زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

ولمّا بيّن سبحانه حالهم في إنكارهم التوحيد ، وإذعانهم عليه اتّخاذ الأولاد ، عقّبه بذكر خلافهم في النبوّات ، وسلوكهم في ذلك طريق التعنّت والعناد ، فقال : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي : جهلة المشركين. قيل : المتجاهلون من أهل الكتاب. ونفي العلم عنهم ، لأنّهم لم يعملوا به ، فكأنّهم لا يعلمون (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) هلّا يكلّمنا كما يكلّم الملائكة وكلّم موسى؟ أو يوحي إلينا بأنّك رسوله (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) حجّة على صدقك. والأوّل استكبار ، والثاني جحود أنّ ما آتاهم آيات الله ، استهانة به وعنادا.

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) حيث اقترحوا الآيات على موسى وعيسى فقالوا : أرنا الله جهرة ، هل يستطيع ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء؟ (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد ، كقوله : (أَتَواصَوْا بِهِ) (١).

(قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) يعني الحجج والمعجزات الّتي يعلم بها صحّة نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي : يستدلّون بها من الوجه الّذي يجب الاستدلال به ، فأيقنوا أنّها آيات يجب الاعتراف بها ، والاكتفاء بوجودها عن غيرها. أو يوقنون الحقائق ، لا يعتريهم شبهة ولا عناد. وفيه إشارة إلى أنّهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات ، أو لطلب مزيد يقين ، وإنّما قالوه عتوّا وعنادا.

ثمّ بيّن تأييده نبيّه محمدا بالحجج ، وبعثه بالحقّ ، فقال : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) متلبّسا به ، أو مؤيّدا به (بَشِيراً) من اتّبعك بالثواب الأبدي (وَنَذِيراً) من خالفك بالعقاب السرمدي ، فلا بأس عليك إن أصرّوا وكابروا ، ولا يجب عليك أن تجبرهم على الإيمان. وفي هذه تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لئلّا يضيق صدره بإصرارهم على الكفر.

__________________

(١) الذاريات : ٥٣.

٢٢١

(وَلا تُسْئَلُ) أي : لا نسألك (عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغت وبذلت جهدك في دعوتهم ، كقوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (١).

وقرأ نافع ويعقوب : لا تسأل ، على أنّه نهي عن السؤال عن حالهم ، تعظيما لعقوبة الكفّار ، كأنّها لفظاعتها لا تقدر أن تخبر عنها ، أو السامع لا يصبر على استماع خبرها ، بل يجزع غاية الجزع ، فنهاه عن السؤال. والجحيم : المتأجّج من النار.

وكأنّ اليهود قالوا : لن نرضى عنك وإن طلبت رضانا جهدك حتى تتّبع ملّتنا ، فحكى الله كلامهم بقوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) مبالغة في إقناط الرسول عليه الصلاة والسلام عن إسلامهم ، فإنّهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتّبع ملّتهم فكيف يتّبعون ملّته؟! (قُلْ) جوابا لهم عن قولهم (إِنَّ هُدَى اللهِ) يعني : إنّ هدى الله الّذي هو الإسلام (هُوَ الْهُدى) إلى الحقّ ، وهو الّذي يصحّ أن يسمّى هدى ، لا ما تدعون إليه.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي : آراءهم الزائغة والبدع المضلّة. والفرق بين الملّة والهوى : أنّ الملّة ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه ، من «أمللت الكتاب» إذا أمليته ، والهوى رأي يتبع الشهوة. يعني : لو اتّبعت شهواتهم المردية (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي : الوحي ، أو الدين المعلوم صحّته بالدلائل والبراهين (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) يدفع عنك عقابه. وهو جواب «لئن». وهذا على سبيل الفرض ، لأنّه تعالى علم أنّ نبيّه لا يتّبع أهواءهم ، فجرى مجرى قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٢).

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد : مؤمني أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام ،

__________________

(١) الرعد : ٤٠.

(٢) الزمر : ٦٥.

٢٢٢

وشعبة بن عمرو ، وتمام بن يهودا ، وأسد وأسيد ابني كعب ، وابن يامين ، وابن صوريا ، ونظرائهم (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) بمراعاة اللفظ عن تحريف صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكم الرجم وغيرهما ، والتدبّر في معناه ، والعمل بمقتضاه. وهو حال مقدّرة ، والخبر ما بعده ، أو خبر. وعن قتادة وعكرمة : المراد أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والكتاب هو القرآن.

عن الصادق عليه‌السلام : «حقّ تلاوته» هو الوقف عند ذكر الجنّة والنار ، يسأل في الأولى ، ويستعيذ في الأخرى.

(أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) بكتابهم دون المحرّفين ، أو أولئك يؤمنون بالقرآن (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي : لأجل تحريفه والكفر بما يصدّقه ، أو لم يؤمن بالقرآن (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣))

ولمّا صدّر قصّتهم بالأمر بذكر النعم ، والقيام بحقوقها ، والحذر عن إضاعتها ، والخوف عن الساعة وأهوالها ، ختم به الكلام أيضا ، إبلاغا في التنبيه والإحتجاج ، وتأكيدا للتذكرة ، ومبالغة في النصيحة ، وقال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

فتكرار هذا الكلام يكون لمزيّة التنبيه ، ومبالغة للتذكير. وتفسيره كما مضى.

٢٢٣

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))

وبعد ذكر قصّة أهل الكتاب بيّن ملّة إبراهيم على نبيّنا وعليه‌السلام ، وخصاله الحميدة ، وخلاله المرضيّة ، ليتأسّوا به في الإسلام وقواعده ، فإنّهم كانوا يعتقدون به ويعظّمونه ، فقال : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) كلّفه بأوامر ونواهي. والابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاقّ ، من البلاء ، لكنّه لمّا استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظنّ ترادفهما. والضمير لإبراهيم ، وحسن لتقدّمه لفظا وإن تأخّر رتبة ، لأنّ الشرط أحد التقدّمين.

والكلمات قد تطلق على المعاني ، فلذلك فسّرت بالخصال الثلاثين المحمودة : عشر في براءة (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) (١) وعشر في الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) (٢) إلى آخر الآيتين ، وعشر في المؤمنين (٣) ، و (سَأَلَ سائِلٌ) (٤) إلى قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ).

وبالعشر (٥) الّتي هي من سننه ، خمس في الرأس : الفرق ، وقصّ الشارب ، والسواك ، والمضمضة ، والاستنشاق. وخمس في البدن : الختان ، والاستحداد (٦) ، والاستنجاء ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط. وبمناسك (٧) الحجّ ، وبالكواكب ،

__________________

(١) التوبة : ١١٢.

(٢) الأحزاب : ٣٥.

(٣) المؤمنون : ١ ـ ١٠.

(٤) أي : في السورة التي فيها (سَأَلَ سائِلٌ) وهي سورة المعارج : ٢٢ ـ ٣٤.

(٥) أي : وفسّرت الكلمات أيضا بالعشر التي ...

(٦) في هامش الخطّية : «المراد به حلق العانة. منه».

(٧) عطف على : وبالعشر ، أي : وفسّرت الكلمات بمناسك ...

٢٢٤

والقمرين ، وذبح الولد ، والنار ، والهجرة (١).

فالله سبحانه عامله بها معاملة المختبر بهنّ ، ليظهر حاله على العالمين ، ويقتدوا به وبما تضمّنته الآيات الّتي بعدها ، وبجميع الأخلاق الحسنة. (فَأَتَمَّهُنَ) أي : فقام بهنّ حقّ القيام ، وأدّاهنّ حقّ التأدية ، من غير تقصير وتوان ، لقوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٢).

روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه في كتاب النبوّة بإسناده مرفوعا إلى المفضّل بن عمر ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن قول الله عزوجل : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) ما هذه الكلمات؟

قال : هي الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه ، وهي أنّه قال : يا ربّ أسألك بحقّ محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت عليّ ، فتاب الله عليه ، إنّه هو التوّاب الرحيم.

فقلت له : يا ابن رسول الله فما يعني بقوله : «فأتمّهنّ»؟

قال : أتمّهنّ إلى القائم اثني عشر إماما ، تسعة من ولد الحسين عليه‌السلام.

قال المفضّل : فقلت له : يا ابن رسول الله فأخبرني عن قول الله عزوجل (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (٣)؟

قال : يعني بذلك الإمامة ، جعلها الله في عقب الحسين إلى يوم القيامة.

فقلت : يا ابن رسول الله فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن ، وهما جميعا ولدا رسول الله وسبطاه وسيّدا شباب أهل الجنّة.

فقال : إنّ موسى وهارون نبيّان مرسلان أخوان ، فجعل الله النبوّة في صلب

__________________

(١) في هامش الخطّية : «أي : من الكوفة إلى الشام. منه».

(٢) النجم : ٣٧.

(٣) الزخرف : ٢٨.

٢٢٥

هارون دون صلب موسى ، ولم يكن لأحد أن يقول : لم فعل الله ذلك ، وإنّ الإمامة خلافة الله عزوجل ، ليس لأحد أن يقول : لم جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن ، لأنّ الله تعالى هو الحكيم في أفعاله ، لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

(قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) استئناف إن أضمرت ناصب «إذ» ، وهو «اذكر» مثلا ، كأنّه قيل : فما ذا قال له ربّه حين أتمّهنّ؟ فأجيب بذلك. أو بيان لقوله : «ابتلى» فتكون الكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والإسلام. وإن نصبته بـ «قال» فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها. وجاعل من «جعل» الّذي له مفعولان. والإمام اسم لمن يؤتمّ به على زنة الإله ، كالإزار لما يؤتزر به ، أي : يأتمّون بك في دينهم ، وإمامته عامّة ، إذ لم يبعث بعده نبيّ إلا كان من ذرّيّته ، مأمورا باتّباعه.

وقوله : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على الكاف ، كأنّه قال : وجاعل بعض ذرّيّتي ، كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيدا. والذرّيّة نسل الرجل ، فعليّة أو فعّولة ، قلبت راؤها الثالثة ياء ، كما «تقضّيت» في «تقضّضت» ، من الذرّ بمعنى التفريق. أو فعّولة أو فعّيلة ، قلبت همزتها ياء ، من الذرء بمعنى الخلق.

والمعنى : قال إبراهيم بعد أن جعله الله إماما للناس ليأتمّوا به في دينهم ، ويفوزوا بخير الدارين بتدبيره ، وتنتظم أمورهم بسياسته : اجعل يا ربّ بعض ذرّيّتي إماما.

(قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي : من كان ظالما من ذرّيّتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة ، وإنّما يناله من لا يفعل ظلما. فهذا الجواب إجابة إلى ملتمسه ، وتنبيه على أنّه قد يكون من ذرّيّته ظلمة لنفسهم أو لغيرهم ، وأنّهم لا ينالون الإمامة ، لأنّها أمانة من الله تعالى وعهد ، والظالم لا يصلح لها ، وإنّما ينالها البررة الأتقياء منهم.

٢٢٦

وقال في الكشّاف : «وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماما قطّ ، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة؟! والإمام إنّما هو لكفّ الظلمة ، فإذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم» (١) انتهى كلامه.

ففيه دليل على وجوب العصمة للإمام ، سواء كان نبيّا أو من استخلفه للإمامة ، قبل البعثة والنصب أو بعدهما. فالفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح للإمامة من لا يجوز حكمه وشهادته ، ولا تجب إطاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدّم للصلاة ، وعلى جميع أهل الإسلام يجب أن ينهوه عمّا صدر منه من الأمور المستقبحة شرعا وعقلا ، ويتنفّروا ويكرهوا عن أفعاله القبيحة؟! وعلى (٢) أنّه يجوز أن يعطي ذلك بعض ولده إذا لم يكن ظالما ، لأنّه لو لم يرد أن يجعل أحدا منهم إماما للناس لوجب أن يقال في الجواب : لا ، أو : لا ينال عهدي ذرّيّتك.

وقال صاحب المجمع : «استدلّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإمام لا يكون إلّا معصوما عن القبائح ، لأنّ الله سبحانه نفي أن ينال عهده ـ الّذي هو الإمامة ـ ظالم ، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالما ، إمّا لنفسه وإمّا لغيره.

فإن قيل : إنّما نفي أن يناله ظالم في حال ظلمه ، فإذا تاب لا يسمّى ظالما ، فيصحّ أن يناله.

فالجواب : أنّ الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما ، فإذا نفي أن يناله فقد حكم عليه بأنّه لا ينالها ، والآية مطلقة غير مقيّدة بوقت دون وقت ، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلّها ، فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد» (٣).

__________________

(١) الكشّاف ١ : ١٨٤.

(٢) عطف على : ففيه دليل ، أي : وفيه أيضا دليل على جواز إعطاء الإمامة لمن لم يكن ظالما من ولده.

(٣) مجمع البيان ١ : ٢٠٢.

٢٢٧

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥))

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) أي : الكعبة ، غلّب عليها كالنجم على الثريّا (مَثابَةً لِلنَّاسِ) مرجع يثاب ، أي : يرجع إليه كلّ عام ، أي : يثوب إليه الحجّاج والعمّار. أو موضع ثواب يثابون بحجّه واعتماره (وَأَمْناً) أي : وموضع أمن لا يتعرّض لأهله ، كقوله : (حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (١). أو يأمن حاجّه من عذاب الآخرة ، من حيث إنّ الحجّ يجبّ ما قبله ، أو لا يتعرّض ولا يؤخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج ، لكن يضيّق عليه في المطعم والمشرب والبيع والشراء حتى يخرج منه فيقام عليه ، فإن أحدث فيه ما يوجب الحدّ أقيم عليه الحدّ فيه ، لأنّه هتك حرمة الحرم. وكان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له ، وهذا شيء كانوا قد توارثوه من دين إسماعيل عليه‌السلام ، فبقوا عليه إلى أيّام نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) على إرادة القول ، أي : وقلنا اتّخذوا منه موضع صلاة تصلّون فيه. أو اعتراض معطوف على مضمر ، تقديره : ثوبوا إليه واتّخذوا ، على أنّ الخطاب لأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومقام إبراهيم هو الموضع الّذي كان فيه الحجر الّذي فيه أثر قدمه حين قام عليه ودعا الناس إلى الحجّ ، أو وضع قدمه عليه قبل بناء البيت ، فظهر أثر قدمه فيه.

وهو الأصحّ ، كما سيجيء تفصيله. فأمر بالصلاة عنده بعد الطواف ، كما روى جابر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلّى خلفه ركعتين.

__________________

(١) العنكبوت : ٦٧.

٢٢٨

وقرأ نافع وابن عامر : واتّخذوا ، بلفظ الماضي ، عطفا على «جعلنا» أي : واتّخذ الناس المقام الموسوم بإبراهيم موضع الصلاة. ومن قرأ «واتّخذوا» على الأمر وقف على قوله : «وأمنا». ومن قرأ : «اتّخذوا» على الخبر لم يقف ، لأنّ قوله : «واتّخذوا» عطف على «جعلنا».

وسئل الصادق عليه‌السلام عن الرجل يطوف بالبيت طواف الفريضة ، ونسي أن يصلّي ركعتين عند مقام إبراهيم عليه‌السلام؟ فقال : يصلّيهما ولو بعد أيّام ، إنّ الله تعالى قال : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

وفي المقام دلالة ظاهرة على نبوّة إبراهيم ، فإنّ الله تعالى جعل الحجر تحت قدمه كالطين ، حتى دخلت قدمه فيه ، فكان في ذلك معجزة له.

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة : مقام إبراهيم ، وحجر بني إسرائيل ، والحجر الأسود ، واستودعه الله إبراهيم عليه‌السلام حجرا أبيض ، وكان أشدّ بياضا من القرطاس ، فاسودّ من خطايا بني آدم.

وبرواية عبد الله بن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنّة ، طمس الله نورهما ، ولولا أنّ نورهما طمس لأضاءا ما بين المشرق والمغرب.

عن ابن عبّاس قال : لمّا أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر فوضعهما بمكّة ، وأتت على ذلك مدّة ، ونزلها الجرهميّون ، وتزوّج إسماعيل امرأة منهم ، وماتت هاجر ، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر ، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل ، فقدم إبراهيم عليه‌السلام وقد ماتت هاجر ، فذهب إلى بيت إسماعيل ، فقال لامرأته : أين صاحبك؟

قالت : ليس هنا ذهب يتصيّد. وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد ثمّ يرجع.

٢٢٩

فقال لها إبراهيم : هل عندك ضيافة؟

قالت : ليس عندي شيء ، وما عندي أحد.

فقال لها إبراهيم عليه‌السلام : إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي فليغيّر عتبة بابه.

وذهب إبراهيم عليه‌السلام فجاء إسماعيل عليه‌السلام ووجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد؟

قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا ، كالمستخفّة بشأنه.

قال : فما قال لك؟

قالت : قال لي : اقرئي زوجك السلام وقولي فليغيّر عتبة بابه ، فطلّقها وتزوّج أخرى.

فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل ، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل ، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل ، فقال لامرأته : أين صاحبك؟

قالت : ذهب يتصيّد ، وهو يجيء الآن إن شاء الله ، فانزل يرحمك الله.

قال لها : هل عندك ضيافة؟

قالت : نعم ، فجاءت باللبن واللحم ، فدعا لهما بالبركة ، فلو جاءت بخبز أو برّ أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله برّا وشعيرا وتمرا.

فقالت : انزل حتى أغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءت بالمقام ، فوضعته على شقّه الأيمن ، فوضع قدمه عليه ، فبقي أثر قدمه عليه ، فغسلت شقّ رأسه الأيمن ، تمّ حوّلت المقام إلى شقّه الأيسر ، فغسلت شقّ رأسه الأيسر ، فبقي أثر قدمه عليه ، فقال لها : إذا جاءك زوجك فاقرئيه السلام وقولي له : قد استقامت عتبة بابك.

٢٣٠

فلمّا جاء إسماعيل عليه‌السلام وجد ريح أبيه فقال لامرأته : هل جاءك أحد؟

قالت : نعم ، شيخ أحسن الناس وجها ، وأطيبهم ريحا ، فقال لي كذا وكذا ، وقلت له كذا وكذا ، وغسلت رأسه ، وهذا موضع قدميه على المقام.

قال إسماعيل لها : ذاك إبراهيم عليه‌السلام.

وقد روى هذه القصّة عليّ بن إبراهيم (١) ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن أبان ، عن الصادق عليه‌السلام ، وقال في آخرها : «إذا جاء زوجك فقولي له : قد جاء هاهنا شيخ وهو يوصيك بعتبة بابك خيرا ، قال فأكبّ إسماعيل على المقام يبكي ويقبّله».

(وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أمرناهما وألزمناهما (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) بأن طهّرا. ويجوز أن تكون مفسّرة ، بمعنى «أي» التفسيريّة ، لتضمّن العهد معنى القول. يريد : طهّراه من الأوثان الّتي كان المشركون يعلّقونها على باب البيت ، والأنجاس وسائر الخبائث ، كالفرث والدّم الّذي كان يطرحه المشركون عند البيت قبل أن يصير في يد إبراهيم وإسماعيل. وأضاف البيت إلى نفسه تفضيلا له على سائر البقاع. أو أخلصاه.

(لِلطَّائِفِينَ) أي : الدائرين حوله (وَالْعاكِفِينَ) المجاورين له المقيمين بحضرته لا يبرحون (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي : المصلّين. جمع راكع وساجد ، لأنّ الركوع والسجود من أركان الصلاة وهيئاتها ، فتسميتها بأشرف أفعالها.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ لله عزوجل في كلّ يوم وليلة مائة وعشرين رحمة تنزل من السماء على هذا البيت ، ستّون منها للطائفين ، وأربعون للمصلّين ، وعشرون للناظرين.

__________________

(١) لم نجده في تفسير القمّي ، بل أورده في مجمع البيان ١ : ٣٨١.

٢٣١

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا) أي : هذا البلد ، أو المكان ، يعني : مكّة (بَلَداً آمِناً) ذا أمن ، كقوله تعالى : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (١) أي : ذات رضى أو آمنا من فيه ، كقولك : ليل نائم.

قيل : إنّ الحرم كان آمنا قبل دعوة إبراهيم ، وإنّما تأكّدت حرمته بدعائه.

ويحتمل أن يكون معناه : ربّ اجعل أمنيّة هذا البلد ثابتة دائمة إلى يوم القيامة.

وقيل : إنّما صار حرما آمنا بدعائه ، وقبل ذلك كان كسائر البلاد.

ويؤيّد الأوّل قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم فتح مكّة : إنّ الله تعالى حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحلّ لأحد قبلي ، ولا تحلّ لأحد من بعدي ، ولم تحلّ لي إلا ساعة من النهار.

روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم (٢) ، عن أبيه ، عن النضر بن سويد ، عن هشام ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ إبراهيم عليه‌السلام كان نازلا في بادية الشام ، فلمّا ولد إسماعيل من هاجر اغتمّت سارة من تلك غمّا شديدا ، لأنّه لم يكن له منها ولد ، وكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمّه ؛ فشكا ذلك إبراهيم إلى الله تعالى ، فأوحى الله إليه : إنّما مثل المرأة مثل الضّلع المعوجّ ، إن تركته استمتعت به ، وإن رمت أن تقيمه كسرته. وقد قال القائل في ذلك.

__________________

(١) الحاقّة : ٢١ ، القارعة : ٧.

(٢) تفسير القمّي ١ : ٦٠.

٢٣٢

هي الضّلع العوجاء لست تقيمها

ألا إنّ تقويم الضّلوع انكسارها (١)

ثمّ أمره أن يخرج إسماعيل وأمّه عنها ، فقال : أي ربّ إلى أيّ مكان؟ قال : إلى حرمي وأمني ، وأوّل بقعة خلقتها من أرضي ، وهي مكّة. وأنزل عليه جبرئيل بالبراق ، فحمل هاجر وإسماعيل وإبراهيم. فكان إبراهيم عليه‌السلام لا يمرّ بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلّا قال : يا جبرئيل إلى هاهنا إلى هاهنا فيقول جبرئيل : لا امض امض ، حتى وافى مكّة ، فوضعه في موضع البيت ، وقد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع عليها.

فلمّا نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر ، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها ، فاستظلّت تحته. فلمّا سرّحهم إبراهيم ووضعهم وأراد الانصراف عنهم إلى سارة قالت له هاجر : لم تدعنا في هذا الموضع الّذي ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟

فقال إبراهيم عليه‌السلام : ربّي أمرني أن أضعكم في هذا المكان ، ثمّ انصرف عنهم.

فلمّا بلغ كداء ، وهو جبل بذي طوى ، التفت إليهم إبراهيم عليه‌السلام فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) إلى قوله : (يَشْكُرُونَ) (٢) ، ثمّ مضى وبقيت هاجر.

فلمّا ارتفع النهار عطش إسماعيل ، فقامت هاجر في الوادي حتى صارت إلى موضع المسعى ، فنادت : هل في الوادي من أنيس؟ فغاب عنها إسماعيل ، فصعدت على الصّفا ، ولمع لها السراب في الوادي وظنّت أنّه ماء ، فنزلت في بطن الوادي وسعت ، فلمّا بلغت المسعى غاب عنها إسماعيل ، ثم لمع لها السّراب في ناحية

__________________

(١) لم يرد هذا البيت في المصدر ، وإنما استشهد به الطبرسي في مجمع البيان ١ : ٢٠٨. وهو لحاجب بن ذبيان ، استشهد به ابن منظور في لسان العرب ٨ : ٢٢٦.

(٢) إبراهيم : ٣٧.

٢٣٣

الصّفا ، وهبطت إلى الوادي تطلب الماء. فلمّا غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصّفا ، فنظرت إلى إسماعيل ، حتى فعلت ذلك سبع مرّات. فلمّا كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه ، فعادت حتى جمعت حوله رملا ، وإنّه كان سائلا فزمّته (١) بما جعلته حوله ، فلذلك سمّيت زمزم.

وكانت جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات ، فلمّا ظهر الماء بمكّة عكفت الطير والوحوش على الماء ، فنظرت جرهم إلى تعكّف الطير على ذلك المكان ، فأتبعوها حتّى نظروا إلى امرأة وصبيّ نزلوا في ذلك الموضع قد استظلّوا بشجرة ، قد ظهر لهم الماء ، فقال لها جرهم : من أنت وشأنك وشأن هذا الصبيّ؟

قالت : أنا أمّ ولد إبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام وهذا ابنه ، أمره الله أن ينزلنا هاهنا.

فقالوا لها : أتأذنين أن نكون بالقرب منكم؟

قالت : حتى أسأل إبراهيم عليه‌السلام.

قال : [إنّ الأرض قد طويت له] (٢) فزارهما إبراهيم يوم الثالث ، فقالت له هاجر : يا خليل الله إنّ هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منّا ، أفتأذن لهم؟

فقال إبراهيم : نعم. فأذنت هاجر لجرهم ، فنزلوا بالقرب منهم وضربوا خيامهم ، وأنست هاجر وإسماعيل بهم.

فلمّا زارهم إبراهيم في المرّة الثانية ونظر إلى كثرة الناس حولهم سرّ بذلك

__________________

(١) زمّ الشيء يزمّه : شدّه. وزمّ القربة : ملأها. وزمزمته زمزمة : إذا جمعته ورددت أطراف ما انتشر منه. انظر لسان العرب ١٢ : ٢٧٢ و ٢٧٥.

(٢) كذا في النسخة الخطّية ، ولم ترد في المصدر.

٢٣٤

سرورا شديدا. وكانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كلّ واحد منهم شاة وشاتين ، وكانت هاجر وإسماعيل يعيشان بها.

فلمّا بلغ مبلغ الرجال أمر الله تعالى إبراهيم أن يبني البيت. فقال : يا ربّ في. أيّ بقعة؟

قال : في البقعة التي أنزلت على آدم القبّة ، فأضاءت الحرم.

قال : ولم تزل القبّة الّتي أنزلها الله تعالى على آدم قائمة حتى كان أيّام الطوفان في زمن نوح ، فلمّا غرقت الدنيا رفع الله تلك القبّة ، وغرقت الدنيا ولم تغرق مكّة ، فسمّي البيت العتيق ، لأنّه أعتق من الغرق.

فلمّا أمر الله عزوجل إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أيّ مكان يبنيه ، فبعث الله جبرئيل عليه‌السلام ، فخطّ له موضع البيت ، وأنزل عليه القواعد من الجنّة. وكان الحجر الّذي أنزله الله على آدم أشدّ بياضا من الثلج ، فلمّا لمسته أيدي الكفّار اسودّ.

قال : فبنى إبراهيم البيت ، ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى ، فرفعه إلى السماء تسعة أذرع ، ثم دلّه على موضع الحجر ، فاستخرجه إبراهيم ووضعه في موضعه الّذي هو فيه. وجعل له بابين ، بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب ، فالباب الّذي إلى المغرب يسمى المستجار. ثمّ ألقى عليه الشيخ (١) والإذخر ، وعلّقت هاجر على بابه كساء كان معها ، وكانوا يكونون (٢) تحته.

فلمّا بناه وفرغ حجّ إبراهيم وإسماعيل ، ونزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان خلت من ذي الحجّة ، فقال : يا إبراهيم قم فارتو من الماء ، لأنّه لم يكن بمنى وعرفات ماء ، فسمّيت التروية لذلك. ثمّ أخرجه إلى منى فبات بها ، ففعل به ما فعل

__________________

(١) في المصدر : الشجر. والشّيح : نبات سهليّ ، له رائحة طيّبة ..

والإذخر : حشيش طيّب الرائحة. (لسان العرب ٢ : ٥٠٢ ، و ٤ : ٣٠٣)

(٢) في المصدر : يكنّون ، من «كنّ» إذا استتر ، أي : يستظلّون تحته.

٢٣٥

بآدم.

فقال إبراهيم لمّا فرغ من بناء البيت : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) (١) (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ) أنواع (الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أبدل «من آمن» من «أهله» بدل البعض للتخصيص ، يعني : وارزق المؤمنين منهم خاصّة.

(قالَ وَمَنْ كَفَرَ) عطف على «من آمن» ، كما أنّ قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (٢) عطف على الكاف في «جاعلك». أي : وارزق من كفر. والمعنى : أنّ الله تعالى قال : قد استجبت دعوتك فيمن آمن منهم ومن كفر.

وإنّما خصّ إبراهيم عليه‌السلام المؤمنين بالدعاء حتّى قال سبحانه : «ومن كفر» ، لأنّ الله كان أعلمه أنّه يكون في ذرّيّته ظالمون بقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٣) ، فاقتصر طلب الرزق على المؤمنين قياسا على ما سبق ، فعرّفه الفرق بين الرزق والإمامة ، لأنّ الاستخلاف استرعاء يختصّ بمن لا يقع منه الظلم ، بخلاف الرزق ، فإنّه قد يكون استدراجا للمرزوق ، وإلزاما للحجّة.

ويجوز أن يكون «ومن كفر» مبتدأ تضمّن معنى الشرط ، وقوله : (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) خبره. والكفر وإن لم يكن سبب التمتيع لكنّه سبب تقليله ، بأن يجعله مقصورا بحظوظ الدنيا ، غير متوسّل به إلى نيل الثواب ، ولذلك عطف عليه قوله : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) أي : ألزّه (٤) لزّ المضطرّ الّذي لا يملك الامتناع ممّا أضطرّه إليه ، وذلك لكفره وتضييعه ما متّعته به من النعم.

__________________

(١) تفسير القمّي : ١ / ٦٠ ـ ٦٢.

(٢ ، ٣) البقرة : ١٢٤.

(٤) في هامش الخطّية : «لزّه يلزّه إذا شدّه وألصقه. منه».

وفي لسان العرب (٥ : ٤٠٤) : لزّ الشيء بالشيء يلزّه : ألزمه إيّاه.

٢٣٦

و «قليلا» نصب على المصدر ، أي : تمتيعا قليلا ، أو على الظرف ، أي : في زمان قليل ، وهو الحياة الدنيا. وقرأ ابن عامر : فأمتعه ، من أمتع بمعنى متّع.

(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المخصوص بالذمّ محذوف ، وهو العذاب.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) حكاية حال ماضية. والقواعد جمع القاعدة ، وهي الأساس لما فوقه. وهي صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات ، ولعلّه مجاز من المقابل للقيام ، ومنه : قعدك الله (١). ورفع القواعد : البناء عليها ، لأنّها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، أي : ارتفعت وتطاولت.

ويجوز أن يكون المراد بها سافات (٢) البناء ، لأنّ كلّ ساف قاعدة لما يبني عليه ويوضع فوقه. وفي إبهام القواعد وتبيينها تفخيم شأنها ، ولهذا لم يقل : قواعد البيت.

(وَإِسْماعِيلُ) قيل : كان يناوله الحجارة ، وإبراهيم يبني ، ولكنّه لمّا كان له مدخل في البناء عطف عليه. وقيل : كانا يبنيان في طرفين ، أو على التناوب.

__________________

(١) أي : نشدتك الله. (لسان العرب ٣ : ٣٦٣)

(٢) السّاف في البناء : كلّ صفّ من اللّبن أو الطين. (لسان العرب ٩ : ١٦٦)

٢٣٧

والأوّل أصحّ عندنا.

وقال في الكشّاف : «روي أنّ الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنّة ، له بابان من زمرّد : شرقيّ وغربيّ ، وقال لآدم عليه‌السلام : أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي. فتوجّه آدم من أرض الهند إليه ماشيا ، وتلقّته الملائكة فقالوا : برّ حجّك يا آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وحجّ آدم أربعين حجّة من أرض الهند إلى مكّة على رجليه ، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيّام الطوفان إلى السماء الرابعة ، فهو البيت المعمور. ثمّ إنّ الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه ، وعرّفه جبرئيل مكانه.

وقيل : بعث الله سحابة أظلّته ، ونودي : أن ابن على ظلّها ، لا تزد ولا تنقص.

وقيل : بناه من خمسة أجبل : طور سيناء ، وطور زيتا ، ولبنان ، والجوديّ ، واسّسه من حراء ، وجاء جبرئيل بالحجر الأسود من السماء.

وقيل : تمخّض (١) أبو قبيس فانشقّ عنه ، وقد خبئ فيه في أيّام الطوفان ، وكان ياقوتة بيضاء من الجنّة ، فلمّا لمسته الحيّض في الجاهليّة اسودّ» (٢).

وفي كتاب العيّاشي بإسناده عن الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ الله أنزل الحجر الأسود من الجنّة لآدم ، وكان البيت درّة بيضاء ، فرفعه الله إلى السماء وبقي أساسه ، فهو حيال هذا البيت. وقال : يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ، لا يرجعون إليه أبدا ، فأمر الله سبحانه إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت على القواعد» (٣).

__________________

(١) أي : تحرّك جبل أبي قبيس.

(٢) الكشّاف ١ : ١٨٧.

(٣) تفسير العيّاشي : ١ : ٦٠ ح ٩٨.

٢٣٨

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أوّل شيء نزل من السماء إلى الأرض لهو البيت الّذي بمكّة ، أنزله الله ياقوتة حمراء ، ففسق قوم نوح في الأرض ، فرفعه» (١).

روي عن الباقر عليه‌السلام : أنّ إسماعيل أوّل من شقّ لسانه بالعربيّة ، وكان أبوه يقول له وهما يبنيان البيت : يا إسماعيل هابي ابن ، أي : أعطني حجرا ، فيقول له إسماعيل بالعربيّة : يا أبة هاك حجرا ، فإبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة.

(رَبَّنا) أي يقولان : ربّنا. وهذا الفعل المقدّر في محلّ النصب على الحال ، أي : حال كونهما يقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) وفيه دلالة على أنّهما بنيا الكعبة مسجدا لا سكنا ، لأنّهما طلبا من الله القبول الّذي معناه الإثابة ، والثواب إنّما يطلب على الطاعات. (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائنا (الْعَلِيمُ) بنيّاتنا.

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي : مخلصين لك من : أسلم وجهه لله ، أو مستسلمين لك خاضعين منقادين. والمراد طلب الزيادة في الإخلاص أو الخضوع أو الثبات عليه ، أي : زدنا إخلاصا أو خضوعا وإذعانا لك أو ثباتا عليه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) أي : اجعل بعض ذرّيّتنا (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ). ويجوز أن تكون «من» للتبيين ، كقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) (٢) قدّم على المبيّن (٣).

وإنّما خصّا الذرّيّة بالدعاء لأنّهم أحقّ بالشفقة ، ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ، ألا ترى أنّ المقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٦٠ ح ١٠٠.

(٢) النور : ٥٥.

(٣) وهو قوله تعالى : (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) ، والتقدير : واجعل أمّة مسلمة لك من ذرّيّتنا ، كما أن التقدير في قوله تعالى (في سورة الطلاق : ١٢) : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) : سبع سماوات ومثلهنّ من الأرض.

٢٣٩

السداد كيف يتسبّبون لسداد من وراءهم؟! وخصّا بعضهم لما اعلما أنّ في ذرّيّتهما ظلمة. وقيل : أراد بالأمّة أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وروي عن الصادق عليه‌السلام : أنّه أراد بالأمّة بني هاشم خاصّة.

(وَأَرِنا) من : رأي ؛ بمعنى أبصر أو عرّف ، ولذا لم يتجاوز مفعولين ، أي : عرّفنا وبصّرنا (مَناسِكَنا) متعبّداتنا في الحجّ ، لنقضي عباداتنا على حدّ ما توقفنا عليه. والنسك في الأصل غاية العبادة ، وشاع في الحجّ ، لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة.

وقرأ ابن كثير ويعقوب : أرنا ، قياسا على «فخذ» في فخذ. وفيه إجحاف في الإسقاط ، لأنّ الكسرة المنقولة من الهمزة السّاقطة دليل عليها ، إلّا أن يقرأ بإشمام الكسرة.

(وَتُبْ عَلَيْنا) قالا هذه الكلمة انقطاعا إلى الله ، إرشادا لذرّيّتهما ليقتدوا بهما ، أو استتابة لذرّيّتهما. أو معناه : إرجع علينا بالرحمة المتفضّلة الموجبة لمزيد الثواب. وليس المراد استتابتهم عن معصيتهم ، لأنّ الأدلّة القاهرة قد دلّت على عصمة الأنبياء عن الصغائر والكبائر (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ) الرّجاع إلى الرضوان والمغفرة ، أو كثير القبول للتوبة (الرَّحِيمُ) لمن تاب من عبادك.

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) في الأمّة المسلمة (رَسُولاً مِنْهُمْ) من أنفسهم وهو نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يبعث من ذرّيّتهما غير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو المجاب به دعوتهما ، كما قال عليه‌السلام : «أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمّي» وسائر الأنبياء الّذين بعد إبراهيم من نسل إسحاق.

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) يقرأ عليهم ويبلّغهم ما يوحى إليه من دلائل التوحيد والنبوّة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) ما يكمل نفوسهم من المعارف والأحكام الشرعيّة. وعن أنس : هي الفقه بالتأويل. (وَيُزَكِّيهِمْ) عن أدناس الشرك

٢٤٠