زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

والإعراض عن المال ، أمرهم بعد ذلك بالاستعانة على حوائجهم بالصّبر والصلاة ، فقال : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) بحبس النفس على ما أنتم فيه من ضيق المعاش ، وانتظار النجح والفرج توكّلا على الله ، أوبالصوم الذي هو صبر عن المفطرات ، لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس ، وهذا مرويّ عن ائمّتنا (١) عليهم‌السلام.

(وَالصَّلاةِ) وبالتوصّل والتوسّل إلى الصلاة والالتجاء إليها ، فإنّها جامعة لأنواع العبادات النفسانيّة والبدنيّة من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما ، والتوجّه إلى الكعبة ، والعكوف للعبادة ، وإظهار الخشوع بالجوارح ، وإخلاص النيّة بالقلب ، ومجاهدة الشيطان ، ومناجاة الحقّ ، وقراءة القرآن ، والتكلّم بالشهادتين ، وكفّ النفس عن الأكل والنوم والجماع ، حتّى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب. روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا حزنه أمر فزع إلى الصّلاة.

ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء ، وأن يستعان على البلايا بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في رفعه. والأوّل أظهر وأشهر. ويؤيّده ما روى عن ابن عبّاس أنّه نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر ، فاسترجع وتنحّى عن الطريق فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثمّ قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : استعينوا بالصّبر والصّلاة.

(وَإِنَّها) أي : الاستعانة بهما أو الصلاة ، وحينئذ تخصيصها بها لعظم شأنها ، لاستجماعها ضروبا من الصبر (لَكَبِيرَةٌ) لثقيلة شاقّة ، كقوله : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (٢) (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) أي : المخبتين ، لأنّهم الّذين يتوقّعون ما ادّخر للصابرين على مشاقّها فتهون عليهم ، بل يستلذّون بسببه متاعبها ، ومن ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجعلت قرّة عيني في الصلاة ، وقال لبلال : روّحنا.

__________________

(١) انظر تفسير العيّاشي ١ : ٤٣ ح ٤٠ ـ ٤١.

(٢) الشورى : ١٣.

١٤١

والخشوع : التطامن والإخبات ، والخضوع : اللين والانقياد ، ولذلك يقال : الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب.

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ) يتوقّعون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) لقاء ثوابه (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ) إلى نيل ما عنده (راجِعُونَ) أو يتيقّنون أنّهم يحشرون إلى الله فيجازيهم ، وكأنّ الظنّ لمّا شابه العلم في الرجحان اطلق عليه ، لتضمّن معنى التوقّع ، ولا يجوز أن يكون المراد من اللقاء رؤية الله ، لاستحالة إطلاقها عليه كما قرّر في الكلام.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قد مرّ (١) تفسيره ، وكرّره للتأكيد ، أو ذكر الأوّل مجملا وهذا مفصّلا ، أو في الأوّل ذكّرهم نعمه على أنفسهم ، وفي الثاني على آبائهم.

(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) عطف على نعمتي ، أي : اذكروا تفضيلي آباءكم (عَلَى الْعالَمِينَ) أي : عالمي زمانهم ، لأنّ أمّتنا أفضل الأمم بالإجماع ، كما أنّ نبيّنا عليه‌السلام أفضل الأنبياء ، بدليل قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٢) فيريد تفضيل آبائهم الّذين كانوا في زمان موسى عليه‌السلام وبعده ـ قبل أن يغيّروا دينهم ـ بما منحهم من العلم والإيمان والعمل الصالح ، وجعلهم أنبياء وملوكا مقسطين.

وقيل : المراد به تفضيلهم في أشياء مخصوصة ، وهي إنزال المنّ والسّلوى ، وما أرسل الله فيهم من الرسل ، وأنزل عليهم من الكتب ، إلى غير ذلك من النعم العظيمة ، مثل تغريق فرعون ، والآيات الكثيرة الّتي يخفّ معها الاستدلال ، ويسهل بها الميثاق. وتفضيل الله إيّاهم في أشياء مخصوصة لا يوجب أن يكونوا أفضل الناس على الإطلاق ، كما يقال : حاتم أفضل الناس في السخاء.

__________________

(١) في ص : ١٣٤ ذيل آية : ٤٠.

(٢) آل عمران : ١١٠.

١٤٢

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

ولمّا بيّن سبحانه نعمه العظام عليهم أنذرهم في كفرانها بيوم القيامة ، فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً) أي : ما فيه من الحساب والعذاب (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) لا تقضي عنها شيئا من الحقوق ولا تدفع عنها مكروها ، أو شيئا من الجزاء ، فيكون نصبه على المصدر. وإيراده منكّرا مع تنكير النفسين للتعميم والإقناط الكلّي. والجملة صفة لـ «يوما» والعائد محذوف ، تقديره : لا تجزي فيه.

(وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي : من النفس الثانية العاصية أو من الاولى. وكأنّه أريد بالآية نفي أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كلّ وجه محتمل ، فإنّه إمّا أن يكون قهرا ، أو غيره. والأوّل النصرة. والثاني إمّا أن يكون مجّانا ، أو غيره. والأوّل على أنّها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها ، كما لا يجزي عنها شيئا أن يشفع له. والثاني إمّا بأداء ما كان عليه وهو أن يجزي عنه ، أو بغيره ، وهو أن يعطي عنه عدلا أي : فداء.

والشفاعة من الشفع ، كأنّ المشفوع له كان فردا فجعله الشفيع شفعا بضمّ نفسه إليه. والعدل الفدية. وقيل : البدل. وأصله التسوية ، سمّي به الفدية لأنّها سوّيت بالمفدى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : ولا تقبل بالتاء.

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون من عذاب الله. والضمير لما دلّت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة. وتذكيره بمعنى العباد والأناسي. والنّصرة أخصّ من المعونة ، لاختصاصها بدفع الضرّ.

١٤٣

قال المفسّرون (١) : حكم هذه الآية مختصّ باليهود ، لأنّهم قالوا : نحن أولاد الأنبياء وآباؤنا يشفعون لنا ، فأقنطهم الله عن ذلك. ويدلّ على ذلك أنّ الامّة أجمعت على أنّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شفاعة مقبولة وإن اختلفوا في كيفيّتها ، فعندنا هي مختصّة بدفع المضارّ وإسقاط العقاب عن مستحقّيه من مذنبي المؤمنين. وقالت المعتزلة : هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين.

وهي ثابتة عندنا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأئمّة من أهل بيته الطاهرين ، ولصالحي المؤمنين ، وينجّي الله تعالى بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين. ويؤيّده الحديث المتواتر عند الامّة المرحومة من الموافق والمخالف أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من امّتي» ، وما جاء في روايات أصحابنا رضوان الله عليهم مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّي أشفع يوم القيامة فاشفّع ، ويشفع عليّ فيشفّع ، ويشفع أهل بيتي فيشفّعون ، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه كلّ قد استوجب النار».

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢))

__________________

(١) انظر التبيان ١ : ٢١٤ ، الكشّاف ١ : ١٣٦ ، مجمع البيان ١ : ١٠٣ ، أنوار التنزيل ١ : ١٥٢.

١٤٤

ثمّ فصّل سبحانه النعم الّتي أجملها فيما قبل ، فقال عطفا على «نعمتي» ـ عطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة ـ : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أصل آل أهل ، لأنّ تصغيره اهيل ، فأبدل الهاء ألفا لقرب المخرج ، وخصّ بالإضافة إلى اولي الخطر كالأنبياء والملوك ، فلا يقال : آل الإسكاف والحجّام.

و «فرعون» لقب ملك العمالقة ، ككسرى وقيصر لملكي الفرس والروم. وكانت العمالقة أولاد عمليق بن أدد بن ارم بن سام بن نوح. ولم يكن في الفراعنة أحد أشدّ غلظة وأقسى قلبا من فرعون موسى ، ولعتوّهم اشتّق منه : تفرعن ، إذا عتا وتجبّر. وكان فرعون موسى مصعب بن ريّان ، وقيل : هو ابنه الوليد من بقايا عاد ، وفرعون يوسف عليه‌السلام ريّان ، وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة.

والمعنى : وإذ خلّصناكم من قوم فرعون وأهل دينه (يَسُومُونَكُمْ) يبغونكم ، من : سامه خسفا إذا أولاه ظلما. وأصل السّوم الذهاب في طلب الشيء ، يقال : سام السّلعة إذا طلبها ، ثمّ يعدّى بمفعولين (سُوءَ الْعَذابِ) أفظعه ، فإنّه أقبح بالإضافة إلى سائره. والسوء مصدر : ساء يسوء. ونصبه على أنّه مفعول لـ (يَسُومُونَكُمْ) والجملة حال من الضمير المنصوب في (نَجَّيْناكُمْ) أو من آل فرعون ، أو منهما جميعا ، لأنّ فيها ضمير كلّ واحد منهما.

وقوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) بيان لـ «يسومونكم» ولذلك لم يعطف ، أي : يستبقونهنّ ويدعونهنّ أحياء ليستعبدون وينكحن على وجه الاسترقاق ، وهذا أشدّ من الذبح. وإنّما فعلوا بهم ذلك لأنّ الكهنة أنذروا فرعون بأنّه يولد مولود ويكون على يده هلاكك ، كما أنذر نمرود ، فلم يغن عنهما بحفظهما ، وكان ما شاء الله أن يكون.

وروي أنّ فرعون رأى في المنام كأنّ نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر ، فأحرقتها وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل ، فهاله

١٤٥

ذلك ، ودعا الكهنة والسحرة والقافة ، فسألهم عن رؤياه ، فقالوا : إنّه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك وتبديل دينك ، فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بني إسرائيل ، وجمع القوابل من أهل مملكته ، فقال لهنّ : لا يسقط على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلّا قتل ، ولا جارية إلّا تركت! ووكّل طائفة عليهنّ ، فكنّ يفعلن ذلك. وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل ، فدخل رؤساء القبط على فرعون فقالوا : إنّ الموت قد وقع في بني إسرائيل ، فتذبح صغارهم ويموت كبارهم ، فيوشك أن يقع علينا الأعمال الشاقّة الّتي هم يصنعون لنا من البناء والحراثة وغيرهما. فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة ، فولد هارون في السنة الّتي لا يذبحون فيها فترك ، وولد موسى في السنة الّتي يذبحون فيها ، على وجه يذكر في سورة القصص.

(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ) محنة إن أشير بـ «ذلكم» إلى صنيعهم ، ونعمة إن أشير به إلى الإنجاء. وأصله الاختبار ، لكن لمّا كان اختيار الله عباده تارة بالمحنة وتارة بالمنحة اطلق عليهما. ويجوز أن يكون إشارة إلى المجموع ، ويراد به الامتحان الشائع بينهما (مِنْ رَبِّكُمْ) بتسليطهم عليكم ، أو ببعث موسى وتوفيقه لتخليصكم ، أو بهما (عَظِيمٌ) صفة بلاء.

وفي الآية تنبيه على أنّ ما يصيب العبد من خير أو شرّ اختبار من الله تعالى ، فعليه أن يشكر على المسارّة ويصبر على المساءة ليكون من خير المختبرين.

ثم ذكر سبحانه نعمة اخرى عليهم فقال : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك بسلوككم فيه ، يعني : يتفرّق الماء عند سلوككم ، فكأنّما فرّق بكم كما يفرّق بين الشيئين بما يوسّط بينهما ، أو بسبب إنجائكم. ويجوز أن يكون في موضع الحال ، بمعنى : فرقناه ملتبسا بكم. وروي أنّه كان طرفا البحر أربعة فراسخ. (فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أراد

١٤٦

فرعون وقومه ، واقتصر على ذكرهم للعلم بأنّه كان أولى به (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ذلك جميعا ، أو غرقهم ، أو إطباق البحر عليهم ، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذلّلة ، أو جثثهم الّتي قذفها البحر إلى السّاحل ، أو ينظر بعضكم بعضا.

روي عن ابن عبّاس أنّه تعالى أمر موسى أن يسري ببني إسرائيل ، فخرج بهم وهم كانوا ستّمائة ألف وعشرين ألفا ، فصبّحهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث ، فصادفوهم على شاطئ البحر ، فقال فرعون : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) (١) ، فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر ، فالتفتوا فإذا هم برهج (٢) دوابّ فرعون ، فقالوا : يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، هذا البحر أمامنا وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه.

فقال موسى عليه‌السلام : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) (٣) الآية ، فقال له يوشع بن نون : بم أمرت؟ قال : أمرت أن أضرب بعصاي البحر. قال : اضرب ، فضربه ، فظهر به اثنا عشر طريقا يابسا ، فسلكوها ، فقالوا : يا موسى نخاف أن يغرق بعضنا ولا نعلم ، ففتح الله فيها الروازن فتراءوا وتسامعوا حتى عبروا البحر.

ثمّ لمّا وصل إليه فرعون ورءاه منفلقا وكان على فرس حصان أدهم ، فهاب دخول الماء ، تمثّل له جبرئيل على فرس أنثى ، وتقحّم البحر ، فلمّا رآها الحصان تقحّم خلفها ثمّ تقحّم قوم فرعون ، فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين.

وهذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ، ومن الآيات الملجئة

__________________

(١) الشعراء : ٥٤ ـ ٥٥.

(٢) الرّهج : الغبار. (لسان العرب ٢ : ٢٨٤)

(٣) الأعراف : ١٢٩.

١٤٧

إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى. ثمّ إنهم بعد رؤية هذه المعجزة الباهرة الظاهرة اتّخذوا العجل وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (١) فهم بمعزل من الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتّباع عن امّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ ما تواتر من معجزاته امور نظريّة دقيقة تدركها الأذكياء.

ولمّا عاد بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وعد الله موسى أن يعطيه التوراة ، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجّة ، كما حكى الله سبحانه عن هذه الوعدة بقوله : «وإذ وعدنا (٢) موسى أربعين ليلة» عبّر عن ذي القعدة وعشر ذي الحجّة بالليالي ، لأنّها غرر الشهور ، فإنّ العرب يبنون حسابهم على سير القمر وهو يطلع في الليل.

وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : «واعدنا» لأنّه تعالى وعده الوحي ، ووعده موسى المجيء للميقات إلى الطور ، فخلّف موسى أصحابه واستخلف عليهم هارون ، فمكث على الطور أربعين ليلة وأنزل عليه التوراة في الألواح.

(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها أو معبودا (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد موسى ، أي : مضيّه إلى الطور (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) بإشراككم الّذي حصل باتّخاذكم العجل إلها.

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) حين تبتم. والعفو محو الجريمة ، من : عفا إذ ادرس (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : الاتّخاذ (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا عفوه.

وتفصيل هذه القصّة سيجيء إن شاء الله تعالى في مواضعه.

__________________

(١) البقرة : ٥٥.

(٢) في المصحف الكريم : واعدنا ، ويظهر أن المصنف يرجّح قراءة : وعدنا ، سيما بملاحظة قوله : وقرأ ابن كثير ...

١٤٨

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

ثمّ بيّن نعمة إعطاء التوراة عليهم ، فقال : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) يعني : التوراة الجامع بين كونه كتابا وحجّة تفرق بين الحقّ والباطل ، كقولك : رأيت الغيث والليث ، أي : الرجل الجامع بين الجود والجراءة. وقيل : أراد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحقّ والمبطل في الدعوى ، أو بين الكفر والإيمان ، من العصا واليد وغيرهما من الآيات. وقيل : الشرع الفارق بين الحلال والحرام ، أو النصر

١٤٩

الّذي فرّق بينه وبين عدوّه ، كقوله تعالى : (يَوْمَ الْفُرْقانِ) (١) يريد به يوم بدر.(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لكي تهتدوا بتدبّر الكتاب والتفكّر في الآيات ، أو بما فيه من البشارة بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان صفته.

(وَإِذْ قالَ) واذكروا إذ قال : (مُوسى لِقَوْمِهِ) لعبدة العجل من قومه بعد رجوعه من الطور إليهم (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أضررتم بها (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) إلها ومعبودا (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم براء من التفاوت في الخلق وعدم التناسب ، ومميّزا بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة. وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره ، إمّا على سبيل الإنشاء كقوله : برأ الله آدم من الطين ، أو التفصّي كقولهم : برىء المريض من مرضه والمديون من دينه.

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بخعا (٢) كما هو الظاهر ، أو ليقتل بعضكم بعضا إتماما لتوبتكم. وقيل : أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة. والفاء الاولى للتسبيب ، لأنّ الظلم سبب التوبة ، والثانية للتعقيب لأنّ المعنى : فاعزموا على التوبة فبعد ذلك اقتلوا أنفسكم.

روي أنّ الرّجل كان يبصر ولده وقريبه فلم يمكنه إمضاء أمر الله للشفقة والمرحمة ، فأرسل الله عليهم ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ، فأخذوا يقتلون من الغداة إلى المساء ، حتى دعا موسى وهارون وقالا : يا ربّ هلكت بنو إسرائيل البقية البقية ، فكشفت الضبابة ونزلت التوبة ، فسقطت الشفار من أيديهم ، وكانت القتلى سبعين ألفا.

(ذلِكُمْ) إشارة إلى التوبة مع القتل : (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) من إيثار الحياة

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) بخع نفسه : قتلها غيظا أو غمّا. (لسان العرب ٨ : ٥)

١٥٠

الفانية ، من حيث إنّه طهرة من الشرك ووصلة إلى الحياة الأبديّة والبهجة السرمديّة.

وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) متعلّق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه‌السلام لهم ، تقديره : إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ، أو عطف على محذوف إن جعلته خطابا من الله لهم على طريقة الالتفات ، كأنّه قال : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارؤكم. وذكر البارئ مكرّرا وترتيب الأمر عليه إشعار بأنّهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة ، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقرة الّتي هي مثل في الغباوة ، وأن من لم يعرف حقّ منعمه حقيق بأن يستردّ منه ، ولذلك أمروا بالقتل.

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) الّذي يكثر توفيق التوبة أو قبولها من المذنبين (الرَّحِيمُ) الّذي يبالغ في الإنعام عليهم.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) لأجل قولك ، أو لن نقرّ لك بأنّ الّذي أعطاك التوراة وكلّمك هو الله ، أو بأنّك نبيّ (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) عيانا. وهي في الأصل مصدر قولك : جهرت بالقراءة ، استعيرت للمعاينة. ونصبها على المصدر ، لأنّها نوع من الرؤية ، أو الحال من الفاعل أو المفعول ، أي : ذوي جهرة. قيل : إنّ القائلين هذا القول هم السبعون الّذين اختارهم موسى للميقات فصعقوا. وقيل : عشرة آلاف من قومه.

(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) نار وقعت من السماء فأحرقتهم. وقيل : صيحة جاءت من السماء. وقيل : جنود سمعوا بحسيسها فخرّوا صعقين ميّتين يوما وليلة ، لفرط العناد والتعنّت وطلب المستحيل ، فإنّهم ظنّوا أنّه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته. (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ما أصابكم.

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أحييناكم لاستكمال آجالكم (مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) بسبب الصّاعقة. وقيّد البعث بما بعد الموت لأنّه قد يكون عن إغماء أو نوم ، كقوله تعالى :

١٥١

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) (١) (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة البعث بعد الموت.

أجمع المفسّرون إلّا شرذمة يسيرة أنّ الله تعالى لم يكن أمات موسى عليه‌السلام كما أمات قومه ، ولكن غشي عليه بدليل قوله : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) (٢) ، والإفاقة إنّما تكون من الغشيان.

وفي الآية دلالة على أنّ قول موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٣) كان سؤالا لقومه ، لأنّه لا خلاف بين أهل التوراة أنّ موسى عليه‌السلام لم يسأل الرؤية إلّا دفعة واحدة ، وهي الّتي سألها لقومه. وعلى أنّ الرجعة في الدنيا جائزة. وقول من قال : إنّ الرجعة لا يجوز إلّا في زمن نبيّ ليكون معجزة له ودلالة على نبوّته ، باطل ، لأنّ عندنا بل عند أكثر الامّة يجوز إظهار المعجزات على أيدي الأئمّة والأولياء عليهم‌السلام ، والأدلّة على ذلك مذكورة في كتب الكلام.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) جعلنا فوقكم السحاب ظلّة تحفظكم من حرّ الشمس حين كنتم في التيه أربعين سنة.

(وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) الترنجبين (٤) والسّمانى (٥). قيل : كان ينزل عليهم المنّ مثل الثلج من الصبح إلى الطلوع لكلّ إنسان صاع ، ويبعث الجنوب تحشر عليهم السمانى ، فيذبح الرجل ما يكفيه ، وينزل بالليل عمود نار يسيرون في

__________________

(١) الكهف : ١٢.

(٢) الأعراف : ١٤٣.

(٣) الأعراف : ١٤٣.

(٤) المنّ كالطّرنجبين ، وفي الحديث : الكمأة من المنّ. وقيل : المنّ طلّ ينزل من السماء. وقيل : هو شبه العسل كان ينزل على بني إسرائيل. (لسان العرب ١٣ : ٤١٨).

وفي فرهنگ فارسى للدكتور محمد معين (١ : ١٠٧٢) : ترنجبين معرّب ترنگبين ، ترشحات وشيرابه هاى برگ وساقه هاى گياه خارشتر كه از لحاظ شيميائي نوعي أز «منّ» مى باشد.

(٥) السّمانى : طائر ، واحدته سماناة. (لسان العرب ١٣ : ٢٢٠)

١٥٢

ضوئه ، وكانت ثيابهم لا تتّسخ ولا تبلى.

وقلنا لهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي : من الشهيّ اللذيذ الّذي أعطيناكم وجعلناه رزقا لكم (وَما ظَلَمُونا) وما نقصونا بكفرهم أنعمنا. وفيه اختصار ، تقديره : فظلموا بأن كفروا هذه النعم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفران ، لأنّه لا يتخطّاهم ضرّه.

ومجمل هذه القصّة : أنّه لمّا ابتلاهم الله بالتّيه بسبب قولهم لموسى عليه‌السلام : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (١) حين أمرهم بالمسير إلى بيت المقدس وحرب العمالقة ، بقوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) (٢) على تفصيل يجيء في موضعه إن شاء الله ، فوقعوا في التّيه ، كلّما ساروا تاهوا في قدر خمسة فراسخ أو ستّة ، فكلّما أصبحوا ساروا إلى المساء فإذا هم في مكانهم الّذي ارتحلوا منه كذلك ، حتى تمّت المدّة وهي أربعون سنة. وفي التّيه توفّي موسى وهارون ، ثم خرج يوشع بن نون إلى حرب العمالقة.

وعن الصادق عليه‌السلام كان ينزل المنّ على بني إسرائيل من بعد الفجر إلى طلوع الشمس ، فمن نام في ذلك الوقت لم ينزل نصيبه ، فلذلك يكره النوم في ذلك الوقت إلى طلوع الشمس.

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) يعني : بيت المقدس. وقيل : أريحا من قرى الشام ، أمروا به بعد التّيه ، وفيها كان بقايا من قوم عاد ، وهم العمالقة ورأسهم عوج ابن عنق (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) أكلا واسعا بطيب النفس. ونصبه على المصدر ، أو الحال من الواو.

(وَادْخُلُوا الْبابَ) باب القرية الّتي أمروا بدخولها ، أو القبّة الّتي كانوا يصلّون

__________________

(١) المائدة : ٢٤.

(٢) المائدة : ٢١.

١٥٣

إليها ، فإنّهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى. وقيل : هو باب حطّة ، وهو الباب الثامن (سُجَّداً) منحنين خاضعين متواضعين ، أو ساجدين لله شكرا على إخراجهم من التّيه.

(وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي : مسألتنا أو أمرك حطّة. وهي فعلة من الحطّ ، كالجلسة. ومعناه : حطّ عنّا ذنوبنا حطّة. وهو أمر بالاستغفار. أو على أنّه مفعول «قولوا» ، أي : قولوا هذه الكلمة.

وقيل : معناه أمرنا أن نحطّ في هذه القرية ونقيم بها. وعن عكرمة أنّهم أمروا أن يقولوا : لا إله إلّا الله ، لأنّها تحطّ الذنوب. وروي عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : نحن باب حطّتكم.

(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) نصفح ونعف عن ذنوبكم بسجودكم ودعائكم. وقرأ نافع بالياء ، وابن عامر بالتاء على البناء للمفعول.

وخطايا أصله خطايئ كخطائع. فعند سيبويه أنّه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف ، واجتمعت همزتان ، فأبدلت الثانية ياء ثم قلبت الياء ألفا ، وكانت الهمزة بين ألفين ، فأبدلت ياء. وعند الخليل قدّمت الهمزة على الياء ثم فعل بهما ما ذكر.

(وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) ثوابا ، أي : من كان محسنا منكم كانت تلك الكلمة سببا في زيادة ثوابه ، ومن كان مسيئا كانت له توبة ومغفرة. فجعل الامتثال توبة للمسيء ، وسبب زيادة الثواب للمحسن. وأخرجه في صورة الجواب إلى الوعد إيهاما بأنّ المحسنين بصدد ذلك وإن لم يفعلوه! فكيف إذا فعلوه! وأنّه يفعله لا محالة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم قد عصوا فيما أمروا ، فقال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي : بدّلوا بما أمروا به من التوبة والاستغفار طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا.

١٥٤

قيل : إنّهم قالوا بالسريانيّة : حطّا سمقاثا ، أو خيطا سمقاثا. ومعناه : حنطة حمراء. وكان قصدهم في ذلك الاستهزاء ومخالفة الأمر. وخالفوا في دخول الباب أيضا ، فإنّه طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم ، فلم يخفضوها ودخلوا زاحفين على أستاههم.

(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) كرّره مبالغة في تقبيح أمرهم ، وإشعارا بأنّ الإنزال عليهم لظلمهم ، بوضع غير المأمور به موضعه قولا وفعلا ، أو على أنفسهم ، بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها.

(رِجْزاً) أي : عذابا مقدّرا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم والرّجز في الأصل ما يكره عنه. وكذلك الرّجس. والمراد به الطاعون.

روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه مات به في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا من كبرائهم وشيوخهم ، وقيل : سبعون ألفا ، وبقي الأبناء فانتقل عنهم العلم والعبادة. وكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشير إلى أنّهم عوقبوا بإخراج الأفاضل من بينهم.

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠))

ثمّ عدّ سبحانه على بني إسرائيل نعمة أخرى مضافة إلى النعمة الأولى ، فقال : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) أي : طلب وسأل موسى ربّه أن يسقي قومه ماء لمّا عطشوا في التّيه (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) اللام فيه للعهد ، على ما روي أنّه كان حجرا طوريّا مربّعا حمله موسى معه ، وكانت تنبع من كلّ وجهه ثلاث أعين ، تسيل كلّ عين في جدول إلى سبط ، وكانوا اثني عشر نقيبا ، وجنودهم كانوا ستّمائة ألف ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا.

١٥٥

أو حجرا أهبطه آدم من الجنّة ، ووقع إلى شعيب ، فأعطاه مع العصا.

أو الحجر الّذي فرّ بثوبه لمّا وضعه عليه ليغتسل ، وبرّأه الله به عمّا رموه من الأدرة (١) ، فأشار إليه جبرئيل بحمله.

أو للجنس. وهذا أظهر في الحجّة. كما قيل : إنّه لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه ، ولكن لمّا قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها؟ حمل حجرا في مخلاته (٢) ، وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر ، ويسقي كلّ يوم ستّمائة ألف مع دوابّهم ، ويضربه بها إذا ارتحل فييبس. فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشا ، فأوحى الله إليه : لا تقرع الحجارة وكلّمها تطعك ، لعلّهم يعتبرون.

وقيل : كان الحجر من رخام ، وكان ذراعا في ذراع. وقيل : مثل رأس الإنسان. وقيل : كان من آس الجنّة. والعصا عشرة أذرع على طول موسى من آس الجنّة ، وله شعبتان تتّقدان في الظلمة نورا ، وبه ضرب البحر فانفلق ، وهو الّذي صار ثعبانا.

وقوله : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) متعلّق بمحذوف ، تقديره : فإن ضربت فقد انفجرت منه ، أو فضرب فانفجرت ، كما مرّ (٣) في قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ).

(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) كلّ سبط عينهم الّتي يشربون منها ، فقلنا لهم : (كُلُوا) المنّ والسلوى (وَاشْرَبُوا) هذا الماء العذب (مِنْ رِزْقِ اللهِ) يريد : هذا المطعم والمشرب (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ) لا تعتدوا فيها (مُفْسِدِينَ) حال إفسادكم. وإنّما قيّد العثيّ به لأنّه ـ وإن غلّب على الفساد ـ قد يكون منه ما ليس بفساد ، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ، ومنه ما يتضمّن صلاحا راجحا ، كقتل الخضر

__________________

(١) الادرة ، بالضمّ : نفخة في الخصية. (لسان العرب ٤ : ١٥)

(٢) المخلاة : ما يجعل فيه العلف ويعلّق في عنق الدابّة. (المنجد : ١٩٥)

(٣) في ص : ٥١.

١٥٦

الغلام وخرقه السفينة.

ومتى قيل : كيف كان يجتمع ذلك الماء الكثير في ذلك الحجر الصغير؟

قلنا : إنّ ذلك من آيات الله الباهرة والأعاجيب الظاهرة ، الدالّة على أنّها من فعل الله تعالى ، المنشئ للأشياء ، القادر على ما يشاء ، فلا بدع من كمال قدرته وجلال عزّته أن يبدع خلق المياه الكثيرة ابتداء ، معجزة لموسى ، ونعمة عليه وعلى قومه. ومن استبعد ذلك من الملاحدة الّذين لم يقدروا الله حقّ قدره ، فالكلام. عليهم إنّما يكون في وجود الصّانع وإثبات صفاته واتّساع مقدوراته ، ولا معنى للتشاغل بالكلام معهم في الفرع مع الخلاف في الأصل.

وقال في أنوار التنزيل في هذا الموضع : «ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله ، وقلّة تدبّره في عجائب صنعه ، فإنّه لمّا أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر وينفر عن الخلّ ويجذب الحديد ، لم يمتنع أن يخلق الله حجرا يسخّره لجذب الماء من تحت الأرض ، أو لجذب الهواء من الجوانب ، ويصيّره ماء بقوّة التبريد ، ونحو ذلك» (١).

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ : ١٥٦.

١٥٧

ولمّا عدّد سبحانه فيما قبل ما أعطاه عليهم من النعم والإحسان ، ذكر ما قابلوا به تلك النعم من الكفران ، وسوء الاختيار لنفوسهم بالعصيان ، فقال : (وَإِذْ قُلْتُمْ) أي : قال أسلافكم من بني إسرائيل : (يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ) لا نطيق حبس أنفسنا (عَلى طَعامٍ واحِدٍ) يريد به ما رزقوا في التّيه من المنّ والسّلوى ، وبوحدته أنّه لا يختلف ولا يتبدّل ، كقولهم : طعام مائدة الأمير واحد ولو كان على مائدته ألوانا ، وفلان لا يأكل إلا طعاما واحدا ، يريدون أنّه لا يتغيّر ألوانه ، ولذلك ملّوا وسئموا ، أو نوعا واحدا ، لأنّهما معا طعام أهل التلذّذ ، وهم كانوا فلّاحة ، فاشتاقوا إلى أصلهم ، واشتهوا على ما ألفوه.

(فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) سله لنا بدعائك إيّاه (يُخْرِجْ لَنا) يظهر لنا ويوجد. وجزمه بأنّه جواب (فَادْعُ) ، فإنّ دعوته سبب الإجابة (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من الإسناد المجازي وإقامة القابل مقام الفاعل ، و «من» للتبعيض.

وقوله : (مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) تفسير وبيان وقع موقع الحال. وقيل : بدل بإعادة الجارّ.

والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر. والمراد به أطائبه الّتي يأكلها الناس ، كالنعناع والكرفس والكرّات. والفوم : الحنطة. ويقال للخبز ، ومنه : فوّموا لنا ، أي : اخبزوا لنا. وقيل : الثوم.

(قالَ) أي : الله أو موسى (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) أقرب منزلة وأدون قدرا. وأصل الدنوّ القرب في المكان ، فاستعير للخسّة ، كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل : بعيد المحلّ بعيد الهمّة ، يريدون الرفعة والعلوّ. (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) يريد به المنّ والسّلوى ، فإنّه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي.

(اهْبِطُوا مِصْراً) انحدروا من التّيه إلى مصر من الأمصار. يقال : هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج منه.

١٥٨

والمصر البلد العظيم. وأصله الحاجز بين الشيئين. وقيل : أراد به العلم ، وصرفه لسكون وسطه ، كنوح ولوط ، وفيهما العجمة والتعريف ، أو على تأويل البلد ، فما فيه إلا سبب واحد.

(فَإِنَّ لَكُمْ) في مصر (ما سَأَلْتُمْ) من نبات الأرض. وقد تمّ الكلام هاهنا.

ثمّ استأنف حكم الّذين اعتدوا في السبت ، والّذين قتلوا الأنبياء ، فقال : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أحيطت بهم إحاطة القبّة بمن ضربت عليه ، أو ألصقت بهم من ضرب الطين على الحائط والمسمار على الخشب ، أي : ألزموا الذلّة إلزاما لا تبرح بينهم ، كما يضرب المسمار على الشيء ، مجازاة لهم على كفران النعمة. واليهود في غالب الأمر أذلّاء ومساكين ، إمّا على الحقيقة ، أو على التكلّف مخافة أن تضاعف جزيتهم.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) رجعوا به ، أو صاروا أحقّاء بغضبه ، من : باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به ، لمساواته له. وأصل البوء المساواة.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلّة والمسكنة والبوء بالغضب (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم (بِآياتِ اللهِ) بالمعجزات الّتي من جملتها ما عدّ عليهم من فلق البحر وإظلال الغمام ، وإنزال المنّ والسلوى ، وانفجار العيون من الحجر ، أو بالكتب المنزلة كالإنجيل والقرآن ، وآية الرجم ، والآية الّتي فيها نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التوراة.

(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) أي : وبأنّهم يقتلون الأنبياء ، فإنّهم قتلوا شعيا وزكريّا ويحيى وغيرهم (بِغَيْرِ الْحَقِ) بغير جرم عندهم ، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم ، وإنّما حملهم على ذلك اتّباع الهوى وحبّ الدنيا.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم من الكفر والقتل (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله في كلّ شيء ، فإنّ العصيان والاعتداء سبب

١٥٩

القسوة الّتي هي سبب الكفر والقتل. فجرّهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات وقتل النّبيّين ، ولهذا صغار الذنوب سبب يؤدّي إلى ارتكاب كبارها ، كما أنّ صغار الطاعات أسباب مؤدّية إلى تحرّي كبارها.

وقيل : «ذلك» إشارة أيضا إلى ضرب الجزية والذلّة والبوء بالغضب ، فكرّر الإشارة للدلالة على أنّ ما لحقهم من ضرب الذلّة والمسكنة والبوء بالغضب كما هو بسبب الكفر والقتل ، كان أيضا بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله.

واعلم أنّ التخلية بين الكفّار وقتل الأنبياء إنّما جاز لينال الأنبياء من رفع المنازل والدرجات ما لا ينالونه بغير القتل ، فليس ذلك بخذلان ، كما أنّ التخلية بين المؤمنين والأولياء والمطيعين وبين قاتليهم ليست بخذلان لهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

وبعد ذكر حال أهل الكفر والعناد بشّر أهل الإيمان الحقيقي بالفوز الأبدي والفلاح السرمدي يوم المعاد بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أظهروا الإيمان بألسنتهم من غير مواطاة القلوب ، يريد به المنافقين ، لانخراطهم في سلك الكفرة.

(وَالَّذِينَ هادُوا) تهوّدوا. يقال : هاد وتهوّد إذا دخل في اليهوديّة ، وهو هائد. ويهود إمّا عربيّ من «هاد» إذا تاب ، سمّوا بذلك لمّا تابوا من عبادة العجل. وأصله الميل ، كقوله تعالى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي : ملنا. ويقال لمن تاب : هاد ، لأنّ من تاب عن شيء مال عنه. وقيل : سمّوا بذلك لأنّهم مالوا عن دين الإسلام. وإمّا معرّب

١٦٠