زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))

روي أنّ رؤوس اليهود ـ مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا ـ عمدوا إلى مؤمنيهم ـ كعبد الله بن سلام وأصحابه ـ فعيّروهم على إسلامهم ، فنزلت : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) ضررا يسيرا مقصورا بقول من طعن في الدين أو الوعيد (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ) وإن يجاوزوا عن الإيذاء باللسان إلى القتال والمحاربة (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) ينهزموا ، ولا يضرّوكم بقتل وأسر (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ثم لا يكون أحد ينصرهم عليكم ، أو يدفع بأسكم عنهم. فنفي إضرارهم سوى ما يكون بقول ، وقرّر ذلك بأنّهم لو قاموا إلى القتال كانت الدبرة عليهم ، ثم أخبر بأنّ عاقبتهم العجز والخذلان.

وهذه الآية من المغيّبات الّتي وافقها الواقع ، إذ كان كذلك حال قريظة والنظير وبني قينقاع ويهود خيبر.

وإنّما لم يجزم قوله : «لا ينصرون» لأنّه عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، فكأنّه قيل : ثم أخبركم أنّهم لا ينصرون. وهذا تثبيت لمن أسلّم من اليهود ، ووعد لهم بأنّهم منصورون ، فإنّهم كانوا يؤذونهم بالتوبيخ والتهديد.

ثم أخبر عن ذلّتهم وصغارهم بقوله : (ضُرِبَتْ) أثبتت (عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) هدر النفس والمال والأهل ، أو ذلّ التمسّك بالباطل والجزية. وجعلت هذه الأمور محيطة بهم ، كما يضرب ويجعل البيت والخيام والقباب على أهله ، وتحاط عليهم (أَيْنَ ما

٥٤١

ثُقِفُوا) وجدوا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) في محلّ النصب على الحال بتقدير : إلّا معتصمين أو متمسّكين أو ملتبسين بحبل من الله وهو استثناء من أعمّ الأحوال ، أي : ضربت عليهم الذلّة في عامّة الأحوال ، إلّا في حال اعتصامهم بعهد من الله ، وعهد من المسلمين على وجه الذمّة ، وهي قبول الجزية ، أو بدين الإسلام ، واتّباع سبيل المؤمنين.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) رجعوا به مستوجبين له (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) فهي محيطة بهم إحاطة البيت المضروب على أهله. واليهود في غالب الأمر فقراء ومساكين.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلّة والمسكنة والبوء بغضب الله (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) بسبب كفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء.

(ذلِكَ) أي : الكفر والقتل (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى ، فإنّ الإصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر ، والاستمرار عليها يؤدّي إلى الكفر. والتقييد بغير حقّ ، مع أنّه كذلك في نفس الأمر ، للدلالة على أنّه لم يكن حقّا بحسب اعتقادهم أيضا.

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥))

روي أنّه لمّا أسلّم عبد الله بن سلام وجماعة قالت أحبار اليهود : ما آمن

٥٤٢

بمحمد إلّا شرارنا ، فنزلت ردّا عليهم : (لَيْسُوا سَواءً) أي : مستوين. والضمير لمسلمي اليهود والأحبار. وقيل : إنّها نزلت في أربعين من أهل نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، كانوا على عهد عيسى ، وصدّقوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والمعنى : ليس الّذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام والنجاشي وأصحابهما ، والّذين لم يؤمنوا ، سواء في الدرجة والمنزلة.

وقوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) كلام مستأنف لبيان قوله : (لَيْسُوا سَواءً) ، كما أنّ قوله (١) : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) بيان لقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ). والقائمة : المستقيمة العادلة ، من : أقمت العود فقام. وهم الّذين أسلموا من أهل الكتاب.

(يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) أي : القرآن (آناءَ اللَّيْلِ) أي : في تهجّدهم (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) عبّر عن التهجّد وصلاتهم باللّيل بتلاوة آيات الله في ساعات الليل مع السجود ليكون أبين وأبلغ في المدح. وهذا يدلّ على عظم موقع صلاة الليل من الله سبحانه ، وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الأخير خير له من الدنيا وما فيها ، ولولا أن أشقّ على أمّتي لفرضتهما عليهم».

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ البيوت الّتي يصلّى فيها بالليل بتلاوة القرآن تضيء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الأرض. وقال : عليكم بصلاة الليل ، فإنّها سنّة نبيّكم ، ودأب الصالحين قبلكم ، ومطردة الداء عن أجسادكم».

وقيل : المراد صلاة العشاء ، لأنّ أهل الكتاب لا يصلّونها ، لما روي أنّه عليه‌السلام أخّرها ثم خرج فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : «أما إنّه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم».

__________________

(١) راجع ص : ٥٣٩.

٥٤٣

(يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) بتوحيده وصفاته اللائقة به (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) المتأخّر عن الدنيا ، يعني : البعث ليوم القيامة (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالإقرار بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبجميع ما جاء به من المأمورات (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن إنكار نبوّته وبما جاء به من المنهيّات (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يبادرون إلى فعل الطاعات خوف الفوات بالموت.

وهذه صفات أخر لـ «أمّة» ، وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود ، فإنّهم منحرفون عن الحقّ ، غير متعبّدين في الليل ، مشركون بالله ، ملحدون في صفاته ، واصفون اليوم الآخر بخلاف صفته ، مداهنون في الاحتساب ، متباطئون في الخيرات.

(وَأُولئِكَ) أي : الموصوفون بتلك الصفات (مِنَ الصَّالِحِينَ) ممّن صلحت أحوالهم عند الله تعالى ، واستحقّوا رضاه وثناءه. ولا يحتاج إلى ذكر مقابليهم من أمّة غير قائمة ، لأنّه قد تقدّم (١) صفتهم في قوله : (يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ ...) إلخ».

(وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) فلن يضيع ولا ينقص ثوابه البتّة. سمّى ذلك كفرانا كما سمّى توفية الثواب شكرا ، وعدّاه إلى مفعولين ، لتضمّنه معنى الحرمان ، كأنّه قال : فلن تحرموه ، أي : لن تحرموا جزاءه. وقرأ أهل الكوفة إلّا أبا بكر بالياء فيهما ، والباقون بالتاء ، إلّا أبا عمرو ، فإنّه كان يخيّر.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) بشارة لهم ، وإشعار بأنّ التقوى مبدأ الخير وحسن العمل ، وأنّ الفائز عند الله هو أهل التقوى. والآية تدلّ على أنّ شيئا من أعمال الخير والطاعة لا تبطل البتّة ، خلافا لقول من قال بالإحباط.

__________________

(١) في ص : ٥٤٢.

٥٤٤

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧))

ولمّا تقدّم وصف المؤمنين عقّبه سبحانه ببيان حال الكافرين ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) لن تدفع عنهم (أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) من العذاب أو من الفناء ، فيكون مصدرا. وإنّما خصّ الأموال والأولاد بالذكر لأنّ هذين معتمد الخلق وأعزّ الأشياء عليهم ، فإذا لم يغنيا عن الإنسان شيئا فغيرهما غناؤه أبعد. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) ملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي : دائمون.

ثم ضرب لهم مثلا لإنفاقهم فقال : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) شبّه ما يخرجون من أموالهم لا يبتغون بها وجه الله ، بل مفاخرة وسمعة. وقيل : ما ينفقون على الكفّار في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنفقه أبو سفيان وأصحابه ببدر وأحد لمّا تظاهروا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو ما أنفق سفلة اليهود على علمائهم ، أي : ما أنفقوا جميع صدقاتهم ونفقاتهم ، أو ما ينفق المنافقون رياء وخوفا.

(فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) برد شديد. والشائع إطلاقه للريح الباردة كالصرصر. وهو في الأصل مصدر نعت به ، أو نعت وصف به للمبالغة ، كقولك : برد بارد. (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي (فَأَهْلَكَتْهُ) عقوبة لهم ، لأنّ الإهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ.

والمراد تشبيه ما أنفقوا في ضياعه بحرث كفّار ضربته صرّ فاستأصلته ، ولم

٥٤٥

يبق لهم فيه منفعة مّا في الدنيا والآخرة ، بخلاف حرث المسلم المؤمن ، فلا يذهب على الكلّية ، لأنّه وإن كان يذهب صورة إلّا أنّه لا يذهب معنى ، لما فيه من حصول الأعواض لهم في الآخرة ، والثواب بالصبر على الذهاب.

وهذا من التشبيه المركّب ، أعني : تشبيه كفرهم يبطل ثواب نفقتهم بالريح الباردة تهلك الحرث ، ولذلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه الريح دون الحرث. فلا يقال : الكلام غير مطابق للغرض حيث جعل «ما ينفقون» ممثّلا بالريح. ويجوز أن يقدّر : كمثل مهلك ريح ، وهو الحرث ، فهو من تشبيه المفرد.

(وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) في إهلاك زرعهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي : ما ظلم المنفقين بضياع نفقاتهم ، ولكن ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها على الوجه الّذي يستحقّ به الثواب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠))

ولمّا بيّن الله أن مآل شأن الكفّار خسارة الدارين نهى المؤمنين عن موالاتهم

٥٤٦

ومخالطتهم ، خوف الفتنة منهم عليهم ، فيصيبهم ما أصابهم ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) أي : لا تتّخذوا الكافرين خواصّ أوليائكم وخلّصكم ، فإنّ بطانة الرجل وليجته وخاصّته وصفيّه الّذي يعرفه الرجل ويفشي إليه أسراره ثقة به. شبّه ببطانة الثوب ، كما شبّه بالشعار. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأنصار شعار ، والناس دثار». (مِنْ دُونِكُمْ) من غير أبناء جنسكم ، وهم المسلمون. وهو متعلّق بـ «لا تتّخذوا» ، أو بمحذوف هو صفة بطانة ، أي : بطانة كائنة من دونكم.

ثمّ بيّن العلّة في المنع من مواصلتهم فقال : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) لا يقصّرون لكم في ما يؤدّي إلى فساد أمركم ، ولا يتركون جهدهم وطاقتهم فيما يورثكم الشرّ ، والألو : التقصير. وأصله أن يعدّى بالحرف ، ثمّ عدّي إلى المفعولين ، كقولهم : لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا ، على تضمين معنى المنع أو النقص. والمعنى : لا أمنعك نصحا ولا أنقصك. والخبال : الفساد.

(وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) تمنّوا عنتكم ، وهو شدّة الضرر والمشقّة. وأصله : إنهاض العظم بعد جبره. و «ما» مصدريّة. (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي : ظهرت على ألسنتهم وفي فلتات كلامهم أمارات العداوة لكم ، لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من البغضاء (أَكْبَرُ) ممّا بدا ، لأنّ بدوّه ليس عن فكرة واختيار (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحات الدالّة على وجوب الإخلاص ، وموالاة المؤمنين ، ومعاداة الكافرين (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ما يبيّن لكم.

والجمل الأربع جاءت مستأنفات على التعليل للنهي عن اتّخاذهم بطانة. ويجوز أن تكون الثلاث الأول صفات لـ «بطانة». وأما «قد بيّنّا» فكلام مبتدأ.

عن ابن عبّاس : أنّ نزول هذه الآية في شأن رجال من المسلمين كانوا يواصلون رجالا من اليهود ، لما كان بينهم من الصداقة والقرابة والجوار والحلف والرضاع.

٥٤٧

ثم بيّن سبحانه ما هم عليه من عداوة المؤمنين ، تأكيدا للنهي عن مصافاتهم ، فقال : (ها) للتنبيه (أَنْتُمْ) مبتدأ (أُولاءِ) خبره ، أي : أنتم أولاء الخاطئون في موالاة الكفّار. وقوله (تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) بيان لخطئهم في موالاتهم. وهو خبر ثان ، أو خبر لـ «أولاء» ، والجملة خبر «أنتم» كقولك : أنت زيد تحبّه ، أو صلته ، أو حال والعامل فيها معنى الاشارة. ويجوز أن ينتصب «أولاء» بفعل يفسّره ما بعده ، أي : أنتم تحبّون هؤلاء ، وتكون الجملة خبرا.

(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي : وأنتم تؤمنون ، لتكون الجملة اسميّة ، فيجوز دخول واو الحال عليها. والمراد بالكتاب جنس الكتاب كلّه. وذو الحال هو ضمير مفعول «يحبّونكم». والمعنى : أنّهم لا يحبّونكم والحال أنّكم تؤمنون بكتابهم أيضا ، فما بالكم تحبّونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم؟! وفيه توبيخ بأنّهم في باطلهم أصلب منكم في حقّكم.

(وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) نفاقا وتغريرا (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) أطراف الأصابع (مِنَ الْغَيْظِ) من أجل الغيظ والغضب ، لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ، ونصرة الله إيّاهم ، تأسّفا وتحسّرا حيث لم يجدوا إلى التشفّي سبيلا. وعضّ الأنامل والبنان من صفة المغتاظ والنادم.

(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) دعاء عليهم بدوام غيظهم وزيادة ما يغيظهم بتضاعف قوّة الإسلام وعزّ أهله ، وما لهم في ذلك من الذلّ والخزي حتى يهلكوا به ويصلوا إلى النار. فكأنّه قال : أماتكم الله بغيظكم. ويجوز أن يكون هذا أمرا للرسول بطيب النفس وقوّة الرجال ، والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظا ، بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، ولا يكون هناك قول ، كأنّه قيل : حدّث نفسك بذلك.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما في صدورهم من الغيظ والنفاق. وهذا يحتمل أن يكون من المقول ، أي : وقل لهم إنّ الله عليم بما هو أخفى ما تخفونه من عضّ الأنامل غيظا ، وأن يكون خارجا عن القول ، يعني : قل لهم ذلك ، ولا تتعجّب

٥٤٨

من اطّلاعي إيّاك على أسرارهم ، فإنّي عليم بالأخفى من ضمائرهم.

ثمّ بيّن الله تناهي عداوتهم بقوله : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) من نصرة وغنيمة ونعمة من الله (تَسُؤْهُمْ) تحزنهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) محنة بإصابة العدوّ منكم ونحوها (يَفْرَحُوا بِها) أي : حسدوا ما أنالكم من خير ومنفعة ، وشمتوا بما أصابكم من ضرّ وشدّة. والمسّ مستعار للإصابة ، فكان المعنى واحدا ، ألا ترى إلى قوله : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) (١). وقوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٢). وقوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٣).

(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على عداوتهم وأذاهم أو على مشاقّ التكاليف الشرعيّة (وَتَتَّقُوا) عن موالاتهم ، أو عمّا حرّم الله عليكم (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) مكر المنافقين وسائر المشركين (شَيْئاً) بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتّقين ، فكنتم في كنف الله وحفظه. وأيضا المجدّ في الأمر المعتاد بالاتّقاء والصبر يكون قليل الانفعال عن المصيبة ، جريئا على الخصم. وضمّ الراء لاتباع العين ، كضمّ مدّ. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب : لا يضركم ، من : ضاره يضره.

(إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من الصبر والتقوى وغيرهما (مُحِيطٌ) محيط علمه ، أي : عالم بذلك من جميع جهاته ، فيجازيكم بما أنتم أهله.

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١))

ولمّا أمر الله سبحانه بالصبر في قوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) عقّبه بنصرة

__________________

(١) التوبة : ٥٠.

(٢) النساء : ٧٩.

(٣) المعارج : ٢٠ ـ ٢١.

٥٤٩

المسلمين يوم بدر وصبرهم على القتال ، ثم ذكر امتحانهم يوم أحد لمّا تركوا الصبر ، فقال : (وَإِذْ غَدَوْتَ) أي : واذكر إذ خرجت غدوة (مِنْ أَهْلِكَ) من حجرة عائشة إلى احد (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) تنزلهم ، أو تسوّي وتهيّء لهم. ويؤيّده القراءة باللام (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) مواقف وأماكن له. وقد يستعمل المقعد والمقام بمعنى المكان على الاتّساع ، كقوله : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) (١) ، وقوله : (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) (٢). (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بنيّاتكم.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان سبب غزاة أحد أنّ قريشا لمّا رجعت من بدر إلى مكّة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر ، لأنّه قتل منهم سبعون وأسر سبعون ، قال أبو سفيان : يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم ، فإنّ الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمّد. فلمّا غزوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد أذنوا لنسائهم في البكاء والنوح ، وخرجوا من مكّة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل ، وأخرجوا معهم النساء. فلمّا بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك جمع أصحابه وحثّهم على الجهاد.

فقال عبد الله بن أبي سلول : يا رسول الله لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقّتها ، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح ، ونحن على حصوننا ودروبنا نرميهم السهام والأحجار ، فيكون الظفر لنا ، وما خرجنا إلى عدوّ لنا قطّ إلّا كان له الظفر علينا.

فقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا : يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام ، فكيف يطمعون بنا وأنت فينا؟! فنخرج إليهم نقاتلهم ، فمن قتل منّا كان شهيدا ، ومن نجا منّا كان مجاهدا في سبيل الله.

__________________

(١) القمر : ٥٥.

(٢) النمل : ٣٩.

٥٥٠

فقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيه. فقال عليه‌السلام : رأيت في منامي بقرا مذبوحا حولي ، فأوّلتها خيرا. ورأيت في ذباب (١) سيفي ثلما ، فأوّلته هزيمة. ورأيت كأنّي أدخلت يدي في درع حصينة ، فأوّلتها المدينة.

فخرج مع نفر من أصحابه يتبوّءون موضع القتال. وقعد عنه عبد الله بن أبي سلول ، وتبع رأيه جماعة من الخزرج. ووافت قريش إلى أحد. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبّأ أصحابه ، وكانوا سبعمائة رجل ، ووضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب كمينا ، فقال لهم : إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكّة فلا تبرحوا من هذا المكان ، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم.

ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا ، وقال : إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم.

وعبّأ رسول الله أصحابه ، ودفع الراية إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام. فحمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة ، وأصحاب رسول الله وقعوا في سوادهم حتى ظهروا عليهم. ونظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله ينتهبون سواد القوم فقالوا لعبد الله بن جبير : قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة. فقال لهم عبد الله : اتّقوا الله ، فإنّ رسول الله قد أمرنا أن لا نبرح من هاهنا ، فلم يقبلوا منه ، فانسلّ رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم ، وبقي عبد الله بن جبير في اثني عشر رجلا.

وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدي من بني عبد الدار ، فقتله عليّ عليه‌السلام. فأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة ، فقتله عليّ عليه‌السلام. وسقطت الراية فأخذه مسافع بن أبي طلحة فقتله عليّ عليه‌السلام ، حتى قتل تسعة من بني عبد الدار ، حتى

__________________

(١) ذباب السّيف : طرفه الذي يضرب به.

٥٥١

صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له : ثواب ، فانتهى إليه عليّ عليه‌السلام فقطع يده اليمنى ، فأخذ اللواء باليسرى فضرب يسراه فقطعها ، فاعتنقها بالجذماوين (١) إلى صدره ، ثم التفت إلى أبي سفيان فقال : هل أعذرت في بني عبد الدار ، فضربه عليّ عليه‌السلام على رأسه فقتله. فسقط اللواء ، فأخذتها عمرة بنت علقمة الكنانيّة فرفعتها.

وانحطّ خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير وقد فرّ أصحابه وبقي في نفر قليل ، فقتلهم على باب الشعب ، ثم أتى المسلمين من أدبارهم. ونظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها. وانهزم أصحاب رسول الله هزيمة عظيمة ، وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كلّ وجه. فلمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : إليّ أنا رسول الله ، إلى أين تفرّون؟ عن الله وعن رسوله! وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر ، فكلّما انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلا ومكحلة وقالت : إنّما أنت امرأة فاكتحل بهذا.

وكان حمزة بن عبد المطّلب يحمل على القوم ، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد. وكانت هند قد أعطت وحشيّا عهدا لئن قتلت محمّدا أو عليّا أو حمزة لأعطينّك كذا وكذا. وكان وحشي عبدا لجبير بن مطعم حبشيّا. فقال وحشي : أمّا محمّد فلا أقدر عليه ، وأمّا عليّ فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمح فيه ، فكمنت لحمزة. قال : فرأيته يهدّ (٢) الناس هدّا ، فمرّ بي فوطئ على جرف نهر فسقط ، فأخذت حربتي فهززتها ورميته بها فوقعت في خاصرته وخرجت من ثنّته (٣) ،

__________________

(١) تثنية الجذماء ، أي : اليدين المقطوعتين.

(٢) أي : يكسرهم ويوهي جمعهم ، من : هدّ البناء ، أي : كسره وضعضعه.

(٣) الثّنّة : ما دون السرّة فوق العانة أسفل البطن.

٥٥٢

فشققت بطنه فأخذت كبده وجئت به إلى هند فقلت : هذه كبد حمزة ، فأخذتها في فمها فلاكتها ، فجعله الله في فمها مثل الداعضة ، وهي عظم رأس الركبة ، فلفظتها ورمتها. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فبعث الله ملكا فحمله وردّه إلى موضعه. قال : فجاءت إليه فقطعت مذاكيره ، وقطعت أذنيه ، وقطعت يده ورجله.

ولم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أبو دجانة سماك بن خرشة وعليّ عليه‌السلام. فكلّما حملت طائفة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استقبلهم عليّ عليه‌السلام فدفعهم عنه ، حتى تقطّع سيفه ، فدفع إليه رسول الله سيفه ذا الفقار. وانحاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ناحية أحد فوقف. وكان القتال من وجه واحد ، فلم يزل عليّ عليه‌السلام يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه ويديه وبطنه ورجليه سبعون جراحة. فقال جبرائيل عليه‌السلام : إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد. فقال : إنّه منّي ، وأنا منه. فقال جبرائيل : وأنا منكما.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جبرائيل عليه‌السلام بين السماء والأرض على كرسيّ من ذهب وهو يقول : لا سيف إلّا ذو الفقار ، ولا فتى إلّا علي». كذا أورده عليّ بن إبراهيم في تفسيره (١).

وروي ابن أبي إسحاق والسدّي والواقدي وابن جرير وغيرهم قالوا : كان المشركون نزلوا بأحد يوم الأربعاء اثني عشر شوّال سنة ثلاث من الهجرة ، وخرج رسول الله إليهم يوم الجمعة ، وكان القتال يوم السبت للنصف من الشهر. وكسرت رباعية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشجّ في وجهه. ثم رجع المهاجرون والأنصار بعد الهزيمة ، وقد قتل من المسلمين سبعون. وشدّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمر ، فوقى الله المسلمين ونصرهم ، فانهزم الكفّار ، وغلب المسلمون عليهم.

__________________

(١) راجع تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ١ : ١١٠ ـ ١١٦.

٥٥٣

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)) (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩))

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متى كان يخرج من المدينة مع أصحابه وعد لهم النصر إن صبروا ، فلمّا بلغوا طرف الوادي انخزل عبد الله بن أبيّ في ثلاثمائة رجل وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وقال : أنشدكم الله في نبيّكم وأنفسكم. فقال ابن أبيّ : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) (١). فهمّ بنو سلمة من

__________________

(١) آل عمران : ١٦٧.

٥٥٤

الخزرج وبنو الحارثة من الأوس ـ وكانا جناحي العسكر ـ أن يتبعا ابن أبيّ فعصمهم الله ، فمضوا مع رسول الله ، فقال تعالى في حقّهما : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ) حيّان منكم : بنو سلمة وبنو حارثة. وهذه الشرطيّة متعلّقة بقوله : «سميع عليم» ، أو بدل من «إذ غدوت» (أَنْ تَفْشَلا) أن تجبنا وتضعفا (وَاللهُ وَلِيُّهُما) أي : متولّي أمرهما وعاصمهما من اتّباع ابن أبيّ المنافق ، أو ناصرهما (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فليتوكّلوا عليه ولا يتوكّلوا على غيره ، لينصركم الله كما نصركم ببدر.

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بهم من النصر يوم بدر ، فقال : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) بتقوية قلوبكم ، وبما أمدّكم من الملائكة ، وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم. وبدر ماء بين مكّة والمدينة ، كان لرجل يسمّى بدرا فسمّي به (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) حال من الضمير. وإنّما قال : أذلّة ، ولم يقل : ذلائل ، ليدلّ على قلّتهم مع ذلّتهم ، لضعف الحال ، وقلّة المراكب والسلاح. وذلك لأنّهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، سبعة وسبعين من المهاجرين ، ومائتان وستّة وثلاثين من الأنصار. وخرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد ، وما كان معهم إلّا فرسان ، فرس لمقداد بن عمرو ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد. وكان معهم من السلاح ستّة أدرع وثمانية أسياف ، ومن الإبل سبعون بعيرا. وكان عدد المشركين نحو ألف مقاتل ، ومعهم مائة فرس.

(فَاتَّقُوا اللهَ) في الثبات (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لتقوموا بشكر ما أنعم به عليكم ـ بتقواكم ـ من نصره ، أو لعلّكم ينعم الله عليكم فتشكرون ، فوضع الشكر موضع الإنعام ، لأنّه سببه. وقد روي عن الموافقين والمخالفين أنّ صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وقوله : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ظرف لـ «نصركم» على أن يكون قال لهم ذلك يوم بدر ، والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : بدل ثان من «إذ غدوت» على أن قوله ذلك

٥٥٥

لهم يوم أحد مع اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة ، فلمّا لم يصبروا عن الغنائم ولم يتّقوا حيث خالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. لم تنزل الملائكة.

وقوله : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) إنكار أن لا يكفيهم ذلك. وإنّما جيء بـ «لن» إشعارا بأنّهم كانوا كالآيسين من النصر ، لضعفهم وقلّتهم ، وقوّة العدوّ وكثرتهم. وقيل : أمدّهم الله تعالى يوم بدر أوّلا بنزول ألف من الملائكة ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف. وقرأ ابن عامر : منزّلين بالتشديد ، للتكثير أو للتدريج. وعن ابن عبّاس : أنّ الملائكة لم يقاتلوا إلّا يوم بدر ، وكانوا في غيره من الأيّام عدّة ومددا.

(بَلى) إيجاب لما بعد «لن» أي : بلى يكفيكم الإمداد.

ثم وعد لهم الزيادة على الصبر والتقوى ، حثّا عليهما وتقوية لقلوبهم ، فقال : (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ) أي : المشركون (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) من ساعتهم هذه. وهو في الأصل مصدر : فارت القدر إذا غلت ، فاستعير للسرعة ، ثم للحال الّتي لا مكث فيها ولا تراخي. والمعنى : إن يأتوكم في الحال (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) في حال إتيان الكفّار بلا تراخ وتأخير (مُسَوِّمِينَ) معلمين ، من التسويم الّذي هو إظهار سيما الشيء ، لقوله عليه‌السلام : «تسوّموا ، فإنّ الملائكة قد تسوّمت».

عن ابن عبّاس والحسن وقتادة : أنّ الملائكة أعلموا بالصوف في نواصي الخيل وأذنابها. وقال عروة : نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق (١) ، وعليهم عمائم صفر. وقال عليّ عليه‌السلام : «كانت عليهم عمائم بيض أرسلوها بين أكتافهم».

وقال السدّي : معنى مسوّمين ـ بالفتح ـ : مرسلين ، من الناقة السائمة ، أي : المرسلة في المرعى.

__________________

(١) بلق وأبلق بلقا : كان في لونه سواد وبياض ، فهو أبلق ، وجمعه بلق.

٥٥٦

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو ، بمعنى : المعلمين أنفسهم أو خيلهم.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ) وما جعل إمدادكم بالملائكة (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) إلّا بشارة لكم بالنصر (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) ولتسكن إليه قلوبكم من الخوف (وَمَا النَّصْرُ) بإمداد الملائكة (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من العدّة والعدد. وهو تنبيه على أنّه لا حاجة في نصرهم إلى مدد ، وإنّما أمدّهم ووعد لهم بالمدد بشارة لهم ، وربطا على قلوبهم ، من حيث إنّ نظر العامّة إلى الأسباب أكثر ، وحثّا على أن لا يبالوا بمن تأخّر عنهم (الْعَزِيزِ) الّذي لا يغالب في حكمه (الْحَكِيمِ) الّذي يعطي النصر ويمنعه بحسب ما يراه من المصلحة والحكمة.

وقوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) متعلّق بـ «نصركم» ، أو «وما النصر» إن كان اللام فيه للعهد. والمعنى : لينقص الكفرة بقتل بعض وأسر آخرين ، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من صناديدهم. وإنّما لم يقل : ليقطع وسطا منهم ، لأنّه لا يوصل إلى الوسط منهم إلّا بقطع الطرف ، ولأنّ الطرف أقرب إلى المؤمنين ، فهو كما قال : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) (١).

(أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أو يخزيهم بالخيبة ممّا أملوا من الظفر بكم ويغيظهم بالهزيمة. والكبت : شدّة الغيظ ، أو وهن يقع في القلب. و «أو» للتنويع دون الترديد. (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) فينهزموا منقطعي الآمال غير ظافرين.

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) جملة معترضة (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) عطف على قوله : «أو يكبتهم». والمعنى : أنّ الله تعالى مالك أمرهم ، فإمّا أن يهلكهم ، أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذّبهم إن أصرّوا ، فليس لك من أمرهم شيء ، وإنّما أنت نبيّ مبعوث مأمور لإنذارهم وجهادهم. ويحتمل أن يكون

__________________

(١) التوبة : ١٢٣.

٥٥٧

معطوفا على «الأمر» أو «شيء» بإضمار «أن» ، أي : ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء ، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم. وأن تكون «أو» بمعنى «إلّا أن» أي : ليس لك من أمرهم شيء إلّا أن يتوب الله عليهم فتسرّ به ، أو يعذّبهم فتشفّى منهم.

روي : أنّ عتبة بن أبي وقّاص شجّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد وكسر رباعيته ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم بالدم؟ فنزلت. وقيل : همّ أن يدعو عليهم فنهاه الله تعالى ، لعلمه بأنّ فيهم من يؤمن. (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) قد استحقّوا التعذيب بظلمهم.

لمّا قال : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) عقّب ذلك بأنّ الأمر كلّه له ، فقال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وملكا ، فله الأمر كلّه (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) وإنّما أبهم الأمر في التعذيب والمغفرة ليقف المكلّف بين الخوف والرجاء ، فلا يأمن من عذاب الله ، ولا ييأس من روح الله ورحمته (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بعباده ، فلا تبادر إلى الدعاء عليهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

٥٥٨

(١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦))

ولمّا ذكر سبحانه أنّ له التعذيب لمن يشاء ويغفر لمن يشاء ، وصل ذلك بالنهي عمّا لو فعلوه لاستحقّوا عليه العذاب ، وهو الربا ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) لا تزيدوا زيادات مكرّرة. والتخصيص بحسب الواقع ، إذ كان الرجل منهم إذا بلغ الدّين محلّه زاد في الأجل ، فربّما استغرق بالشيء اليسير مال المديون. وذكر الأكل لأنّه معظم الانتفاع ، وإن كان غيره من التصرّفات أيضا منهيّا عنه. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب : مضعفة.

(وَاتَّقُوا اللهَ) فيما نهيتم عنه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) راجين الفلاح ، أو لكي تنجحوا بإدراك ما تأملونه ، وتفوزوا بثواب الجنّة.

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ) هيّئت (لِلْكافِرِينَ) بالتحرّز عن متابعتهم وتعاطي أفعالهم. والوجه في تخصيص الكافرين بإعداد النار لهم أنّهم معظم أهل النار. وفيه تنبيه على أنّ النار بالذات معدّة للكفّار ، وبالعرض للعصاة. وكان أبو حنيفة يقول : هي أخوف آية في القرآن ، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتّقوه في اجتناب محارمه. ثم أتبع الوعيد بالوعد ، ترهيبا عن المخالفة ، وترغيبا في الطاعة ، فقال :

(وَأَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم به (وَالرَّسُولَ) فيما شرع لكم (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) راجين الرحمة ، أو لكي ترحموا فلا يعذّبكم. وطاعة الرسول هي طاعة الله ، فوجه

٥٥٩

ذكرهما معا شيئان : أحدهما : أن المقصد بهما طاعة الرسول فيما دعا إليه مع القصد لطاعة الله. والثاني : ليعلم أنّ من أطاعه فيما دعا إليه فهو كمن أطاع الله ، فيسارع إلى ذلك بأمر الله تعالى. وفي ذكر «لعلّ» و «عسى» في نحو هذه المواضع ما لا يخفى على العارف الفطن ، من دقّة مسلك التقوى ، وصعوبة إصابة رضا الله ، وعزّة التوصّل إلى رحمته وثوابه.

(وَسارِعُوا) وبادروا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنّة الإقبال على ما يستحقّ به المغفرة ، كالاسلام والتوبة والإخلاص في الطاعات الواجبة والمندوبة. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : في أداء الفرائض. وقرأ نافع وابن عامر : سارعوا بلا واو.

(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) والمراد وصفها بالسعة والبسطة ، فشبّهت بأوسع ما علمه الناس من خلق الله وأبسطه. وخصّ العرض على طريق التمثيل ، لأنّه دون الطول في العادة ، فيدلّ على أنّ الطول أعظم ، وليس كذلك لو ذكر الطول دون العرض. أو لم يرد به العرض الّذي هو خلاف الطول ، وإنّما أراد سعتها وعظمها ، والعرب إذا وصفت الشيء بالسعة وصفته بالعرض. ولمّا كانت الجنّة فوق السماوات السبع تحت العرش ، والنار تحت الأرضين السبع ، كما هو المرويّ ، فلا يقال : إذا كانت الجنّة في السماء فكيف يكون لها هذا العرض؟ أو إذا كانت الجنّة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار؟ وعن ابن عبّاس : كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض.

(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) هيّئت لهم. وفيه دليل على أنّ الجنّة مخلوقة ، لأنّها لا تكون معدّة إلّا وهي مخلوقة ، وأنّها خارجة عن هذا العالم.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) صفة مادحة للمتّقين ، أو مدح منصوب أو مرفوع (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) في حال الرخاء واليسر ، وفي حال الضيق والعسر ، أو الأحوال كلّها ، إذ الإنسان لا يخلو عن مسرّة أو مضرّة ، أي : لا يخلون في حال ما بإنفاق ما

٥٦٠