زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (١) امتحانا لهم ، وإظهارا لفضله.

والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر نحو : اذكر ، وإلّا عطفه بما يقدّر عاملا فيه على الجملة المتقدّمة ، بل القصّة بأسرها على القصّة الاخرى.

وهي نعمة رابعة عدّها عليهم. والكلام في أنّ المأمورين بالسجود الملائكة كلّهم أو طائفة منهم ما سبق. والسجود في الأصل تذلّل مع تطامن ، وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة.

والمأمور به هنا إمّا المعنى الشرعي على قول أكثر العامّة ، فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى ، وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيما لشأنه ، أو سببا لوجوبه ، فكأنّه تعالى لمّا خلقه بحيث يكون نموذجا للمبدعات كلّها بل الموجودات بأسرها ، ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني ، ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات ، أمرهم بالسجود تذلّلا لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته ، وشكرا لما أنعم عليهم بواسطته. فاللام فيه كاللام في قول حسّان في مدح أمير المؤمنين عليه‌السلام :

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم

وأعرف الناس بالقرآن والسنن

وفي قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) (٢).

وإمّا المعنى اللّغوي ، وهو التواضع لآدم تحيّة وتعظيما له ، كسجود إخوة يوسف له. والمرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام أنّه على وجه التكرمة لآدم والتعظيم لشأنه وتقديمه عليهم. وهو قول قتادة أيضا وجمع من العلماء ، واختاره عليّ بن عيسى.

__________________

(١) الحجر : ٢٩.

(٢) الإسراء : ٧٨.

١٢١

ولهذا جعل أصحابنا رضي‌الله‌عنهم هذه الآية دالّة على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة ، حيث إنّه سبحانه أمرهم بالسجود لآدم ، وذلك يقتضي تعظيمه وتفضيله عليهم ، وإذا كان المفضول لا يجوز تقديمه على الفاضل علمنا أنّه أفضل من الملائكة.

وهذا الوجه أوجه وأحسن من الوجه الأوّل ، لأنّه لو كان على الوجه الأوّل لما امتنع إبليس من ذلك ، ولما استعظمته الملائكة ، وقد نطق القرآن بأنّ امتناع إبليس عن السجود إنّما هو لاعتقاده تفضيله به وتكرمته ، مثل قوله تعالى : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) (١) وقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢) ولوجب أن يعلمه الله بأنّه لم يأمره بالسجود على جهة تعظيمه وتفضيله عليه ، وإنّما أمره على الوجه الآخر الّذي لا تفضيل فيه ، ولم يجز إغفال ذلك ، فإنّه سبب معصية إبليس وضلالته ، فلمّا لم يقع ذلك علمنا أنّ الأمر بالسجود له لم يكن إلّا على وجه التعظيم والتفضيل والإكرام والتبجيل.

وعلى هذا (فَسَجَدُوا) معناه : فسجد الملائكة سجدة تعظيم وتكريم لآدم (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) امتنع عمّا أمر به (وَاسْتَكْبَرَ) من أن يعظّمه ويتلقّاه بالتحيّة ، أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه.

والإباء : الامتناع باختيار. والتكبّر : أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره ، والاستكبار طلب ذلك.

(وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي : في علم الله تعالى ، أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إيّاه بالسجود لآدم ، اعتقادا بأنّه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر

__________________

(١) الإسراء : ٦٢.

(٢) الأعراف : ١٢.

١٢٢

بالتخضّع للمفضول والتوسّل به ، كما أشعر به قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) (١) جوابا لقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) (٢) واستخفافه بنبيّ الله لا بترك الواجب وحده.

و «إبليس» اسم أعجميّ. واختلف فيه هل كان من الملائكة أم لا؟ فذهب قوم إلى أنّه كان منهم ، وهو المرويّ عن ابن عبّاس وابن مسعود وقتادة. وقال الشيخ المفيد رحمه‌الله : إنّه كان من الجنّ خاصّة ، ولم يكن من الملائكة. وقد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام وهو مذهب الإماميّة والحسن البصري وعليّ بن عيسى الرمّاني والبلخي وغيره. واحتجّوا على صحّة هذا القول بأشياء :

أحدها : قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) (٣). ومن أطلق لفظ الجنّ لم يجز أن يعني به إلّا الجنس المعروف ، وكلّ ما في القرآن من ذكر الجنّ مع الإنس يدلّ عليه.

وثانيها : قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٤) فنفى المعصية عنهم (٥) نفيا عامّا.

وثالثها : أنّ إبليس له نسل وذرّيّة ، قال الله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (٦). وقال الحسن : إبليس أب الجنّ كما أنّ آدم أب الإنس ، وإبليس مخلوق من النار ، والملائكة روحانيّون خلقوا من الريح في قول بعض ،

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

(٢) ص : ٧٥.

(٣) الكهف : ٥٠.

(٤) التحريم : ٦.

(٥) أي : عن الملائكة المذكورين في صدر الآية.

(٦) الكهف : ٥٠.

١٢٣

ومن النور في قول الحسن ، لا يتناسلون ولا يطعمون ولا يشربون.

ورابعها : قوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (١) ، ولا يجوز على رسل الله الكفر ولا الفسق ، ولو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب. واستثناء الله تعالى إيّاه منهم لا يدلّ على كونه من جملتهم ، وإنّما استثناه منهم لأنّه كان مأمورا بالسجود معهم ، فلمّا دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم.

وقال في الكشّاف (٢) : الاستثناء متّصل ، لأنّه كان جنّيّا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم ، فغلبوا عليه في قوله : (فَسَجَدُوا) ، ثمّ استثنى منهم استثناء واحد منهم. ويجوز أن يكون منقطعا ، كقوله تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) (٣).

ويؤيّد صحّة هذا القول ما رواه الشيخ ابو جعفر بن بابويه رحمه‌الله في كتاب النبوّة بإسناده عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن درّاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن إبليس أكان من الملائكة ، أو كان يلي شيئا من أمر السماء؟ فقال : لم يكن من الملائكة ، ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء ، وكان من الجنّ ، وكان مع الملائكة ، وكانت الملائكة ترى أنّه منها ، وكان الله يعلم أنّه ليس منها ، فلمّا امر بالسجود لآدم كان منه الّذي كان». وكذا رواه العيّاشي في تفسيره (٤)

ومن قال : إنّه كان من الملائكة فأجاب عن الأدلّة المذكورة بأجوبة سخيفة ضعيفة ، لا نطوّل بذكرها الكتاب.

__________________

(١) فاطر : ١.

(٢) الكشّاف ١ : ١٢٧.

(٣) النساء : ١٥٧.

(٤) تفسير العيّاشي ١ : ٣٤ ح ١٦.

١٢٤

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧))

ثمّ ذكر الله سبحانه ما أمر به آدم عليه‌السلام بعد ما أنعم عليه ، من اختصاصه بالعلوم الّتي بها أوجب له الإعظام وأسجد له الملائكة الكرام ، فقال : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ). نون «قلنا» نون الكبرياء والعظمة لا نون الجمع. والسكنى من السكون ، لأنّها استقرار ولبث. و «أنت» تأكيد أكّد به المستكن ليصحّ العطف عليه. وإنّما لم يخاطبهما أوّلا تنبيها على أنّه المقصود بالحكم ، والمعطوف عليه تبع له.

و «الجنّة» دار الثواب ، لأنّ اللام للعهد ولا معهود غيرها. ومن زعم أنّها لم تخلق بعد قال : إنّه بستان كان بأرض فلسطين أو بين فارس وكرمان خلقه الله امتحانا لآدم ، وحمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند ، كما في قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) (١) والقول الأوّل أشهر وأصحّ وأكثر. ومن يزعم أنّ جنّة الخلد من يدخلها لا يخرج منها غير صحيح ، لأنّ ذلك إنّما يكون إذا استقرّ أهل الجنّة فيها للثواب ، فأمّا قبل ذلك فإنّها تفنى ، لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢).

وعن ابن عبّاس وابن مسعود أنّه لمّا أخرج إبليس من الجنّة لامتناعه من

__________________

(١) البقرة : ٦١.

(٢) القصص : ٨٨.

١٢٥

السجود ولعن وطرد بقي آدم وحده فاستوحش ، إذ ليس معه من يسكن ، فخلقت حوّاء ليسكن إليها.

وروي أنّ الله تعالى ألقى على آدم النوم وأخذ منه ضلعا ، فخلق منه حوّاء ، فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة فقال : من أنت؟ قالت : امرأة ، قال : لم خلقت؟ قالت : خلقت لتسكن إليّ ، فقالت الملائكة : ما اسمها يا آدم؟ قال : حوّاء ، قالوا : لم سمّيت حوّاء؟ قال : لأنّها خلقت من حيّ. وقيل : خلقت قبل أن يسكن آدم الجنّة ، ثمّ ادخلا معا في الجنّة.

وفي كتاب النبوّة : أنّ الله تعالى خلق آدم من الطين ، وخلق حوّاء من آدم ، فهمّة الرجال الماء والطين ، وهمّة النساء الرجال.

ومعنى الآية : اتّخذ يا آدم أنت وامرأتك الجنّة مسكنا ومأوى (وَكُلا مِنْها) أي : من ثمرات الجنّة وطعومها (رَغَداً) كثيرا واسعا رافها لا عناء فيه ، فإنّ الرغد بمعنى سعة العيش ، وهو صفة مصدر محذوف ، أي : رزقا واسعا (حَيْثُ شِئْتُما) أيّ مكان من بقاع الجنّة شئتما. وسّع الأمر عليهما إزاحة للعلّة والعذر في التناول من الشجرة المنهيّ عنها من بين أشجارها.

واعلم أنّ هذا الأمر للإباحة بالاتّفاق ، وأمّا قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) للتعبّد (١) ، أي : لا تقرباها بالأكل لا مجرّد الدنوّ منها. ويدلّ عليه أنّ المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف لا بالدنوّ منها ، ولذلك قال : (فَأَكَلا مِنْها) (٢) وهو نهي تنزيه ، وكانا بالتناول منها تاركين نفلا وفضلا.

(فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) مجزوم عطف على «تقربا» ، أو منصوب جواب للنهي أي : الباخسين الثواب لأنفسكما بترك هذا المندوب إليه. وفي الآية مبالغة في

__________________

(١) كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح : فللتعبّد.

(٢) طه : ١٢١.

١٢٦

النهي عن تناول تلك الشجرة ـ الّذي يثمر الحرمان من الثواب العظيم ، الّذي هو الخلود في جنّات النعيم مع مزيد التكريم ـ وهي تعليق النهي بالقرب الّذي هو من مقدّمات التناول مبالغة في ترك الإقدام به (١) ، وتنبيها على أنّ القرب من الشيء يورث ميلا مّا به (٢) ، فينبغي أن لا يحوما حول ما نهي (٣) عنهما مخافة أن يقعا فيه. وجعله سببا لأن يكونا من الظالمين الّذين ظلموا أنفسهم بنقص حظّهما بالإتيان بما يخلّ بالكرامة والنعيم ، فإنّ الفاء تفيد السببيّة. ولا يجوز أن يكون نهي تحريم ، ويكون آدم فاعلا لقبيح ، لأنّ الأنبياء عليهم‌السلام لعصمتهم لا يجوز عليهم القبائح ، لا صغيرها ولا كبيرها ، قبل البعثة وبعدها ، كما بيّن في كتب الكلام كالتجريد ونهج المسترشدين وغيرهما.

و «الشجرة» هي الحنطة أو الكرمة أو التينة أو الكافور ، أو شجرة من أكل منها أحدث. والأوّل أشهر.

ثم بيّن الله سبحانه حال آدم بعد سكونه مع حوّاء في الجنّة فقال : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) أي : أصدر زلّتهما الشيطان ـ يعنى : إبليس ـ عن الشجرة ، وحملهما على الزلّة بسببها. وإزلاله قوله : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (٤) وقوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٥) ، ومقاسمته إيّاهما بقوله : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٦). نسب الإزلال إلى الشيطان لما وقع بدعائه ووسوسته ، أو أزلّهما عن الجنّة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما ، كما تقول : زلّ عن مرتبته ، وزلّ عنّي ذلك ، إذا ذهب عنك. ويعضده

__________________

(١ و ٢ و ٣) كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح على الترتيب : الإقدام عليه ... ميلا مّا إليه ... نهيا عنه.

(٤) طه : ١٢٠.

(٥) الأعراف : ٢٠ ـ ٢١.

(٦) الأعراف : ٢٠ ـ ٢١.

١٢٧

قراءة حمزة : فأزالهما ، وهما متقاربان في المعنى ، غير أنّ أزلّ تقتضي عثرة مع الزوال ، بخلاف الإزالة.

واختلف في كيفيّة وصول إبليس إلى آدم وحوّاء حتى وسوس إليهما ، وإبليس قد اخرج من الجنّة حين أبي السجود وهما في الجنّة ، فقيل : إنّ آدم كان يخرج إلى باب الجنّة ، وإبليس لم يكن ممنوعا من الدنوّ منه ، فكان يكلّمه ، وكان هذا قبل أن اهبط إلى الأرض وبعد أن اخرج من الجنّة. وقيل : إنّه كلّمهما من الأرض بكلام عرفاه وفهماه منه. وقيل : إنّه دخل في فقم الحيّة وخاطبهما من فقمها ، والفقم : جانب الشدق (١). وقيل : تمثّل بصورة دابّة فدخل ولم تعرفه الخزنة. وقيل : إنّه منع من الدخول على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة ، ولم يمنع أن يدخل للوسوسة ابتلاء لآدم وحوّاء. وقيل : إنّه راسلهما بالخطاب. وظاهر القرآن على أنّه شافههما بالخطاب. والعلم عند الله.

وعلى التقادير (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) أي : من الكرامة والنعيم. أضاف الإخراج إلى الشيطان لأنّه كان السبب فيه. وإنّما أخرج الله آدم من الجنّة ، لأنّ المصلحة اقتضت بعد تناوله الشجرة إهباطه إلى الأرض وابتلاءه بالتكليف وسلبه ثياب الجنّة ، كما تقتضي الحكمة الإفقار بعد الإغناء والإماتة بعد الإحياء. ومن جملة المصلحة أن يكون ذلك لطفا له ولذرّيته في اجتناب الأولى والخطايا واتّقاء المآثم ، والتنبّه على أنّه أخرج من الجنّة بترك الأولى ، فكيف يدخلها ذو خطايا جمّة؟!

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا) أي : انزلوا من الجنّة ، خطاب لآدم وحوّاء ، لقوله : (اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) (٢). وجمع الضمير لأنّهما أصلا الإنس ، فكأنّهما الإنس كلّهم ، أوهما وإبليس اخرج منها ثانيا بعد ما كان يدخلها للوسوسة. وقيل : من السماء إلى

__________________

(١) الشدق بفتح الشين وكسرها : زاوية الفم من باطن الخدّين.

(٢) طه : ١٢٣.

١٢٨

الأرض.

(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) حال استغني فيها عن الواو بالضمير. والمعنى : متعادين يبغي بعضكم على بعض بتضليله ، يعني : آدم وذرّيّته وإبليس وذرّيّته. ولم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إيّاه ، ولكن حسده الملعون وخالفه ، فنشأت بينهما العداوة ، فعداوة آدم له إيمان وعداوة إبليس له كفر. وأمّا على الوجه الّذي يتضمّن أن الخطاب يختصّ بآدم وحوّاء ، فالمراد منه أنّ ذرّيّتهما يعادي بعضهم بعضا. وعلّق الخطاب بهما للتلازم بين الذرّيّة وبين أصلها.

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) موضع استقرار ، أو استقرار (وَمَتاعٌ) تمتّع بالعيش (إِلى حِينٍ). يريد به وقت الموت أو القيامة. قال السّراج : لو قيل : لكم في الأرض مستقرّ ومتاع ، لظنّ أنّ ذلك غير منقطع ، فقيل : إلى حين ، أي : إلى حين انقطاعه.

وفي الآية دلالة على أنّ الله تعالى لا يريد المعصية ، ولا يصدّ أحدا عن الطاعة ، ولا يخرجه عنها ، ولا يرضى بالمعصية ، ولا يحدثها في المكلّف ، لأنّه نسب ذلك إلى الشيطان ، جلّ ربّنا وتقدّس عمّا نسبه إلى إبليس والشياطين ، ويدلّ أيضا على أنّ لوسوسة إبليس تأثيرا في المعاصي.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها. وقرأ ابن كثير بنصب «آدم» ورفع «كلمات» على أنّها استقبلته وبلغته. وأصل الكلمة الكلم ، وهو التأثير المدرك بإحدى الحاسّتين السمع والبصر ، كالكلام والجراحة.

وهي قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١). وقيل : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدّك ، لا إله

__________________

(١) الأعراف : ٢٣.

١٢٩

إلّا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ، إنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت.

وعن ابن عبّاس قال : يا ربّ ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى ، قال : يا ربّ ألم تنفخ فيّ الروح من روحك؟ قال : بلى ، قال : يا ربّ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال : بلى ، قال : ألم تسكنّي جنّتك؟ قال : بلى ، قال : يا ربّ إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنّة؟ قال : نعم.

وقيل : هي قوله : اللهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك ربّ إنّي ظلمت نفسي فارحمني إنّك خير الراحمين ، فتب عليّ إنّك أنت التوّاب الرحيم. وقيل : بل هي : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر.

وفي رواية أهل البيت عليهم‌السلام : أنّ آدم عليه‌السلام رأى مكتوبا على العرش أسماء معظّمة مكرّمة ، فسأل عنها ، فقيل له : هذه أسماء أجلّ الخلق منزلة عند الله ، والأسماء : محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فتوسّل آدم إلى ربّه بهم في قبول توبته ورفع منزلته.

(فَتابَ عَلَيْهِ) فرجع عليه بالرحمة وقبول التوبة. وإنّما رتّبه بالفاء على تلقّي الكلمات لتضمّنه معنى التوبة ، وهو الاعتراف بترك الندب ، والندم عليه والعزم على أن لا يعود إليه. واكتفي بذكر آدم لأنّ حوّاء كانت تبعا له في الحكم ، ولذلك طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن.

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) الرجّاع على عباده بالمغفرة ، أي : كثير القبول للتوبة مرّة بعد اخرى ، أو الّذي يكثر إعانتهم على التوبة باللطف والتوفيق. وأصل التوبة الرجوع فإذا وصف بها العبد كان رجوعا عن المعصية أو ترك الأولى ، وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها الرجوع عن العقوبة أو الحرمان عن الثواب المرتّب على فعل الندب إلى المغفرة أو إلى إعطاء الثواب.

(الرَّحِيمُ) المبالغ في الرحمة. وفي الجمع بين الوصفين وعد للتائب بالإحسان مع المغفرة.

١٣٠

قال الحسن البصري : لم يخلق الله آدم إلّا للأرض ، ولو لم يعص لأخرجه على غير تلك الحال. وقال غيره : يجوز أن يكون خلقه للأرض إن عصى ، ولغيرها إن لم يعص. وهو الأقوى.

واعلم أنّ التوبة عبارة عن الندم على ما مضى من القبيح ، والعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح ، فإنّ هذه التوبة أجمع المسلمون على سقوط العقاب عندها ، واختلفوا فيما عداها. وكلّ معصية لله تعالى يجب التوبة منها. وعندنا يصحّ التوبة من ترك الندب ، ويكون ذلك على وجه الرجوع إلى فعله. وعلى هذا يحمل توبة الأنبياء عليهم‌السلام في جميع ما نطق به القرآن. وقبول التوبة وإسقاط العقاب عندنا تفضّل من الله تعالى ، لكن لمّا وعدنا الله تعالى بذلك علمنا أنّه لا يخلف الميعاد. وعند جميع المعتزلة واجب عليه.

وأمّا التوبة من قبيح مع الإقامة على قبيح آخر يعلم أو يعتقد قبحه ، فعند أكثر المتكلّمين هي صحيحة ، وعند أبي هاشم وأصحابه لا يصحّ. ودليل الأوّلين أنّه كما يجوز أن يمتنع عن قبيح لقبحه مع أنّه يفعل قبيحا آخر وإن علم قبحه ، كذلك يجوز أن يندم من قبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه.

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

ولمّا أمر سبحانه أوّلا بإهباطهم من الجنّة إلى السماء أمرهم ثانيا بإهباطهم إلى الأرض فقال : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) فلا تكرير في الإهباط. و «جميعا» حال في اللفظ تأكيد في المعنى ، كأنّه قيل : اهبطوا أنتم أجمعون ، ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد ، كقولك : جاؤا جميعا.

١٣١

وقيل : المراد من هذا الإهباط هو الإهباط الأوّل ، وتكراره للتأكيد. وقيل : الإهباط الأوّل إنّما كان في حال عداوة بعضهم لبعض ، والثاني إنّما كان للابتلاء والتكليف ، كما يقال : اذهب سالما معافي ، اذهب مصاحبا ، وإن كان الذهاب واحدا ، لاختلاف الحالين.

فبعد بيان حال الاولى بيّن الثانية بقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي : بيان ودلالة برسول ابعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم. وعلى هذا القول يكون الخطاب في قوله : (اهْبِطُوا) لآدم وحوّاء وذرّيّتهما ، و «ما» مزيدة أكّدت به «إن» ولذلك حسن تأكيد الفعل بالنون ، وإن لم يكن فيه معنى الطلب. والمعنى : إن يأتينّكم منّي هدى بإنزال أو إرسال (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) بأن يقتدي برسولي ويؤمن به وبكتابه (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من العقاب فضلا عن أن يحلّ بهم مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على فوت الثواب والمحبوب فيحزنوا عليه. وأمّا الخوف والحزن في الدنيا فإنّه يجوز أن يلحقهم ، لأنّ من المعلوم أنّ المؤمنين لا ينفكّون منه. وجواب الشرط الأوّل الشرط الثاني مع جوابه.

والآية تدلّ على أنّ الهدى قد تثبت ولا يحصل الاهتداء ، وأنّ الاهتداء إنّما يقع بالاتّباع والقبول.

وإنّما جيء بحرف الشكّ وإتيان الهدى كائن لا محالة للإيذان بأنّ الإيمان بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب ، وأنّه لو لم يبعث رسولا ولم ينزل كتابا كان الإيمان به وتوحيده واجبا ، لما ركب فيهم من العقول ، ونصب لهم من الأدلّة ، ومكّنهم من النظر والاستدلال.

وكرّر لفظ الهدى ولم يضمر لأنّه أراد بالثاني أعمّ من الأوّل ، وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل ، أي : فمن اتّبع ما أتاه مراعيا فيه ما يشهد به العقل فلا خوف عليهم ، والخوف إنّما يكون على المتوقّع والحزن على الواقع ، فنفي عنهم العذاب

١٣٢

وأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) جحدوا رسلنا (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) بدلالاتنا الهادية المنزلة أو ما يعمّها والمعقولة (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون للنار (هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون مؤبّدون.

هذه الآية عطف على (فَمَنْ تَبِعَ) إلى آخرها ، قسيم له ، كأنّه قال : ومن لم يتّبع بل كفروا بالله وكذّبوا بآياته ، أو كفروا بالآيات جنانا وكذّبوا بها لسانا ، فيكون الفعلان متوجّهين إلى الجارّ والمجرور.

والآية في الأصل العلامة الظاهرة ، ويقال للمصنوعات من حيث إنّها تدلّ على وجود الصانع وعلمه وقدرته ، ولكلّ طائفة من كلمات القرآن المتميّزة عن غيرها بفصل. واشتقاقها من أيّ ، لأنّها تبيّن أيّا من أيّ ، أو من : أوى إليه. وأصلها أيّة ، أو أوية كتمرة ، فأبدلت عينها ألفا على غير قياس ، أو أيية ، أو أوية كرمكة فأعلّت ، أو آئية كقائلة فحذفت الهمزة تخفيفا.

وفي الآية دلالة على أنّ من مات مصرّا على كفره غير تائب منه وكذّب بآيات ربّه فهو مخلّد في نار جهنّم.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢))

واعلم أنّه سبحانه لمّا ذكر دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد ، وعقّبها تعداد النعم

١٣٣

العامّة تقريرا لها ـ فإنّها من حيث إنّها حوادث محكمة تدلّ على محدث حكيم له الخلق والأمر وحده لا شريك له ، ومن حيث إنّ الإخبار بها على ما هو مثبت في الكتب السابقة ممّن لم يتعلّمها ولم يمارس شيئا منها إخبار بالغيب معجز يدلّ على نبوّة المخبر عنها ، ومن حيث اشتمالها على خلق الإنسان وأصوله وما هو أعظم من ذلك تدلّ على أنّه قادر على الإعادة كما كان قادرا على الإبداء ـ خاطب أهل العلم والكتاب منهم ، وأمرهم بأن يذكروا نعم الله عليهم ، ويوفوا بعهده في اتّباع الحقّ واقتضاء الحجج ، ليكونوا أوّل من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما انزل عليه ، فقال :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : يا أولاد يعقوب. والابن : من البناء ، لأنّه مبنيّ على أبيه ، ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه ، فيقال : أبو الحرب وبنت الفكر. و «إسرائيل» لقب يعقوب ، ومعناه بالعبريّة : صفوة الله ، وقيل : عبد الله.

(اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي : استحضروها في أنفسكم بالتفكّر فيها والقيام بشكرها. وتوحيد النعمة باعتبار الجنس. وتقييدها بهم ، لأنّ الإنسان غيور حسود بالطبع ، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط ، وإن نظر إلى ما أنعم الله عليه حمله حبّ النعمة على الرضا والشكر.

وقيل : أراد بها ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون والغرق ، ومن العفو عن اتّخاذ العجل ، فإنّ النعمة على الآباء نعمة على الأبناء ، لتشرّفهم بفضيلة الآباء ، وعليهم من إدراك زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبشّر به في التوراة والإنجيل.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) بالإيمان والطاعة. وسمّي ذلك عهدا لأنّ الله أخذ عليهم العهد بذلك في يوم الميثاق في الكتاب ، أو لتأكيده بمنزلة العهد. (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) بحسن الإثابة.

و «العهد» يضاف إلى المعاهد والمعاهد. والأولى أن يكون الأوّل مضافا إلى

١٣٤

الفاعل والثاني إلى المفعول ، فإنّه تعالى عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وإنزال الكتب ، ووعد لهم بالثواب على حسناتهم. وللوفاء بهما عرض عريض ، فأوّل مراتب الوفاء منّا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ، ومن الله حقن الدم والمال ، وآخرها منّا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلا عن غيره ، ومن الله الفوز بنهاية القرب الدائم المسمّى باللقاء الأبدي.

وما روي عن ابن عباس : أوفوا بعهدي في اتّباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوف بعهدكم في رفع آصار التكليف وشدّتها ، وعن غيره : أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب ، أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوف بالكرامة والنعيم المقيم ، فبالنظر إلى وسائط مراتب الوفاء.

ويجوز أن يكون كلاهما مضافا إلى المفعول ، والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة.

وتفصيل هذين العهدين قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى قوله (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي) (١).

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فيما تأتون وتتركون ، وخصوصا في نقض العهد ، وهو آكد في إفادة التخصيص من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لما فيه ـ مع تقديم المفعول ـ من تكرير المفعول ، والفاء الجزائيّة الّتي تدلّ على تضمّن الكلام معنى الشرط ، كأنّه قيل : إن كنتم راهبين شيئا فارهبون. والرهبة عبارة عن خوف مع تحرّز.

والآية متضمّنة للوعد والوعيد ، ودالّة على وجوب شكر النعمة ـ وفي الحديث : التحدّث بالنعم شكر ـ وعلى الوفاء بالعهد ، وأنّ المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحدا إلّا الله ، وأن عظم المعصية في جحود النعم وكفرانها ، ولحوق الوعيد الشديد بكتمانها ، وعلى ثبوت أفعال العباد ، إذ لو لم تكن لهم أفعال لما صحّ العهد

__________________

(١) المائدة : ١٢.

١٣٥

والأمر والنهي والوعد والوعيد ، ولأدّى إلى بطلان الرسل والكتب.

ثمّ قال مخاطبا لليهود : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن (مُصَدِّقاً) حال كونه موافقا (لِما مَعَكُمْ) إفراد الإيمان بالأمر به والحثّ عليه لأنّه المقصود والعمدة للوفاء بالعهود.

وتقييد المنزل بأنّه مصدّق لما معهم من الكتب الإلهيّة ـ من حيث إنّه نازل حسبما نعت فيها ، أو مطابق لها في القصص والمواعيد ، والدعاء إلى التوحيد ، والأمر بالعبادة والعدل بين الناس ، والنهي عن المعاصي والفواحش. وفيما (١) يخالفها من جزئيّات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح ، من حيث إنّ كلّ واحدة منها حقّ بالإضافة إلى زمانها ، مراعى فيها صلاح من خوطب بها ، حتى لو نزل المتقدّم في أيّام المتأخّر لنزل على وفق المتأخّر ، ولذلك قال عليه‌السلام : «لو كان موسى حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي» ـ تنبيه (٢) على أنّ اتّباعها لا ينافي الإيمان به ، بل يوجبه ، ولذلك عرّض بقوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي : الواجب عليكم أن تكونوا أوّل من آمن به ، لأنّكم من أهل النظر في معجزاته والعلم بشأنه ، ومستفتحون به على الكفرة ، ومبشّرون بزمانه.

و «أوّل كافر» خبر عن ضمير الجمع ، بتقدير : أوّل فريق أو فوج ، أو بتأويل : لا يكن كلّ واحد منكم أوّل كافر به ، كما يقال : كسانا الأمير حلّة ، أي : كسا كلّ واحد منّا حلّة.

ولمّا كان المراد منه التعريض بأنّه كان يجب أن يكون اليهود أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ، وتبشيرهم الناس به ، واستفتاحهم به على الّذين كفروا ، وكانوا

__________________

(١) عطف على : في القصص ، أي : مطابق لها فيما يخالفها من الأحكام ، ولكن من حيث إن كلّ واحدة منها حقّ بالإضافة إلى زمانها.

(٢) خبر لـ : وتقييد المنزل.

١٣٦

يقولون : إنّا نتّبعه قبل أن يكون الناس كلّهم آمنوا به ، فلمّا بعث كان أمرهم على العكس ، كقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (١) لا الدلالة على ما نطق به الظاهر ، كقولك : أمّا أنا فلست بجاهل. فلا (٢) يرد : كيف نهوا عن التقدّم في الكفر وقد سبقهم مشركو العرب؟ أو يكون المراد منه : ولا تكونوا أوّل كافر به من أهل الكتاب. ويجوز أن يراد : ولا تكونوا مثل أوّل كافر به ، يعني : من أشرك به من أهل مكّة ، أي : ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفا ، مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له.

وقيل : الضمير في «به» لـ «ما معكم» لأنّهم إذا كفروا بما يصدّقه فقد كفروا به.

و «أوّل» أفعل لا فعل له. وقيل : أصله أوأل من : وأل ، أو أأول من : آل فقلبت همزته واوا وأدغمت.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) ولا تستبدلوا بالإيمان بها حظوظ الدنيا ، فإنّها وإن جلّت قليلة بالإضافة إلى ما يفوت عنكم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان.

روي عن أبي جعفر عليه‌السلام وغيره في هذه الآية أنّه قال : «كان حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظائرهما من اليهود لهم رئاسة في قومهم ورسوم وهدايا منهم ومأكلة على اليهود في كلّ سنة ، فكرهوا بطلانها بأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أي : فخافوا عليها لو اتّبعوا رسول الله ـ فاختاروها عليه ، فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره ، فذلك هو الثمن الّذي أريد في الآية.

فالمعنى : لا تستبدلوا بما في التوراة من بيان صفة محمّد ونعته ثمنا قليلا ، أي : عرضا يسيرا من الدنيا. وقيل : كانوا يأخذون الرّشا فيحرّفون الحقّ ويكتمونه.

__________________

(١) البقرة : ٨٩.

(٢) جواب لـ : ولمّا كان ، في أوّل العبارة.

١٣٧

وفي هذه الآية دلالة على تحريم أخذ الرّشا في الدين ، فإنّه لا يخلو إمّا أن يكون أمرا يجب إظهاره أو يحرم إظهاره ، فالأخذ على مخالفة كلا الوجهين حرام. وهذا الخطاب يتوجّه أيضا على علماء السوء من هذه الامّة إذا اختاروا الدنيا على الدّين ، فتدخل فيه الشهادات والقضايا والفتاوى وغير ذلك.

(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) بالإيمان واتّباع الحقّ والإعراض عن الدنيا. ولمّا كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادي لما في الآية الثانية فصّلت بالرهبة التي هي مقدّمة التقوى. ولأنّ الخطاب بالأولى لمّا عمّ العالم والمقلّد أمرهم بالرهبة الّتي هي مبدأ السلوك ، والخطاب بالثانية لمّا خصّ أهل العلم أمرهم بالتقوى التي هي منتهى السلوك.

وقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) عطف على ما قبله. واللبس الخلط ، وقد يلزمه جعل الشيء مشتبها بغيره. والمعنى : لا تخلطوا الحقّ المنزل في التوراة بالباطل الّذي تخترعونه وتكتمونه ، فيختلط الحقّ بالباطل ولا يبقى تميّز بينهما. أو : ولا تجعلوا الحقّ مشتبها بباطلكم الّذي تكتبونه في خلاله حتى رفع التمييز بينهما. فالباء على الأوّل صلة ، مثل قولك : لبست الشيء بالشيء وخلطته ، وعلى الثاني للاستعانة ، كالّتي في قولك : كتبت بالقلم.

(وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) جزم داخل تحت حكم النهي ، كأنّهم أمروا بالإيمان وترك الضلال ، ونهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحقّ والإخفاء على من لم يسمعه. أو منصوب بإضمار «أن» على أنّ الواو للجمع ، ويسمّى واو الصرف أيضا ، لصرفه المعطوف عن إعراب المعطوف عليه. والمعنى : ولا تجمعوا بين لبس الحقّ بالباطل وكتمان الحقّ ، كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وفيه نظر ، لتوهّم أنّ المحظور هو الجمع بينهما لا كلّ واحد منهما ، كالجمع بين الأكل والشرب ، إلّا أن يقال : إنّ قرينة المقام دالّة على تحريم كلّ منهما ، كقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً

١٣٨

أَوْ كَفُوراً) (١) ، إذ لا يجوز أن يريد : أطع أحدهما ، لقرينة الإثم والكفور.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) عالمين بأنّكم لابسون كاتمون ، فإنّه أقبح ، إذ الجاهل قد يعذر.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤))

ثمّ أمرهم الله بفروع الإسلام بعد ما أمرهم بأصوله ، فقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أدّوها بأركانها (وَآتُوا الزَّكاةَ) أعطوا الزكاة المفروضة ، يعني : صلاة المسلمين وزكاتهم ، فإنّ غيرهما كلا صلاة ولا زكاة. وهذا دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بها.

والزكاة من : زكا الزرع ، إذا نما ، فإنّ إخراجها يستجلب بركة في المال ، ويثمر للنفس فضيلة الكرم. أو من الزكاء بمعنى الطهارة ، فإنّها تطهّر المال عن الخبث والنفس عن البخل.

(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) من المسلمين ، لأنّ اليهود لا ركوع في صلاتهم ، أو المراد به صلاة الجماعة ، فكأنّه قال : وأقيموا الصلاة وصلّوها مع المصلّين لا منفردين ، فإنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ (٢) بسبع وعشرين درجة. وقيل : الركوع الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع.

ثمّ وبّخهم على وجه التقرير والتعجيب فقال : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) البرّ التوسّع في الخير ، ومنه البرّ وهو الفضاء الواسع. ويتناول كلّ خير ، ولذلك قيل : البرّ

__________________

(١) الإنسان : ٢٤.

(٢) أي : المنفرد ، والفذّ : الفرد. (لسان العرب ٣ : ٥٠٢)

١٣٩

ثلاثة : برّ في عبادة الله تعالى ، وبرّ في مراعاة الأقارب ، وبرّ في معاملة الأجانب. (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) وتتركونها من البرّ ترك المنسيّات. وعن ابن عبّاس أنّها نزلت في أحبار المدينة كانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين : اثبتوا على ما أنتم عليه من اتّباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم لا يؤمنون به ولا يتّبعونه. وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون.

ثمّ بكّتهم بقوله : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) كقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : تتلون التوراة وفيها الوعيد على العناد وترك البرّ ومخالفة القول العمل. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) توبيخ عظيم ، يعني : أفلا تفطنون لقبح صنيعكم فيصدّكم استقباحه عن ارتكابه؟ أو أفلا عقل لكم يمنعكم عمّا تعلمون وخامة عاقبته؟ والعقل في الأصل الحبس ، ثمّ سمّي به الإدراك الإنساني ، لأنّه يحبسه عمّا يقبح ، ويعقله على ما يحسن.

والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتّعظ بنفسه سوء صنيعه وخبث نفسه ، وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل ، وحاثّة الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم فيقيم ، لا أنّها تمنع الفاسق عن الوعظ ، فإنّ الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر.

روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ممّن كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧))

ولمّا أمر الله اليهود بما يشقّ عليهم ، لما فيه من الكلفة وترك الرئاسة

١٤٠