زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

فقال : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ) يريد بالإشارة المثبّط نعيما أو أبا سفيان. و «الشيطان» خبر «ذلكم» ، وما بعده جملة مستأنفة بيان لشيطنته. أو صفته ، وما بعده خبر.

ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف ، بمعنى : إنّما ذلكم قول الشيطان ، أي : قول إبليس لعنه الله (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) القاعدين عن الخروج مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أو المعنى : يخوّفكم أولياءه الّذين هم أبو سفيان وأصحابه.

(فَلا تَخافُوهُمْ) الضمير للناس الثاني على الأوّل ، وإلى الأولياء على الثاني (وَخافُونِ) في مخالفة أمري ، فجاهدوا مع رسولي (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإنّ الإيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف الناس.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))

ولمّا علّم الله سبحانه المؤمنين ما يصلحهم عند تخويف الشيطان إيّاهم ، خصّ رسوله بضرب من التعليم ، فقال : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يقعون في الكفر سريعا حرصا عليه. وهم المنافقون من المتخلّفين ، أو قوم ارتدّوا عن الإسلام. والمعنى : لا يحزنك خوف أن يضرّوك ويعينوا عليك ، لقوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أي : لن يضرّوا أولياء الله شيئا بمسارعتهم

٦٠١

في الكفر ، وإنّما يضرّون بها أنفسهم. ونصب «شيئا» بالمفعوليّة أو المصدريّة.

ثمّ بيّن كيف يعود وبال الكفر عليهم بقوله : (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا) نصيبا من الثواب (فِي الْآخِرَةِ) لتمادي طغيانهم ، وقوّة رسوخهم في الكفر. وفي ذكر إرادة الله هنا إشعار بأنّ كفرهم بلغ الغاية حين سارعوا إلى الكفر ، حتّى إنّ أرحم الراحمين أراد أن لا يرحمهم ، فلا يكون لهم حظّ في الآخرة من رحمته. ولهذا الاشعار لم يقل : لن يجعل الله لهم حظّا في الآخرة. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) مع الحرمان عن الثواب.

وفيه دلالة على بطلان مذهب المجبّرة ، لأنّه سبحانه نسب إليهم المسارعة إلى الكفر ، وإذا كان الله قد خلق الكفر فيهم فكيف يصحّ نسبته إليهم؟!

ثمّ استأنف سبحانه الإخبار بإبدالهم الكفر بالإيمان ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تكرير للتأكيد ، أو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلّفين أو ارتدّ من الأعراب. ونصب «شيئا» على المصدر ، لأنّ المعنى : شيئا من الضرر.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إمهال الكفّار لا ينفعهم إذا كان يؤدّي إلى العقاب لا الإهمال ، فقال خطابا للرسول أو لكلّ من يحسب : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ).

«الّذين» مفعول ، و (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) بدل منه. وإنّما اقتصر على مفعول واحد للتعويل على البدل ، فإنّه ينوب عن المفعولين ، كقوله : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) (١). أو المفعول الثاني على تقدير مضاف ، مثل : ولا تحسبنّ الّذين كفروا أصحاب أنّ الإملاء خير لأنفسهم. أو لا تحسبنّ حال الّذين كفروا أنّ الإملاء خير

__________________

(١) الفرقان : ٤٤.

٦٠٢

لأنفسهم. و «ما» مصدريّة ، وكان حقّها أن تفصل في الخطّ ، ولكنّها وقعت متّصلة في الامام فاتّبع.

وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب بالياء ، على أنّ «الّذين» فاعل ، و «أنّ» مع ما في حيّزه مفعول. وفتح ابن عامر وحمزة وعاصم سينه في جميع القرآن.

والإملاء : الإمهال وإطالة العمر. وقيل : تخليتهم وشأنهم ، من : أملى لفرسه ، إذا أرخى له الطول (١) ليرعى كيف يشاء.

ومعنى الآية : لا يظنّنّ الكفّار أنّ إطالتنا لأعمارهم وإمهالنا إيّاهم خير لهم من القتل في سبيل الله بأحد ، لأنّ قتل الشهداء أدّاهم إلى الجنّة ، وبقاء هؤلاء في الكفر يؤدّيهم إلى العقاب.

(إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) استئناف بما هو العلّة. و «ما» كافّة حقّها أن تكتب متّصلة. واللام لام العاقبة. فازدياد الإثم علّة غائيّة للإملاء ، أي : ليكون عاقبة أمرهم ازدياد الإثم.

ومثله قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢) ، فإنّهم إنّما أخذوه ليكون لهم سرورا وقرّة عين ، ولكن لمّا علم الله أنّه يصير في آخر أمره عدوّا وحزنا قال كذلك.

وهاهنا أيضا لمّا كان في علم الله أنّهم يزدادون إثما ظنّ الكفّار أنّ الإملاء لهم خير ، ولكن لمّا علم الله أن آخر أمرهم يصير موجبا لازدياد إثمهم قال كذلك.

ومثله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (٣) ، أي : ذرأنا كثيرا من الخلق سيصيرون إلى جهنّم بسوء أفعالهم. وقد يقول الرجل لغيره وقد نصحه فلم

__________________

(١) طوّل للدابّة : أرخى لها الحبل في المرعى.

(٢) القصص : ٨.

(٣) الأعراف : ١٧٩.

٦٠٣

يقبل نصحه : ما زادك نصحي إلّا شرّا ووعظي إلّا فسادا.

ونظيره قوله تعالى : (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) (١). ومعلوم انّ الرسل ما أنسوهم ذكر الله على الحقيقة ، وما بعثوا إلّا للتذكير والتنبيه دون الإنساء. مع أنّ الإنساء ليس من فعلهم فلا يجوز إضافته إليهم ، ولكنّه إنّما أضيف إليهم لأن دعاءه إيّاهم لمّا كان لا ينجع (٢) فيهم ، ولا يردّهم عن معاصيهم ، فأضيف الإنساء إليهم.

وعلى هذا المعنى قوله تعالى حكاية عن نوح : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٣).

ومثله في قول الشاعر :

أموالنا لذوي الميراث نجمعها

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وأيضا مثله :

فللموت تغذوا الوالدات سخالها

كما لخراب الدهر تبنى المساكن

وقول الآخر :

أأمّ سماك فلا تجزعي

فللموت ما تلد الوالدة

ومثله :

لدوا للموت وابنوا للخراب

ولا يجوز أن يكون اللام لام الإرادة والغرض كما زعمت الأشاعرة ، لأنّ إرادة القبيح قبيحة ، والله تعالى منزّه عنها. ولأنّه لو كانت لام الإرادة لوجب أن يكون الكفّار مطيعين لله سبحانه من حيث فعلوا ما وافق إرادته ، وذلك خلاف الإجماع ، وقد قال الله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٤).

__________________

(١) المؤمنون : ١١٠.

(٢) أي : لا يؤثر.

(٣) نوح : ٦.

(٤) الذاريات : ٥٦.

٦٠٤

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (١). (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٢).

(وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يهينهم في نار جهنّم.

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩))

روي أنّ المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرّقون بها بين المؤمن والمنافق ، فنزلت : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : ليدعهم (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من الإبهام واشتباه المخلص بالمنافق ، أي : لم يكن يجوز في حكم الله أن يذرهم على ما كنتم عليه قبل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل يتعبّدكم (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ) الكافر والمنافق (مِنَ الطَّيِّبِ) من المؤمن.

والخطاب لعامّة المخلصين والمنافقين في عصره. واللام لتأكيد النفي ، كأنّه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال الّتي أنتم عليها ـ من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنّه لا يعرف مخلصكم من منافقكم ، لاتّفاقكم على التصديق جميعا ـ حتّى يميز المنافق من المخلصين ، بالوحي إلى نبيّه بأحوالكم ، أو بالتكاليف الشاقّة الّتي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلّا الخلّص المخلصون منكم ، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ، ليختبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به بواطنكم ، ويستدلّ به على عقائدكم.

وقرأ حمزة : يميّز من : ميّز ، والباقون : يميز من : ماز.

__________________

(١) النساء : ٦٤.

(٢) البيّنة : ٥.

٦٠٥

روي أنّ الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منّا ومن يكفر ، فنزلت : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) وما كان الله ليؤتي أحدكم علم الغيب ، فيطّلع على ما في القلوب من كفر وإيمان ، فلا تظنّوا إذا أخبركم النبيّ بنفاق الرجل أنّه يطّلع على ما في القلوب بنفسه (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ) أي : يختار لرسالته (مَنْ يَشاءُ) ويخبره ببعض المغيّبات ، أو ينصب له ما يدلّ عليها.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بصفة الإخلاص ، أو بأن تعلموا الله وحده مطّلعا على الغيب ، وتعلموا رسله عبادا مجتبين لا يعلمون إلّا ما علّمهم الله تعالى ، ولا يقولون إلّا ما أوحي إليهم.

عن السدّي : أنّ هذه الآية نزلت إذ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عرضت عليّ أمّتي ، وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر.

فقال المنافقون : إنّه يزعم أنّه يعرف من يؤمن به ومن يكفر ، ونحن معه ولا يعرفنا.

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا) حقّ الإيمان (وَتَتَّقُوا) النفاق (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))

ولمّا ذكر سبحانه إمساكهم عن الجهاد في سبيل الله ، بيّن إمساكهم عن الإنفاق الواجب في سبيله ، فقال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) بما أعطاهم من الأموال (هُوَ خَيْراً لَهُمْ) قد سبقت القراءات فيه. ومن قرأ بالتاء هاهنا قدّر مضافا ليتطابق مفعولاه ، أي : ولا تحسبنّ بخل الّذين يبخلون هو خيرا لهم.

وكذلك من قرأ بالياء ، وجعل فاعل «يحسبنّ» ضمير رسول الله ، أو ضمير أحد.

٦٠٦

ومن جعل فاعله (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) كان المفعول الأول عنده محذوفا تقديره : لا يحسبنّ الّذين يبخلون بخلهم هو خيرا لهم ، وإنّما حذف لدلالة «يبخلون» عليه. ولفظ «هو» فصل.

(بَلْ هُوَ) أي : البخل (شَرٌّ لَهُمْ) لاستجلاب العقاب عليهم. وقوله : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) تفسير وبيان لقوله : (هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) أي : سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق. وفي أمثال العرب : تقلّدها طوق الحمامة إذا فعل فعلة يذمّ بها.

وقيل : يجعل ما بخل به من الزكاة حيّة يطوّقها في عنقه يوم القيامة ، تنهشه من قرنه إلى قدمه ، وتنقر رأسه وتقول : أنا مالك.

وهذا قول ابن عبّاس وابن مسعود والسدّي والشعبي وغيرهم. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما من رجل لا يؤدّي زكاة ماله إلّا جعل الله له شجاعا (١) في عنقه يوم القيامة ، ثمّ تلا هذه الآية».

وقال عليه‌السلام : «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل أعطاه الله إيّاه ، فيبخل به عنه ، إلّا أخرج الله له من جهنّم شجاعا أقرع يتلمّظ (٢) بلسانه حتى يطوّقه ، وتلا هذه الآية».

وعن النخعي معناه : يجعل في عنقه يوم القيامة طوقا من نار جهنّم.

وروي عن ابن عبّاس : أنّ المراد بالآية الّذين يبخلون ببيان صفة محمد ، والفضل هو التوراة الّتي فيها صفته. والأوّل أليق بسياق الآية.

(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وله ما فيهما ممّا يتوارث ، فما لهؤلاء يبخلون عليه بما له ، ولا ينفقون في سبيله؟! أو أنّه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله بهلاكهم ، وتبقى عليهم الحسرة والعقوبة. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من

__________________

(١) الشجاع : ضرب من الحيّات.

(٢) تلمّظت الحيّة : أخرجت لسانها.

٦٠٧

المنع والإعطاء (خَبِيرٌ) فيجازيكم.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الالتفات. وهو ابلغ في الوعيد ، وبالياء أظهر.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢))

روي أنّه لمّا نزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (١) قالت اليهود : إنّ الله فقير يستقرض منّا ونحن أغنياء. وقيل : قائله حييّ بن أخطب. فنزلت : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) ذو حاجة ، لأنّه يستقرض منّا (وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) عن الحاجة ، وقد علموا أنّ الله لا يطلب القرض ، وإنّما ذلك تلطّف في الاستدعاء إلى الإنفاق ، وإنّما قالوه تلبيسا على عوامهم.

وقيل : معناه : انّ الله فقير ، لأنّه يضيّق علينا الرزق ، ونحن الأغنياء ، لأنّا نوسّع الرزق على أهالينا.

وقيل : كتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابة أرسلها مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا. فدخل أبو بكر بيتا من مدارسهم ، فوجد ناسا كثيرا منهم اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازورا ، فدعاهم إلى الإسلام والصلاة والزكاة. فقال فنحاص : إن كان ما يقول حقّا فإنّ الله إذا لفقير ونحن أغنياء ، ولو كان غنيّا لما استقرضنا أموالنا. فغضب أبو بكر فلطم على وجه فنحاص ، وقال : لو لا الّذي بيننا وبينكم من

__________________

(١) البقرة : ٢٤٥.

٦٠٨

العهد لضربت عنقك. فشكاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجحد ما قاله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ومعنى سماع الله له : أنّه لم يخف عليه ما قالوا ، وأنّه أعدّ لهم العقاب عليه.

(سَنَكْتُبُ ما قالُوا) سنكتبه في صحائف الحفظة ، أو نثبته في علمنا ولا نهمله ، ولن يفوتنا إثباته ، لأنّه كلمة عظيمة ، إذ هو كفر بالله واستهزاء بالقرآن والرسول ، ولذلك نظمه في سلك قتل الأنبياء ، وقال عطفا على ما قالوا : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) يعني : أنّهما في العظم أخوان ، وأنّ هذا ليس بأوّل ما ركبوه من العظائم ، وأنّ من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول.

والمعنى : سنكتب قتل أسلافهم الأنبياء ورضا هؤلاء ، فنجازي كلّا بفعله. وفيه دلالة على أنّ الرضا بفعل القبيح يجري مجراه في عظم الجرم.

(وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : وننتقم منهم ، بأن نقول لهم يوم القيامة : ذوقوا العذاب المحرق.

وقرأ حمزة : «سيكتب» بالياء وضمّها وفتح التاء ، «وقتلهم» بالرفع ، و «يقول» بالياء. وفيه مبالغات في الوعيد.

والذوق إدراك الطعوم ، وعلى الاتّساع يستعمل لإدراك سائر المحسوسات والحالات.

(ذلِكَ) إشارة إلى العذاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من قتل الأنبياء ، وقولهم هذا ، وسائر معاصيهم. عبّر بالأيدي عن الأنفس ، لأنّ أكثر أعمالها بهنّ ، فجعل كلّ عمل كالواقع بالأيدي على التغليب (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على ما قدّمت. وسببيّته للعذاب من حيث إنّ نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء. فالمعنى : أنّه عادل عليهم ، فيعاقبهم على حسب استحقاقهم. وإنّما ذكر لفظ ظلّام وهو للتكثير ، تأكيدا لنفي الظلم عنه بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراد خلقه.

٦٠٩

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))

قيل : قال جماعة من اليهود ، منهم كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ، ووهب بن يهودا ، وحييّ ، وفنحاص بن عازورا : يا محمد إنّ الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن زعمت أنّ الله بعثك إلينا فجئنا به نصدّقك ، فنزلت : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) أمرنا في التوراة وأوصانا (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصّة الّتي كانت لأنبياء بني إسرائيل ، وذلك بأن يقرّب بقربان ، فيقوم النبيّ فيدعو ، فتنزل نار سماويّة فتأكله ، أي : تحيله إلى طبعها بالإحراق.

وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم ، لأنّ أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلّا لكونه معجزة ، فهو وسائر المعجزات سواء في ذلك.

(قُلْ) يا محمد تكذيبا وإلزاما عليهم (قَدْ جاءَكُمْ) أي : أسلافكم (رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) كزكريّا ويحيى (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الأخر ، موجبة لتصديقهم وصحّة رسالتهم (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) وبما اقترحتموه من القربان (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : فلو كان الموجب للتصديق هو الإتيان به ، وكان توقّفهم وامتناعهم عن الإيمان لأجله ، فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخر واجترأوا على قتله.

وفيه دلالة على عنادهم ، وعلى أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو أتاهم بالقربان المتقبّل كما

٦١٠

أرادوه لم يؤمنوا به ، كما لم يؤمن آباؤهم بالأنبياء والّذي أتوا به وبغيره من المعجزات. وإنّما لم يقطع الله سبحانه عذرهم بما سألوه من القربان الّذي تأكله النار ، لعلمه سبحانه بأنّ في الإتيان به مفسدة لهم ، والمعجزات تابعة للمصالح ، ولأنّ ذلك اقتراح في الأدلّة على الله ، والّذي يلزم على الله أن يزيح عنهم العلّة بنصب الأدلّة فقط.

ثم قال تسلية لرسوله من تكذيب اليهود وقومه : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي : لست بأوّل مكذّب ، بل كذّب قبلك رسل أتوا بالمعجزات الباهرة.

والزبر جمع زبور ، وهو الكتاب الجامع للحكم والمواعظ والزواجر ، من : زبرت الشيء إذا حبسته وزجرته. والكتاب في عرف القرآن ما يتضمّن الشرائع والأحكام ، ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامّة القرآن. والمنير الّذي ينير الحقّ لمن اشتبه عليه.

وقرأ ابن عامر : وبالزبر ، بإعادة الجارّ ، للدلالة على أنّها مغايرة للبيّنات بالذات.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥))

ثم بيّن سبحانه أنّ مرجع الخلق إليه ، فيجازي المكذّبين رسله على أعمالهم من حيث حتم الموت على جميع خلقه ، فقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وعد ووعيد للمصدّق والمكذّب. والمراد بالموت هاهنا انتفاء الحياة ، والقتيل قد انتفت الحياة منه ، فهو داخل في الآية (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) تعطون جزاء أعمالكم ، خيرا كان أو شرّا ، تامّا وافيا يوم قيامكم من القبور. ولفظ التوفية يشعر

٦١١

بأنّه قد يكون قبلها بعض الأجور. ويؤيّده قوله عليه‌السلام : «القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران». فالمراد أنّ تكميل الأجور وتوفيتها يكون ذلك اليوم.

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) نجّي وبعّد عنها. والزحزحة في الأصل تكرير الزحّ ، وهو الجذب بعجلة. (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) بالنجاة من الهلكة ونيل المراد. والفوز الظفر بالبغية.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنّة ، فلتدركه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه». وهذا شامل للمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : لذّاتها وزخارفها (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) شبّهها بالمتاع الرديء الّذي يدلّس به على المستام حتى يشتريه ثم يتبيّن له رداءته. والمدلّس هو الشيطان. وهذا لمن آثرها على الآخرة ، فأمّا من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ. والغرور مصدر ، أو جمع غارّ.

وفي الآية دلالة على أنّ أقلّ نعيم من الآخرة خير من نعيم الدنيا بأسره ، ولذلك قال عليه‌السلام : «موضع سوط في الجنّة خير من الدنيا وما فيها». وفيها دلالة على أنّ كلّ حيّ سيموت.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))

ثمّ بيّن أنّ الدنيا دار محنة وابتلاء ، وأنّها إنّما زويت (١) عن المؤمنين ليصبروا

__________________

(١) أي : صرفت.

٦١٢

فيؤجروا ، فقال : (لَتُبْلَوُنَ) أي : والله لتختبرنّ ، وتوقع عليكم المحن ، وتلحقكم الشدائد (فِي أَمْوالِكُمْ) بتكليف الإنفاق ، وما يصيبها من الآفات (وَأَنْفُسِكُمْ) بالجهاد والقتل والأسر والجراح ، وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب. وإنّما سمّي ذلك بلوى مجازا ، فإنّ حقيقة البلوى الاختبار. والتجربة لا يجوز على الله تعالى ، لأنّه العالم بالأشياء قبل كونها ، وإنّما يفعل ذلك ليتميّز المحقّ عن المبطل.

(وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني : اليهود والنصارى (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعني : كفّار مكّة وغيرهم (أَذىً كَثِيراً) من هجاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والطعن في الإسلام ، وإغراء الكفرة على المسلمين. أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطّنوا أنفسهم على ما سيلقونه من الأذى والشدائد والصبر عليها ، ويستعدّوا للقائها حتّى لا يزلزلهم نزولها.

(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ذلك ولم تجزعوا (وَتَتَّقُوا) مخالفة أمر الله (فَإِنَّ ذلِكَ) يعني : الصبر والتقوى (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) من معزومات الأمور الّتي يجب العزم عليها ، أو ذلك البلاء من محكم الأمور الّذي عزم الله عليه أن يكون وبالغ فيه. والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيء ، نحو إمضائه.

قيل : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف ، وكان يهجو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، ويحرّض المشركين عليهم ، ويشبّب بنساء المسلمين. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لي بابن الأشرف؟ فقال محمد بن سلمة : أنا يا رسول الله. فخرج هو وأبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة ، وأتوا برأسه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر الليل وهو قائم يصلّي.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧))

ثم أكّد الله على أهل الكتاب إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه ، من

٦١٣

صفات النبيّ وغيرها ، فقال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) أي : اذكر وقت أخذه (مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يريد به علماءهم (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) حكاية لمخاطبتهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عيّاش بالياء ، لأنّهم غيّب. واللام جواب القسم الّذي ناب عنه قوله : «أخذ الله ميثاق الّذين». والضمير المنصوب في الفعلين للكتاب.

(فَنَبَذُوهُ) أي : الميثاق (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) فلم يراعوه ، ولم يلتفتوا إليه ، ولم يعلموا به. والنبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد وعدم الالتفات ، ونقيضه جعله نصب عينيه ، وألقاه بين عينيه. (وَاشْتَرَوْا بِهِ) وأخذوا بدله (ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا وأغراضها (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) يختارون لأنفسهم.

وفيه دلالة على أنّه واجب على العلماء أن يبيّنوا الحقّ للناس ، ولا يكتموا شيئا منه لغرض فاسد ، من جرّ منفعة ، أو لبخل بالعلم ، أو تطييب لنفس ظالم ، أو غير ذلك. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار».

وروي الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الحسن بن عمارة قال : «أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه ، فقلت : إن رأيت أن تحدّثني؟ فقال : أما علمت أنّي تركت الحديث؟ فقلت : إمّا أن تحدّثني ، وإمّا أن أحدّثك. فقال : حدّثني. فقلت : حدّثني الحكم بن عيينة ، عن نجم الجزّار ، قال : سمعت عليّ بن أبي طالب يقول : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا. قال : فحدّثني أربعين حديثا».

وعن محمد بن كعب : لا يحلّ لأحد من العلماء أن يسكت على علمه ، ولا يحلّ لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل.

٦١٤

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

روي أنّه عليه‌السلام سأل اليهود عن شيء ممّا في التوراة من نعته فأخبروه بخلاف ما كان فيها ، وأروه أنّهم قد صدّقوه ، وفرحوا بما فعلوا ، فأنزل الله فيهم خاطبا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تَحْسَبَنَ) يا محمّد (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) بما فعلوا من التدليس وكتمان الحقّ. وهذا الموصول أوّل المفعولين (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من الوفاء بالميثاق ، وإظهار الحقّ ، والإخبار بالصدق (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد للفعل الأول (بِمَفازَةٍ) بمنجاة ، ثاني المفعولين ، يعني : فائزين بالنجاة منه (مِنَ الْعَذابِ).

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأوّل وضمّها في الثاني ، على أنّ «الّذين» فاعل ، ومفعولا «يحسبنّ» محذوفان يدلّ عليهما مفعولا مؤكّده. فكأنّه قيل : ولا يحسبنّ الّذين يفرحون بما أتوا ، فلا يحسبنّ أنفسهم بمفازة. أو المفعول الأوّل محذوف ، وقوله «فلا يحسبنّهم» تأكيد للفعل وفاعله ومفعوله الأوّل.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بكفرهم وتدليسهم.

وقيل : نزلت هذه الآية في قوم تخلّفوا عن الغزو ، ثم اعتذروا بأنّهم رأوا المصلحة في التخلّف واستحمدوا به.

وقيل : نزلت في المنافقين ، فإنّهم يفرحون بنفاقهم ، ويستحمدون إلى المسلمين بالايمان الّذي لم يفعلوه على الحقيقة.

ويجوز أن يكون ذلك عامّا لكلّ من أتى حسنة فأعجب بها ، وأحبّ أن

٦١٥

يحمده الناس عليها ، ويثنوا عليه بما ليس فيه من الزهد والعبادة وغير ذلك.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو يملك أمرهم ، ولا يكون لهم خلاص من عذابه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على عقابهم. وقيل : هو ردّ لقولهم : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) (١).

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠))

ولمّا بيّن سبحانه أنّ له ملك السموات والأرض عقّبه ببيان الدلالة على ذلك ، فقال : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : في إيجادهما بما فيهما من العجائب والبدائع (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : تعاقبهما ومجيء كلّ منهما خلف الآخر (لَآياتٍ) لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته ، وكمال علمه ، وعظم قدرته ، وباهر حكمته (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوي العقول الخالصة عن شوائب الحسّ وكدورات الوهم ، كما سبق في سورة البقرة (٢) ، فإنّ أرباب الألباب إذا نظروا إليها نظر الاستدلال يجدونها مضمّنة بأعراض حادثة لا تنفكّ عنها ، وما لا ينفكّ عن الحادث حادث ، وإذا كانت حادثة فلا بدّ لها من محدث موجد ، لأنّ حدوثها يدلّ على أن لها محدثا قادرا. ودلّ ما فيها من البدائع والأمور الجارية على غاية الانتظام على كون محدثها عالما قديما ، لأنّه لو كان محدثا لكان محتاجا إلى محدث ، فيؤدّي إلى التسلسل.

__________________

(١) آل عمران : ١٨١.

(٢) راجع ص : ٢٧٥ ذيل الآية ١٦٤.

٦١٦

ولعلّ الاقتصار على هذه الثلاثة في الآية لأنّ مناط الاستدلال هو التغيّر ، وهذه متعرّضة لجملة أنواعه ، فإنّه إمّا أن يكون في ذات الشيء كتغيّر الليل والنهار ، أو جزئه كتغيّر العناصر بتبدّل صورها ، أو الخارج عنه كتغيّر الأفلاك بتبدّل أوضاعها.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))

ثم وصف الله سبحانه ذوي الألباب بقوله : (الَّذِينَ) أي : هؤلاء الّذين يستدلّون على توحيد الله وعلمه وقدرته بالذات بخلقه السماوات والأرض هم الّذين (يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) قائمين (وَقُعُوداً) وقاعدين (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ومضطجعين ، أي : يذكرونه دائما على الحالات كلّها ، فإنّ أحوال المكلّفين لا تخلوا من هذه الثلاثة. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر ذكر الله».

وحكي أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلّته سحابة ، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظلّه. فقالت له أمّه : لعلّ فرطة فرطت منك في مدّتك.

٦١٧

فقال : ما أذكر. قالت : لعلّك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر. قال : لعلّ. قالت : فما أتيت إلّا من ذاك.

وقيل : معناه : يصلّون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمران بن حصين : «صلّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء». وهذا أيضا رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره (١). ولا تنافي بين التفسيرين ، لأنّه غير ممتنع وصفهم بالذكر في هذه الأحوال وهم في الصلاة.

(وَيَتَفَكَّرُونَ) ويتدبّرون اعتبارا واستدلالا (فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في إبداع صنعتهما وما دبّر فيهما بما تكلّ الأفهام عن إدراك بعض بدائعه ، فيستدلّون على وحدانيّة الله تعالى وكمال قدرته وعلمه وحكمته. وهذا أفضل العبادات ، كما جاء في الحديث : «لا عبادة كالتفكّر» ، وقوله : «تفكّر ساعة خير من عبادة سنة» ، لأنّه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : اشهد أنّ لك ربّا وخالقا ، اللهمّ اغفر لي ، فنظر الله إليه فغفر له».

وقيل : الفكرة تذهب الغفلة ، وتحدث للقلب الخشية ، كما يحدث الماء للزرع النبات. وهذا دليل واضح على شرف علم الكلام وفضل أهله.

(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) على إرادة القول ، أي : يتفكّرون قائلين ذلك.

وهذا إشارة إلى المتفكّر فيه ، أي : الخلق ، على أنّه أريد به المخلوق من السماوات والأرض ، أو إليهما ، لأنّهما في معنى المخلوق.

والمعنى : ما خلقته خلقا عبثا ضائعا من غير حكمة ، بل خلقته لحكم عظيمة ، من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان ، وسببا لمعاشه ، ودليلا يدلّه على

__________________

(١) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ : ١٢٩.

٦١٨

معرفتك ، ويحثه على طاعتك ، لينال الحياة الأبديّة والسعادة السرمديّة في جوارك.

(سُبْحانَكَ) تنزيها لك من العبث وخلق الباطل. وهو اعتراض. (فَقِنا) بلطفك وتوفيقك (عَذابَ النَّارِ) للإخلال بالنظر فيه ، والقيام بما يقتضيه. وفائدة الفاء هي الدلالة على أنّ علمهم بما لأجله خلقت السماوات والأرض حملهم على الاستعاذة.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ الكفر والضلال والقبائح ليست خلقا لله تعالى ، لأنّ هذه الأشياء كلّها باطلة بلا خلاف ، وقد نفي الله تعالى ذلك بحكايته عن أولي الألباب ـ الّذين رضي أقوالهم ـ بأنّه لا باطل فيما خلقه تعالى ، فيجب بذلك القطع على أنّ القبائح كلّها غير مضافة إليه تعالى ، ومنفيّة عنه ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي : فقد أبلغت في إخزائه غاية الإخزاء. ونظيره قوله : من أدرك مرعى الصمان (١) فقد أدرك مرعى ليس بعده مرعى. وهو منقول من الخزي الّذي هو الهوان. وقيل : من الخزاية الّتي هي الاستحياء ، أي : أحللته محلّا يستحيا منه. والمراد بالمعنى الأوّل هو الكافر ، وبالثاني المؤمن الفاسق. والمراد به تهويل المستعاذ منه ، تنبيها على شدّة خوفهم وطلبهم الوقاية منه. وفيه إشعار بأنّ العذاب الروحاني أفظع ، لأنّ الخزي هو الذلّ والهوان ، ولا يكونان إلّا من مؤثّرات النفس لا البدن.

(وَما لِلظَّالِمِينَ) اللام إشارة إلى من يدخل النار ، أي : ليس للمدخلين في النار (مِنْ أَنْصارٍ) يدفعون عنهم العذاب. ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أنّ ظلمهم سبب لإدخالهم النار ، وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص فيها. ولا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة ، لأنّ النصرة دفع بقهر.

__________________

(١) في هامش الخطّية : «جبل فيه مرعى عظيم. منه».

٦١٩

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصف المسمع على المسموع. وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع ، لتكرير الإسناد.

وفي تنكير المنادي وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه ، كما إذا قلت : سمعنا هاديا يهدي إلى الإيمان ، فقد رفعت من شأن الهادي وفخّمته. والمراد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : القرآن.

والنداء والدعاء يعدّى بـ «إلى» واللام ، لتضمّنهما معنى الانتهاء والاختصاص ، أي : داعيا يدعو إلى الايمان. يقال : ناداه لكذا وإلى كذا ، ودعا له وإليه ، ونحوه : وهداه للطريق أو إليه.

(أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) بأن آمنوا ، فامتثلنا (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) كبائرنا ، فإنّها ذات تبعة (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) صغائرنا ، فإنّها مستقبحة ، ولكن مكفّرة عن مجتنب الكبائر. أو اغفر لنا ذنوبنا ابتداء ، وكفّر عنّا سيّئاتنا إن تبنا ، كما قال صاحب الجامع : «جمع بين سؤال المغفرة والتكفير ، لأنّ تكفير السيّئات يكون بالتوبة والمغفرة ، وقد يكون ابتداء من غير توبة» (١).

(وَتَوَفَّنا) واقبضنا إلى رحمتك (مَعَ الْأَبْرارِ) في موضع الحال ، أي : مخصوصين بصحبتهم ، معدودين في زمرتهم.

وفيه تنبيه على أنّهم يحبّون لقاء الله ، ومن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه.

والأبرار جمع برّ أو بارّ ، كأرباب وأصحاب.

(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي : ما وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب. لمّا أظهروا امتثالهم لما أمروا به سألوا ما وعد عليه ، لا خوفا من إخلاف الوعد ، بل مخافة أن لا يكونوا من الموعودين ، لسوء عاقبة ، أو قصور في الامتثال ،

__________________

(١) جوامع الجامع ١ : ٢٦٨.

٦٢٠