زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

١
٢

٣
٤

(٤)

سورة النساء

مدنيّة كلّها. وقيل : مدنيّة إلّا قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (١) الآية ، وقوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) (٢) إلى آخرها ، فإنّ الآيتين نزلتا بمكّة. وهي مائة وستّ وسبعون آية.

عن أبيّ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأها فكأنّما تصدّق على كلّ من ورث ميراثا ، وأعطي من الأجر كمن اشترى محرّرا (٣) ، وبرىء من الشرك ، وكان في مشيئة الله تعالى من الّذين يتجاوز عنهم».

وروى العيّاشي بإسناده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «من قرأها في كلّ جمعة أومن من ضغطة القبر» (٤) إذا أدخل في قبره.

واعلم أنّه سبحانه لمّا ختم آل عمران بالتقوى افتتح هذه السورة به ، إلّا أنّ هناك خصّ به المؤمنين ، وعمّ هاهنا سائر المكلّفين ، فقال :

__________________

(١ ، ٢) النساء : ٥٨ و١٢٧.

(٣) في هامش الخطّية : «أي : اشترى عبدا وحرّره. منه».

(٤) تفسير العيّاشي ١ : ٢١٥ ح ١.

٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) فإنّه خطاب عامّ للمكلّفين من بني آدم. وقيل : النداء إنّما كان في سائر كتب الله السالفة بـ «يا أيّها المساكين» وأمّا في القرآن فما نزل بمكّة فالنداء بـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ). وما نزل بالمدينة فمرّة بـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ومرّة بـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ).

(اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أي : مخالفة ربّكم (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي : فرّعكم من أصل واحد ، وهو نفس آدم عليه‌السلام.

(وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) عطف على «خلقكم» أي : خلقكم من شخص واحد ، وهو آدم عليه‌السلام ، وخلق منه زوجها ـ وهي أمّكم حوّاء ـ من ضلع من أضلاعه. أو على محذوف تقديره : من نفس واحدة أنشأها من تراب ، وخلق منها زوجها ، وإنّما حذف لدلالة المعنى عليه. وهو تقرير لخلقهم جميعا من نفس واحدة.

ورووا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «خلقت المرأة من ضلع ، إن أقمتها كسرتها ، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها».

(وَبَثَّ مِنْهُما) ونشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) بنين وبنات كثيرة. وهذا بيان لكيفيّة تولّدهم منهما. واكتفى بوصف الرجال

٦

بالكثرة عن وصف النساء بها ، إذ الحكمة تقتضي أن يكون الرجال أكثر ، إذ المقصود من إيجاد الموجودات حصول الكمالات لها ، والرجال أكثر استعدادا في تحصيل تلك الكمالات. وذكر «كثيرا» حملا على الجمع لا على الجماعة.

وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصّة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة الّتي من حقّها أن تخشى ، والنعمة الظاهرة الّتي توجب طاعة موليها. ولأنّ المراد به تمهيد الأمر بالتقوى فيما يتّصل بحقوق أهل منزله. وبنى جنسه على ما دلّت عليه الآيات الّتي بعدها.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي : يسال بعضكم بعضا فيقول : أسألك بالله.

وأصله : تتساءلون ، فأدغمت التاء الثانية في السين. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بطرحها. (وَالْأَرْحامَ) بالنصب عطف على محلّ الجارّ والمجرور ، كقولك : مررت بزيد وعمرا ، أي : يسأل بعضكم من بعض بالله وبالرحم ويقول : بالله والرحم افعل كذا ، على سبيل الاستعطاف ، وهذا من عادات العرب عند ذكر المسألة ليتعاطفوا بذكرهما.

وملخّص المعنى : أنّكم تتساءلون بذكر الله والرحم ، فاتّقوا خالقكم الّذي تقرّون به ، وتتناشدون به وبالأرحام ، وعظّموه بطاعتكم إيّاه ، كما تعظّمونه بأقوالكم. أو عطف على «الله» أي : اتّقوا الله واتّقوا الأرحام ، فصلوها ولا تقطعوها. ويؤيّده ما روي عن ابن عبّاس وقتادة ومجاهد والضّحاك والربيع ، ونقل عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّ معناه : واتّقوا الأرحام أن تقطعوها.

وقرأ حمزة بالجرّ عطفا على الضمير المتّصل المجرور. وهو ضعيف ، لأنّه كبعض الكلمة ، فأشبه العطف على بعضها ، فلم يجز ، ووجب تكرير العامل ، كقولك : مررت به وبزيد وعمرو.

ونبّه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه على أنّ صلتها بمكانة ومنزلة عظيمة

٧

منه. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الرحم معلّقة بالعرش تقول : ألا من وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه الله».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال الله تعالى : «أنا الرحمن خلقت الرحم ، وشققت لها اسما من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها بتتّه» (١).

وعن ابن عبّاس : «الرحم معلّقة بالعرش ، فإذا أتاها الواصل بشّت به وكلّمته ، وإذا أتاها القاطع احتجبت منه».

وروى الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «إنّ أحدكم ليغضب فما يرضى حتّى يدخل به النار ، فأيّما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليمسّه ، فإنّ الرحم إذا مسّتها الرحم استقرّت ، وإنّها متعلّقة بالعرش وتنادي : اللهمّ صل من وصلني ، واقطع من قطعني».

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) حافظا مطّلعا على أحوالكم. وإنّما أتى بلفظة «كان» المفيدة للماضي لأنّه أراد أنّه كان حفيظا على ما تقدّم زمانه من عهد آدم وولده إلى زمان المخاطبين ، وعالما بما صدر منهم ، لم يعزب عنه من ذلك شيء.

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢))

ولمّا أمر الله تعالى بالتقوى وصلة الأرحام ، عقّبه بباب آخر من التقوى ، وهو توفير حقوق اليتامى ، فقال : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) بالإنفاق عليهم في حالة

__________________

(١) أي : قطعته ، من : بتّ يبتّ أي : قطع.

٨

الصغر ، وتسليم أموالهم إليهم عند البلوغ وإيناس الرشد. هذا خطاب لأوصياء اليتامى.

واليتامى جمع يتيم ، وهو الّذي مات أبوه ، من اليتم ، وهو الانفراد ، ومنه الدرّة اليتيمة ، إمّا على أنّه لمّا أجري مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم ، ثم قلب فقيل : يتامى ، أو على أنّه جمع على يتمى كأسرى ، لأنّه من باب الآفات والأوجاع ، ثم جمع يتمى على يتامى ، كأسرى وأسارى.

والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار ، لكن العرف خصّصه بمن لم يبلغ ، ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يتم بعد احتلام».

وقولهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يتيم أبي طالب بعد كبره توضيعا له ، يعنون أنّه ربّاه حال صغره ، كقوله تعالى : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (١) أي : الّذين كانوا سحرة.

(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم ، فتأكلوه مكانه ، أو الأمر الخبيث ـ وهو اقتطاع أموالهم ـ بالأمر الطيّب الّذي هو حفظها. والتفعّل بمعنى الاستفعال غير عزيز ، ومنه التعجّل بمعنى الاستعجال. وما نقل عن السدّي في معناه : ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها ، كجعل شاة مهزولة مكان سمينة ، ليس بجيّد ، لأنّه إنّما هو تبديل لا تبدّل.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ، أي : لا تنفقوهما معا ، ولا تسوّوا بين الحلال الّذي هو أموالكم والحرام الّذي هو أموالهم ، قلّة مبالاة بالحرام ، وتسوية بينه وبين الحلال. وهذا إنّما يكون فيما زاد على قدر أجره ، لقوله تعالى : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (٢) (إِنَّهُ) الضمير للأكل

__________________

(١) الأعراف : ١٢٠.

(٢) النساء : ٦.

٩

(كانَ حُوباً كَبِيراً) ذنبا عظيما.

وروي أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلمّا بلغ طلب المال منه فمنعه ، فنزلت هذه الآية ، فلمّا سمعها العمّ قال : أطعنا الله ورسوله ، ونعوذ بالله من الحوب الكبير.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

روي أنّ الرجل إذا كان يجد يتيمة ذات مال وجمال فيتزوّجها ضنّا بها ، فربّما يجتمع عنده منهنّ عدد يرتقي إلى عشر ، ولا يقدر على القيام بحقوقهنّ ، فنزلت : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) من : قسط يقسط قسوطا ، إذا جار. والهمزة في «أقسط» للسلب والإزالة ، نحو : أشكيته ، أي : أزلت شكايته. والمعنى : إن خفتم أن لا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوّجتم بهنّ (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) فتزوّجوا ما طاب لكم من غيرهنّ. وإنّما عبّر عنهنّ بـ «ما» ذهابا إلى الصفة ، أو إجراء لهنّ مجرى غير العقلاء ، لنقصان عقلهنّ. ونظيره : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

وقيل : لمّا عظّم أمر اليتامى تحرّجوا من ولايتهم ، وما كانوا يتحرّجون من تكثير النساء وإضاعتهنّ ، فأمرهم الله تعالى بأنّكم إن خفتم أن لا تعدلوا في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها ، فخافوا أيضا ألّا تعدلوا بين النساء ، فانكحوا مقدارا يمكنكم الوفاء بحقّه ، لأن المتحرّج من الذنب ينبغي أن يتحرّج من الذنوب كلّها.

١٠

وقيل : كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى ، ولا يتحرّجون من الزنا ، فقيل لهم : إن خفتم ألّا تعدلوا في أمر اليتامى فخافوا الزنا ، فانكحوا ما طاب لكم من النساء.

(مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) معدولة عن أعداد مكرّرة : ثنتين ثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا. وهي غير منصرفة ، للعدل والصفة ، فإنّها بنيت صفات ، وإن كانت أصولها لم تبن لها. وقيل : لما فيها من العدلين ، فإنّها معدولة باعتبار الصيغة والتكرير ، أي : عدلها عن صيغتها ، وعدلها عن تكريرها.

ونصبها على الحال من فاعل «طاب» ، تقديره : فانكحوا الطيّبات لكم معدودات هذا العدد ، ثنتين ثنتين ، وثلاثا وثلاثا ، وأربعا وأربعا.

والخطاب للجميع ، فوجب التكرير ليصيب كلّ ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الّذي أطلق له. فمعناها : الإذن لكلّ ناكح يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور ، متّفقين فيه ومختلفين ، كقولك : اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة. ولو أفردت ، بأن قيل : اثنتين وثلاث وأربع من غير تكرير ، كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الأعداد دون التوزيع. ولو ذكرت بـ «أو» لذهب تجويز الاختلاف في العدد ، بأن لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة ، وليس لهم أن يجمعوا بينها ، فيجعلوا بعض القسم على تثنية ، وبعضه على ثلاث ، وبعضه على أربع.

لا يقال : إنّ هذا العدد يؤدّي إلى جواز نكاح التسع ، فإنّ اثنتين وثلاثة وأربعة تسعة.

لأنّا نقول : إنّ من قال : دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع ، لا يقتضي اجتماع الأعداد في الدخول. وأيضا لهذا العدد لفظ موضوع وهو تسع ، فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العيّ (١) ، جلّ كلامه سبحانه عن ذلك وتقدّس.

__________________

(١) العيّ : العجز والجهل.

١١

قال الصادق عليه‌السلام : «لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر».

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) بين هذه الأعداد ، كما خفتم فيما فوقها (فَواحِدَةً) فاختاروا أو فانكحوا واحدة ، وذروا الجمع (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من غير حصر.

سوّى بين الواحدة من الأزواج وبين الإماء لخفّة مؤونتهنّ ، وعدم وجوب القسم ، وإباحة العزل.

(ذلِكَ) أي : التقليل منهنّ ، أو اختيار الواحدة ، أو التسرّي (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أقرب من أن لا تميلوا. يقال : عال الميزان إذا مال ، وعال في حكمه إذا جار. وعول الفريضة الميل عن حدّ السهام المسمّاة. وفسّر بأن لا يكثر عيالكم ، على أنّه من : عال الرجل عياله يعولهم ، إذا مانهم ، فعبّر عن كثرة العيال بكثرة المؤن الّتي هي من لوازم الأولاد. فالمعنى : ألّا تكثر أولادكم ، لأن التسرّي مظنّة قلّة الولد بالإضافة إلى التزوّج ، لجواز العزل فيه ، كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوّج الأربع.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) مهورهنّ (نِحْلَةً) عطيّة. يقال : نحله كذا نحلة ونحلا ، إذا أعطاه إيّاه عن طيب نفس بلا توقّع عوض. ومن فسّرها بالفريضة ونحوها نظر إلى مفهوم الآية ، لا إلى موضوع اللفظ. ونصبها على المصدر ، لأنّها في معنى الإيتاء ، أو الحال من الواو أو الصدقات ، أي : آتوهنّ صدقاتهنّ ناحلين أو منحولة.

وقيل : نحلة من الله ، أي : عطيّة من عنده لهنّ ، فتكون حالا من الصدقات.

وقيل : ديانة ، فإنّ النحلة بمعنى الملّة ، ونحلة الإسلام خير النحل ، من قولهم : انتحل فلان كذا ، إذا دان به ، على أنه مفعول له ، أو حال من الصدقات ، أي : دينا من الله شرعه. والخطاب للأزواج. وقيل : للأولياء ، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم.

١٢

روي : أنّ ناسا كانوا يتأثّمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا ممّا ساق إليها ، فنزلت : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) الضمير للصداق حملا على المعنى ، أو جار مجرى اسم الاشارة ، كأنّه قيل : عن شيء من ذلك ، كما قال الله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) (١) بعد ذكر الشهوات. وقيل : للإيتاء ، و «نفسا» تمييز لبيان الجنس ، ولذلك وحّد.

والمعنى : فإن وهبن لكم من الصداق عن طيب نفس. لكن جعل العمدة طيب النفس للدلالة على ضيق المسلك في ذلك ، ووجوب الاحتياط ، حيث بنى الشرط على طيب النفس ، ولم يقل : فإن وهبن أو سمحن. وعدّاه بـ «عن» لتضمّن معنى التجافي والتجاوز.

(فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) فخذوه وأنفقوه حلالا بلا تبعة. والهنيء والمريء صفتان من : هنأ الطعام ومريء ، إذا ساغ من غير غصص ، أقيمتا مقام مصدريهما ، كأنّه قال : هنأ مرءا ، أو وصف بهما المصدر ، أي : أكلا هنيئا مريئا ، أو جعلتا حالا من الضمير. وقيل : الهنيء ما يلذّه الإنسان ، والمريء ما تحمد عاقبته.

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥))

ولمّا أمر سبحانه فيما تقدّم بدفع مال الأيتام إليهم ، عقّبه بذكر من لا يجوز الدفع إليه منهم ، فقال : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) نهي للأولياء عن أن يؤتوا الّذين لا رشد لهم أموالهم فيضيّعونها. وهم : النساء ، والصبيان ، والمجانين ،

__________________

(١) آل عمران : ١٥.

١٣

والمبذّرين. وإنّما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنّها في تصرّفهم وتحت ولايتهم ، وهو الملائم للآيات المتقدّمة والمتأخّرة.

وقيل : نهي لكلّ أحد أن يعمد إلى ما أعطاه الله تعالى من المال ، فيعطي امرأته وأولاده ، ثمّ ينظر إلى أيديهم.

وإنّما سمّاهم سفهاء استخفافا بعقولهم ، واستهجانا لجعلهم قوّاما على أنفسهم. وهو أوفق لقوله تعالى : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) أي : ما تقومون بها وتنتعشون ، فلو ضيّعتموها بإعطاء السفهاء لضعفتم واحتجتم. وعلى الأوّل يؤوّل بأنّها الّتي من جنس ما جعل الله لكم قياما ، كما قال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (١) أي : مثل أنفسكم.

وقرأ نافع وابن عامر : قيما بالقصر بمعناه ، كعوذ بمعنى عياذ.

(وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) واجعلوا الأموال مكانا لرزقهم وكسوتهم ، بأن تتّجروا وتحصّلوا من نفعها ما يحتاجون إليه ، ولأجل هذا المعنى لم يقل : منها.

وقيل : معناه الرزق من الله فيها ، أي : جعل الله رزقكم ورزقهم فيها. فعلى الأوّل يمكن أن يحتجّ به على وجوب الكسب بمال المولّى عليهم ، لظاهر الأمر. ويحتمل عدم الوجوب ، للأصل ، ولأنّه اكتساب ولا يجب. والحقّ أنّه يجب استنماؤه قدر النفقة ، وأمّا الزيادة على ذلك فندب. هكذا قال صاحب كنز العرفان (٢).

(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) عدة جميلة تطيب بها نفوسهم ، فلا تخاشنوهم ، أو قولوا لهم ما ينبّههم على الرشد والصلاح من أمر المعاش والمعاد ، حتّى إذا بلغوا كانوا على بصيرة من ذلك. والمعروف ما عرفه الشرع أو العقل لحسنه ، والمنكر ما أنكره أحدهما لقبحه.

__________________

(١) النساء : ٢٩.

(٢) كنز العرفان ٢ : ١١١.

١٤

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

ولمّا أمر الله سبحانه بإيتاء الأيتام أموالهم ، ومنع من دفع المال إلى السفهاء ، بيّن هنا الحدّ الفاصل بين ما يحلّ من ذلك للوليّ وما لا يحلّ ، فقال : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) اختبروا عقولهم قبل البلوغ بتتبّع أحوالهم في التهدّي إلى ضبط المال وحسن التصرّف ، بأن تكلوا إليهم مقدّمات البيع ، لكن العقد لو وقع منه كان باطلا. وعند أبي حنيفة يكون العقد صحيحا.

(حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) إذا بلغوا حدّ البلوغ ، بأن يحتلموا ، أو تنبت شعورهم الخشنة ، أو يستكملوا خمس عشرة إن كانوا ذكورا أو خناثى ، أو تسع سنة إن كنّ إناثا. وعند أبي حنيفة ثمانية عشر في الذكر والخنثى ، وسبعة عشر في الأنثى.

(فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) فإن أبصرتم منهم تهدّيا إلى وجوه التصرّف وإصلاحا للمال. وهل يشترط إصلاح الدين أيضا؟ قال الشافعي : نعم ، فيحجر عنده الفاسق. وقال أبو حنيفة : لا حجر عليه. وبه قال أكثر أصحابنا ، اللهمّ إلّا أن يكون فسقه بإتلاف ماله ، فالحجر باق. وقال الشيخ (١) بمقالة الشافعي.

(فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) من غير تأخير عن حدّ البلوغ والرشد. الشرطيّة

__________________

(١) راجع الخلاف ٣ : ٢٨٣ مسألة (٣)

١٥

جواب «إذا» المتضمّنة معنى الشرط ، والجملة غاية الابتلاء ، كأنّه قيل : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم ، بشرط إيناس الرشد منهم.

وهو دليل على أنّه لا يدفع إليهم ما لم يؤنس منهم الرشد ، خلافا لأبي حنيفة حيث قال : يزاد على زمان البلوغ سبع سنين ثم يعطى ما لهم ، رشدوا أم لا.

(وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو لإسرافكم وبداركم كبرهم. والأولى أنّهما مصدران ، لأنّهما نوعان للأكل ، لا أنّهما مفعول له ، لأنّ الشيء لا يعلّل بنوعيه.

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) فليعفّ ، كـ : استقرّ بمعنى : قرّ ، أي : فليمتنع عن أكل مال اليتيم ، ويقتنع بما رزقه الله من الغنى ، إشفاقا على اليتيم ، وإبقاء على ماله (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ) ماله (بِالْمَعْرُوفِ) بقدر حاجته وأجرة سعيه. وقيل : أقلّ الأمرين ، لقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١). ولا ريب أنّ هذا أحسن. وهذا مشعر بأنّ الوليّ له حقّ في مال الصبيّ. وقيل : يأخذ من ماله قدر الحاجة على وجه الاستقراض.

وفي الحديث : «أنّ رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ في حجري يتيما ، أفآكل من ماله؟ قال : كل بالمعروف غير متأثّل (٢) مالا ، ولا واق مالك بماله».

(فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) بأنّهم قبضوها ، فإنّه أنفى للتهمة ، وأبعد من الخصومة ووجوب الضمان. وظاهره يدلّ على أنّ القيّم لا يصدّق في دعواه إلّا بالبيّنة. وهو المختار عندنا. وهو مذهب مالك ، خلافا لأبي حنيفة.

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) محاسبا ، فلا تخالفوا ما أمرتم به ، ولا تتجاوزوا ما حدّ لكم.

__________________

(١) الأنعام : ١٥٢.

(٢) أي : متّخذ مالا أصلا ، من : تأثّل المال ، أي : اكتسبه وثمّره.

١٦

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨))

روي أنّ أوس بن الصامت الأنصاري خلّف زوجته أم كحّة وثلاث بنات ، فزوى (١) ابنا عمّه سويد وعرفطة ـ أو قتادة وعرفجة ـ ميراثه عنهنّ على سنّة الجاهليّة ، فإنّهم ما كانوا يورّثون النساء والأطفال ، ويقولون إنّما يرث من يحارب ويذبّ عن الحوزة. فجاءت أمّ كحّة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه. فقال : ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله ، فنزلت : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ)

يريد بهم المتوارثين بالقرابة (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل ممّا ترك بإعادة العامل (نَصِيباً مَفْرُوضاً) نصب على أنّه مصدر مؤكّد ، كقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (٢). أو حال ، إذ المعنى : ثبت لهم مفروضا نصيب. أو على الاختصاص ، بمعنى : أعني نصيبا مقطوعا واجبا لهم.

وفيه دليل على بطلان القول بالعصبة ، لأنّ الله تعالى فرض الميراث للرجال والنساء ، وعلى أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقّه.

ولمّا نزلت هذه الآية بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ابني عمّ أوس : لا تفرّقا من مال

__________________

(١) أي : منع وصرف.

(٢) النساء : ١١.

١٧

أوس شيئا ، فإنّ الله قد جعل لهنّ نصيبا ، ولم يبيّن حتى يبيّن ، فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ) (١) الآية ، فأعطى أم كحّة الثمن ، والبنات الثلثين ، والباقي ردّ عليهنّ (٢). وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) قسمة التركة (أُولُوا الْقُرْبى) ممّن لا يرث (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) فأعطوهم شيئا من المقسوم تطييبا لقلوبهم ، وتصدّقا عليهم. وهو أمر ندب للبلّغ من الورثة. وقيل : أمر وجوب ، ثم نسخ بآية (٣) الميراث. وقال سعيد بن جبير : إنّ ناسا يقولون : نسخت ، والله ما نسخت ، ولكنّها ممّا يتهاون به الناس. (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهو أن تدعوا لهم ، ولا تمنّوا عليهم بذلك.

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩))

ولمّا أمر سبحانه بالقول المعروف نهاهم عن خلافه ، وأمر بالأقوال السديدة والأفعال الحميدة ، فقال : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) أمر للأوصياء بأن يخشوا الله ويتّقوه في أمر اليتامى ، ويشفقوا عليهم خوفهم على ذرّيّتهم لو تركوهم ضعافا ، وشفقتهم عليهم ، ويقدّروا ذلك في أنفسهم ويصوّروه ، حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة ، فيفعلوا بهم ما يحبّون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم.

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) في الكشّاف (١ : ٤٧٦ ـ ٤٧٧) : والباقي لبني العمّ.

(٣) النساء : ١١ ـ ١٢.

١٨

أو للحاضرين عند إيصاء المريض ، بأن يخشوا ربّهم ، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم لو كانوا بعدهم ، فلا يتركوا المريض أن يضرّبهم بصرف المال عنهم.

أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين ، متصوّرين أنّهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم ، هل يجوّزون حرمانهم؟

أو للموصين ، بأن ينظروا للورثة ، فلا يسرفوا في الوصيّة.

و «لو» بما في حيّزه جعل صلة لـ «الّذين» على معنى : وليخش الّذين حالهم وصفتهم أنّهم لو شارفوا أن يخلّفوا ذرّيّة ضعافا خافوا عليهم الضياع.

وفيه بعث على الترحّم ، وأن يحبّ لأولاد غيره ما يحبّ لأولاده ، وتهديد للمخالف بحال أولاده.

(فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) موافقا للشرع ، ويخاطبوهم بخطاب جميل. أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى ، تأكيدا ومبالغة. ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم ، بالشفقة وحسن الأدب. أو للمريض ما يصدّه عن الإسراف في الوصيّة وتضييع الورثة ، ويذكّره التوبة وكلمة الشهادة. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سرّه أن يزحزح عن النار ويدخل الجنّة فلتأته منيّته وهو يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله ، ويحبّ أن يأتي إلى الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه».

أو لحاضري القسمة عذرا جميلا ، ووعدا حسنا. أو أن يقول الموصون في الوصيّة ما لا يؤدّي إلى مجاوزة الثلث ، وتضييع الورثة.

روي عن سعد بن أبي وقّاص قال : «مرضت فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعودني.

فقلت : يا رسول الله أوصي بمالي كلّه؟ قال : لا. قلت : بالنصف؟ قال : لا. قلت :

١٩

بالثلث؟ قال : بالثلث والثلث كثير ، إنّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس بأيديهم».

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

ثم أوعد الله سبحانه آكلي مال اليتيم نار جهنّم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) أي : ينتفعون بها على أيّ وجه كان. وتخصيص الأكل بالذكر لأنّه معظم منافع المال المقصود (ظُلْماً) ظالمين ، أو على وجه الظلم (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) ملء بطونهم. يقال : أكل فلان في بطنه ، أي : ملأ بطنه. (ناراً) أي : ما يجرّ إلى النار ويؤول إليها ، وكأنّه نار في الحقيقة.

وروي أنّه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ، ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه ، فيعرف الناس أنّه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا».

وعن أبي بردة أنّه عليه‌السلام قال : «يبعث الله قوما من قبورهم تتأجّج أفواههم نارا.

فقيل : من هم؟ فقال : ألم تر أنّ الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)».

(وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) سيدخلون نارا وأيّ نار ، أي : نارا من نيران مبهمة الوصف. وقرأ ابن عامر وابن عيّاش عن عاصم بضمّ الياء مخفّفا. يقال : صلى النار ، إذا قاسى حرّها ، وصليته : شويته ، وأصليته وصليته : ألقيته فيها. والسعير بمعنى المفعول من : سعرت إذا ألهبتها.

عن الحلبي أنّ الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ في كتاب عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أن آكل مال اليتيم ظلما سيدركه وبال ذلك في عقبه من بعده ، ويلحقه وبال ذلك في الآخرة. أمّا الدنيا فإن الله يقول (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا) الآية. وأمّا في الآخرة

٢٠