زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

هو الرجل ، أي : الكامل في الرجوليّة.

الثاني : أن يكون الكتاب صفة ، فيكون المعنى : هو ذلك الكتاب الموعود.

والثالث : أن يكون التقدير : هذه الم ، فتكون جملة ، و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة اخرى.

وإن جعلت (الم) بمنزلة الصوت كان ذلك مبتدأ ، والكتاب خبره ، أي : ذلك الكتاب المنزّل هو الكتاب الكامل ، أو الكتاب صفته والخبر ما بعده ، أعني : قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : ذلك الكتاب لا شكّ في حقيقته.

والريب مصدر : رابه يريبه ، إذا حصل فيه الريبة. وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها ، سمّي به الشكّ لأنّه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة. وفي الحديث : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإنّ الشكّ ريبة ، والصدق طمأنينة» (١).

و «لا ريب» مبنيّ لتضمّنه معنى «من» ، منصوب المحلّ على أنّه اسم «لا» النافية للجنس العاملة عمل «إنّ» ، لأنّها نقيضها ، ولازمة للأسماء لزومها. و «فيه» خبره على الظاهر ، ولم يقدّم كما قدّم في قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) (٢) ، لأنّه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين الكتب كما قصد ثمّة ، بل المراد نفي الريب عنه ، وإثبات أنّه حقّ وصدق لا باطل وكذب ، كما كان المشركون يدّعونه ، فلو أولي الظرف حرف النفي لقصد إلى ما يبعد عن المراد ، وهو أنّ كتابا آخر فيه الريب لا فيه. وحقيقة المعنى أنّه من وضوح دلالته بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه ، إذ لا مجال للريبة فيه بعد النظر الصحيح في كونه وحيا بالغا حدّ الإعجاز ، لا أن أحدا لا يرتاب فيه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ...) (٣) الآية؟

__________________

(١) جامع الجوامع ١ : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) الصافات : ٤٧.

(٣) البقرة : ٢٣.

٤١

والمشهور الوقف على «فيه». وبعض القرّاء يقف على «لا ريب». فلا بدّ لمن يقف عليه أن ينوي خبرا. ونظيره قوله : (لا ضَيْرَ) (١). والتقدير : لا ريب فيه ، فيه (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ). فعلى الثاني يكون (هُدىً) مبتدأ و (فِيهِ) خبره. وعلى تقدير الوقف على (فِيهِ) يكون (هُدىً) خبر مبتدأ محذوف على تقدير : هو هدى ، أو منصوبا على الحال.

والأولى أن يقال : إنّها أربع جمل مستأنفة متناسقة يقرّر اللاحقة منها السابقة ، ولذلك لم يدخل العاطف بينها. فـ (الم) جملة دلّت على أنّ المتحدّى به هو المؤلّف من جنس ما يركّبون منه كلامهم. و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة ثانية مقرّرة لجهة التحدّي بأنّه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. و (لا رَيْبَ فِيهِ) ثالثة تشهد على كماله ، إذ لا كمال أعلى ممّا للحقّ واليقين. و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) بما يقدّر له جملة رابعة تؤكّد كونه حقّا لا يدور الشكّ حوله.

والهدى مصدر على «فعل» كالسّرى ، وهو الدلالة الموصلة إلى المطلوب ، لأنّه جعل مقابل الضلالة في قوله : (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢). ولأنّه لا يقال : مهديّ إلّا لمن اهتدى إلى المطلوب. وقد يوضع المصدر الّذي هو «هدى» موضع الوصف الّذي هو «هاد» للمبالغة.

والمتّقي في الشريعة هو الّذي يقي نفسه تعاطي ما به العقاب من فعل أو ترك. وسمّاهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى : متّقين ، كقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قتل قتيلا فله سلبه ، وقوله تعالى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٣) أي : صائرا إلى الفجور ، فكأنّه قال : هدى للصائرين إلى التقى. ولم يقل : هدى للضالّين ، لأنّ الضالّين

__________________

(١) الشعراء : ٥٠.

(٢) سبأ : ٢٤.

(٣) نوح : ٢٧.

٤٢

فريقان : فريق علم بقاؤهم على الضلالة ، وفريق علم مصيرهم إلى الهدى ، فلا يكون هدى لجميعهم.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : جماع التقوى في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...) (١) الآية. وقيل : التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك. وقيل : المتّقي الّذي اتّقى ما حرّم عليه ، وفعل ما أوجب عليه. وقيل : هو الّذي يتّقي بصالح أعماله عذاب الله.

وسأل عمر بن الخطّاب كعب الأحبار عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال : نعم. قال : فما عملت فيه؟ قال : حذرت وتشمّرت. فقال كعب : ذلك التقوى.

فنظمه بعض الناس فقال :

خلّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى

واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصى

واعلم أنّ للتقوى ثلاث مراتب :

الاولى : التوقّي عن العذاب المخلّد بالتبرّي عن الشرك ، وعليه قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) (٢).

والثانية : التجنّب عن كلّ ما يؤثم به من فعل أو ترك حتى الصغائر ، وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع ، وهو المعنيّ بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) (٣).

__________________

(١) النحل : ٩٠.

(٢) الفتح : ٢٦.

(٣) الأعراف : ٩٦.

٤٣

والثالث : أن يتنزّه عمّا يشغل سرّه عن الحقّ ، ويقطع عمّا سواه في جميع الأحوال. وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (١). وقد فسّر قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) على الأوجه الثلاثة.

قال صاحب الكشّاف والأنوار (٢) ما حاصله : إنّ هذه الجمل الأربع بعد أن رتّبت هذا الترتيب الأنيق ، ونظمت هذا النظم العجيب ، لم تخل كلّ واحدة منها من نكتة ذات جزالة ، ففي الاولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأحسنه ، وهو بيان أنّ هذا الكتاب المتحدّى به مؤلّف من هذه الحروف المتداولة بين الناس. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة. وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف حذرا عن إيهام الباطل كما مرّ. وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الّذي هو «هدى» موضع الوصف الّذي هو «هاد» ، وإيراده منكّرا للتعظيم ، وتخصيص الهدى بالمتّقين باعتبار الغاية ، وتسمية المشارف للتقوى متّقيا إيجازا وتفخيما لشأنه. زادنا الله اطّلاعا على أسرار كلامه ، وتبيينا لنكت تنزيله ، وتوفيقا للعمل بما فيه.

وقوله عزّ اسمه : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إمّا أن يكون مجرورا بأنّه صفة للمتّقين ، أو منصوبا أو مرفوعا على المدح على تقدير : أعني الذين ، أو : هم الّذين يؤمنون. وإمّا أن يكون منقطعا عمّا قبله مرفوعا على الابتداء ، وخبره (أُولئِكَ عَلى هُدىً) ، فيكون الوقف على (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) تامّا. وعلى التقادير ، تخصيص الإيمان بالغيب ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر ، إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى.

واعلم أنّ الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق ، مأخوذ من الأمن ، كأنّ المصدّق آمن المصدّق من التكذيب والمخالفة. وعدّي بالباء فقيل : آمن به ، لأنّه

__________________

(١) آل عمران : ١٠٢.

(٢) الكشّاف ١ : ٣٧ ، أنوار التنزيل ١ : ٥٠.

٤٤

ضمّن معنى ، أقرّ واعترف. ويجوز أن يكون من قياس : فعلته فأفعل ، فيكون «آمن» بمعنى : صار ذا أمن في نفسه بإظهار التصديق.

وحقيقة الإيمان في الشرع هو التصديق والاعتراف بما علم بالضرورة أنّه من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من المعرفة بالله وصفاته وبرسله وبجميع ما جاءت به رسله ، ومن ذلك البعث والجزاء وغيرهما من أحوال المعاد. فمن أخلّ بالاعتقاد وحده فمنافق ، ومن أخلّ بالإقرار فكافر. والعمل لا يكون جزء الإيمان على الأصحّ ، فمن أخلّ به فهو مؤمن فاسق.

والغيب مصدر وصف به للمبالغة ، كالشهادة في قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (١).

والمراد به الخفيّ الّذي لا يدركه الحسّ ، ولا يقتضيه بديهة العقل. وهو قسمان : قسم لا دليل عليه ، وهو المعنيّ بقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) (٢). وقسم نصب عليه دليل ، كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله ، وهو المراد به في الآية.

هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول. وإن جعلته حالا على تقدير : ملتبسين بالغيب ، كان بمعنى الغيبة والخفاء. والمعنى : أنّهم يؤمنون غائبين عنكم ، لا كالمنافقين الّذين إذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم.

وقيل : المراد بالغيب القلب. والمعنى : يؤمنون بقلوبهم ، لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.

فالباء على الأوّل للتعدية ، وعلى الثاني للمصاحبة ، وعلى الثالث للآلة.

__________________

(١) الأنعام : ٧٣.

(٢) الأنعام : ٥٩.

٤٥

ثمّ عطف سبحانه على الإيمان ـ الّذي هو أشرف من الأعمال البدنيّة ، لابتناء صحّتها عليه ـ ذكر الصلاة الّتي هي رأس العبادات البدنيّة وأفضلها ، فقال : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي : يواظبون عليها لأدائها ، من قولهم : قامت السوق إذا نفقت ، وأقمتها إذا جعلتها نافقة ، فإذا حوفظ عليها كانت كالنافق الّذي يرغب فيه ، وإذا أضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه.

أو يتشمّرون لأدائها من غير فتور ولا توان ، من قولهم : قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه وتجلّد. وضدّه : قعد عن الأمر وتقاعد.

أو يؤدّونها ، عبّر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام ، كما عبّر عنها بالقنوت والرّكوع والسجود والتسبيح.

أو يعدّلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ واعوجاج في أفعالها ، من قولهم : أقام العود إذا قوّمه.

وهذا أظهر من الأوّلين ، لأنّه أشهر ، وإلى الحقيقة أقرب وأفيد ، لتضمّنه التنبيه على أنّ الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن ، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله ، لا المصلّون الّذين هم في صلاتهم ساهون.

والصلاة فعلة من : صلّى إذا دعا ، كالزكاة من : زكّى ، كتبتا بالواو على لفظ المفخّم. وإنّما سمّي الفعل المخصوص بها لاشتمالها على الدّعاء. وقيل : أصل «صلّى» حرّك الصّلوين ، لأنّ المصلّي يفعله في ركوعه وسجوده. وقيل من : صلّيت العود ، إذا ليّنته بالنار ، لأنّ المصلّي لأن قلبه وذهب قساوته بها.

ثم عطف على ذلك العبادة الماليّة الّتي هي الإنفاق ، للجمع بين العبادات البدنيّة والماليّة ، فقال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). الرزق في اللغة : الحظّ ، قال الله

٤٦

تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (١). وبإجماع الإماميّة الرزق : ما صحّ أن ينتفع به ، وليس لأحد منعه شرعا.

وهذه الآية دالّة على أنّ الحرام لا يكون رزقا ، لأنّه تعالى مدحهم بالإنفاق ممّا رزقناهم ، والمنفق من الحرام لا يستحقّ المدح بالإنفاق ، فلا يكون رزقا.

وأسند الرزق إلى نفسه للإعلام بأنّهم ينفقون الحلال المطلق الّذي يستأهل أن يسمّى رزقا من الله ، و «من» للتبعيض ، فكأنّه يقول : ويخصّون بعض المال الحلال بالتصدّق حذرا لشوب (٢) الإسراف المنهيّ عنه. ويجوز أن يراد به الزكاة المفروضة لأقرانه بالصلاة. ويجوز أن يراد هي وغيرها من الصدقات والنفقات في وجوه البرّ.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وممّا علّمناهم يبثّون. ومنه قيل : معناه : وممّا خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون. والأولى حمل الآية على عمومها. وتقديم المفعول للاهتمام به ، والمحافظة على رؤوس الآي.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

وبعد ذكر أحوال المؤمنين على العموم مدح الله سبحانه مؤمني أهل الكتاب ـ كعبد الله بن سلام وأضرابه ـ على الخصوص ، كتخصيص ذكر جبرئيل وميكائيل بعد الملائكة ، تعظيما لشأنهم ، وترغيبا لغيرهم ، وتعريضا لأهل الكتاب ، فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يعني : القرآن بأسره والشريعة بجميعها.

والإنزال نقل الشيء من أعلى إلى أسفل ، وهو إنّما يلحق المعاني بتوسّط لحوقه الذوات الحاملة لها. ويحتمل أنّ نزول الكتب الإلهيّة على الرسل ، بأن يتلقّفه

__________________

(١) الواقعة : ٨٢.

(٢) كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح : من شوب.

٤٧

الملك من الله تعالى تلقّفا روحانيّا ، أو يحفظه من اللوح المحفوظ ، فينزل به فيلقيه على الرسول.

وإنّما عبّر عنه بلفظ المضيّ وإن كان بعضه مترقّبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد ، أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) (١) ، فإنّ الجنّ لم يسمعوا جميعه ، ولم يكن الكتاب حينئذ كلّه منزلا.

(وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) يعنى سائر الكتب السابقة ، والإيمان بها إجمالا فرض عين ، وبالأوّل تفصيلا ، لأنّا متعبّدون بتفاصيله ، بخلاف الشرائع السالفة.

(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) إيقانا زال معه ما كان اليهود والنصارى عليه من أنّ الجنّة لا يدخلها إلّا من كان هودا أو نصارى ، وأنّ النار لن تمسّهم إلّا أيّاما معدودة ، واختلافهم في نعيم الجنّة أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره؟ وفي دوامه وانقطاعه. وفي تقديم الصلة وبناء «يوقنون» على «هم» تعريض لمن عداهم من أهل الكتاب بأنّ اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق ولا صادر عن إيقان.

فهذه الآية معطوفة على (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، فمؤمنو أهل الكتاب داخلون معهم في جملة المتّقين دخول أخصّين تحت الأعمّ. ويحتمل أن يراد بهم الأوّلون بأعيانهم. ووسّط بالعاطف الجامع ليدلّ على أنّهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل ، والإتيان بما يصدّقه من العبادات البدنيّة والماليّة ، وبين الإيمان بما لا طريق إليه غير السمع. وكرّر الموصول فيها تنبيها على بيان السبيلين.

واليقين إتقان العلم بنفي الشكّ والشبهة عنه نظرا واستدلالا ، ولذلك لا يوصف به علم القديم ولا العلوم الضروريّة.

__________________

(١) الأحقاف : ٣٠.

٤٨

والآخرة تأنيث الآخر ، صفة الدار بدليل قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) (١) فغلبت في الموصوف كالدنيا. وعن نافع أنّه خفّفها بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام.

ولمّا وصف المتّقين بهذه الصفات بيّن ما لهم عنده تعالى فقال : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). الجملة في محلّ الرفع بالخبريّة إن كان (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) مبتدأ ، وإلّا استئناف فلا محلّ لها ، فكأنّه نتيجة الأحكام والصفات المتقدّمة ، أو جواب سائل قال : ما للموصوفين بهذه الصفات اختصّوا بالهدى؟ ونظيره : أحسنت إلى زيد صديقك القديم حقيق بالإحسان ، فإنّ اسم الإشارة هاهنا كإعادة الموصوف ـ أعني : المتّقين ـ بصفاته المذكورة ، وهو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده ، لما فيه من بيان المقتضي وتلخيصه ، فإنّ ترتّب الحكم على الوصف إيذان بأنّه الموجب له.

ومعنى الاستعلاء في قوله : «على هدى» تمثيل تمكّنهم من الهدى واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء وركبه ، وذلك إنّما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من الحجج ، والمواظبة على محاسبة النفس في العمل. ونكّر «هدى» للتعظيم ، فكأنّه أريد به ضرب لا يبلغ كنهه.

ومعنى «من ربّهم» أنّهم منحوه وأعطوه من عنده ، وهو اللطف والتوفيق على أعمال البرّ.

وفي تكرير «أولئك» تنبيه على أنّهم تميّزوا بكلّ واحدة من الخصلتين ـ اللّتين هما الفلاح والهدى ـ عن غيرهم. ووسّط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين ، فإنّ كونهم على هدى غير كونهم من أهل الفلاح ، بخلاف قوله : (أُولئِكَ

__________________

(١) القصص : ٨٣.

٤٩

كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١) ، فإنّ التسجيل بالغفلة والتشبيه بالبهائم شيء واحد ، فكانت الجملة الثانية مقرّرة للأولى ، فلا تناسب العطف.

و «هم» سمّاه البصريّون فصلا ، والكوفيّون عمادا. وفائدته الدلالة على أنّ المذكور بعده خبر لا صفة ، واختصاص المسند بالمسند إليه.

والمفلح : الفائز بالمطلوب ، كأنّه الّذي انفتحت له وجوه الظفر. والمفلج بالجيم مثله. وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين ـ نحو : فلق وفلذ وفلى ـ يدلّ على الشقّ والفتح. وتعريف المفلحين للدلالة على أنّ المتّقين هم الّذين بلغك أنّهم المفلحون في الآخرة ، أو الإشارة إلى ما يعرفه كلّ أحد من حقيقة المفلحين وخصوصيّاتهم.

فتأمّل كيف نبّه سبحانه على اختصاص المتّقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتّى : بناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز ، وتكريره ، وتعريف الخبر ، وتوسيط الفصل ، لإظهار قدرهم ، والترغيب في اقتفاء أثرهم. وقد تشبّث به الوعيديّة في خلود الفسّاق من أهل القبلة في العذاب. وردّ : بأنّ المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح ، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم ، لا عدم الفلاح أصلا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

ولمّا قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم الّتي أهّلتهم لإصابة الزلفى

__________________

(١) الأعراف : ١٧٦.

٥٠

عنده ، وبيّن أنّ الكتاب هدى ولطف لهم خاصّة ، قفّى على أثره بذكر أضدادهم ، وهم العتاة الأشقياء من الكفّار الّذين لا ينفع فيهم الهدى ، ولا يغني عنهم الآيات والنذر ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) يا محمد (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي : سواء عليهم إنذارك وترك إنذارك. والإنذار : التخويف من عقاب الله تعالى. ولم يعطف قصّتهم على قصّة المؤمنين كما عطف في قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (١) لتباينهما في الغرض ، فإنّ الاولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه ، والاخرى مسوقة لشرح تمرّدهم وانهماكهم في الضلال.

و «إنّ» من الحروف الّتي شابهت الفعل المتعدّي في عدد الحروف ، والبناء على الفتح ، ولزوم الأسماء ، وإعطاء معانيه ، ودخولها على اسمين ، ولذلك عملت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأوّل ورفع الثاني ، إيذانا بأنّه فرع في العمل. وفائدة «أن» تأكيد النسبة وتحقيقها.

وتعريف الموصول إمّا للعهد ، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود ، أو للجنس يتناول كلّ من صمّم على الكفر.

والكفر لغة : ستر النعمة ، وأصله الكفر بالفتح ، وهو السّتر. ومنه قيل للزارع والليل : كافر ، ولكمام الثمرة : كافور. وفي الشرع : إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به.

و «سواء» اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ، وهو خبر «إن» ، و (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) مرفوع على الفاعليّة ، كأنّه قيل : إنّ الّذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. والفعل إنّما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له ، أما لو اطلق وأريد به اللفظ أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتّساع

__________________

(١) الانفطار : ١٣ ـ ١٤.

٥١

فهو كالاسم في الإضافة والإسناد ، كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) (١) ، وقوله : (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) (٢) ، وقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، ومثل : «ضرب» فعل ماض.

وإنّما عدل هاهنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدّد ، وحسن دخول الهمزة و «أم» عليه لتقرير معنى الاستواء عليه وتأكيده ، فإنّهما جرّدتا عن معنى الاستفهام لمجرّد الاستواء ، كما جرّدت حرف النداء عن الطلب لمجرّد التخصيص في قولهم : اللهمّ اغفر لنا أيّتها العصابة ، فإنّ حرف النداء يستعمل للنداء والاختصاص ، وقد سلب عنه معنى النداء وبقي معنى الاختصاص ، و «أيّتها العصابة» تفسير للنون في «لنا» كأنّه قال : اللهمّ اغفر للعصابة.

وإنّما اقتصر عليه (٣) دون البشارة لأنّه أوقع في القلب وأشدّ تأثيرا في النفس ، من حيث إن دفع الضرّ أهمّ من جلب النفع ، فإذا لم ينفع كانت البشارة بعدم النفع أولى.

واعلم أنّه سهّل الثانية وفصل بالألف بـ ج (٤) ، وأبدل الثانية ألفا أو سهّلها بلا فصل ج ، وسهّل الثانية بلا فصل د ، وخفّفهما مع الفصل أو سهّل الثانية مع الفصل لـ ، وقصر وحقّق م ن ش.

وقوله (لا يُؤْمِنُونَ) جملة مفسّرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء ، فلا

__________________

(١) البقرة : ٩١.

(٢) المائدة : ١١٩.

(٣) أي : على الإنذار.

(٤) هذه الحروف رموز لأوائل أسامي القرّاء ، والظاهر بمراجعة كتب التفاسير أن «ب» لابن عامر ، و «ج» لأهل الحجاز ، و «د» لأهل المدينة ، و «ل» أو «ك» لأهل الكوفة أو الكسائي ، و «م» لأبي عمرو ، و «ن» للحلواني ، و «ش» لورش. ويحتمل غير ذلك ، لاختلاف القرّاء في قراءة الهمزتين المجتمعتين في كلمة واحدة ، فليراجع كتب التفسير والقراءات.

٥٢

محلّ لها ، أو حال مؤكّدة ، أو بدل عنه ، أو خبر لـ «إن» والجملة قبلها اعتراض.

وفائدة الإنذار في حقّهم بعد علم الله تعالى بأنّه لا ينجع : إلزام الحجّة ، وحيازة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضل الإبلاغ ، ولذلك قال : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) ولم يقل : عليك. وفي الآية إخبار بالغيب إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم ، كأبي جهل وأضرابه ، فهي من المعجزات.

واحتجّت الأشاعرة بهذه الآية على جواز التكليف بالممتنع ، لأنّ الله سبحانه أخبر عن الكفّار بأنّهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان ، وهو ممتنع ، لأنّه معلوم العدم ، لعلم الله أنّ الكفّار يستمرّون على كفرهم فلو آمنوا لزم انقلاب علم الله جهلا وخبره كذبا ، وشمل إيمانهم الإيمان بأنّهم لا يؤمنون ، فيجتمع الضدّان.

وأجيب : أنّ فرض العلم بعدم الإيمان هو بعينه فرض المعلوم الّذي هو عدم الإيمان ، لأنّ شرط العلم مطابقته للمعلوم ، وحينئذ يكون امتناع الإيمان المفروض العدم امتناعا لا حقا بسبب الفرض ، وهو لا يؤثّر في إمكان الإيمان الثابت للكفّار لذاته ، بمعنى أنّه غير راجع له ، لأنّ ما بالذات لا يتصوّر ارتفاعه عنها بسبب عارض من فرض وغيره ، والتكليف بالفعل إنّما هو مشروط بإمكانه الذاتي وهو متحقّق.

والحاصل : أنّ العلم تابع للمعلوم ، وأنّ التابع لا يكون علّة للمتبوع ، ولو صحّ هذا الدليل لزم نفي قدرته تعالى ، لأنّه عالم بجميع المعلومات ، فإذا كان ما علم وجوده واجبا وما علم عدمه ممتنعا وكلاهما غير مقدور لله لم يبق مقدور أصلا ، وذلك باطل اتّفاقا. ويمتنع تكليف الضدّين في الإخبار عن المكلّفين بالإيمان بأنّهم لا يؤمنون ، لجواز ورود الإخبار حال غفلتهم.

ولمّا أعرضوا عن الحقّ عنادا ولجاجا وعتوّا واستكبارا ، وتمكّن ذلك الإعراض في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم ، شبّههم الله تعالى بالوصف الخلقي المجبول عليه ، فقال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ

٥٣

غِشاوَةٌ). وهذا كما يقولون : فلان مجبول على كذا ومفطور عليه ، يريدون أنّه بليغ في الثبات عليه.

وقيل : المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم الّتي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن ، أو قلوب أشخاص مقدّر ختم الله عليها ، أي : لو قدّر وفرض ختم الله على قلوب لكانت قلوبهم مماثلة لها.

أو الختم في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر ، لكن لمّا كان صدوره عنه بإقداره تعالى إيّاه وتمكينه عليه أسند إليه الفعل إسناد الفعل إلى المسبّب.

أو المراد أن أعراقهم لمّا رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى القسر والإلجاء ، ثم لم يقسرهم الله إبقاء على غرض التكليف الّذي من شأنه الاختيار ، عبّر عن تركه بالختم ، فإنّه سدّ لإيمانهم. وفيه إشعار على رسوخ أمرهم في الغيّ ، وتناهي انهماكهم في الضلال والبغي.

أو يكون ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولون : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (١) تهكّما واستهزاء بهم.

أو يكون ذلك في الآخرة ، وإنّما أخبر عنه بالماضي لتحقّقه وتيقّن وقوعه. ويشهد له قوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً) (٢).

أو المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة فيبغضونهم وينفرون عنهم. وعلى هذا المنهاج كلامنا فيما يضاف إلى الله تعالى من طبع وإضلال ونحوهما.

ولا يجوز إسناد الختم في هذه الآية ، والطبع في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ

__________________

(١) فصّلت : ٥.

(٢) الإسراء : ٩٧.

٥٤

عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) (١) والإضلال في قوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) (٢) والإقساء في قوله : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) (٣) والإغفال في قوله : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) (٤) ، إلى الله تعالى على الحقيقة ، لمنافاته التكليف الّذي مناطه الاختيار ، ولعدم فائدة الأمر والنهي ، ولاستلزامه القبح على الله ، والله يتعالى عن فعل القبيح علوّا كبيرا. وأيضا كيف يتخيّل خلق القبيح وقد وردت الآية ناعية على الكفّار شناعة صفتهم وسماجة حالهم ، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم؟ وبواقي الأدلّة والبراهين على هذا المطلوب أحلناها إلى علم الكلام خوفا من الإطناب.

وقال في الكشّاف : «لا ختم ولا تغشية ثمّ على الحقيقة ، وإنّما هو من باب المجاز. ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه ، وهما : الاستعارة والتمثيل. أمّا الاستعارة فأن تجعل «قلوبهم» ، لأن الحقّ لا ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده ، و «أسماعهم» ، لأنّها تمجّه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف استماعه ، كأنّها مستوثق منها بالختم ، و «أبصارهم» ، لأنّها لا تجتلي آيات الله المعروضة ودلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين ، كأنّما غطّي عليها وحجبت بينها وبين الإدراك. وأما التمثيل فأن تمثّل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينيّة الّتي كلّفوها وخلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية» (٥).

وقوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) معطوف على «قلوبهم» ، لقوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى

__________________

(١) النحل : ١٠٨.

(٢) الرعد : ٢٧.

(٣) المائدة : ١٣.

(٤) الكهف : ٢٨.

(٥) الكشّاف ١ : ٤٨.

٥٥

سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) (١) ، وللوفاق على الوقف عليه ، ولأنّهما لمّا اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاصّ فعلهما الختم الّذي يمنع من جميع الجهات ، وإدراك الأبصار لمّا اختصّ بجهة المقابلة جعل المانع لها من فعلها الغشاوة المختصّة بتلك الجهة. وكرّر الجارّ ليكون أدلّ على شدّة الختم في الموضعين ، واستقلال كلّ منهما بالحكم.

وتوحيد «السمع» للأمن عن اللبس ، واعتبار الأصل ، فإنّه مصدر في أصله والمصادر لا تجمع ، أو على تقدير مضاف مثل : وعلى حواسّ سمعهم.

والأبصار جمع بصر ، وهو إدراك العين ، كما أنّ البصيرة نور القلب وهو ما به يستبصر ويتأمّل. وقد يطلق مجازا على القوّة الباصرة وعلى العضو. وكذا السمع. ويجوز أن يراد بهما في الآية العضو ، لأنّه أشدّ مناسبة للختم والتغطية ، وبالقلب ما هو محلّ العلم ، وقد يطلق ويراد به العقل والمعرفة ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) (٢). وإنّما جاز إمالة الألف مع الصاد لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية ، لما فيها من التكرير.

والختم والكتم أخوان ، لأنّ في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلّا يتوصّل إليه ولا يطّلع عليه. والغشاوة الفعالة من : غشاه إذا غطّاه ، بنيت لما اشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة. و «غشاوة» مرفوع بالابتداء عند سيبويه ، وبالجارّ والمجرور عند الأخفش.

ثم وعدهم لما يستحقّونه فقال : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). العذاب كالنكال بناء ومعنى. وأصله الإمساك والمنع ، ومنه : الماء العذب ، لأنّه يقمع العطش ويردعه ، ثمّ اتّسع واطلق على كلّ ألم شديد وإن لم يكن نكالا ، أي : عقابا يردع الجاني عن المعاودة ، فهو أعمّ منهما. وقيل : اشتقاقه من التعذيب الّذي هو إزالة العذب.

__________________

(١) الجاثية : ٢٣.

(٢) ق : ٣٧.

٥٦

والعظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، فكما أنّ الحقير دون الصغير فالعظيم فوق الكبير ، ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا تقول : رجل عظيم جثّته أو خطره.

ومعنى التنكير في «غشاوة» و «عذاب عظيم» أن على أبصارهم غشاوة ليس ممّا يتعارفه الناس ، وهو التعامي عن الآيات ، ولهم من الآلام العظام نوع لا يعلم كنهه إلّا الله.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

ولمّا افتتح سبحانه بذكر الّذين أخلصوا دينهم لله ، وواطأت فيه قلوبهم

٥٧

ألسنتهم ، ووافق سرّهم علنهم ، وفعلهم قولهم ، ثمّ ثنّى بطريق التقابل والتضادّ بالّذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا ، قلوبا وألسنة ، فثلّث بالّذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا ، وهم الّذين قال فيهم : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) (١) وسمّاهم المنافقين ، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده ، لأنّهم خلطوا بالكفر تمويها وتدليسا ، وبالشرك استهزاء وخداعا ، ولذلك أنزل فيهم : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (٢) ووصف حال الّذين كفروا في آيتين ، وحال الّذين نافقوا في ثلاث عشرة آية هي أشأم الأعداد عرفا ، فنعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم ، وفضحهم وسفّههم ، واستجهلهم واستهزأ بهم ، وسجّل بطغيانهم وعمههم ، ودعاهم صمّا وبكما وعميا ، وضرب لهم الأمثال الشنيعة ، فعطفهم على قصّة الّذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ).

النّاس أصله أناس ، لقولهم : إنسان وإنس وأناسي ، فحذفت الهمزة وعوّض عنها حرف التعريف ، ولذلك لا يكاد يجمع بينهما. وهو اسم جمع ، إذ لم يثبت فعال من أبنية الجمع. مأخوذ من إنس ، لأنّهم يستأنسون بأمثالهم ، أو : آنس ، لأنّهم ظاهرون مبصرون ، ولذلك سمّوا : بشرا ، كما سمّي الجنّ جنّا لاجتنانهم. واللام فيه للجنس ، و «من» موصوفة ، إذ لا عهد ، وكأنّه قال : ومن الناس ناس يقولون. وقيل : للعهد ، والمعهود هم الّذين كفروا ، و «من» موصولة يراد بها ابن أبيّ رأس المنافقين وأصحابه ، فإنّهم من حيث إنّهم صمّموا على النفاق دخلوا في عداد الكفّار المختوم على قلوبهم ، واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا

__________________

(١) النساء : ١٤٣.

(٢) النساء : ١٤٥.

٥٨

الجنس ، فإنّ الأجناس تتنوّع بزيادات يختلف فيها أبعاضها ، فتكون الآية تقسيما للقسم الثاني.

واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان ، وادّعاء منهم كذبا بأنّهم احتازوا الإيمان من المبدأ والمعاد ، وأحاطوا بأوّله وآخره ، وكشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الغيّ والفساد ، لأنّهم كانوا يهودا وإيمان اليهود بالله ليس بإيمان ، لقولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (١) وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ، لأنّهم يعتقدون أنّ الجنّة لا يدخلها غيرهم ، وأنّ النار لن تمسّهم إلّا أيّاما معدودة ، وغيرها ، ويرون المؤمنين أنّهم آمنوا بمثل إيمانهم ، فكان قولهم : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) خبثا مضاعفا وكفرا ذا وجهين ، لأنّ قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق فهو كفر لا إيمان ، فإذا قالوه على وجه النفاق ، خديعة للمؤمنين واستهزاء بهم ، وأروهم أنّهم مثلهم في الإيمان الحقيقي ، كان خبثا إلى خبث ، وكفرا إلى كفر.

وفي تكرير الباء ادّعاء الإيمان منهم بكلّ واحد على الأصالة والاستحكام ، والقول هو التلفّظ بما يفيد ، ويقال بمعنى المقول ، وللمعنى المتصوّر في النفس المعبّر عنه باللفظ ، وللرأي والمذهب مجازا.

والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي ، أو إلى أن يدخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، لأنّه آخر الأوقات المحدودة الّتي لا حدّ للوقت بعده.

ثمّ أنكر سبحانه ما ادّعوه ونفى ما انتحلوا إثباته ، فقال : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ). وكان أصله : وما آمنوا ، ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل ، لكنّه عكس تأكيدا ومبالغة في التكذيب ، لأنّ إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان ، ولذلك أكّد النفي بالباء.

__________________

(١) التوبة : ٣٠.

٥٩

وأطلق الإيمان على معنى أنّهم ليسوا من الإيمان في شيء.

وهم في هذا القول يزعمون أنّهم (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا). الخدع أن توهم صاحبك خلاف ما تخفيه من المكروه لتزلّه عمّا هو بصدده. وأصله الإخفاء ، ومنه : المخدع للخزانة. والمخادعة تكون بين اثنين. وخداعهم مع الله ليس على ظاهره ، لأنّه لا يخفى عليه خافية ، ولأنّهم لم يقصدوا خديعته ، بل المراد إمّا مخادعة رسول الله على حذف المضاف ، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنّه خليفته ، وهذا مثل أن يقال : قال الملك كذا ، وإنّما القائل وزيره أو خاصّته الّذين قولهم قوله. ويؤيّده قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١) (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) (٢). وإما أن صورة صنيعهم مع الله ـ من إظهار الإيمان ، واستبطان الكفر ، وصنع الله معهم في إخفاء حالهم ، وإجراء أحكام الإسلام عليهم ، وهم عنده أخبث الكفّار وأهل الدّرك الأسفل من النار ، استدراجا لهم ، وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم ، وإجراء أحكام الإسلام عليهم ، مجازاة لهم بمثل صنيعهم ـ صورة صنيع المتخادعين.

ويحتمل أن يراد بـ «يخادعون» يخدعون ، لأنّه بيان لـ «يقول» ، إلّا أنّه أخرج في زنة «فاعل» للمبالغة ، فإنّ الزنة لمّا كانت للمغالبة ، والفعل متى غولب فيه فاعله كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض ، استصحبت ذلك ، لأنّه يزيد قوّة الداعي دفعا لمعارضته. وللمبالغة المذكورة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ). وغيرهم يقرءون : يخدعون ، لأنّ المخادعة لا تتصوّر إلّا بين اثنين.

وكان غرضهم في إظهار الإيمان مع كفر الباطن أن يدفعوا عن أنفسهم ما يتطرّق بالكفرة من النوائب الصادرة عن المسلمين ، وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) الفتح : ١٠.

٦٠