باللام خرجت عن حدّ القلّة ، أو تنبيها على قلّة ثمار الدنيا في جنب ثمار الآخرة.

و «لكم» صفة «رزقا» إن أريد به المرزوق ، ومفعوله إن أريد به المصدر ، فكأنّه قال : رزقا إيّاكم.

ولمّا علمتم أنّ الله ربّكم ومنعمكم النعم السابقة لا غير فإيّاه اعبدوا (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً). متعلّق بـ «اعبدوا» على أنّه نهي معطوف عليه ، أو نفي منصوب بإضمار «أن» جواب له. والندّ المثل المناوئ ، من : ندّ ندودا إذا نفر ، وناددت الرجل : إذا خالفته. خصّ بالمخالف المماثل في الذات ، كما خصّ المساوي بالمماثل في القدر. وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله أندادا ، وما زعموا أنّها تساويه في ذاته وصفاته ، ولا أنّها تخالفه في أفعاله ، لأنّهم لمّا تركوا عبادته إلى عبادتها وسمّوها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنّها ذوات واجبة بالذات ، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله ، وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير ، فتهكّم بهم ، وشنع عليهم بأن جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ندّ.

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حال من ضمير (فَلا تَجْعَلُوا) ، ومفعول «تعلمون» مطروح ، أي : وحالكم أنّكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي في دقائق الأمور وغوامض الأحوال ، فلو تأمّلتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات ، متفرّد بوجوب الذات ، متعال عن مشابهة المخلوقات.

واعلم أنّ الله سبحانه قدّم في هاتين الآيتين من موجبات عبادته ومكوّنات حقّ الشكر له خلقهم أحياء قادرين أوّلا ، لأنه سابقة أصول النعم ومقدّمتها ، والسبب في التمكّن من العبادة والشكر وغيرهما ، ثم خلق الأرض الّتي هي مكانهم ومستقرّهم الّذي لا بدّ لهم منه ، وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلّبه ومفترشه ، ثم خلق السّماء الّتي هي كالقبّة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار ، ثم ما

٨٥

سوّاه عزوجل من شبه عقد النكاح بين السماء والأرض بإنزال الماء منها عليها ، والإخراج به من بطنها ـ أشباه النسل المنتج من الحيوان ـ من ألوان الثمار رزقا لبني آدم ، ليكون ذلك معتبرا ومتسلّقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف ، ونعمة يتعرّفونها فيقابلونها بلازم الشكر ، ويتفكّرون في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وتحتهم ، وأن شيئا من هذه المخلوقات كلّها لا يقدر على إيجاد شيء منها ، فيتيقّنوا عند ذلك أن لا بدّ لها من خالق ليس كمثلها ، حتى لا يجعلوا المخلوقات له أندادا ، وهم يعلمون أنّها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر.

ولا يخفى على الذكيّ اللبيب المتأمّل أن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله تعالى ، والنهي عن الإشراك به ، والإشارة إلى ما هو العلّة والمقتضي ، وهو أنّه رتّب الأمر بالعبادة على صفة الربوبيّة إشعارا بأنّها العلّة لوجوبها ، ثم بيّن ربوبيّته بأنّه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من السماء والأرض والمطاعم والملابس ، فإنّ الثمرة أعمّ من المطعوم والملبوس ، والرزق أعمّ من المأكول والمشروب. ثم لمّا كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيّته رتّب تعالى عليها النهي عن الإشراك به.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

ولمّا قرّر وحدانيّته وبيّن الطريق الموصل إلى العلم بها ذكر عقيبه ما هو الحجّة على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو القرآن المعجز بفصاحته التي غلبت فصاحة كلّ منطيق فصيح ، وأفحمت من طولب بمعارضته من كلّ خطيب بليغ ، مع كثرتهم

٨٦

وإفراطهم في المضادّة والمضارّة ، وتوغّلهم على المغالبة ، وعرّف ما يتعرّف به إعجازه ، ويتيقّن أنّه من عند الله كما يدّعيه ، فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) أي : القرآن العظيم (عَلى عَبْدِنا) ورسولنا الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) من أصغر السور كائنة (مِنْ مِثْلِهِ).

وإنّما قال : «نزّلنا» دون «أنزلنا» لأنّ نزوله نجما نجما بحسب الوقائع ، وآيات آيات على حسب النوازل والحوادث ، على ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر ، من وجود ما يوجد منهم مفرّقا حينا فحينا وشيئا فشيئا ، حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجدّدة والحاجات السانحة ، ولا يلقي الناظم ديوان شعره دفعة ، ولا يرمي الناثر بمجموع خطبه أو رسائله ضربة ، فلو أنزله الله لأنزله خلاف هذه العادة جملة واحدة ، كما قال الله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (١). فقيل : إن ارتبتم في هذا الّذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه ، وهلمّوا نجما فردا من نجومه ، سورة من أصغر السور. وهذه علّة التبكيت. وأضاف العبد إلى نفسه تنويها بذكره ، وتنبيها على أنّه مختصّ به منقاد لحكمه.

والسورة : الطائفة من القرآن المسمّاة باسم أقلّها ثلاث آيات. وواوها إن كانت أصليّة ، فإمّا أن تسمّى بسورة لأنّها طائفة من القرآن محدودة كالبلد المسوّر ، أو لأنّها محتوية على فنون من العلم ، كاحتواء سور المدينة على ما فيها. وإمّا أن تسمّى بالسورة الّتي هي الرتبة ، كما قال النابغة (٢) :

ولرهط حرّاب وقدّ سورة

في المجد ليس غرابها بمطار

لأنّ السّور بمنزلة المنازل والمراتب يترقّى فيها القارئ ، أوّلها مراتب في

__________________

(١) الفرقان : ٣٢.

(٢) ديوان النابغة الذبياني : ٥٩.

٨٧

الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة ، أو لرفعة شأنها في الدين. وإن كانت واوها منقلبة عن همزة ، فلأنّها قطعة من القرآن كالسورة الّتي هي البقيّة من الشيء.

والحكمة في تقطيع القرآن سورا إفراد الأنواع ، وتجاوب النظم ، وتسهيل الحفظ ، والترغيب فيه ، وتنشيط القارئ من أسلوب إلى آخر ، فإنّه إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثمّ أخذ في آخر كان أنشط له وأهزّ وأبعث على الدّرس ، كما إذا قطع المسافة ميلا أو فرسخا نفّس ذلك منه ونشّطه للسير ، ومن ثم جزّأ القرّاء القرآن أسباعا وأجزاء وعشورا وأخماسا.

وضمير «من مثله» لـ «ما نزّلنا» ، و «من» للتبعيض أو التبيين أو زائدة عند الأخفش ، أي : بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النظم. أو لـ «عبدنا» و «من» للابتداء ، وحينئذ يجوز أن يتعلّق بقوله : «فأتوا». ومعناه : فأتوا بسورة ممّا هو على صفته في غرابة البيان وحسن النظم ، أو هاتوا ممّن هو على حاله من كونه بشرا عربيّا أو أمّيّا لم يأخذ من العلماء ولم يقرأ الكتب.

ولا يخفى أنّ ردّ الضمير إلى المنزّل أوجه ، لأنّه مطابق لقوله : (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (١) ، وقوله : (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (٢) ، ولأنّ الحديث في المنزّل لا في المنزّل عليه ، فمن حقّه أن لا يردّ الضمير إلى غيره ، لأنّ المعنى : وإن ارتبتم في أنّ القرآن منزّل من عند الله فأتوا أنتم نبذا يماثله ويجانسه. وقضيّة الترتيب لو كان الضمير مردودا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقال : وإن ارتبتم في أنّ محمدا منزّل عليه فهاتوا قرآنا من مثله. ولأنهم إذا خوطبوا جميعا ـ وهم الجمّ الغفير ـ بأن يأتوا بطائفة يسيرة من جنس ما أتى به واحد منهم كان أبلغ في التحدّي من أن يقال لهم : ليأت واحد آخر بنحو ما أتى به هذا الواحد. ولأنّ القرآن معجز في نفسه لا بالنسبة إليه ، لقوله

__________________

(١) يونس : ٣٨.

(٢) الإسراء : ٨٨.

٨٨

تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (١). ولأنّ ردّه على «عبدنا» يوهم إمكان صدوره ممّن لم يكن على صفته ، ولا يلائمه قوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) فإنّه أمر بأن يستعينوا بكلّ من ينصرهم ويعينهم. والشهداء جمع الشهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة ، يعني : ادعوا كلّ من يشهدكم به من الجنّ والإنس.

(مِنْ دُونِ اللهِ) معنى دون : أدنى مكان من الشيء ، ومنه : تدوين الكتب ، لأنّه إدناء البعض من البعض ، ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك. ثم استعير للرتب ، فقيل : زيد دون عمرو أي : في الشرف ، ومنه الشيء الدّون. ثم اتّسع فيه فاستعمل في كلّ تجاوز حدّ إلى حدّ ، قال الله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، أي : لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين.

و «من» متعلّقة بـ «ادعوا» ، والمعنى : وادعوا إلى المعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنّكم وآلهتكم غير الله ، فإنّه القادر على أن يأتي بمثله دون كلّ شاهد. أو بـ «شهدائكم» ، والمعنى : ادعوا الّذين اتّخذتموهم آلهة من دون الله ، وزعمتم أنّهم يشهدون لكم يوم القيامة أنّكم على الحقّ.

وقيل : من دون الله أي : دون أوليائه ومن غير المؤمنين ، يعني : فصحاء العرب ووجوه المشاهد ليشهدوا لكم أنّكم أتيتم بمثله (٣).

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّه من كلام البشر. وجواب الشرط محذوف دلّ عليه

__________________

(١) الاسراء : ٨٨.

(٢) آل عمران : ٢٨.

(٣) في هامش الخطّية : «وهذا من المساهلة وإرخاء العنان ، والإشعار بأن شهداءهم الّذين هم وجوه المشاهد وفرسان المقاولة تأبى عليهم الطباع وتجمح بهم الأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحّة الفاسد ، البيّن عندهم فساده ، وبان اختلاله. منه».

٨٩

ما قبله. والصدق الإخبار المطابق.

ولمّا بيّن لهم ما يتعرّفون به أمر الرسول وما جاء به وميّز لهم الحقّ عن الباطل رتّب عليه ما هو كالتتمّة ، وهو قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) يعني : أنّكم إذا اجتهدتم في معارضته ولم تعارضوه بسورة مثله ، وعجزتم جميعا عن الإتيان بما يساويه أو يدانيه ، ولن يتيسّر لكم ذلك أصلا ، ظهر لكم أنّه معجز ، والتصديق به واجب ، فآمنوا به ، وإن لم تؤمنوا به وتكذّبوه مع وضوح حقّيّته عندكم (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي : فاتّقوا العذاب المعدّ لمن كذّب.

وعبّر عن الإتيان الموصوف بالصفة المذكورة بالفعل الّذي يعمّ الإتيان وغيره إيجازا ، فإنّه لو قيل : فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بمثله ، لاستطيل الكلام. ونزّل لازم الجزاء منزلته ـ وهو : فاتركوا العناد ـ على سبيل الكناية ، تقريرا للمكنّى عنه ، وتهويلا لشأن العناد ، وتصريحا بالوعيد مع الإيجاز.

وصدّر الشرطيّة بـ «إن» التي للشكّ والحال يقتضي «إذا» الّذي للوجوب ، فإنّ القائل سبحانه لم يكن شاكّا في عجزهم ، ولذلك نفى إتيانهم نفي تأبيد معترضا بين الشرط والجزاء ، تهكّما بهم ، وخطابا معهم على حسب ظنّهم ، فإنّ العجز قبل التأمّل لم يكن محقّقا عندهم.

و «تفعلوا» جزم بـ «لم» لا بـ «إن» الشرط ، لأنّها واجبة الإعمال مختصّة بالمضارع متّصلة بالمعمول ، ولأنّها لمّا صيّرته ماضيا صارت كالجزء منه ، وحرف الشرط كالداخل على المجموع ، فكأنّه قال : فإن تركتم الفعل ولا تقدرون على إتيانه في مستقبل الزمان ، ولذلك ساغ اجتماعهما ، فإنّ الأصل أن لا يدخل الحرفان المتجانسان في العمل على معمول واحد.

و «لن» كـ «لا» في نفي المستقبل غير أنّه أبلغ ، لأنّه موضوع للنفي تأكيدا أو تأييدا. والوقود بالفتح : ما توقد به النار ، وبالضمّ مصدر. والحجارة : جمع حجر ،

٩٠

كجمالة جمع جمل. والمراد بها الأصنام الّتي نحتوها ، وقرنوا بها أنفسهم ، وعبدوها طمعا في شفاعتها ، والانتفاع بها ، واستدفاع المضارّ بمكانتها. ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١). فعذّبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذّب الكانزون بما كنزوه ، أو بنقيض ما كانوا يتوقّعون زيادة في تحسّرهم.

وعن ابن عبّاس أنّها حجارة الكبريت ، فإنّ حرارتها أشدّ وأبلغ. ولعلّ المراد من هذه الرواية ـ بعد تسليم صحّتها ـ أنّ الأحجار كلّها لتلك النّار كحجارة الكبريت لسائر النيران. وهذا الاحتمال أدخل في المقصود ، إذ الغرض تهويل شأن نار الآخرة وتفاقم لهبها بحيث تتّقد بما لا يتّقد به غيرها ، والكبريت يتّقد به كلّ نار وإن ضعفت. فالمعنى : أنّها نار ممتازة عن غيرها من النيران ، لأنّها لا تتّقد إلّا بالناس والحجارة.

ولمّا كانت الآية مدنيّة نزلت بعد ما نزل بمكّة قوله تعالى في سورة التحريم :

(ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) (٢) ، صحّ تعريف النار ووقوع الجملة صلة ، فإنّها تجب أن تكون قصّة معلومة.

ثمّ قال استئنافا : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي : هيّئت لهم النار المنعوتة ، وجعلت عدّة لعذابهم. ويجوز أن تكون الجملة حالا بإضمار «قد» من «النار» لا الضمير الّذي في «وقودها» للفصل بينهما بالخبر.

واعلم أنّ في الآيتين ما يدلّ على النبوّة من وجوه :

__________________

(١) الأنبياء : ٩٨.

(٢) التحريم : ٦. والقول بأن الآية مكّية للزمخشري في الكشّاف (١ : ١٠٢) ، وتبعه عليه المصنّف «قده». وأطبق المفسّرون على أنّها مدنيّة ، واشتمالها على قصّة مارية زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشهورة أصدق شاهد على ذلك. والظاهر أنه وهم منه ، مع أنه صرّح في تفسير سورة التحريم (الكشّاف ٤ : ٥٦٢) بأنّها مدنيّة.

٩١

الأوّل : ما فيها من التحدّي والتحريص على الجدّ وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد ، وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن. ثمّ إنّهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادّة لم يتصدّوا لمعارضته ، والتجأوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج.

والثاني : تضمّنهما الإخبار عن الغيب بقوله : (لَنْ تَفْعَلُوا) ، فإنّهم لو عارضوه شيء لامتنع خفاؤه عادة ، مع أنّ الطاعنين فيه كثيرون في كلّ عصر.

والثالث : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو شكّ في أمره لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة مخافة أن يعارض فتدحض حجّته. وفذلكة الآية الأخيرة دالّة على أنّ النار مخلوقة معدّة لهم الآن.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

ثمّ عطف حال من آمن بالقرآن ووصف ثوابه على حال من كفر به وكيفيّة عقابه ، على ما جرت به العادة الإلهيّة من أن يشفع الترغيب بالترهيب ، تنشيطا لاكتساب ما ينجي ، وتثبيطا (١) عن اقتراف ما يردي ، فقال جلّ ذكره : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ).

الظاهر عطف هذه على الجمل السابقة. والمقصود عطف حال المؤمنين على حال الكافرين كما مرّ آنفا ، لا عطف الفعل نفسه حتى يجب أن يطالب له ما يشاكله

__________________

(١) ثبّطه عن الشيء تثبيطا : إذا شغله عنه ، لسان العرب ٧ : ٢٦٧.

٩٢

من أمر أو نهي فيعطف عليه حينئذ. ولا يحتاج إلى ما قال صاحب المفتاح (١) فيه : أنّ «بشّر» معطوف على «قل» مضمرا قبل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) إذ إضمار القول غير عزّيز في القرآن. انتهى كلامه.

أو معطوف على «فاتّقوا» ، لأنّ الكفّار المعاندين إذا لم يأتوا بما يعارض القرآن بعد التحدّي ظهر إعجازه ، وإذا ظهر ذلك فمن كفر به استوجب العقاب ، ومن آمن به استحقّ الثواب ، وذلك يستدعي أن يخوّف هؤلاء ويبشّر هؤلاء. وهذا كما تقول : يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشّر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم. وإنّما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عالم كلّ عصر أو كلّ أحد يقدر على البشارة بأن يبشّرهم ، ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة ، تفخيما لشأنهم ، وإيذانا بأنّهم أحقّاء بأن يبشّروا ويهنّؤا بما أعدّ لهم.

والبشارة الخبر السارّ ، فإنّه يظهر أثر السرور في البشرة ، ولذلك قال الفقهاء الكرام : البشارة هي الخبر الأوّل ، حتى إذا قال الرجل لعبيده : من بشّرني بقدوم ولدي فهو حرّ ، فأخبروه فرادى عتق أوّلهم ، ولو قال : من أخبرني ، عتقوا جميعا. وأمّا قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢) فعلى التهكّم.

والصّالحات جمع صالحة. وهي من الصّفات الغالبة الّتي تجري مجرى الأسماء من حيث إنّه لا يذكر معها موصوف كالحسنة. وهي من الأعمال ما حسّنه الشرع. وتأنيثها على تأويل الخصلة. واللام فيها للجنس ، لكن يعتبر الحال (٣) لكلّ شخص ما يجب عليه ، فإنّ بعضهم لا يجب عليه الزكاة أو الحجّ أو غير ذلك.

وعطف العمل على الإيمان إشعارا بأنّ السبب في استحقاق هذه البشارة

__________________

(١) مفتاح العلوم.

(٢) آل عمران : ٢١.

(٣) في الخطّية : لحال ، والصحيح ما أثبتناه.

٩٣

مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين ، فإنّ الإيمان الّذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق أسّ ، والعمل الصالح كالبناء عليه. وفيه دليل على أنّه خارج عن مسمّى الإيمان ، إذ الشيء لا يعطف على نفسه وعلى ما هو داخل فيه.

وقوله : «أنّ لهم» منصوب على نزع الخافض ، وإفضاء الفعل إليه.

و «الجنّة» المرّة من الجنّ ، وهو مصدر جنّة إذا ستره ، ومدار تركيبه على الستر ، سمّي بها الشجر المظلّل ـ لالتفاف أغصانه ـ للمبالغة ، كأنّه يستر ما تحته ، ثم البستان لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظلّلة ، ثمّ دار الثواب لما فيها من الجنان. وقيل : سمّيت بذلك لأنّه ستر في الدنيا ما اعدّ فيها من أنواع النعم ، كما قال الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١).

وجمعها وتنكيرها لأنّ الجنان على ما ذكره ابن عبّاس سبع : جنّة الفردوس ، وجنّة العدن ، وجنّة النعيم ، ودار الخلد ، وجنّة المأوى ، ودار السلام ، وعلّيّون. وفي كلّ واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال.

واللام في «لهم» تدلّ على استحقاقهم إيّاها لأجل الإيمان والعمل الصالح. وهذا لا يكون على الإطلاق ؛ بل بشرط أن يستمرّ على الإيمان حتى يموت وهو مؤمن ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) (٢) ، وقوله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٣) ، وأشباه ذلك. ولعلّه سبحانه لم يقيّد هاهنا استمرار الإيمان إلى الموت استغناء بالآيات المذكورة.

__________________

(١) السجدة : ١٧.

(٢) البقرة : ٢١٧.

(٣) الزمر : ٦٥.

٩٤

وتعريف الأنهار في قوله : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لإرادة الجنس ، كما تقول : لفلان بستان فيه الماء الجاري والعنب والفواكه. أو يراد الأنهار المذكورة في قوله : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (١) أو يراد : أنهارها ، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، كقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (٢).

والنهر بالفتح والسكون : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر ، كالنيل والفرات. والتركيب للسعة. والمراد بها ماؤها على الإضمار أو المجاز. ومعنى «من تحتها» من تحت أشجارها كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها. وعن مسروق : أنهار الجنّة تجري في غير أخدود.

وقوله : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) صفة ثانية لـ «جنّات» ، أو جملة مستأنفة ، كأنّه لمّا قيل : (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) وقع في قلب السامع : أثمارها مثل ثمار الدنيا أو أجناس أخر؟ فأزيح بذلك فقيل : إنّ ثمارها أشباه ثمار جنّات الدنيا ـ أي : أجناسها أجناسها ـ وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلّا الله. أو خبر مبتدأ محذوف ، والمعنى : هم كلّما رزقوا من أشجار الجنّات نوعا من أنواع الثمار رزقا (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل هذا في الدنيا.

و «كلّما» نصب على الظرف و «رزقا» مفعول به ، و «من» الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال. وأصل الكلام : أنّ كلّ حين رزقوا مرزوقا مبتدأ من الجنّات ، مبتدأ من ثمرة ، فصاحب الحال الأولى : «رزقا» ، وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال. ويحتمل أن يكون «من ثمرة» بيانا تقدّم ، كما في قولك : رأيت منك أسدا.

و «هذا» إشارة إلى نوع ما رزقوا ، كقولك مشيرا إلى نهر جار : هذا الماء لا

__________________

(١) محمد : ١٥.

(٢) مريم : ٤.

٩٥

ينقطع ، فإنّك لا تعني به العين المشاهدة منه ، بل النوع المعلوم المستمرّ بتعاقب جريانه وإن كانت الإشارة إلى عينه. فالمراد أنّ هذا مثل الّذي ... إلخ ، ولكن لمّا استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته.

وجعل ثمر الجنّة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أوّل ما رأت ، فإنّ الطباع مائلة إلى المألوف متنفّرة عن غيره ، وتتبيّن لها مزيّته وكنه النعمة فيه ، إذ لو كان جنسا لم يعهد ظنّ أنّه لا يكون إلّا كذلك ، فلا يتبيّن موقع النعمة حقّ التبيّن. فحين أبصروا الرّمّانة من رمّان الدنيا ومبلغها في الحجم ، وأنّ الكبرى لا تفضل عن حدّ البطّيخة الصغيرة ، ثم يبصرون رمّانة الجنّة تشبع السّكن أي : أهل الدار ، والنّبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة ، ثم يرون نبق الجنّة كقلال هجر ، كما رأوا ظلّ الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده ، ثمّ يرون الشجرة في الجنّة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعه ، كان ذلك أبين للفضل ، وأظهر للمزيّة ، وأجلب للسرور ، وأزيد في التعجّب من أن يفاجئوا ذلك الرمّان ، وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما.

وقيل : معنى «من قبل» قبل هذا في الجنّة ، لأنّ طعامها متشابه في الصورة ، كما حكي عن الحسن أنّ أحدهم يؤتى بالقصعة فيأكل منها ، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى ، فيقول ذلك ، فيقول الملك : كل فاللّون واحد والطعم مختلف. وكما روي أنّه عليه‌السلام قال : «والّذي نفس محمد بيده أنّ الرجل من أهل الجنّة ليتناول الثمرة ليأكلها ، فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها». فيمكن أنّهم إذا رأوها على الهيئة الاولى قالوا ذلك. والأوّل أظهر ، لمحافظته على عموم «كلّما» ، فإنّه يدلّ على ترديدهم هذا القول كلّ مرّة رزقوا ، والداعي إلى ذلك فرط استغرابهم وتبجّحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللّذة والتشابه التامّ في الصورة.

وقوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) اعتراض يقرّر ذلك. والضمير على الأوّل راجع

٩٦

إلى ما رزقوا في الدارين ، فإنّه مدلول عليه بقوله : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ، ونظيره قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) (١) أي : بجنسي الغنيّ والفقير. وعلى الثاني إلى الرزق كما أنّ «هذا» إشارة إليه ، فيكون المعنى : أنّ ما يرزقونه من ثمرات الجنّة يأتيهم متجانسا في نفسه ، كما حكي عن الحسن.

وعلى الأوّل لمّا كان التشابه بين ثمرات الدنيا والآخرة حاصلا في الهيئة الّتي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم ، وهو كاف في إطلاق التشابه ، فلا يقال : إنّ التشابه هو التشابه في الصفة ، وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة ، كما قال ابن عبّاس : ليس في الجنّة من أطعمة الدنيا إلّا الأسماء.

(وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ). ممّا يستقذر من النساء ويذمّ من أحوالهنّ ، كالحيض والدّرن ودنس الطبع وسوء الخلق ، فإنّ التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال. وإنّما قال : مطهّرة ، ولم يقل : طاهرة ، لأنّ في «مطهّرة» فخامة لصفتهنّ ليست في طاهرة ، وهي الإشعار بأنّ مطهّرا طهّرهنّ ، وليس ذاك إلّا الله عزوجل المريد بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزيّة فيما أعدّلهم. وإفراد الصفة على تأويل الجماعة. والزوج يقال للذكر والأنثى ، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخفّ.

وفائدة المطعوم والمنكوح فيها لا يكون إلّا محض الالتذاذ لا دفع ضرر الجوع والتوالد وحفظ النوع ، فمطاعم الجنّة ومناكحها إنّما تشارك نظائرها الدنيويّة في بعض الصفات والاعتبارات.

ولمّا كان معظم اللذّات الحسنة مقصورا على المساكن والمطاعم والمناكح على ما دلّ عليه الاستقراء ، وكان ملاك كلّه الثبات والدّوام ، فإنّ كلّ نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزّوال كانت منغصّة غير صافية من شوائب الألم ، بشّر المؤمنين بوعد

__________________

(١) النساء : ١٣٥.

٩٧

الخلود ليدلّ على كمالهم في التنعّم والسرور ، فقال : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون. والخلد والخلود في الأصل الثبات المديد دام أو لم يدم ، ولذلك قيل للأثافي والأحجار : خولد ، وللجزء الّذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حيّا : خلد ، وهو القلب ، ولو كان وضعه للدوام كان ظاهر (١) التقييد بالتأبيد في قوله : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (٢) لغوا ، لكنّ المراد به هاهنا الدوام والبقاء اللازم الّذي لا ينقطع ، لما يشهد به الآيات والسنن.

واعلم أنّه يمكن أن الله تعالى يعيد الأبدان في الآخرة بحيث لا يعنورها الاستحالة ، بأن يجعل أجزاءها مثلا متقاومة في الكيفيّة متساوية في القوّة ، لا يقوى شيء منها على إحالة الآخر ، متعانقة متلازمة لا ينفكّ بعضها عن بعض ، كما يشاهد في بعض المعادن.

هذا ، وإنّ قياس ذلك العالم وأحواله على ما نجده ونشاهده من نقص العقل وضعف البصيرة. فلا يرد أنّ الأبدان مركّبة من أجزاء متضادّة الكيفيّة ، معرّضة للاستحالة المؤدّية إلى الانفكاك والانحلال ، فكيف يعقل خلودها في الجنّة؟

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦))

__________________

(١) في هامش الخطّية : «قيد الظاهر لاحتمال أن يكون ذكر الأبد بعد الخلود للتأكيد ، ولكن لا يخفى على من له أدنى مسكة أن التأسيس أصل ، فإنّه مستقلّ المعنى بنفسه ، بخلاف التأكيد ، فإنه تابع فلا يكون له استقلال المعنى ، كما بيّن في علم المعاني والبيان. منه رحمه‌الله».

(٢) النساء : ٥٧.

٩٨

ولمّا مثّل الله تعالى حال المنافقين بحال المستوقدين ، وأصحاب الصيّب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت ، وجعلها أقلّ من الذباب وأخسّ قدرا منه ، قالوا : الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) أي : لا يترك (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً).

فهذه الآية لبيان أنّ ما استنكروه من أن تكون المحقّرات من الأشياء مضروبا بها المثل ليس بموضع الاستنكار ، لأنّ في التمثيل كشف المعنى الممثّل له ، ورفع الحجاب عنه ، وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، فإن كان الممثّل له عظيما كان الممثّل به مثله ، وإن كان حقيرا كان الممثّل به كذلك ، ليساعد فيه الوهم العقل ، فإنّ المعنى الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأنّ من طبع الوهم الميل إلى الحسّ وحبّ المحاكاة ، وإن كان الممثّل أعظم من كلّ عظيم ، كما مثّل في الإنجيل غلّ الصّدر بالنخالة ، والقلوب القاسية بالحصاة ، ومخاطبة السّفهاء بإثارة الزنابير ، وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأعزّ من مخّ البعوض ، لا ما قالت الجهلة من الكفّار.

والحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذمّ. وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح وعدم المبالاة بها ، والخجل الّذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا.

واشتقاقه من الحياة ، فإنّه انكسار يعتري القوّة الحيوانيّة فيردّها عن افعالها ، فقيل : حيي الرجل أي : انتقص حياته ، مثل نسي إذا اعتلّت نساه ، وهو عرق يخرج من الورك إلى العرقوب ، وحشي إذا اعتلّ حشاه وهو الفؤاد.

وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث : «إنّ الله يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذّبه ، إنّ الله حييّ كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردّهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» ، فالمراد به الترك اللازم للانقباض ، كما أنّ

٩٩

المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين للمعنى الموضوع له ، فمثّل تركه سبحانه تخييب العبد لكرمه بترك ردّ المحتاج إليه حياء منه ، كذلك المعنيّ في الآية : إنّ الله لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثّل بها لحقارتها. وإنّما عدل بالاستحياء عن الترك لما فيه من التمثيل الّذي هو يتضمّن أمرا محسوسا مشاهدا ، بخلاف الترك ، فإنّه أمر معنويّ غير مشاهد.

و «أن» بصلتها مخفوض المحلّ عند الخليل بإضمار «من» ، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه.

و «ما» هذه إبهاميّة ، وهي الّتي إذا اقترنت بنكرة زادته شياعا ، تقول : أعطني كتابا مّا أي : أيّ كتاب كان ، أو هي صلة زيدت للتأكيد ، نحو الّتي في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ) (١). والمعنى : أنّ لله أن يمثّل للأنداد ما لا شيء أصغر منه وأقلّ.

و «بعوضة» عطف بيان لـ «مثلا» ، أو مفعول لـ «يضرب» و «مثلا» حال عن النكرة مقدّمة عليه ، أو انتصبا على أنّهما مفعولان لـ «يضرب» لأنّه أجري مجري جعل. والبعوض فعول من البعض ، وهو القطع كالبضع ، فإنّ مدار الباء والعين والضاد على القطع كيف ما تركّبت ، ثم غلب على هذا المعنى.

وقوله : (فَما فَوْقَها) عطف على «بعوضة». وفيه معنيان :

أحدهما : فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الّذي ضربت فيه مثلا ، وهو القلّة والحقارة ، كجناحها ، فإنّه ضرب مثلا للدنيا ، ومنه قوله عليه‌السلام : «ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفّارة لخطاياه حتى نخبة النملة» أي : عضّتها (٢).

والآخر : فما زاد عليها في الحجم كالذباب والعنكبوت ، كأنّه قصد به ردّ ما استنكروه. والمعنى أنّه لا يستحيي ضرب المثل بالبعوض فضلا عمّا هو أكبر منه.

__________________

(١) آل عمران : ١٥٩.

(٢) العضة : القطعة والفرقة ، لسان العرب ١٥ : ٦٨.

١٠٠