زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

الّذي وعدنا به (شَيْءٍ) كما وعد محمد ، أو زعم أنّ الأمر كلّه لله ولأوليائه ، أو لو كان لنا اختيار وتدبير (ما قُتِلْنا) ما غلبنا (هاهُنا) ولما قتل من قتل منّا في هذه المعركة.

(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي : لخرج الّذين قدّر الله تعالى عليهم القتل ـ وكتبه في اللوح المحفوظ ـ إلى مصارعهم ، ولم تنفعهم الإقامة بالمدينة ، ولم ينج منهم أحد ، فإنّه قدّر الأمور ودبّرها في سابق قضائه ، لا معقّب لحكمه.

(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) وليمتحن الله ما في صدوركم ، بإظهار سرائرها من الإخلاص والنفاق ، أي : ليعاملكم معاملة المبتلين مظاهرة في العدل عليكم. وهو علّة فعل محذوف ، أي : وفعل ذلك ليبتلي. أو عطف على محذوف ، أي : لبرز لنفاذ القضاء ، أو لمصالح كثيرة وللابتلاء. أو على قوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا).

(وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) ليكشفه ويزيله ، أو ليخلّصه من الوساوس ، بما يريكم من عجائب صنعه. يقال : محّصته تمحيصا ، إذا خلّصته من كلّ عيب. ومحّص الله العبد من الذنب ، إذا طهّره منه.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بخفيّاتها قبل إظهارها. وفيه وعد ووعيد ، وتنبيه على أنّه غنيّ عن الابتلاء ، وإنّما فعل ذلك لتمرين المؤمنين ، وإظهار حال المنافقين.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع الكافرين. والمراد يوم أحد ، أي : إنّ الّذين انهزموا يوم أحد (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من المعاصي ، إنّما كان السبب في انهزامهم أنّ الشيطان طلب منهم الزلّة فأطاعوه ، واقترفوا ذنوبا بترك المركز والحرص على الغنيمة أو الحياة ، لمخالفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمنعوا التأييد وقوّة القلب حتّى تولّوا.

وقيل : استزلال الشيطان تولّيهم ، وذلك بسبب ذنوب تقدّمت لهم ، فإنّ المعاصي يجرّ بعضها بعضا كالطاعة.

٥٨١

وقيل : استزلّهم بذكر ذنوب سلفت منهم ، فكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة والخروج من المظلمة.

(وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) لتوبتهم واعتذارهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب (حَلِيمٌ) لا يعاجل بعقوبة المذنب كي يتوب.

ذكر البلخي وغيره أنّه لم يبق يوم أحد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ثلاثة عشر نفسا ، خمسة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار. وقد اختلف في الخمسة إلّا في عليّ عليه‌السلام وطلحة.

وروي عن الصادق عليه‌السلام قال : «نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جبرئيل بين السماء والأرض على كرسيّ من ذهب وهو يقول : لا سيف إلّا ذو الفقار ، ولا فتى إلّا علي».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦))

ثمّ نهى الله سبحانه المؤمنين عن الاقتداء بالمنافقين في أفعالهم وأقوالهم ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : المنافقين (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي : لأجل إخوانهم وفي حقّهم. ومعنى أخوّتهم اتّفاقهم في النسب أو المذهب (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي : سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها. وكان حقّه «إذ» ، لقوله : «قالوا» ، لكنّه جاء على حكاية الحال الماضية ، أي : حين يضربون في الأرض. (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز ، كعاف وعفّى. ومفعول «قالوا» قوله : (لَوْ كانُوا) مقيمين (عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) وهذا يدلّ على أنّ إخوانهم لم يكونوا مخاطبين به.

٥٨٢

(لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) متعلّق بـ «قالوا» على أنّ اللام لام العاقبة ، مثلها في (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١). أو بـ «لا تكونوا» ، أي : لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول وفي الاعتقاد ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصّة ، ويصون منها قلوبكم ، فإنّ مخالفتهم ومضادّتهم ممّا يغمّهم ويغيظهم. وإنّما أسند الفعل إلى الله لأنّه سبحانه عند ذلك الاعتقاد الفاسد يضع الحسرة في قلوبهم ، ويضيّق صدورهم عقوبة ، وهو كقوله تعالى : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (٢).

(وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ردّ لقولهم ، أي : هو المؤثّر في الحياة والممات لا الاقامة والسفر ، فإنّه تعالى قد يحيي المسافر والغازي ، ويميت المقيم والقاعد عن الغزو.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا تكونوا مثلهم. وهذا تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء ، على أنّه وعيد للّذين كفروا.

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))

ثمّ حثّ سبحانه على الجهاد ، وبيّن أنّ الشهادة خير من أموال الدنيا المستفادة ، فقال : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) أي : متّم في سبيله. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الميم من : مات يمات (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) جواب القسم ، وهو سادّ مسدّ الجزاء ، وكذا قوله فيما بعد : «لإلى الله

__________________

(١) القصص : ٨.

(٢) الأنعام : ١٢٥.

٥٨٣

تحشرون».

كذّب الله سبحانه فيما قال الكفّار في زعمهم واعتقادهم أن «لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا» ، ونهى المسلمين عن ذلك الاعتقاد ، ولأنّه سبب التخلّف عن الجهاد. والمعنى : أنّ السفر والغزو ليس ممّا يجلب الموت ويقدّم الأجل. ثمّ قال لهم : ولئن تمّ عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله ، فما تنالون من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير ممّا تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا. وعن ابن عبّاس : خير من طلاع الأرض ، أي : ملؤها ذهبة حمراء.

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) على أيّ وجه اتّفق هلاككم (لَإِلَى اللهِ) لإلى معبودكم الّذي توجّهتم إليه وبذلتم مهجكم لوجهه ، لا إلى غيره ، لا محالة (تُحْشَرُونَ) فيوفي جزاءكم ، ويعظّم ثوابكم.

وقرأ نافع وحمزة والكسائي : متّم بالكسر.

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

ثمّ بيّن سبحانه أنّ مساهلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاهم ، وتجاوزه عنهم ، من رحمته

٥٨٤

سبحانه ، حيث جعله ليّن العطف حسن الخلق ، فقال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي : فبرحمة. و «ما» زائدة للتأكيد ، ونحوه (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) (١). والمعنى : أنّ لينه لكم ما كان إلّا برحمة من الله ، وهو ربطه على جأشه (٢) ، وتوفيقه للرفق بهم ، حتّى اغتمّ لهم بعد أن خالفوه.

(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) سيّء الخلق جافيا (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قاسيه (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لتفرّقوا عنك ، ولم يسكنوا إليك.

(فَاعْفُ عَنْهُمْ) ما بينك وبينهم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ما بينهم وبيني ، إتماما للشفقة عليهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أمر الحرب ، إذ الكلام فيه ، أو فيما يصحّ أن يشاور فيه ممّا لم ينزل عليك فيه وحي ، تطييبا لنفوسهم ، واستظهارا برأيهم ، وتمهيدا لسنّة المشاورة للأمّة.

وقال الحسن : قد علم الله أنّه ما به إليهم حاجة ، ولكنّه أراد أن يستنّ به من بعده ، وقد علم الله أنّه لم يكن يحتاج إليهم.

وفي الحديث : «ما تشاور قوم قطّ إلّا هدوا إلى أرشد أمرهم».

وعن أبي هريرة : «ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

وقيل : كان سادات العرب إذا لم يشاوروا في أمر شقّ عليهم ، فأمر الله رسوله مشاورة أصحابه لئلّا يثقل عليهم استبداده بالرأي دونهم.

(فَإِذا عَزَمْتَ) فإذا وطّنت نفسك على شيء ، وقطعت الرأي عليه بعد الشورى (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فاعتمد عليه في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك ، فإنّه لا يعلمه سواه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح.

__________________

(١) المائدة : ١٣.

(٢) الجأش : القلب. يقال : فلان رابط الجأش ، أي : شجاع.

٥٨٥

ولمّا أمر الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتوكّل ، بيّن معنى وجوب التوكّل عليه ، فقال : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) كما نصركم يوم بدر (فَلا غالِبَ لَكُمْ) فلا أحد يغلبكم (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) ويمنعكم معونته ، ويخلّ بينكم وبين أعدائكم بمعصيتكم إيّاه ، كما خذلكم يوم احد (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) من بعد خذلانه ، أو من بعد الله. بمعنى : إذا جاوزتموه فلا ناصر لكم ، من قولك : ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان ، تريد : إذا جاوزته. وهذا تنبيه على المقتضي للتوكّل ، وتحريض على ما يستحقّ به النصر من الله ، وتحذير عمّا يستجلب خذلانه.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فليخصّوه بالتوكّل عليه ، لما علموا أن لا ناصر سواه وآمنوا به. وهذا تنبيه على وجوب التوكّل على الله سبحانه.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣))

روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض المنافقين : لعلّ رسول الله أخذها ، فنزلت : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) وما صحّ أن يخون في الغنائم ، فإنّ النبوّة تنافي الخيانة. يقال : غلّ شيئا من المغنم يغلّ غلولا ، وأغلّ إغلالا ، إذا أخذه في خفية. ويقال : أغلّ إذا وجده غالّا ، كقولك : أبخلته إذا وجدته بخيلا. والمراد براءة الرسول عمّا اتّهم به.

وقيل : نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا :

٥٨٦

نخشى أن يقول رسول الله : من أخذ شيئا فهو له ، وأن لا يقسّم الغنائم كما لم يقسّم يوم بدر. فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا : تركنا بقيّة إخواننا وقوفا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل ظننتم أنّا نغلّ ولا نقسّم لكم.

وقيل : هذا مبالغة في النهي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على ما روي أنّه بعث طلائع فغنمت غنائم ، فقسّمها على من معه ، ولم يقسّم للطلائع ، فنزلت.

فيكون تسمية حرمان بعض المستحقّين غلولا تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر.

وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب : أن يغلّ على البناء للمفعول ، من : غلّ ، أو من : أغلّ ، بالمعنى الأوّل أو الثاني. والمعنى : وما صحّ له أن ينسب إلى الغلول ، أو يوجد غالّا.

(وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يأت بالّذي غلّه بعينه يحمله على عنقه ، كما جاء في الحديث : من بعثناه على عمل فغلّ شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه.

وروي عن ابن عبّاس في خبر طويل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ألا لا يغلّنّ أحد بعيرا ، فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء (١). ألا لا يغلّنّ أحد فرسا ، فيأتي به على ظهره له حمحمة ، فيقول : يا محمّد يا محمّد. فأقول : قد بلّغت قد بلّغت قد بلّغت ، لا أملك لك من الله شيئا».

وقال الجبائي : ذلك ليفضح به على رؤوس الأشهاد. وقال البلخي : ويجوز أن يراد : يأت بما احتمل من وباله وإثمه.

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي : يعدل بينهم في الجزاء ، فكلّ جزاؤه على قدر كسبه. جيء بالعامّ ليدخل تحته كلّ كاسب من غلّ وغيره ، ويكون كالبرهان

__________________

(١) رغا البعير : صوّت وضجّ.

٥٨٧

على المقصود ، والمبالغة فيه ، فإنّه إذا كان كلّ كاسب مجزيّا بعمله ، فالغالّ مع عظم جرمه بذلك أولى.

والمعنى : ويعطى كلّ نفس جزاء ما كسبت وافيا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا ينقص ثواب مطيعهم ، ولا يزاد في عقاب عاصيهم.

ولمّا بيّن الله أنّ كلّ نفس توفّى جزاء ما كسبت من خير أو شرّ ، عقّبه ببيان من كسب الخير والشرّ ، فقال : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) رضا الله في ترك الغلول وامتثال الطاعة (كَمَنْ باءَ) رجع (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) بسبب فعل الغلول وسائر المعاصي (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). الفرق بين المصير والمرجع : أنّ المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ، ولا كذلك المرجع.

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) شبّهوا بالدرجات ، أي : هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات ، لما بينهم من التفاوت في الثواب والعقاب. أو التقدير : ذوو درجات عنده ، كما جاء في الحديث : «إنّ أهل الجنّة ليرون أهل علّيّين كما يرى النجم في أفق السماء ، والنار دركات بعضها أسفل من بعض». (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) عالم بأعمالهم ودرجاتها ، فيجازيهم على حسبها.

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))

ثمّ ذكر سبحانه عظيم نعمته على الخلق ببعثة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أنعم على من آمن مع الرسول من قومه. وتخصيصهم مع أنّ نعمة البعثة عامّة لزيادة انتفاعهم بها (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) من نسبهم ، أو من

٥٨٨

جنسهم ، عربيّا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ، ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانة ، مفتخرين به (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي : القرآن بعد ما كانوا جهّالا لم يسمعوا الوحي (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهّرهم من دنس الطباع وسوء العقائد والأعمال (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) القرآن والسنّة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ). «إن» هي المخفّفة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والمعنى : وإن الشأن كانوا من قبل بعثة الرسول في ضلال ظاهر.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر الجهاد ، فقال : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) يوم أحد من قتل سبعين منكم (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) والحال أنّكم نلتم ضعفها يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين. والهمزة للتقريع والتقرير. والواو عاطفة للجملة على ما سبق

٥٨٩

من قصّة أحد. و «لمّا» ظرف «قلتم» مضافا إلى «أصابتكم» أي : حين أصابتكم مصيبة يوم أحد من قتل سبعين منكم (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) من أين هذا أصابنا وفينا رسول الله ، ونحن مسلمون وهم مشركون ، وقد وعدنا الله النصر؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي : ممّا اكتسبته أنفسكم من مخالفة الأمر وترك المركز ، فإنّ الوعد كان مشروطا بالثبات والمطاوعة.

وعن قتادة : من مخالفتهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاهم إلى أن يتحصّنوا بها ، ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها ، فقالوا : كنّا نمتنع من ذلك في الجاهليّة ونحن الآن في الإسلام ، وأنت يا رسول الله نبيّنا أحقّ بالاتّباع وأعزّ.

وعن عليّ عليه‌السلام : لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم. وهو المرويّ عن الباقر عليه‌السلام.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على النصر ومنعه ، وعلى أن يصيب بكم ويصيب منكم.

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع المشركين ، يريد يوم أحد (فَبِإِذْنِ اللهِ) فهو كائن بإذنه ، أي : بتخليته الكفّار. سمّاها إذنا استعارة ، لأنّها من لوازمه ، وأنّه لم يمنعهم منهم ليبتليهم ، فكأنّه أذن فيه ، لأن الآذن مخلّ بين المأذون له ومراده. (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ).

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي : وهو كائن ليتميّز المؤمنون والمنافقون ، فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء.

(وَقِيلَ لَهُمْ) عطف على «نافقوا» داخل في الصلة ، أو كلام مبتدأ. وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، انقطعوا عن المؤمنين يوم أحد وقالوا : علام نقتل أنفسنا؟

وكانوا ثلاثمائة ، فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حزام الأنصاري : (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) واتّقوا الله ولا تخذلوا نبيّكم (أَوِ ادْفَعُوا) عن حريمكم إن لم تقاتلوا في

٥٩٠

سبيل الله. فهذا تقسيم للأمر عليهم ، وتخيير بين أن يقاتلوا للآخرة أو للدفع عن الأنفس والأموال. وقيل : معناه : قاتلوا الكفرة أو ادفعوهم بتكثيركم سواد المجاهدين ، فإنّ كثرة السواد ممّا يروّع العدوّ ويكسر منه ، فهو بمنزلة القتال.

(قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) لو نعلم ما يصحّ أن يسمّى قتالا لاتّبعناكم فيه ، لكن ما أنتم عليه ليس بقتال ، بل إلقاء بالأنفس إلى التهلكة.

(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) لانخزالهم (١) عن عسكر المسلمين ، وكلامهم هذا ، فإنّها أوّل أمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم. يعني : أنّهم قبل ذلك اليوم كانوا يتظاهرون بالإيمان ، وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم ، فلمّا انخزلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم ، واقتربوا من الكفر.

وقيل : المعنى : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، إذ كان انخزالهم عن عسكر المؤمنين ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلا للمؤمنين.

(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) يظهرون خلاف ما يضمرون ، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان. وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتصغير ، أي : لا يجاوز إيمانهم أفواههم ومخارج الحروف منهم ، ولا تعي قلوبهم منه شيئا. ولا يخفى أنّ ذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من النفاق وما يخلو به بعضهم إلى بعض ، لأنّه يعلمه مفصّلا بعلم واجب ، وأنتم تعلمونه مجملا بأمارات.

(الَّذِينَ قالُوا) رفع بدلا من «واو» يكتمون ، أو نصب على الذمّ أو الوصف لـ «الّذين نافقوا» ، أو جرّ بدلا من الضمير في «بأفواههم» أو «قلوبهم» (لِإِخْوانِهِمْ) لأجلهم ، يريد : من قتل يوم أحد من أقاربهم ، أو من جنس المنافقين المقتولين يوم

__________________

(١) انخزل من المكان : انفرد.

٥٩١

أحد (وَقَعَدُوا) حال مقدّرة بـ «قد» ، أي : قالوا قاعدين عن القتال (لَوْ أَطاعُونا) لو أطاعونا إخواننا فيما أمرناهم به من القعود في البيت وترك الخروج إلى القتال (ما قُتِلُوا) كما لم نقتل.

(قُلْ) استهزاء بهم (فَادْرَؤُا) فادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ما تقولون من أنّكم تقدرون على دفع القتل عمّن كتب عليه ، فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه ، فإنّه أحرى بكم. وحذف الجزاء لدلالة ما قبله عليه. والأمر بدرء الموت عن الأنفس للاستهزاء ، أي : إن كنتم رجالا دفّاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتّى لا تموتوا.

ولمّا كان معنى الآية أنّ القعود غير مغن ، فإنّ أسباب الموت كثيرة ، وكما أنّ القتال يكون سببا للإهلاك والقعود يكون سببا للنجاة ، قد يكون الأمر بالعكس ، فما يدريكم أنّ سبب نجاتكم القعود ، وأنّكم صادقون في مقالتكم؟! وما أنكرتم أن يكون غيره؟! فلا يقال : قد كانوا صادقين في أنّهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود ، فما معنى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ وروي أنّه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١))

ولمّا حكى الله قول المنافقين في المقتولين الشهداء ، تثبيطا للمؤمنين عن جهاد الأعداء ، ذكر بعده ما أعدّ الله تعالى للشهداء من الكرامة ، وخصّهم به من

٥٩٢

النعيم في دار المقامة ، فقال : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : في الجهاد ونصرة دين الله (أَمْواتاً) أي : موتى كما مات من لم يقتل في سبيل الله. قيل : نزلت في شهداء بدر. وقال الباقر عليه‌السلام وكثير من المفسّرين : إنّها تتناول قتلى بدر وأحد معا. والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لكلّ أحد. وقرأ ابن عامر : قتّلوا بالتشديد ، لكثرة المقتولين.

(بَلْ) هم (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ذوو زلفى منه ، كقوله : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) (١) (يُرْزَقُونَ) من نعيم الجنّة مثل ما يرزق سائر الأحياء ممّا يأكلون ويشربون. وهو تأكيد لكونهم أحياء ، ووصف لحالهم الّتي هم عليها من التنعّم برزق الله.

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهو شرف الشهادة ، والفوز بالحياة الأبديّة ، والقرب من الله بأنواع الكرامة ، والتمتّع بنعيم الجنّة.

(وَيَسْتَبْشِرُونَ) ويسرّون بالبشارة (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم (مِنْ خَلْفِهِمْ) أي : الّذين قد بقوا من خلفهم زمانا ، أو الّذين لم يدركوا فضلهم ومراتبهم ومنزلتهم (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي : يستبشرون بأن لا خوف عليهم ، لأنّه بدل الاشتمال من قوله : (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ).

ومعناه : لا خوف عليهم فيمن خلّفوه من ذرّيّتهم ، لأنّ الله تعالى يتولّاهم ، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا من أموالهم ، لأنّ الله تعالى قد أجزل ما عوّضهم. أو لا خوف عليهم في ما يقدمون عليه ، لأنّ الله تعالى محّص ذنوبهم بالشهادة ، ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة.

وملخّص المعنى : أنّهم يسرّون بإخوانهم الّذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من الإيمان والجهاد ، لعلمهم بأنّهم إن استشهدوا أو ماتوا كانوا أحياء

__________________

(١) فصّلت : ٣٨.

٥٩٣

بحياة طيّبة ، لا يكدّرها خوف وقوع محذور وحزن فوات محبوب.

وفيها حثّ على الجهاد ، وترغيب في الشهادة ، وبعث على ازدياد الطاعة ، وإحماد لمن يتمنّى لإخوانه مثل ما أنعم عليه ، وبشرى للمؤمنين بالفلاح.

قال صاحب الأنوار : «وفي الآية إشعار على أنّ الإنسان غير الهيكل المحسوس ، بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقّف عليه إدراكه وتألّمه والتذاذه. ويؤيّد ذلك قوله تعالى في آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (١) الآية. وروي عن ابن عبّاس أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنّة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل معلّقة في ظلّ العرش» (٢).

وأيضا عن ابن عبّاس وابن مسعود وجابر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لمّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ، ترد أنهار الجنّة ، وتأكل من ثمارها».

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لجعفر بن أبي طالب وقد استشهد في غزاة مؤتة : «رأيته وله جناحان يطير بهما مع الملائكة في الجنّة».

ومن أنكر ذلك ولم ير الروح إلا ريحا أو عرضا قال : هم أحياء يوم القيامة ، وإنّما وصفوا في الحال لتحقّقه ودنوّه ، أو أحياء بالذكر أو بالإيمان.

(يَسْتَبْشِرُونَ) كرّره للتوكيد ، أو ليعلّق به ما هو بيان لقوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من ذكر نعمة الله وفضله. ويجوز أن يكون الأول بحال إخوانهم ، وهذا بحال أنفسهم. (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) ثوابا لأعمالهم (وَفَضْلٍ) وزيادة عليه ، كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٣). وتنكيرهما للتعظيم. (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ

__________________

(١) المؤمن (غافر) : ٤٦.

(٢) أنوار التنزيل ٢ : ٥٣.

(٣) يونس : ٢٦.

٥٩٤

الْمُؤْمِنِينَ) من جملة المستبشر به ، عطف على «فضل» ، أي : يوفّر جزاءهم.

وقرأ الكسائي بالكسر على أنه استئناف معترض دالّ على أنّ ذلك أجر لهم على إيمانهم ، مشعر بأنّ من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيّعة.

واعلم أنّ ما ورد من الأخبار في ثواب الشهداء أكثر من أن يحصى ، أعلاها إسنادا ما

رواه عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن الحسين بن عليّ عليه‌السلام قال : «بينما أمير المؤمنين عليه‌السلام يخطب الناس ويحضّهم على الجهاد إذ قام إليه شابّ فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله.

فقال عليه‌السلام : كنت رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ناقته العضباء ونحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل ، فسألته عمّا سألتني عنه فقال :

إنّ الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله لهم براءة من النار ، فإذا تجهّزوا لغزوهم باهى الله بهم الملائكة ، فإذا ودّعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت ، ويخرجون من الذنوب كما تخرج الحيّة من سلخها ، ويوكّل الله تعالى بكلّ رجل منهم أربعين ملكا يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله. ولا يعمل حسنة إلّا ضعّف له. ويكتب له كلّ يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله ألف سنة ، كلّ سنة ثلاثمائة وستّون يوما ، واليوم مثل عمر الدنيا. وإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إيّاهم.

وإذا برزوا لعدوّهم ، وأشرعت الأسنّة ، وفوّقت السهام ، وتقدّم الرجل إلى الرجل ، حفّتهم الملائكة بأجنحتها ، يدعون الله بالنصرة والتثبّت ، فينادي مناد : الجنّة تحت ظلال السيوف ، فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف.

وإذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله إليه زوجته من الحور العين ، فتبشّره بما أعدّ الله له من الكرامة. فإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض : مرحبا بالروح الطيّب الّذي أخرج من البدن الطيّب ، أبشر

٥٩٥

فإنّ لك ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

ويقول الله عزوجل : أنا خليفته في أهله ، من أرضاهم فقد أرضاني ، ومن أسخطهم فقد أسخطني.

ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنّة حيث تشاء ، تأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة بالعرش.

ويعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس ، سلوك كلّ غرفة ما بين صنعاء والشام ، يملأ نورها ما بين الخافقين ، في كلّ غرفة سبعون بابا ، على كلّ باب سبعون مصراعا من ذهب ، على كلّ باب سبعون مسبلة (١) ، في كلّ غرفة سبعون خيمة ، في كلّ خيمة سبعون سريرا من ذهب ، قوائمها الدرّ والزبرجد ، مرمولة (٢) بقضبان الزمرّد ، على كلّ سرير أربعون فراشا ، غلظ كلّ فراش أربعون ذراعا ، على كلّ فراش زوجة من الحور العين عربا أترابا.

فقال : أخبرني يا أمير المؤمنين عن العروبة.

قال : هي الغنجة الرضيّة الشهيّة ، لها سبعون ألف وصيف صفر الحلي بيض الوجوه ، عليهنّ تيجان اللؤلؤ ، على رقابهم المناديل ، بأيديهم الأكوبة والأباريق ، فإذا كان يوم القيامة فو الّذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم ، لما يرون من بهائهم ، حتّى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها.

ويشفّع الرجل منهم في سبعين ألفا من أهل بيته وجيرانه ، حتّى إن الجارين يتخاصمان أيّهما أقرب جوارا ، فيقعدون معي ومع إبراهيم على مائدة الخلد ، فينظرون إلى الله عزوجل في كلّ يوم بكرة وعشيّا».

روي أنّ أبا سفيان وأصحابه لمّا انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهمّوا بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك بعد أن دخل هو وأصحابه

__________________

(١) أي : سبعون سترا مرخاة ، من : أسبل الستر ، أرخاه.

(٢) رمل السرير : زيّنه بالجوهر ونحوه.

٥٩٦

المدينة ، فأراد أن يريهم من نفسه وأصحابه قوّة ، فندب أصحابه للخروج في طلبه وقال : لا يخرجنّ معنا إلّا من حضر يومنا بالأمس. فخرج عليه‌السلام مع الجماعة حتى بلغوا حمراء الأسد ، وهي على ثمانية أميال من المدينة ، وكان بأصحابه القرح ، فتحاملوا على أنفسهم حتّى لا يفوتهم الأجر ، وألقى الله تعالى الرعب على قلوب المشركين فذهبوا.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «هل من رجل يأتينا بخبر القوم؟ فلم يجبه أحد.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنا آتيك بخبرهم.

قال : اذهب فإن كانوا ركبوا الإبل وجنّبوا الخيل فإنّهم يريدون مكّة.

فمضى أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما به من الألم والجراح حتى كان قريبا من القوم ، فرآهم قد ركبوا الإبل وجنّبوا الخيل ، فرجع وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرادوا مكّة.

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤))

فلمّا دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة نزل جبرئيل وقال : يا محمد إنّ الله يأمرك أن تخرج ولا يخرج معك إلّا من به جراحة. فأقبلوا يضمّدون جراحاتهم

٥٩٧

ويداوونها. فخرج عليه‌السلام معهم على ما بهم من الألم والجراح حتّى بلغوا حمراء الأسد» (١) ، فنزلت : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي : نالهم الجراح يوم أحد. وهذا صفة للمؤمنين ، أو نصب على المدح ، أو مبتدأ خبره : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) بجملته ، أي : لهم ثواب جزيل. و «من» للبيان ، مثلها في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) (٢). والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل لا التقييد ، لأنّ المستجيبين كلّهم متّقون.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) يعني : الركب الّذي استقبلهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي. وأطلق عليه الناس لأنّه من جنسهم ، كما يقال : فلان يركب الخيل وماله إلا فرس واحد ، أو لأنّه انضمّ إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه. (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) يعني : أبا سفيان وأصحابه.

روي أنّه نادى عند انصرافه من أحد : يا محمّد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت. فقال عليه‌السلام : إن شاء الله. فلمّا كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكّة حتّى نزل بمرّ (٣) الظهران ، فأنزل الله تعالى الرعب في قلبه ، وبدا له أن يرجع ، فمرّ به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة (٤) ، فشرط لهم حمل بعير من زبيب إن ثبّطوا (٥) المسلمين. وقال صاحب الجامع : «لقي أبو سفيان نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا ، فقال : يا نعيم إنّي وأعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر ، وأنّ هذا عام جدب ، ولا

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ١ : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) الفتح : ٢٩.

(٣) في هامش الخطّية : «مرّ الظهران اسم موضع يسمّيه أهل مكّة بوادي مرّ. منه».

(٤) في هامش الخطّية : «الميرة : الطعام الذي يؤتى من موضع إلى آخر للبيع أو لأجل العيال. منه».

(٥) ثبّطه عن الأمر : عوّقه وشغله عنه.

٥٩٨

يصلحنا إلّا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها ، وأكره أن يخرج محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالحق بالمدينة وثبّطهم ولك عندي عشر من الإبل. فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهّزون فقال : ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلّا شريدا ، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم ، فو الله لا يفلت منكم أحد. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي نفسي بيده لأخرجنّ وإن لم يخرج معي أحد ، فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل» (١).

(فَزادَهُمْ إِيماناً) الضمير المستكن للمقول ، أو لمصدر «قال» ، أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده. والبارز للمقول لهم. والمعنى : أنّهم لم يلتفتوا إلى هذا القول ولم يضعفوا ، بل ثبت به يقينهم بالله ، وازداد إيمانهم ، وأظهروا حميّة الإسلام ، وأخلصوا النيّة عنده. وزيادة الإيمان ظاهر إن جعل الطاعة من جملته. وإن لم نجعلها منه فالمراد أنّ اليقين يزداد بالإلف وكثرة التأمّل ، وتناصر الحجج ، ومشاهدة كثرة البيّنات ، كزيادة اطمئنان القلب والاعتقاد ، وبضمّ المشاهد بالشواهد في قول إبراهيم عليه‌السلام : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢).

(وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) محسبنا وكافينا ، من : أحسبه إذا كفاه. ويدلّ على أنّه بمعنى المحسب أنّه لا يستفيد بالإضافة تعريفا في قولك : هذا رجل حسبك ، لأنّ إضافته لكونه في معنى اسم الفاعل غير حقيقيّة. (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ونعم الموكول إليه هو.

(فَانْقَلَبُوا) فرجعوا من بدر (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) عافية وسلامة وثبات على الإيمان (وَفَضْلٍ) وربح في التجارة ، فإنّهم لمّا أتوا بدرا ، وكانت موضع سوق لهم في الجاهليّة يجتمعون إليها في كلّ عام ثمانية أيّام ، فأقاموا بها ثمان ليال ينتظرون أبا سفيان ، وقد انصرف أبو سفيان فرجع إلى مكّة ، فسمّى أهل مكّة جيشه جيش

__________________

(١) جوامع الجامع ١ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٢) البقرة : ٢٦٠.

٥٩٩

السويق ، وقالوا : إنّما خرجتم لتشربوا السويق. ولم يلق رسول الله وأصحابه أحدا من المشركين ببدر ، ووافقوا السوق ، وكانت معهم أموال التجارة ، فباعوها فاتّجروا وأصابوا للدرهم درهمين ، فربحوا ربحا كثيرا ، وأصابوا خيرا ، ثمّ انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.

(لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) من جراحة وكيد عدوّ (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) الّذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجرأتهم وخروجهم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) قد تفضّل عليهم بالتثبيت بالإيمان وتقويته ، والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد ، والتصلّب في الدين ، وإظهار الجرأة على العدوّ ، وبالحفظ عن كلّ ما يسوؤهم ، وإصابة النفع مع ضمان الأجر ، حتّى انقلبوا بنعمة منه وفضل ، ورجع أبو سفيان إلى مكّة خائبا خاسرا.

وفيه تحسير للمتخلّف ، وتخطئة رأيه ، حيث حرّم نفسه ما فازوا به ، وتنبيه على أنّ كل من دهمه (١) أمر فينبغي أن يفزع إلى هذه الكلمة ، أعني : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). وقد صحّت الرواية عن الصادق عليه‌السلام قال : «عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله تعالى : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)؟! فإنّي سمعت الله يقول بعقبها : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ).

وروي عن ابن عبّاس قال : «آخر كلام إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). وقال نبيّكم مثل هذا ، وتلا هذه الآية».

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

ثمّ ذكر سبحانه أنّ ذلك التخويف والتثبيط عن الجهاد من عمل الشيطان ،

__________________

(١) دهمه أمر : فاجأه أمر عظيم.

٦٠٠