زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

وما وقع في الحديث : «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلّا كتبت له بها درجة ، ومحيت عنه بها خطيئة» يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور (١) ، وما زاد عليها في القلّة كنخبة النملة.

ثمّ يفصّل ما أجمل ، ويؤكّده بما صدّر بحرف التفصيل ، ويقول : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فلمّا كان «أمّا» التفصيليّة يتضمّن معنى الشرط يجاب بالفاء. وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد ، ولهذا قال سيبويه : أمّا زيد فذاهب ، معناه : مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، أي : هو ذاهب لا محالة ، وأنّه منه عزيمة جازمة. وكان الأصل دخول الفاء على الجملة ، لأنّها الجزاء ، لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط ، فأدخلوها على الخبر ، وعوّضوا المبتدأ عن الشرط لفظا.

وفي تصدير الجملتين بها إحماد لأمر المؤمنين ، واعتداد بعلمهم ، وذمّ بليغ للكافرين على قولهم. والضمير في «أنّه» للمثل أو لـ «أن يضرب». و «الحقّ» : الثابت الّذي لا يسوغ إنكاره ، يعمّ الأعيان الثابتة ، والأفعال الصائبة ، والأقوال الصادقة ، من قولهم : حقّ الأمر إذا ثبت.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ) على سبيل الإنكار والاستحقار : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً). كان الحريّ أن يقال : وأمّا الّذين كفروا فلا يعلمون ، ليطابق قرينه ويقابل قسيمه ، لكن لمّا كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ، ليكون كالبرهان عليه.

و «ما» يحتمل أن تكون استفهاميّة ، و «ذا» اسما موصولا بمعنى «الّذي» وما بعده صلته ، والمجموع خبر «ما» فيكون كلمتين. وأن تكون «ذا» مركّبة مع «ما»

__________________

(١) خرّ خرورا : سقط من علوّ إلى أسفل. أشار إلى ما في صدر الحديث من أن رجلا خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب ، فقالت عائشة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... إلى آخر الحديث. انظر صحيح مسلم ج ٤ : ١٩٩١ ح ٤٦.

١٠١

فيكون كلمة واحدة ، بمعنى : أيّ شيء ، منصوب المحلّ على المفعوليّة. والأحسن في جوابه الرفع على الأوّل والنصب على الثاني ، ليطابق الجواب السؤال.

والإرادة نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه. وتقال للقوّة الّتي هي مبدأ النزوع. والأوّل مع الفعل ، والثاني قبله. وكلا المعنيين غير متصوّر اتّصاف البارئ تعالى به. فالمراد منها علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل والوجه الأصلح ، فإنّه يدعو القادر إلى تحصيله. وقيل : إرادته لأفعاله : أنّه غير ساه ولا مكره ، ولأفعال غيره : أمره بها. فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته ، لأنّه لم يأمر بها ، خلافا للأشعريّة. وعند المتكلّمين : هي معنى يوجب للحيّ حالا لأجلها يقع منه الفعل على وجه دون وجه. أو المراد : ترجيح أحد مقدوريه على الآخر ، وتخصيصه بوجه دون وجه.

وفي «هذا» استحقار واسترذال. و «مثلا» منصوب على التمييز أو الحال.

وقوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جواب «ماذا» ، أي : إضلال كثير وإهداء كثير ، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدّد. أو جار مجرى التفسير وبيان الجملتين المصدّرتين بـ «أما» ، وتسجيل بأنّ فريق العالمين بأنّه الحقّ ، وفريق الجاهلين المستهزئين به ، كلاهما موصوف بالكثرة بالنسبة إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم ، فإنّ المهديّين قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال ، كما قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١). وأنّ العلم بكونه حقّا من باب الهدى ، وأنّ الجهل بوجه إيراد المثل والإنكار لحسن مورده من باب الضلالة. ويحتمل أن يكون كثرة الضالّين من حيث العدد ، وكثرة المهديّين باعتبار الفضل والشرف ، كما قال :

قليل إذا عدوّا

كثير إذا شدّوا

__________________

(١) سبأ : ١٣.

١٠٢

وقال :

إنّ الكرام كثير في البلاد وإن

قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا

وإسناد الإضلال إلى الله سبحانه إسناد الفعل إلى السبب ، لأنّه لمّا ضرب المثل فضلّ به قوم واهتدى به قوم ، تسبّب لضلالهم وهداهم.

(وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي : الخارجين عن حدّ الإيمان. والمراد بالإضلال التخلية ، فإنّ الله سبحانه لمّا علم أنّ الكفّار لإصرارهم ورسوخهم في الكفر وعنادهم وجحودهم واستكبارهم لا ينجع فيهم اللطف والتوفيق ، فيخلّيهم في الضلالة ، ويمنع منهم الألطاف الهادية. أو المراد حكمه بضلالتهم. ولا يجوز أن يكون إسناد الإضلال إلى الله على الحقيقة ، لقبحه واستلزامه الظلم ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وأيّ عاقل يعتقد أن يضاف إلى الله تعالى الإضلال الّذي أضافه إلى الشيطان وإلى فرعون والسّامريّ بقوله : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) (١) وقوله : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٢) وقوله : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٣).

وأصل الفسق الخروج عن القصد ، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله.

وقال الفرّاء (٤) : إنّ قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) حكاية عمّن قال : ماذا أراد الله بهذا مثلا يضلّ به قوم ويهتدي به قوم ، ثمّ قال سبحانه : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) فبيّن تعالى أنّه لا يضلّ إلّا ضالّا فاسقا راسخا في الكفر. وعلى التفسير الأوّل كلامه تعالى ابتداء. وكلاهما حسن.

واعلم أن للفسق درجات ثلاث :

الاولى : التغابي ، وهو أن يرتكب المعصية أحيانا مستقبحا إيّاها.

__________________

(١) يس : ٦٢.

(٢) طه : ٧٩ و ٨٥.

(٣) طه : ٧٩ و ٨٥.

(٤) معاني القرآن ١ : ٢٣.

١٠٣

والثاني : الانهماك ، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها.

والثالث : الجحود ، وهو أن يرتكبها مستصوبا إيّاها. فإذا شارف هذا المقام وتخطّى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه ، ولا بس الكفر. وما دام هو في درجة التغابي والانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن ، لاتّصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان ، ولقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (١). والمعنيّ بالآية هو الثالث.

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

ثمّ وصف الفاسقين بالذمّ وقرّر الفسق فقال : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ). النقض فسخ تركيب الشيء ، وأصله في طاقات الحبل ، واستعماله في إبطال العهد ، من حيث إنّ العهد يستعار له الحبل ، لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر. والعهد : الموثّق ، ووضعه لما من شأنه أن يتعهّد ويراعى كالوصيّة واليمين.

وهذا العهد إمّا العهد المأخوذ ما (٢) ركز في العقول من الحجّة القائمة على عباده ، الدالّة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسوله. وقوله : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) (٣) على هذا المعنى. أو المأخوذ بالرسل على الأمم بأنّهم إذا بعث إليهم رسول مصدّق بالمعجزات صدّقوه واتّبعوه ، ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه ، وأشار إليه بقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (٤) ونظائره.

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح : بما.

(٣) الأعراف : ١٧٢.

(٤) آل عمران : ١٨٧.

١٠٤

وقيل : عهود الله ثلاثة : عهد أخذه على جميع ذرّيّة آدم بأن يقرّوا بربوبيّته ، وعهد أخذه على الأنبياء بأن يقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه ، وعهد أخذه على العلماء بأن يبيّنوا الحقّ ولا يكتموه.

والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) للعهد. والميثاق اسم لما يقع به الوثاقة ، وهي الاستحكام ، والمراد به ما وثق الله به عهده من الآيات والكتب ، أو ما وثّقوه به من الالتزام والقبول. ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر ، فهو من التوثقة ، كالميلاد والميعاد بمعنى الولادة والوعد. و «من» للابتداء ، فإنّ ابتداء النقض بعد الميثاق. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى ، أي : من بعد توثّقه عليهم.

(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) المراد كلّ قطيعة لا يرضاها الله ، كقطع الأرحام ، والإعراض عن موالاة المؤمنين ، والتفرقة بين النبيّين والكتب في التصديق ، وترك الجماعات المفروضة ، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ ، فإنّه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد.

والأمر طلب الفعل ممّن هو دون الآمر علوّا واستعلاء ، وبعثه عليه. وبه سمّي الأمر الذي هو واحد الأمور ، لأنّ الداعي الّذي يدعو إليه من يتولّاه شبّه بآمر يأمر به ، فقيل له : أمر ، تسمية للمفعول به بالمصدر ، كأنّه مأمور به ، كما قيل له : شأن. والشأن الطلب والقصد ، يقال : شأنت شأنه ، أي : قصدت قصده.

و «أن يوصل» يحتمل النصب والجرّ على أنّه بدل من «ما» أو ضميره. والثاني أحسن لفظا ، لقربه ، ومعنى ، لأنّه لو جعل بدلا من الأوّل ، والحال أنّ المبدل منه في حكم الساقط ، يرتفع المأمور به بالكلّية ، بخلاف جعله بدلا من الثاني.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمنع عن الإيمان ، والاستهزاء بالحقّ ، وقطع الوصل الّتي بها نظام العالم وصلاحه.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الّذين خسروا بإهمال العقل عن النظر ، واقتناص ما

١٠٥

يفيدهم الحياة الأبديّة ، فاستبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح ، والإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها ، والعقاب بالثواب.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

ولمّا وصفهم بالكفر وسوء المقال وخبث الفعال خاطبهم على طريقة الالتفات ، ووبّخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك ، فقال إنكارا وتعجيبا لكفرهم : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) إيثار «كيف» الموضوع لإنكار الحال على الهمزة الاستفهاميّة لإفادة التعجيب لكفرهم بإنكار الحالة الّتي يقع عليها على الطريق البرهاني ، لأنّ صدوره لا ينفكّ عن حال وصفة ، فإذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها استلزم ذلك إنكار وجوده ، فهو أبلغ وأقوى في إنكار الكفر من «أتكفرون» ، وأوفق لما بعده من الحال. والمعنى : أخبروني على أيّ حال تكفرون.

(وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) وحالكم أنّكم كنتم أجساما لا حياة لها ، عناصر وأغذية ، وأخلاطا ونطفا ومضغا مخلّقة وغير مخلّقة.

(فَأَحْياكُمْ) فجعلكم أحياء بخلق الأرواح ونفخها فيكم. وعطفه بالفاء لأنّه متّصل بما عطف عليه غير متراخ عنه ، لأنّ الإحياء يحصل عقيب كونهم جمادا مستعدّا للحياة بلا تراخ ، بخلاف البواقي ، فإنّ الموت قد تراخى عن الإحياء ، والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت ـ إن أريد به النشور ـ تراخيا ظاهرا ، وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه. والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور ، ولهذا عطف عليه بثمّ الموضوعة للتراخي فقال : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد هذه

١٠٦

الحياة عند تقضّي آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالنشور يوم نفخ الصّور ، أو للسؤال في القبر (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم.

وقرأ يعقوب : «ترجعون» في جميع القرآن بصيغة المجهول (١) ، أي : تنشرون إليه من قبوركم للحساب ، فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه.

وسمّي الحشر رجوعا إلى الله لأنّه رجوع إلى حيث لا يكون أحد يتولّى الحكم فيه غير الله ، كما تقول : رجع أمر القوم إلى الأمير ، ولا يراد به الرجوع من مكان إلى مكان ، وإنّما يراد به أنّ النظر صار له خاصّة دون غيره.

واعلم أنّ الواو في قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) للحال كما فسّرناه. وترك لفظة «قد» فيه ، مع أنّه لا يقال : جئت وقام الأمير ، بل : وقد قام ، لأنّ الواو لم تدخل على (كُنْتُمْ أَمْواتاً) وحده ، بل على جملة قوله : (كُنْتُمْ أَمْواتاً) إلى قوله :

(تُرْجَعُونَ). والمعنى : كيف تكفرون بالله وقصّتكم أنّكم كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم ، فجعلكم أحياء ، ثمّ يميتكم بعد هذه الحياة ، ثم يحييكم بعد الموت ، ثم يحاسبكم.

ولمّا كان الحاضر الّذي وقع حالا هو العلم بالقصّة كأنّه قيل : كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصّة بأوّلها وآخرها. فلا يرد عليه : أنّ بعض القصّة ماض وبعضه مستقبل ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصحّ أن يقع حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه.

ولمّا كان معنى الاستفهام في «كيف» الإنكار ، وإنكار الحال متضمّنا لإنكار الذات على سبيل الكناية ، كأنّه قيل : ما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه! كما

__________________

(١) هذا سهو من قلمه الشريف «قده» ، والصحيح : بصيغة المعلوم ، والقراءة المتّبعة في المصاحف بصيغة المجهول ، فتكون القراءة المخالفة إذن بالمعلوم. والمفسّرون أيضا صرّحوا بأن يعقوب قرأها بفتح التاء ، انظر مجمع البيان (١ : ٧٠) ، أنوار التنزيل (١ : ١٣١)

١٠٧

فسّرنا به. فلا يقال : قد آل المعنى إلى قولك : على أيّ حال تكفرون في حال علمكم بهذه القصّة ، وهذا سؤال عن المعلوم ، فما وجه صحّته؟

واعلم أيضا أنّ علمهم بأنّه يحييهم ثمّ إليه يرجعون من حيث تمكّنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل ، فنزّل التمكّن منزلة العلم في إزاحة العذر ، سيّما وفي الآية تنبيه على ما يدلّ على صحّتهما ، وهو أنّه تعالى لمّا قدر على إحيائهم أولا قدر على أن يحييهم ثانيا ، فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته.

ويجوز أن يكون الخطاب مع الكفّار والمؤمنين جميعا ، فإنّه سبحانه لمّا بيّن دلائل التوحيد والنبوّة وأوعدهم على الكفر أكّد ذلك بأن عدّد عليهم النعم العامّة والخاصّة ، واستقبح صدور الكفر منهم ، واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة ، فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم. أو مع المؤمنين خاصّة ، لتقرير المنّة عليهم ، وتبعيد الكفر عنهم على معنى : كيف يتصوّر منكم الكفر و (كُنْتُمْ أَمْواتاً) ، أي : جهّالا ، فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ، ثمّ يميتكم الموت المعروف ، ثمّ يحييكم الحياة الحقيقيّة ، ثمّ إليه ترجعون ، فينبّئكم بما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر؟! وإنّما عدّ الموت من النعم وهو يقطع النعم في الظاهر لأنّ الموت يقطع التكليف ، فيصل المكلّف بعده إلى الثواب الأبدي والنعيم السرمدي ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) (١).

وفي هذه الآية دلالة على أنّ الله تعالى لم يرد من عباده الكفر ، ولا خلقه فيهم ، لأنّه لو أراد منهم أو خلقه فيهم لم يجز أن يضيفه إليهم بقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ).

ثمّ بيّن نعمة اخرى مرتّبة على الاولى بقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) أي :

__________________

(١) العنكبوت : ٦٤.

١٠٨

لأجلكم وانتفاعكم به في دنياكم (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بأن تتمتّعوا منه بفنون المطاعم والمناكح والمراكب والمناظر البهجة ، وفي دينكم بأن تنظروا فيه وما يتضمّنه من عجائب الصّنع الدالّة على الصانع القادر الحكيم. فالنعمة الاولى خلقهم أحياء قادرين مرّة بعد اخرى ، وهذه خلق ما يتوقّف عليه بقاؤهم ويتمّ به معاشهم. وفي هذا دلالة على أنّ أصل الأشياء الإباحة إلى أن يمنع الشرع بالنهي ، وجاز لكلّ أحد أن يتناولها ويستنفع بها. و «جميعا» نصب على الحال من قوله : (ما فِي الْأَرْضِ).

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي : قصد إليها بإرادته بعد خلق ما في الأرض ، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر ، من قولهم : استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا ، من غير أن يلوي على شيء. وأصل الاستواء طلب السواء ، وإطلاقه على الاعتدال والاستقامة والانتصاب ، لما فيه من تسوية وضع الأجزاء. ولا يمكن حمله عليه ، لأنّه من خواصّ الأجسام ، فإنّه تعالى منزّه عن الانتصاب. وضدّه وهو الاعوجاج. فيكون بمعنى : قصد إليها بإرادته.

وقيل : (اسْتَوى) أي : استولى وملك. والأوّل أوفق للأصل ، والصلة المعدّى بها ، والتسوية المترتّبة عليه بالفاء. والمراد بالسماء هذه الأجرام العلويّة ، أو جهات العلوّ.

و «ثمّ» لتفاوت ما بين الخلقين ، وفضل خلق السماء على خلق الأرض ، كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (١) ، وكما تقول لصاحبك : أليس قد أعطيتك ثمّ رفعت منزلتك؟ لا للتراخي في الوقت ، فإنّه يخالف ظاهر قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٢) ، فإنّه يدلّ على تأخّر دحو الأرض ـ المتقدّم على خلق ما فيها ـ

__________________

(١) البلد : ١٧.

(٢) النازعات : ٣٠.

١٠٩

عن خلق السماء وتسويتها. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الله خلق الأرض قبل السماء غير أنّه لم يدحها ، فلمّا خلق السماء دحاها بعد ذلك. ودحوها : بسطها ومدّها ، كما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دحيت الأرض من مكّة». فالأرض كلّها بعد الخلق تكون تحت مكّة ، ثمّ بعد ذلك دحاها في أقطار العالم.

(فَسَوَّاهُنَ) وعدّلهنّ وخلقهنّ مصونة من العوج والفطور. و «هنّ» ضمير السماء إن فسّرت بالأجرام وجهات العلوّ ، لأنّها جمع ، وإلّا فمبهم ، تفسيره ما بعده ، كقولهم : ربّه رجلا.

(سَبْعَ سَماواتٍ) بدل أو تفسير. وإن صحّ أنّ الأفلاك تسعة ـ كما ظنّ أصحاب الإرصاد ـ فليس في الآية نفي الزائد ، مع أنّه إن ضمّ إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وأسكن نافع برواية قالون وأبو عمرو والكسائي الهاء في نحو : فهو ولهو وو هو ، تشبيها لها بعضد (١). فيه تعليل ، كأنّه قال : ولكونه عالما بكنه الأشياء كلّها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع. واستدلال بأنّ من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان عليما ، فإنّ إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصوّر إلّا من عالم حكيم رحيم. وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أنّ الأبدان بعد ما تفتّتت وتبدّدت أجزاؤها ، واتّصلت بما يشاكلها ، كيف تجمع أجزاء كلّ بدن مرّة ثانية بحيث لا يشذّ شيء منها ، ولا ينضمّ إليها ما لم يكن معها ، فيعاد منها كما كان؟!

واعلم وفّقك الله تعالى في الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى الحقّ أنّ صحّة الحشر مبنيّة على ثلاث مقدّمات ، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين :

__________________

(١) أي : أنّها تشبه لفظ «عضد» حيث إن العرب تخفّفه بإسكان الضاد : عضد ، وهي لغة مشهورة مستعملة. راجع الكشف عن وجوه القراءات السبع ١ : ٢٣٤.

١١٠

أمّا الأولى ، فهو أنّ موادّ الأبدان قابلة للجمع والحياة. وأشار إلى البرهان عليها بقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (١) ، فإنّ تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدلّ على أنّها قابلة لها بذاتها ، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغيّر.

وأمّا الثانية والثالثة ، فإنّه عالم بها وبمواقعها ، قادر على جمعها وإحيائها. وأشار إلى وجه إثباتهما بأنّه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقا وأعجب صنعا ، فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم ، وأنّه تعالى خلق ما خلق خلقا مستويا محكما من غير تفاوت واختلال مراعى فيه مصالحهم وسدّ حاجاتهم ، وذلك دليل على تناهي علمه ، وكمال حكمته ، جلّت قدرته ، ودقّت حكمته.

وفي هذه الآية أيضا دلالة على أنّ صانع السماء والأرض قادر عالم ، وأنّه تعالى إنّما يفعل الفعل لغرض ، وأنّ له على الكفّار نعما يجب شكره عليهم بها.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))

ثمّ عدّد نعمة ثالثة تعمّ الناس كلّهم ، وهو خلق آدم وإكرامه وتفضيله على سكّان ملكوته بأمرهم بالسجود ، فقال : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) «إذ» ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه اخرى ، كما وضع إذا لزمان نسبة مستقبلة تقع فيه اخرى ، ولذلك تجب إضافتهما إلى الجمل ، كـ «حيث» في المكان. وبنيتا تشبيها بالموصولات. واستعملتا للتعليل والمجازاة. ومحلّهما النصب

__________________

(١) البقرة : ٢٨.

١١١

أبدا بالظرفيّة ، فإنّهما من الظروف الغير المتصرّفة. وأمّا قوله : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) (١) ونحوه ، فعلى تأويل : أذكر الحادث إذ كان كذا ، فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه. وعامله في الآية «قالوا» أو «اذكر».

والملائكة جمع ملأك على الأصل ، كالشمائل في جمع شمال ، والملك مخفّفة ، والتاء لتأنيث الجمع ، وهو مقلوب مألك من الألوكة ، وهي الرسالة ، لأنّهم وسائط بين الله وبين رسله. وبالاتّفاق هم ذوات موجودة قائمة بأنفسها.

وفي حقيقتهم اختلاف بين العلماء ، فذهب أكثر المسلمين إلى أنّها أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة ، مستدلّين بأنّ الرسل كانوا يرونهم كذلك. وزعم الحكماء أنّها جواهر مجرّدة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، منقسمة إلى قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحقّ والتنزّه عن الاشتغال بغيره ، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢). وهم العلّيّون والملائكة المقرّبون. وقسم يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٣). وهم المدبّرات أمرا ، فمنهم : سماويّة ومنهم ارضيّة. والمقول لهم في هذه الآية الملائكة كلّهم ، لعموم اللفظ وعدم المخصّص. وقيل : ملائكة الأرض الّذين هم بعد الجانّ (٤).

و «جاعل» من «جعل» الّذي له مفعولان ، أي : إنّي مصيّر في الأرض خليفة ،

__________________

(١) الأحقاف : ٢١.

(٢) الأنبياء : ٢٠.

(٣) التحريم : ٦.

(٤) كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح : ملائكة الأرض الّذين أسكنهم فيها بعد الجانّ ، راجع مجمع البيان ١ : ٧٤.

١١٢

فأعمل الجاعل فيهما ، لأنّه بمعنى الاستقبال ، ومعتمد على مسند إليه وهو «إنّي». ويجوز أن يكون بمعنى خالق.

والخليفة : من يخلف غيره وينوب منابه ، والهاء للمبالغة. والمراد به آدم عليه‌السلام ، لأنّه كان خليفة الله في أرضه. وكذلك كلّ نبيّ استخلفهم الله في عمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وتنفيذ أمره فيهم ، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه ، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقّي أمره بغير وسط ، ولذلك لم يستنبئ ملكا ، كما قال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) (١). ألا ترى أنّ الأنبياء لمّا فاقت قوّتهم واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، أرسل الله إليهم الملائكة ، ومن كان منهم أعلى رتبة كلّمه بلا واسطة ، كما كلّم موسى في الميقات ومحمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المعراج. ونظير ذلك في الطبيعة أنّ العظم لمّا عجز عن قبول الغذاء من اللحم ـ لما بينهما من التباعد ـ جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ، ليأخذ من هذا ويعطي ذلك.

أو خليفة من سكن الأرض قبله ، فإنّ الملائكة كانوا سكّان الأرض ، فخلفهم آدم فيها وذرّيّته. واستغنى بذكر آدم عن ذكر بنيه كما يستغنى بذكر أبي القبيلة في قولك : مضر وربيعه. أو أريد. من يخلفكم ، أو خلفا يخلفكم.

وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة ، وتعظيم شأن المجعول ، بأن بشّر عزوجل بوجوده سكّان ملكوته ، ولقّبه بالخليفة قبل خلقه ، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وجوابه ، وبيان أنّ الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره ، فإنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير.

قال أكثر المفسّرين (٢) : إنّ الله تعالى خلق في الأرض قبل آدم خلقا يقال لهم :

__________________

(١) الأنعام : ٩.

(٢) انظر التبيان ١ : ١٣٣ ، مجمع البيان ١ : ٧٤ ، الدرّ المنثور ١ : ١١١.

١١٣

الجانّ ، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فبعث الله ملائكة أجلتهم من الأرض ، وفرّقتهم في الجزائر والجبال ، وكان هؤلاء الملائكة سكّان الأرض بعدهم ، فبما قال الله سبحانه لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قاسوا بالشاهد على الغائب (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) تعجّبا من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها كما فعل بنو الجانّ ، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية. وهذا السؤال ليس سؤال اعتراض ، بل سؤال استكشاف عمّا خفي عليهم من الحكمة الّتي بهرت تلك المفاسد ، واستخبار عمّا يرشدهم ويزيح شبهتهم ، كسؤال المتعلّم معلّمه عمّا يختلج في صدره ، فليس باعتراض على الله تعالى ، ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة ، فإنّهم أعلى من أن يظنّ بهم ذلك ، لقوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (١). وقيل : عرفوا ذلك بإخبار من الله ، أو تلقّ من اللوح ، أو استنباط عمّا ركز في عقولهم أنّ العصمة من خواصّهم.

والسّفك والسّبك والسّفح والشنّ أنواع من الصّبّ. فالسفك يقال في الدّم والدّمع ، والسّبك في الجواهر المذابة ، والسّفح في الصبّ من أعلى ، والشنّ في الصبّ من فم القربة ونحوها ، وكذلك السنّ.

وقوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) حال مقرّرة لجهة الإشكال ، كقولك : أتحسن إلى أعدائك وأنا الصّديق المحتاج؟! والمعنى أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقّاء بذلك؟ والمقصود منه الاستفسار عمّا رجّحهم مع ما هو متوقّع منهم من الاستخلاف ، لا العجب والتفاخر. وكأنّهم علموا أنّ المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره : شهويّة وغضبيّة تؤدّيان به إلى الفساد وسفك الدماء ، وعقليّة تدعوه إلى المعرفة والطاعة ، فقالوا : ما الحكمة في استخلافه وهو

__________________

(١) الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧.

١١٤

باعتبار تينك القوّتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلا عن استخلافه؟ وأمّا باعتبار القوّة العقليّة فنحن نقيم ما يتوقّع منها سليما عن عروض تلك المفاسد. وغفلوا عن فضيلة كلّ واحدة من القوّتين إذا صارت مهذّبة مطواعة للعقل متمرّنة على الخير ، كالعفّة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف ، ولم يعلموا أنّ التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد ، كالإحاطة بالجزئيّات ، واستنباط الصناعات ، واستخراج منافع الكائنات من القوّة إلى الفعل الّذي هو المقصود من الاستخلاف. وإليه أشار تعالى إجمالا بقوله : (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ) من المصالح والحكم في ذلك (ما لا تَعْلَمُونَ) وخفي عليكم وجه الحكمة.

والتسبيح تبعيد الله عن السوء ، وكذلك التقديس ، من سبح في الأرض والماء ، وقدس : إذا ذهب فيها وأبعد ، ويقال : قدس إذا طهر ، لأنّ مطهّر الشيء مبعّد له عن الأقذار.

و «بحمدك» في موضع الحال ، أي : ملتبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفّقتنا لتسبيحك ، ولو لا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكّن من عبادتك. تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم.

(وَنُقَدِّسُ لَكَ) بمعنى نطهّر نفوسنا عن الذنوب لأجلك. وقيل : اللام مزيدة ، ومعناه حينئذ : ننزّهك عمّا لا يليق بك من صفات النقص ، ولا نضيف إليك القبائح. وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الملائكة سألت الله عزوجل أن يجعل الخليفة منهم ، وقالوا : نحن نقدّسك ونطيعك ولا نعصيك كغيرنا ، قال : فلمّا أجيبوا بما ذكر في القرآن علموا أنّهم تجاوزوا مالهم ، فلاذوا بالعرش استغفارا ، فأمر الله تعالى آدم بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقرّبون ، فقال الله تعالى للملائكة : إنّي أعرف بالمصلحة منكم ، وهو معنى قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ). وهذا يدلّ على أنّه تعالى لا يفعل القبيح ، لأنّه لو كان يحسن منه كلّ شيء لم يكن لهذا الكلام معنى.

١١٥

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

ثمّ بيّن لهم بعض الحكم والمصالح في خلق الخليفة في الأرض بقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) بخلق علم ضروريّ بها فيه. والتعليم فعل يترتّب عليه العلم غالبا ، ولذلك يقال : علّمته فلم يتعلّم. و «الأسماء» في تقدير : أسماء المسمّيات ، فحذف المضاف إليه ، لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء ، لأنّ الاسم لا بدّ له من مسمّى ، وعوّض منه اللام كقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ) (١). وليس التقدير : وعلّم آدم مسمّيات الأسماء ، فيكون حذفا للمضاف ، لأنّ التعليم تعلّق بالأسماء لا بالمسمّيات ، لقوله : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) فكما علّق الإنباء بالأسماء لا بالمسمّيات ، ولم يقل : أنبئوني بهؤلاء وأنبئهم بهم ، وجب تعليق التعليم بها.

ومعنى تعليم أسماء المسمّيات أنّه أراه الأجناس الّتي خلقها ، وعلّمه أنّ هذا اسمه فرس وهذا اسمه كذا ، وعلّمه أحوالها وما يتعلّق بها من المنافع الدينيّة والدنيويّة. وعن ابن عبّاس ومجاهد وسعيد بن جبير وأكثر المتأخّرين علّمه جميع

__________________

(١) مريم : ٤.

١١٦

الأسماء والصناعات وعمارة الأرضين والأطعمة والأدوية ، واستخراج المعادن وغرس الأشجار ومنافعها ، وجميع ما يتعلّق بعمارة الدين والدنيا.

وقيل : علّمه أسماء الأشياء كلّها ما خلق وما لم يخلق ، بجميع اللغات الّتي يتكلّم بها ولده بعده ، فأخذ عنه ولده اللغات ، فلمّا تفرّقوا تكلّم كلّ قوم بلسان ألفوه واعتادوه ونسوا غيره.

و «آدم» اسم أعجميّ كـ : آزر وشالخ. وقيل : اسم عربيّ مشتقّ من الادمة ، أو الأدمة بالفتح بمعنى الاسوة ، أو من أديم الأرض ، لما

روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سبحانه قبض قبضة من جميع الأرض ـ سهلها وحزنها ـ فخلق منها آدم ، فلذلك يأتي بنوه ضروبا مختلفة. أو من الادم والادمة بمعنى الالفة.

والاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ، ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ والصفات والأفعال. واستعماله عرفا في اللفظ الموضوع لمعنى ، سواء كان مركّبا أو مفردا ، مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما. واصطلاحا في المفرد الدالّ على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة. والمراد به في الآية إمّا الأوّل أو الثاني.

وملخّص المعنى : أنّه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة ، وقوى متباينة ، مستعدّا لإدراك أنواع المدركات ، من المعقولات والمحسوسات والمتخيّلات والموهومات ، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصّها وأسمائها ، واصول العلم ، وقوانين الصناعات وكيفيّة آلاتها.

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) الضمير للمسمّيات المدلول عليها ضمنا ، إذ التقدير أسماء المسمّيات كما ذكر (١). والمراد بالمسمّيات ذوات الأشياء أو مدلولات الألفاظ. وتذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء.

__________________

(١) في ص : ١١٦.

١١٧

(فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) تبكيتا لهم وتنبيها على عجزهم عن أمر الخلافة ، فإنّ التصرّف والتدبير وإقامة المعدلة قبل تحقّق المعرفة والوقوف على مراتب الاستعدادات وقدر الحقوق محال ، لا تكليفا ليكون من باب التكليف بالمحال. والإنباء إخبار فيه إعلام ، ولذلك يجري مجرى كلّ منهما.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم أنّكم أحقّاء بالخلافة لعصمتكم ، أو أنّ خلقهم واستخلافهم وهذه صفتهم لا يليق بالحكيم ، وهو وإن لم يصرّحوا به لكنّه لازم مقالهم.

ثمّ أخبر سبحانه عن الملائكة بالرجوع إليه والتسليم لأمره فقال : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا). هذا اعتراف بالعجز والقصور ، وإشعار بأنّ سؤالهم كان استفسارا ولم يكن اعتراضا ، وأنّه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان والحكمة في خلقه ، وإظهار لشكر نعمته بما عرّفهم وكشف لهم ما اعتقل عليهم ، ومراعاة للأدب بتفويض العلم كلّه إليه.

و «سبحان» مصدر كغفران ، ولا يكاد يستعمل إلّا مضافا منصوبا بإضمار فعله ، كـ : معاذ الله. وقد أجري علما للتسبيح بمعنى التنزيه. وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال ، ولهذا جعل مفتاح التوبة فقال موسى عليه‌السلام :

(سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) (١) وقال يونس عليه‌السلام : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢).

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بجميع المعلومات ، وهو صفة مبالغة للعالم (الْحَكِيمُ) المحكم للأفعال ، والمبدع الّذي لا يفعل إلّا ما فيه حكمة بالغة.

و «أنت» فصل. وقيل : تأكيد للكاف كما في قولك : مررت بك أنت ، وإن لم يجز : مررت بأنت ، إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع ، ولهذا جاز : يا هذا

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

(٢) الأنبياء : ٨٧.

١١٨

الرجل ، ولم يجز : يا الرجل. وقيل : مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة خبر «إنّ».

وفي هذه الآية دلالة على أنّ العلوم كلّها من جهته تعالى ، فإنّ العلوم لا تخلو إمّا أن تكون ضروريّة فهو الّذي فعلها ، وإمّا أن تكون استدلاليّة فهو الّذي أقام الأدلّة عليها ، فلا علم لأحد إلّا ما علّمه تعالى.

ثمّ خاطب الله تعالى آدم تبيينا لفضله على الملائكة بقوله : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) أي : أعلم الملائكة وأخبرهم (بِأَسْمائِهِمْ) بأسماء المسمّيات ، فعلّق الإنباء بالأسماء لا بالمسمّيات ، فلم يقل : أنبئهم بهم ، لما قلناه من أنّ التعليم متعلّق بالأسماء.

(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ) أخبر الملائكة (بِأَسْمائِهِمْ) أي : باسم كلّ شيء ومنافعه ومضارّه وخواصّه (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : أعلم ما غاب عنكم فلم تشاهدوه ، كما أعلم ما حضركم فشاهدتموه. والهمزة للإنكار دخلت على حرف الجحد فأفادت الإثبات والتقرير.

(وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) ما تعلنونه (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) ما تضمرونه. وهذا استحضار لقوله تعالى : (أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) لكنّه جاء به على وجه أبسط ليكون كالحجّة عليه ، فإنّه تعالى لمّا علم ما خفي عليهم من امور السّموات والأرض وما ظهر لهم من أحوالهم الظاهرة والباطنة علم ما لا يعلمون. وفيه تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى ، وهو أن يتوقّفوا مترصّدين لأن يبيّن لهم.

وقيل : (ما تُبْدُونَ) قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ، و «ما تكتمون» استبطانهم أنّهم أحقّاء بالخلافة ، وأنّه تعالى لا يخلق خلقا أفضل منهم. وقيل : ما أظهروا من الطاعة وأسرّ إبليس منهم من المعصية.

وعلمهم بصحّة قول آدم ومطابقة الأسماء المسمّيات ، إمّا لعلمهم بنبوّته. وإمّا أن يكون الله تعالى جعل لهم العلم الضروري بصحّة الأسماء ومطابقتها للمسمّيات ،

١١٩

إمّا عن طريق ، أو ابتداء بلا طريق ، فلأجل ذلك علموا تميّزه واختصاصه. وإمّا أن يكون لهم لغات مختلفة ، فكلّ قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيره ، فلمّا أراد الله التنبيه على نبوّته علّمه جميع تلك الأسماء ، فلمّا أخبرهم بها علم كلّ فريق مطابقة ما اخبر به من الأسماء للغته ، وعلم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كلّ قبيل. ولا شبهة أنّ إحاطة عالم واحد بأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة دالّة على صحّة قوله.

وفي هذه الآيات دلالة على أنّ تعليمه سبحانه الأسماء كلّها بما فيها من المعاني وفتق لسانه بذلك معجزة أقامها الله للملائكة ، دالّة على نبوّته وجلالة قدره وتفضيله عليهم. وأنّ شرف الإنسان بمزيّة العلم وفضله. وأنّه شرط في الخلافة. وأنّ التعليم يصحّ إسناده إلى الله تعالى ، وإن لم يصحّ إطلاق المعلّم عليه ، لأنّ اللغات توقيفيّة. وأنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم ، وإلّا لتكرّر قوله : أنت العليم الحكيم. وأنّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة. وأنّ آدم أفضل من الملائكة ، لأنّه أعلم منهم ، والأعلم أفضل ، لقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١). وأنّه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

ولمّا أنبأهم بالأسماء وعلّمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له سجدة تعظيم ، اعترافا بفضله ومزيّة درجته ، وأداء لحقّه ، واعتذارا عمّا قالوا فيه ، فقال : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ). وقيل : أمرهم به قبل أن يسوّي خلقه ، لقوله تعالى : (فَإِذا

__________________

(١) زمر : ٩.

١٢٠