زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

على أنّ قولها مقبول في ذلك.

(إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ليس المراد منه تقييد نفي الحلّ بإيمانهنّ ، بل التنبيه على أنّ من حقّ المؤمن ألّا يجترئ على مثله من العظائم.

(وَبُعُولَتُهُنَ) أي : أزواج المطلّقات (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) إلى النكاح ، والرجعة إليهنّ (فِي ذلِكَ) أي : في زمان التربّص ، ولكن إذا كان الطلاق رجعيّا ، للآية الّتي تتلوها. فالضمير أخصّ من المرجوع إليه ، ولا امتناع فيه ، كما لو كرّر الظاهر وخصّصه.

والبعولة جمع بعل ، والتاء لتأنيث الجمع ، كالعمومة والخؤولة ، أو مصدر من قولك : بعل حسن البعولة ، نعت به أو أقيم مقام المضاف المحذوف ، أي : وأهل بعولتهنّ.

ومعنى الأحقّ : أنّ الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها ، وكان هو أحقّ منها ، لا أنّ لها حقّا في الرجعة.

(إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) بالرجعة لما بينهم وبينهنّ ولم يريدوا مضارّتهنّ ، وليس المراد منه شرطيّة قصد الإصلاح للرجعة ، بل التحريض عليه والمنع من قصد الضرار.

(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) أي : يجب لهنّ حقوق على الرجال مثل حقوقهم الّتي تجب لهم عليهنّ (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الّذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس ، فلا يكلّفنهم ما ليس لهنّ ، ولا يكلّفونهنّ ما ليس لهم. فالمماثلة مماثلة الواجب بالواجب في كونه حسنة ، لا مماثلة جنس الفعل ، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ، بل يقابله بما يليق بالرجال.

(وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) زيادة في الحقّ وفضل فيه ، بقيامهم عليهنّ ، لأنّ حقوقهم في أنفسهنّ ، وحقوقهنّ المهر والكفاف من النفقة والسكنى وترك الضرار ،

٣٦١

أو شرف وفضيلة ، لأنّهم قوّام عليهنّ وحرّاس لهنّ ، يشاركونهنّ في غرض الزواج ، ويخصّون بفضيلة الرعاية والإنفاق.

وفي كتاب من لا يحضره الفقيه روي عن الباقر عليه‌السلام قال : «جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله ما حقّ الزوج على المرأة؟ فقال لها : تطيعه ولا تعصيه ، ولا تتصدّق من بيتها شيئا إلا بإذنه ، ولا تصوم تطوّعا إلا بإذنه ، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب (١) ، ولا تخرج من بيتها إلّا بإذنه ، فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض ، وملائكة الغضب وملائكة الرحمة ، حتى ترجع إلى بيتها ، فقالت : يا رسول الله من أعظم الناس حقّا على الرجل؟ قال : والداه ، قالت : فمن أعظم الناس حقّا على المرأة؟ قال زوجها ، قالت : فما لي من الحقّ عليه مثل ما له عليّ؟ قال : لا ولا من كلّ مائة واحدة ، فقالت : والّذي بعثك بالحقّ نبيّا لا يملك رقبتي رجل أبدا» (٢) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» (٣).

(وَاللهُ عَزِيزٌ) يقدر على الانتقام ممّن خالف الأحكام (حَكِيمٌ) يشرعها لحكم ومصالح.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها

__________________

(١) القتب : الرّحل الذي يشدّ على الإبل.

(٢ ، ٣) الفقيه ٣ : ٢٧٦ ح ١٣١٤ و ١٣١٦.

٣٦٢

فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))

روي أنّ في الجاهليّة لم يكن للطلاق حدّ ، فالرجل منهم إذا طلّق امرأته ثمّ راجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان له ذلك وإن طلّقها ألف مرّة ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أي : التطليق ، كالسلام والكلام والوداع بمعنى التسليم والتكليم والتوديع ، أي : التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق ، كقوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) (١) أي : كرّة بعد كرّة ، ومثله : لبّيك لا على الجمع والإرسال دفعة واحدة ، كما قاله الشافعي ، فمن طلّق ثلاثا بلفظ واحد لم يأت بالمرّتين ولا بالثالثة ، كما أنّه لمّا أوجب في اللعان أربع شهادات ، فلو أتى بالأربع بلفظ واحد لما أتى بالمشروع ولم يحصل حكم اللعان ، وكذلك من رمى الجمار بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجز عنه بلا خلاف ، فكذلك الطلاق.

واحتجّ أصحابنا بعد أخبارهم الّتي رووها عن أهل البيت عليهم‌السلام بما روي في حديث ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّما السنّة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلّقها لكلّ قرء تطليقة» (٢). فحكموا بتحريم الثلاث المرسلة أو الثنتين المرسلتين ، وأنّ ذلك بدعة.

(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي : فالواجب إذا راجعها بعد التطليقتين إمساك

__________________

(١) الملك : ٤.

(٢) سنن البيهقي ٨ : ٣٣٠.

٣٦٣

بمعروف ، أي : على وجه سائغ في الشرع. وهو كناية عن ردّها إلى النكاح ، إمّا بالرجعة إن كانت العدّة باقية ، أو باستئناف العقد إن انقضت (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بالطلقة الثالثة (١).

روي أنّ سائلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أين الثالثة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هي قوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ). وعند بعضهم المراد بقوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ترك المعتدّة حتى تبين بانقضاء العدّة. وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهما‌السلام. وهو الأصحّ ، لأنّ الطلاق لا يقع عندنا بالكناية ، بل بالتصريح.

روي أنّ جميلة بنت عبد الله بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت تبغضه وهو يحبّها ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله لا أنا ولا ثابت ، لا يجمع رأسي ورأسه شيء ، والله ما أعتب عليه في دين ولا خلق ، ولكنّي أكره الكفر في الإسلام ـ يعني : أكره أن أقع في الكفر بسبب بغضه ـ ما أطيقه بغضا ، إنّي رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدّهم سوادا ، وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجها. وكان ثابت قد أصدقها حديقة ، فقال : يا رسول الله مرها فلتردّ عليّ الحديقة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تقولين؟ قالت : نعم وأزيده ، قال : لا حديقته فقط ، فقال لثابت : خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها ، فاختلعت منه بها ، وهو أوّل خلع كان في الإسلام ، فنزلت (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) من المهور. والخطاب مع الحكّام. وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم ، لأنّهم الآمرون بهما عند الترافع ، أو مع لأزواج ، وما بعده خطاب للحكّام ، ومثل ذلك غير عزيز في القرآن.

فثنّى الضمير بعد ذلك بالنسبة إلى الزوجين ، فقال : (إِلَّا أَنْ يَخافا) أي : يخاف الزوجان (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) بأن تركا إقامة أحكامه تعالى فيما يلزمهما من مواجب الزوجيّة ، لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها.

__________________

(١) سنن الدار قطني ٤ : ٤ ح ٢.

٣٦٤

وقرأ حمزة ويعقوب : «يخافا» على البناء للمفعول ، وإبدال «أن» بصلته من الضمير بدل الاشتمال ، كقولك : خيف زيد تركه إقامة حدود الله ، ونحوه (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (١).

(فَإِنْ خِفْتُمْ) أيّها الحكّام (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) على الرجل فيما أخذ ، وعلى المرأة فيما افتدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر ، أو الزيادة على المهر إن كان النشوز والبغض منها وحدها ، وإن كان منهما فيجب في البذل الاقتصار على المهر فما دونه ، كما دلّت عليه الروايات الموثّقة عن ائمّتنا عليهم‌السلام (٢). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث ثابت : «لا ، حديقته فقط» لا يمنع الزائد ، لأنّه حكاية حال مطلوب زوجها ، فإنّه لم يطلب سوى الحديقة.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى ما حدّ من الأحكام (فَلا تَعْتَدُوها) فلا تتعدّوها بالمخالفة (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تعقيب للنهي بالوعيد مبالغة في التهديد.

(فَإِنْ طَلَّقَها) متعلّق بقوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أو تفسير لقوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) اعترض بينهما ذكر الخلع دلالة على أنّ الطلاق يقع مجّانا تارة وبعوض أخرى. والمعنى : فإن طلّقها مرّة ثالثة بعد المرّتين.

وعن الباقر والصّادق عليهما‌السلام أنّ هذا إشارة إلى الطلقة الثالثة ، وقوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بمعنى ترك المعتدّة حتى تبين بانقضاء العدّة كما مرّ.

(فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) من بعد ذلك التطليق (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) حتى تتزوّج غيره. والنكاح يسند إلى كلّ منهما كالتزوّج.

وأجمع الفقهاء على أنّه لا بدّ من الإصابة ، لما روي أنّ امرأة رفاعة قالت

__________________

(١) الأنبياء : ٣.

(٢) راجع الوسائل ١٥ : ٤٩٣ بـ «٤» من أبواب الخلع والمباراة.

٣٦٥

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ رفاعة طلّقني فبتّ طلاقي ، وأنّ عبد الرّحمن بن زبير ـ بفتح الزاء وكسر الباء ـ تزوّجني ، وأنّ ما معه هدبة كهدبة الثوب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ قالت : نعم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك». فالآية مطلقة قيّدتها السنّة. ويحتمل أن يراد بالنكاح الإصابة ، ويكون العقد مستفادا من لفظ الزوج.

والحكمة في هذا الحكم الردع عن التسرّع إلى الطلاق ، والعود إلى المطلّقة ثلاثا ، والرغبة فيها. واقتصر ابن المسيّب على مجرّد العقد ، عملا بإطلاقها. والإجماع على خلافه.

(فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) على الزوج الأوّل والمرأة (أَنْ يَتَراجَعا) في أن يرجع كلّ منهما إلى الآخر بعقد جديد (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) إن كان في ظنّهما أن يقيما ما حدّه الله وشرعه من حقوق الزوجيّة. ولم يقل : إن علما ، لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله. ومن فسّر الظنّ هنا بالعلم فقد رأي رأيا غير سديد من طريقي اللفظ والمعنى ، لأنّه لا يقال : علمت أن يقوم زيد ، لأنّ «أن» الناصبة للتوقّع وهو ينافي العلم ، ولأنّ عواقب الأمور غيب لا يتعلّق علمنا بها ، فإنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد ، وإنّما يظنّ ظنّا.

ويستفاد من قوله : فإن طلّقها اشتراط كون عقد المحلّل دائما ، لا منقطعا ولا بشبهة ، لعدم تحقّق الطلاق فيهما.

(وَتِلْكَ) أي : الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يفهمون ويعملون بمقتضى العلم.

واعلم أنّ الحكم المذكور ـ وهو التحريم في الثالثة إلّا مع التحليل ـ مختصّ بالحرّة ، أمّا الأمة فيكفي في تحريمها طلقتان فيفتقر إلى المحلّل ، سواء كان زوجها حرّا أم عبدا ، للعلم بذلك من السنّة الشريفة وبيان أهل البيت عليهم‌السلام.

٣٦٦

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١))

ثمّ بيّن ما يفعل بعد الطلاق فقال : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) بلوغ الشيء هو الوصول إليه. وقد يقال للدنوّ منه ، وهو على الاتّساع. والأجل يقال للمدّة كلّها ، ولمنتهاها وغايتها ، فيقال لعمر الإنسان ، وللموت الّذي به ينتهي. وكذلك الغاية والأمد ، لقول النحاة : «من» لابتداء الغاية ، و «إلى» لانتهاء الغاية. والمراد به في الآية المعنى الأخير ، أي : إذا شارفن وقاربن انتهاء العدّة ، لأنّ بعد انتهائها لا إمساك ، فكيف يترتّب عليه قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَ)؟ أي : فراجعوهنّ قبل انقضاء العدّة (بِمَعْرُوفٍ) بما يجب لها من القيام بمواجبها من غير قصد ضرار بالمراجعة (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أو اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ فيكنّ أملك بأنفسهنّ.

روي أنّه كان الرجل يطلّق في الجاهليّة ويترك المعتدّة حتى تشارف الأجل ، ثمّ يراجعها لتطول العدّة عليها ، فنهى الله تعالى عنه بعد الأمر بضدّها ، فقال : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) ولا تراجعوهنّ إرادة الإضرار بهنّ ، بالتقصير في النفقة أو المسكن ، أو بتطويل العدّة عليهنّ لا لقصد الرغبة فيهنّ. ونصب «ضرارا» على العلّة أو الحال بمعنى : مضارّين (لِتَعْتَدُوا) لتظلموهنّ بالتطويل أو الإلجاء إلى الافتداء

٣٦٧

بالمهر. واللام متعلّقة بـ «ضرارا» ، إذ المراد تقييده (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها لعذاب الله.

(وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) بالاستخفاف بأوامره ونواهيه ، والإعراض عنها ، والتهاون في العمل بما فيها ، من قولهم لمن لم يجدّ في الأمر : إنّما أنت هازئ ، كأنّه نهى عن الهزء وأراد به الأمر بضدّه. وقيل : كان الرجل يتزوّج ويطلّق ويعتق ويقول : كنت ألعب ، فنزلت.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) فيما أباحه لكم من الأزواج والأموال ، ومن جملتها الهداية ببعثة سيّد الأنبياء وإنزال القرآن. والمراد بذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقوقها (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ) من القرآن (وَالْحِكْمَةِ) والعلوم الشرعيّة المأخوذة من السنّة ، أفردهما بالذكر إظهارا لشرفهما (يَعِظُكُمْ بِهِ) بما أنزل عليكم ، لتتّعظوا فتؤجروا بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه (وَاتَّقُوا اللهَ) من المعاصي التي تؤدّي إلى عقابه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هذا تأكيد وتهديد لمن يخالف حدود الله.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))

يروي أنّ معقل بن يسار عضل أخته أن ترجع إلى زوجها بعد طلاقه ، فنزلت : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) البلوغ هنا الوصول إلى الشيء تامّا. والأجل هو المدّة كلّها. فقد دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين ، أي : إذا

٣٦٨

انقضت عدّتهنّ (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) لا تمنعوهنّ ظلما (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) عن رجوعهنّ إلى أزواجهنّ. وقال السدّي : نزلت في جابر بن عبد الله عضل بنت عمّ له.

وقال الراوندي (١) : الخطاب للأزواج ، لقوله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، ولأنّه لا ولاية عندنا على البالغة الرشيدة ، ولإسناد النكاح إليها في قوله : «أن ينكحن». فعلى هذا يكون المعنى : لا تعضلوهنّ عن أن ينكحن بأكفائهنّ. فتسمية الخطّاب أزواجا تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه على وجه المجاز. والعضل بمعنى الحبس والتضييق ، ومنه : عضلت الدجاجة إذا نشبت بيضتها فلم تخرج.

(إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ) أي : الخطّاب والنساء. وهذا ظرف لـ «أن ينكحن» أو «لا تعضلوهنّ» (بِالْمَعْرُوفِ) بما يعرفه الشرع وتستحسنه المروءة. فهو حال من الضمير المرفوع ، أو صفة مصدر محذوف ، أي : تراضيا كائنا بالمعروف. وفيه دلالة على أنّ العضل عن التزوّج من غير كفؤ غير منهيّ عنه.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما مضى ذكره من الأمر والنهي. والخطاب للجميع على تأويل القبيل ، أو كلّ واحد ، أو أن الكاف لمجرّد الخطاب ، والفرق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين ، أو للرسول على طريقة قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (٢) للدلالة على أنّ حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوّره كلّ واحد. (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأنّه المتّعظ به والمنتفع.

(ذلِكُمْ) أي : العمل بمقتضى ما ذكر (أَزْكى لَكُمْ) أعظم بركة وأنفع (وَأَطْهَرُ) من أدناس الآثام (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه من النفع والصلاح لكم من الأحكام الشرعيّة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) لا تعلمونه ، لقصور علمكم.

__________________

(١) فقه القرآن ٢ : ١٨١.

(٢) الطلاق : ١.

٣٦٩

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣))

ولمّا بيّن سبحانه حكم الطلاق عقّبه ببيان أحكام الأولاد الصغار في الرضاع والتربية ، فقال : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) «يرضعن» مثل «يتربّصن» في أنّه خبر في معنى الأمر المؤكّد للمبالغة ، أي : ولترضع الأمّهات أولادهنّ ، إذ لا يجوز أن يكون على حقيقة خبريّة وإلّا لزم الكذب ، لأنّه قد يرضعن أزيد وأنقص. وليس الأمر للوجوب ، لأصالة البراءة ، بل لمطلق الرجحان الشامل له وللندب ، فمعناه النّدب أو الوجوب. أمّا الوجوب فيخصّ بما إذا لم يرتضع الصبيّ إلا من أمّه ، أو لم يوجد له ظئر ، أو عجز الوالد عن الاستئجار ، أو إرضاع اللّبأ ، وهو أوّل لبن يجيء مبدأ الولادة ، لأنّ الولد لا يعيش بدونه غالبا. أمّا المندوب فما عداه ، فإنّ أفضل اللبن لبن الأمّ لولدها ، فيستحبّ لها أن ترضعه. والوالدات تعمّ المطلّقات وغيرهنّ. وقيل : يختصّ بهنّ ، إذ الكلام فيهنّ.

(حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) أكّده بصفة الكمال ، لأنّه ممّا يتسامح فيه ، يقول الرجل :

٣٧٠

أقمت عند فلان حولين ، ولم يستكملهما.

وقوله : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) بيان لمن توجّه إليه الحكم ، أي : ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة ، أو متعلّق بـ «يرضعن» ، فإنّ الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة دون الأمّ ، وعليه أن يتّخذ له ظئرا ، إلّا إذا تطوّعت الأمّ بإرضاعه ، وهي مندوبة إلى الإرضاع ، ولا تجبر على ذلك ، فالأمر للوالدات بالإرضاع أمر على الندب. وهو دليل على أنّ أقصى مدّة الإرضاع حولان ، ولا عبرة به بعدهما ، وأنّه يجوز أن ينقص عنه ما دام لا يكون موجبا لضرر الولد. فالحولان منتهى الرضاع ، وليس فيما دون ذلك حدّ محدود ، وإنّما هو على مقدار صلاح الصبيّ وما يعيش به.

(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي : يجب على الّذي يولد له ، يعني : الوالد ، فإنّ الولد يولد له وينسب إليه لا الأمّ. ولهذا قيل :

فإنّما أمّهات الناس أوعية

مستودعات وللآباء أبناء (١)

وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضي لوجوب الإرضاع ومؤن المرضعة عليه. وقوله : «له» في محلّ الرفع على الفاعليّة ، نحو «عليهم» في (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).

وعلى الوالد (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) أجرة لهنّ إذا أرضعن ولده (بِالْمَعْرُوفِ) ما يراه الحاكم ويفي به وسعه.

(لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) أي : لا يلزمها الله إلّا دون طاقتها. هذا تعليل لإيجاب المؤن. والتقييد بالمعروف دليل على أنّه تعالى لا يكلّف العبد بما لا يطيقه.

(لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) تفصيل له ، أي : لا يكلّف كلّ منهما الآخر ما ليس في وسعه ، ولا يضارّه بسبب الولد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : لا تضارّ بالرفع ، بدلا من قوله : «لا تكلّف» ، وأصله على القراءتين :

__________________

(١) البيت للمأمون بن الرشيد ، راجع الكشّاف ١ : ٢٧٩.

٣٧١

تضارر على البناء للفاعل ، أو الفتح على البناء للمفعول. وعلى الوجه الأوّل يجوز أن يكون بمعنى : تضرّ ، والباء من صلته ، أي : لا يضرّ الوالدان بالولد ، فيفرّط في تعهّده ويقصّر فيما ينبغي له. وإضافة الولد إليها وإليه أخرى استعطاف لهما عليه ، وتنبيه على أنّه حقيق بأن يتّفقا على استصلاحه والإشفاق ، فلا ينبغي أن يضرّا به أو يتضارّا بسببه.

وخلاصة المعنى : أنّه لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها ، بأن تطلب منه ما ليس بعدل من النفقة والكسوة ، وأن لا يشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد. ولا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولدها ، بأن يمنعها شيئا ممّا وجب عليه ، أو يأخذه منها وهي تطلب إرضاعه. وكذلك إذا كان مبنيّا للمفعول. فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج ، وعن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد.

(وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) عطف على قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. والمراد بالوارث وارث الأب. والمعنى : وعلى وارث المولود له بعد موته مثل ما أوجب عليه من الرزق والكسوة بالمعروف.

(فَإِنْ أَرادا فِصالاً) صادرا (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) بينهما قبل الحولين أو بعدهما. والتشاور والمشاورة والمشورة استخراج الرأي ، من : شرت العسل ، إذا استخرجته (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) في ذلك ، زادا على الحولين أو نقصا. وهذه توسعة بعد التحديد. وإنّما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الطفل ، وحذرا أن يقدم أحدهما على ما يضرّ به لغرض.

(وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) أي : تسترضعوا المراضع أولادكم ، يقال : أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إيّاه ، كقولك : أنجح الله حاجتي واستنجحته إيّاها ، فحذف المفعول الأوّل للاستغناء عنه ، كما تقول : استنجحت

٣٧٢

الحاجة ، ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كلّ مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأوّل (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فيه. وفيه دلالة على أنّ للزوج أن يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع (إِذا سَلَّمْتُمْ) إلى المراضع (ما آتَيْتُمْ) ما أردتم إيتاءه ، كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) (١). وقرأ ابن كثير : «ما أتيتم» من : أتى إليه إحسانا إذا فعله.

وقوله : (بِالْمَعْرُوفِ) صلة «سلّمتم» أي : بالوجه المتعارف المستحسن شرعا. وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله. وليس التسليم شرطا لجواز الاسترضاع ، بل لسلوك ما هو الأولى والأصلح للطفل ، فإنّ المرضعة إذا أخذت الأجرة على الرضاع تصير طيّبة النفس ، فتقبل على الطفل بقلبها ، وتراعي مصلحته حقّ المراعاة.

(وَاتَّقُوا اللهَ) مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع ، وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) حثّ وتهديد.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤))

وبعد ذكر عدّة الطلاق بيّن عدّة الوفاة بقوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) تقديره : أزواج الّذين ، وقرينة حذف المضاف قوله : (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أو تقديره : والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يتربّصن

__________________

(١) المائدة : ٦.

٣٧٣

بعدهم ، كقولهم : السمن منوان بدرهم ، أي : منوان منه.

ومعنى (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) : يعتددن هذه المدّة ويتركن الزينة. وتأنيث العشر باعتبار الليالي ، لأنّها غرر الشهور والأيّام ، ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قطّ ذهابا إلى الأيّام ، حتى إنّهم يقولون : صمت عشرا. ويشهد له قوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) ثمّ قال : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) (١).

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي : انقضت عدّتهنّ (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيّها الأئمّة أو الأولياء أو المسلمون جميعا (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من التعرّض للخطّاب واستعمال الزينة (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الّذي لا ينكره الشرع. ومفهومه أنّهنّ لو فعلن ما ينكره فعليهم أن يكفّوهنّ ، فإن قصّروا فعليهم الجناح.

وهذه الآية ناسخة لقوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) (٢) وإن كانت متقدّمة عليها في التلاوة.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم عليه.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥))

ولمّا قدّم ذكر عدّة النساء وجواز الرجعة فيها للأزواج ، عقّبه ببيان حال غير

__________________

(١) طه : ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) البقرة : ٢٤٠.

٣٧٤

الأزواج ، فقال : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيّها الرجال (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) المعتدّات ، ولا تصرّحوا به. والتعريض والتلويح إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا ، كقول السائل : جئتك لأسلّم عليك. والكناية هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه وروادفه ، كقولك : طويل النجاد للطويل ، وكثير الرماد للمضياف.

والخطبة بالكسر والضمّ اسم الحالة ، غير أنّ المضمومة خصّت بالموعظة ، والمكسورة بطلب المرأة. وتعريض خطبتها أن يقول لها : إنّك لجميلة أو صالحة ، أو إنّي أحبّ امرأة صفتها كذا ، ويذكر بعض صفاتها ، ونحو ذلك من الكلام الّذي يوهم أنّه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه. ولا يصرّح بالنكاح ، فلا يقول : إنّي أريد أن أنكحك أو أتزوّجك.

وفي الكشّاف روي ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان ، عن خالته قالت : «دخل عليّ أبو جعفر محمد بن عليّ عليه‌السلام وأنا في عدّتي ، فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحقّ جدّي عليّ وقدمي في الإسلام ، فقلت : غفر الله لك أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك؟! فقال : أو قد فعلت؟! وإنّما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموضعي ، قد دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمّ سلمة ، وكانت عند ابن عمّها أبي سلمة فتوفّي عنها ، فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده ، حتى أثّر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها ، فما كانت تلك خطبة (١)!!» (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم ، فلم تذكروه تصريحا ولا تعريضا (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) لا محالة ، لرغبتكم فيهنّ ، وعدم صبركم على السكوت عنهنّ ، وعن الرغبة فيهنّ ، خوفا منكم أن يسبقكم غيركم إليهنّ ، فأباح لكم ذلك. (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) استدراك عن محذوف ، دلّ عليه

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٢٨٢.

٣٧٥

«ستذكرونهنّ» ، أي : فاذكروهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سرّا. والسرّ كناية عن الوطء ، لأنّه ممّا يسرّ ، ثمّ عبّر به عن النكاح الّذي هو العقد ، لأنّه سبب فيه (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهو أن تعرّضوا ولا تصرّحوا والمستثنى منه محذوف ، أي : لا تواعدوهنّ مواعدة إلا مواعدة معروفة. وقيل : معناه لا تواعدوهنّ جماعا ، وهو أن يقول لها : إن نكحتك كان كيت وكيت ، يريد : ما يجري بينهما تحت اللحاف ، إلّا أن تقولوا قولا معروفا ، أي : غير رفث وإفحاش في الكلام.

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) من : عزم الأمر وعزم عليه. وهو مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدّة ، لأنّ العزم على الفعل يتقدّمه ، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى. والعقدة موضع العقد ، وهو ما عقد عليه. ومعناه : لا تعزموا عقدة النكاح في العقدة (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) حتى ينتهي ما كتب وفرض من العدّة.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم على ما لا يجوز (فَاحْذَرُوهُ) ولا تقربوه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن عزم ولم يفعل خشية من الله (حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة.

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦))

ثمّ بيّن حكم الطلاق قبل الفرض والمسيس ، فقال : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) لا تبعة ولا إثم عليكم (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) أي : ما دام لم تجامعوهنّ (أَوْ تَفْرِضُوا) أو ما لم تفرضوا وتسمّوا (لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي : صداقا.

قال صاحب الكنز : المراد بالمسّ الجماع. والفرض التقدير. والمراد

٣٧٦

بالفريضة المهر المقدّر. ففعيل هنا بمعنى مفعول ، والتاء لنقل اللفظ إلى الاسميّة. و «أو» هاهنا يحتمل أن يكون بمعنى الواو ، وأن يكون للترديد ، وأن يكون بمعنى «إلا أن».

فعلى الأوّل ، يكون منطوق الآية : أنّكم إن طلّقتم النساء قبل مسّهنّ وقبل فرضكم لهنّ مهرا فلا جناح عليكم ، قدّم جواب الشرط عليه.

وإنّما نفي الجناح لأنّ الطلاق مظنّة الجناح ، لكون النكاح مطلوبا لله ، فيكون تركه مظنّة الكراهة ، خصوصا قبل الدخول ، وأمّا بعد الدخول فقد حصل الامتثال وضعفت الكراهية للترك ، فلذلك خصّ النفي بما قبل المسّ ، أو لأنّ الطلاق بعد الدخول يفتقر إلى الاستبراء وقبله لا.

وقيل : المعنى : لاتبعه على المطلّق من مطالبة المهر إذا كانت المطلّقة غير ممسوسة ولم يسمّ لها مهرا ، إذ لو كانت ممسوسة لكان عليه المسمّى أو مهر المثل ، ولو كانت غير ممسوسة وقد سمّى لها مهرا كان لها نصفه. فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الأولى ، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين.

وفيه نظر ، لأنّه لو كان ذلك هو المراد لما حسن نفي الجناح مطلقا ، لأنّه وإن لم يجب عليه المهر كملا فإنّه يجب عليه المتعة ، فكان ينبغي فيه التقييد ، لكنّه لم يقيّد ، فلم يكن ذلك هو المراد.

وعلى الثاني ، يكون المنطوق نفي الجناح قبل المسّ مطلقا ، أي : مع الفرض وعدمه ، وقبل الفرض مطلقا ، أي : مع المسّ وعدمه ، فيثبت المتعة في الأحوال الأربعة ، فتكون واجبة مع الطلاق منضمّة إلى نصف المهر وإلى مهر المثل. لكن ذلك لم يقل به أحد من أصحابنا ، لكنّه قول الشافعي.

وعلى الثالث ، يكون المنطوق نفي الجناح وثبوت المتعة مع عدم الفرض.

٣٧٧

فيكون الحكم كالأوّل ، وهو الّذي عليه الفتوى. إلى هنا كلامه (١).

وأنا أقول : لمّا كان القول الأخير قول جمهور المفسّرين ، ولا يذهب أحد منهم إلى القول الثاني إلّا شاذّ منهم ، فبالحريّ أن يكون القول الثالث راجحا ، ونفي الجناح مختصّا بطلب المهر المسمّى أو المهر المثل ، وتخصيص العامّ شائع عند العلماء لا ينكره أحد ، كما قرّر في علم الأصول. فيكون نفي الحسن عن نفي الجناح غير حسن. ولا يكون التنافي بينه وبين قوله : (وَمَتِّعُوهُنَ) وهو معطوف على مقدّر ، أي : فطلّقوهنّ ومتّعوهنّ ، أي : أعطوهنّ من مالكم ما يتمتّعن به. والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق ، وذلك الشيء يختلف باعتبار حال الزوج ، كما قال عزّ اسمه : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) أي : على الغنيّ الّذي هو في سعة لغناه على قدر حاله (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) وعلى الفقير الّذي هو في ضيق على قدر حاله. ومعنى قدره مقداره الّذي يطيقه. والقدر والقدر لغتان.

وعن الباقر (٢) والصّادق عليهما‌السلام أنّ على الغنيّ دابّة أو ثوب رفيع أو عشرة دنانير من الذهب ، وعلى المتوسّط خمسة أو ثوب متوسّط ، وعلى الفقير دينار أو خاتم ، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة : إن نقص مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل.

وفي الآية دلالة صريحة على صحّة عقد الدوام من غير ذكر مهر مطلقا ، ويسمّى تفويض البضع. وقد يقال : تفويض المهر ، وهو أن يتزوّجها بمهر مجمل ، كأن يفوّض تقديره إلى أحدهما أو إلى أجنبيّ ، فيلزم ما يقدّره. لكن إن كان هو الزوج لزم كلّ ما يقدّره بما يتملّك ، وإن كان الزوجة لزم ما لم يتجاوز مهر السنّة ،

__________________

(١) كنز العرفان ٢ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) لم نجده فيما لدينا من مصادر الحديث ، وروي الطبرسي في مجمع البيان (١ / ٣٤٠) عن الباقر والصادق عليهما‌السلام بمضمون آخر.

٣٧٨

وهو خمسمائة درهم. والأجنبيّ حكمه تابع لمن هو من قبله.

(مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) تمتيعا بالوجه الّذي يستحسنه الشرع والمروءة (حَقًّا) صفة «متاعا» أو مصدر مؤكّد ، أي : وحقّ ذلك حقّا (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) الّذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال ، أو إلى المطلّقات بالتمتيع. وسمّاهم قبل الفعل محسنين للمشارفة ، كما قال عليه‌السلام : «من قتل قتيلا فله سلبه» (١) ترغيبا وتحريضا.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

ولمّا ذكر حكم المفوّضة أتبعه حكم المفروضة ، فقال : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) تجامعوهنّ (وَقَدْ فَرَضْتُمْ) أوجبتم (لَهُنَّ فَرِيضَةً) صداقا (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أي : فلهنّ ، أو فالواجب نصف ما فرضتم لهنّ. وهو دليل على أنّ المراد بالجناح في الآية المتقدّمة تبعة المهر ، وأن لا متعة مع التشطير ، لأنّه قسيمها (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي : المطلّقات الحرائر البالغات غير المولّى عليهنّ ، لفساد عقولهنّ ، أي : يتركن ما يجب لهنّ من نصف المهر ، فلا يأخذن شيئا من الأزواج.

والصيغة تحتمل التذكير والتأنيث. والفرق : أنّ الواو في الأوّل ضمير والنون علامة الرفع ، وفي الثاني لام الفعل والنون ضمير. والفعل مبنيّ ، ولذلك لم تؤثّر فيه أن الناصبة هاهنا ، ونصب المعطوف عليه ، أعني قوله : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهو الوليّ الّذي يلي عقد نكاحهنّ ، وذلك إذا كانت المرأة صغيرة أو

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني ٧ : ٢٩٥ ح ٦٩٩٥.

٣٧٩

سفيهة. وليس له العفو إلّا عن بعضه لا جميعه ، وهو قول أصحابنا.

(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) خطاب للأزواج جميعا ، أي : عفوكم أيّها الأزواج أقرب لكم لاتّقاء الظلم ، فإنّ التارك لغيره حقّه قد استبرأ لذمّته واحتاط ، أو لاتّقاء الكلام في حقّه ، بأن يقال : إنّه طلّقها وأدخل عليها ذلّ الخذلان وبخس المهر.

روي عن جبير بن مطعم أنّه تزوّج امرأة وطلّقها قبل أن يدخل بها ، فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحقّ بالعفو. وعند من فسّر (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) بالزوج قال : له أن يعفو عن جميع النصف.

ولمّا ذكر عفو المرأة ووليّها ذكر عفو الرجل ، وجمعه مطابقة لجمع النساء ، ولأنّه خطاب لكلّ زوج.

(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي : ولا تتركوا أن يتفضّل بعضكم على بعض (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عليم لا يضيع تفضّلكم وإحسانكم.

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))

ولمّا حثّ الله سبحانه عباده على الاطاعة والامتثال بأنواع الطاعة ، خصّ الصلاة بالمحافظة عليها ، لأنّها أعظم الطاعات ، ولئلّا يشتغلوا عنها بغيرها من الأحكام المشوبة بالحظوظ النفسانيّة من النكاح وغيره ، فقال : (حافِظُوا) داوموا (عَلَى الصَّلَواتِ) في مواقيتها بأداء أركانها (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) بين الصلوات ، أو الفضلى ، من قولهم للأفضل : الأوسط. وتخصيص الصلاة الوسطى بالأمر

٣٨٠