زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

وخصّهما بالمزيّة ، لكونهما سببا للوجود ، وإنعامهما بالتربية. ثمّ ذكر ذوي القربى ، لأنّهم أقرب إلى المكلّف من غيرهم ، ثمّ ذكر حقّ اليتامى ، لضعفهم وعجزهم. ثم الفقراء لفقرهم.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

وبعد الإخبار عن أخذ الميثاق من اليهود ذكر نقض مواثيقهم وعهودهم بقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أي : ميثاق أسلافكم الّذين كانوا في زمن موسى والأنبياء صلوات الله على نبيّنا وعليهم أجمعين. وإنّما أضاف الميثاق إليهم لما كانوا أخلافا لهم ومعتقدين عقيدتهم. وقوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) على نهج قوله : (لا تَعْبُدُونَ). والمراد به أن لا يتعرّض بعضهم بعضا بالقتل والإجلاء عن الوطن. وإنّما جعل قتل الرجل غيره قتل نفسه ، لاتّصاله به نسبا أو

١٨١

دينا ، أو لأنّه يوجبه قصاصا ، فيكون بمنزلة من قتل نفسه.

وقيل : معناه : لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم ، أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبديّة ، فإنّه القتل في الحقيقة ، ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنّة الّتي هي داركم الأبديّة ، فإنّه الجلاء الحقيقي.

(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بالميثاق واعترفتم بلزومه (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) جملة حاليّة توكيدا ، كقولك : أقرّ فلان شاهدا على نفسه. وقيل : وأنتم أيّها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق. فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازا.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) معنى «ثمّ» استبعاد لما ارتكبوه بعد أخذ الميثاق منهم والإقرار به والشهادة عليه. وأصلها للتراخي في الزمان ، ثمّ استعمل في التراخي الرتبي.

و «أنتم» مبتدأ و «هؤلاء» خبره. ومعناه : أنتم أيّها المقرّون الشاهدون بعد ذلك هؤلاء الناقضون ، يعني : أنّكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين ، كقولك : رجعت بغير الوجه الّذي خرجت به ، تنزيلا لتغيّر الصفة منزلة تغيّر الذات. وعدّهم باعتبار ما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان حضورا ، وباعتبار ما سيحكي عنهم ـ وهو قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا) (١) ـ غيّبا.

وقوله : (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) إمّا حال والعامل فيها معنى الإشارة ، أو بيان لقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ). وقيل : «هؤلاء» تأكيد ، والخبر هو الجملة. وقيل : «هؤلاء» بمعنى الّذين ، والجملة صلته ، والمجموع هو خبر «أنتم».

وقوله : (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) حال من فاعل «تخرجون» أو مفعوله ، أو كليهما. والتظاهر : التعاون من الظهر. وقرأ عاصم والكسائي وحمزة بحذف إحدى التاءين تخفيفا.

__________________

(١) البقرة : ٨٦ ، وسيأتي تفسيرها في ص : ١٨٤.

١٨٢

(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) من غير ملّتكم ، أي : وأنتم مع قتلكم من تقتلون من فريقكم إذا وجدتم أسيرا من الأسارى في أيدي غيركم من أعدائكم. (تُفادُوهُمْ).

روي أنّ قريظة كانوا حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج ، فإذا اقتتلا عاون كلّ فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها ، وإذا أسر أحد الفريقين جمعوا له حتى يفدوه بعد تقضّي الحرب ، تصديقا لما في التوراة ، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ، لا يعرفون جنّة ولا نارا ، ولا قيامة ولا كتابا ، فوبّخ الله هؤلاء اليهود بما فعلوا.

وقيل : معناه : إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدّوا لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم ، كقوله : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (١).

وقرأ حمزة : أسرى. وهو جمع أسير ، كجرحى وجريح ، وأسارى جمعه ، كسكرى وسكارى ، وقيل : هو أيضا جمع أسير.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر : تفدوهم ، وغيرهم تفادوهم ، لأنّ الفعل بين الاثنين.

(وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) متعلّق بقوله : (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) وما بينهما اعتراض. والضمير للشأن ، أو مبهم تفسيره : إخراجهم ، أو راجع إلى ما دلّ عليه «تخرجون» من المصدر. و «إخراجهم» بدل أو بيان.

والمعنى : وإخراجكموهم من ديارهم حرام عليكم ، كما أنّ تركهم أسرى في أيدي عدوّهم حرام عليكم ، فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوّهم ، وهما جميعا في الحكم لازم عليكم؟! (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) أي : بالفداء (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أي : بحرمة

__________________

(١) البقرة : ٤٤.

١٨٣

القتال والإجلاء. (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كقتل قريظة وسبيهم ، وضرب الجزية على غيرهم. وأصل الخزي ذلّ بما يستحيا منه ، ولذلك يستعمل في كلّ من الذلّ والاستحياء (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) الّذي أعدّه الله لأعدائه ، وهو العذاب الّذي لا روح فيه مع اليأس من التخلّص ، لأنّ عصيانهم أشدّ ، ولهذا أكّد هذا الوعيد بقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي : الله سبحانه لا يغفل عن أفعالهم ، بل هو حافظ لها ومجاز عليها. وقرأ عاصم في رواية المفضّل : «تردّون» على الخطاب ، لقوله تعالى : (مِنْكُمْ) ، وابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ويعقوب : «عمّا يعملون» بالياء ، على أنّ الضمير لـ «من».

واعلم : أنّ هذه الآية لا تقتضي صحّة اجتماع الإيمان والكفر الّذي هو مناف للمذهب الصحيح ، لأنّ المعنى أنّهم أظهروا التصديق ببعض الكتاب والإنكار ببعض. وفيها تسلية لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ترك قبول اليهود قوله وانحيازهم عن الإيمان به ، فكأنّه يقول : كيف يقبلون قولك ويسلّمون لأمرك ويؤمنون بك وهم لا يعملون بكتابهم مع إقرارهم به وبأنّه من عند الله تعالى؟!

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) آثروا الحياة الدنيا على الآخرة ، ورضوا بها عوضا من نعيم الآخرة (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) بنقص الجزية في الدنيا ، وتهوين التعذيب في الآخرة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي : لا ينصرهم أحد بدفعهما عنهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧))

١٨٤

ثمّ ذكر سبحانه إنعامه عليهم بإنزال كتابه وإرسال رسله إليهم ، وما قابلوه به من تكذيبهم ، فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني : أعطيناه التوراة جملة واحدة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أرسلنا على أثره الرسل ، أي : رسولا بعد رسول ، يتبع الآخر الأوّل في الدعاء إلى وحدانيّة الله تعالى ، والقيام بشرائعه على منهاج واحد ، لأنّ كلّ من بعثه الله نبيّا بعد موسى إلى زمن عيسى عليه‌السلام ـ كيوشع وأشموئيل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريّا ويحيى وغيرهم ـ فإنّما بعثه بإقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ذلك ، كقوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) (١) أي : واحدا بعد واحد. يقال : قفّاه إذا أتبعه ، وقفّاه به أتبعه إيّاه من القفا ، نحو : ذنبه من الذنب (٢).

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات الدالّة على نبوّته ، كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار بالمغيّبات ، أو الإنجيل الّذي هو جامع للآيات الفاصلة بين الحلال والحرام.

وعيسى بالعبريّة أيشوع ، بمعنى المبارك. ومريم بمعنى الخادم. وهو بالعربيّة من رامه يريمه ريما إذا فارقه ، وريم بالرجل إذا قطع به ، على وزن مفعل ، إذ لم يثبت فعيل. وزير في مقابلته ، أي : رجل كثير الزيارة للنساء. قال رؤبة :

قلت لزير لم تصله مريمه

ضليل أهواء الصبا تندّمه (٣)

__________________

(١) المؤمنون : ٤٤.

(٢) ذنبه يذنبه : تلا ذنبه فلم يفارق أثره. (لسان العرب ١ : ٣٩٠)

(٣) الزير : من يكثر مودّة النساء وزيارتهنّ. والمريم : من تكثر مودّة الرجال وزيارتهم. ولعلّ معناه : أن ندمه ضالّ ضائع في أهواء الصّبا.

١٨٥

(وَأَيَّدْناهُ) قوّيناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بالروح المقدّسة ، كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدق ، في إضافة الاسم إلى المصدر. أراد به جبرئيل ، أي : أيّدنا عيسى بجبرئيل من أوّل صغره إلى كبره ، فكان يسير معه حيث سار ، ولمّا همّ اليهود بقتله لم يفارقه حتى صعد به إلى السماء ، وكان تمثّل لمريم عند حملها به وبشّرها به.

وقيل : روح عيسى ، ووصفها به لطهارته عن مسّ الشيطان ، أو لكرامته على الله ، ولذلك أضافها إلى نفسه ، أو لأنّه لم تضمّه الأصلاب والأرحام الطوامث ، أو لغلبة الروحانيّة عليه ، فشابه الروحانيّين ، أو الإنجيل ، أو الاسم الأعظم الذي كان يحيي به الموتى. وقرأ ابن كثير القدس بالإسكان في جميع القرآن.

ثمّ خاطب اليهود توبيخا وتعجيبا فقال : يا معشر اليهود (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) أي : بما لا تحبّه ، يقال : هوي بالكسر هوى إذا أحبّ ، وهوى بالفتح هويّا بالضمّ إذا سقط. ووسّط بين الفاء وما تعلّقت به ـ وهو قوله : «وآتينا» ـ همزة التوبيخ والتعجيب في شأنهم. ويجوز أن يكون استئنافا ، والفاء للعطف على مقدّر ، أي : أأعرضتم فكلّما ... إلخ.

وقوله : «استكبرتم» مجمل تفصيله قوله : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) عن الإيمان واتّباع الرسل ، كموسى وعيسى (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) كزكريّا ويحيى ، فالفاء لتفصيل الاستكبار. ويجوز أن يكون للسببيّة. وإنّما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضارا لها في النفوس ، وتصويرا لها في القلوب ، فإنّ الأمر فظيع ، ومراعاة للفواصل ، أو للدلالة على أنّكم بعد فيه ، فإنّكم حاولتم قتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو لا أنّي أعصمه منكم ، ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة.

١٨٦

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند موته : ما زالت أكلة خيبر تعادّني (١) ، فهذا أوان قطعت أبهري. وأضاف الفعل المذكور إليهم وإن باشره آباؤهم ، لأنّهم رضوا بفعل أسلافهم فأضيف الفعل إليهم.

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨))

ثمّ رجع الكلام إلى الحكاية عن اليهود وعن سوء مقالهم وفعالهم فقال : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف ، أي : مغشّاة بأغطية خلقيّة لا يصل إليها ما جاء به محمد ولا تفهمه ، مستعار من الأغلف الّذي لم يختن ، كقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) (٢). وقيل : أصله غلف جمع غلاف فخفّف ، أي : أنّها أوعية العلم لا تسمع علما إلا وعته ولا تعي ما تقول ، أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره.

ثمّ ردّ الله عليهم لما قالوا بقوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي : ليس ذلك كما زعموا أنّ قلوبهم خلقت كذلك ، لأنّها خلقت على الفطرة ، لكن الله لعنهم وخذلهم بسبب صميم كفرهم ، وأبعدهم من رحمته ، لتوغّلهم في عنادهم ولجاجهم (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) فإيمانا قليلا يؤمنون. و «ما» مزيدة للمبالغة في التقليل ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب ، وذلك قليل بالإضافة إلى ما جحدوه من حرمة القتال والإجلاء والتصديق بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبما جاء به. وقيل : أراد بالقلّة العدم ، كما يقال : قلّ ما رأيت هذا قطّ ، أي : ما رأيته قطّ. وهذا أصحّ ، لموافقته لمذهبنا في أنّه لا إيمان لهم أصلا.

__________________

(١) في هامش الخطّية : «من العداد ، وهو اهتياج وجع اللديغ. منه». أي : تراجعني ويعاودني ألم سمّها في أوقات معلومة. والأبهر : الظهر. والأبهران : العرقان اللذان يخرجان من القلب. انظر مستدرك الحاكم ٣ : ٥٨.

(٢) فصّلت : ٥.

١٨٧

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١))

عن ابن عبّاس : كانت اليهود يستفتحون ، أي : يستنصرون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مبعثه ، فلمّا بعثه الله من العرب ولم يكن من بني إسرائيل كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : يا معشر اليهود اتّقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن أهل الشرك ، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث ، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالّذي كنّا نذكر لكم. فنزلت.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعنى : القرآن (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من الكتب الّتي أنزلها الله تعالى قبل القرآن ، من التوراة والإنجيل وغيرهما. وجواب «لمّا» محذوف ، نحو : كذّبوا به ، واستهانوا بمجيئه ، وما أشبه ذلك ، دلّ على المحذوف جواب «لمّا» الثانية.

١٨٨

(وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ) أي : يستنصرون (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) على المشركين ، ويقولون : اللهمّ انصرنا بنبيّ آخر الزمان ، المنعوت في التوراة ، لنقتل المشركين معه قتل عاد وإرم. أو يفتحون عليهم ، ويعرّفونهم أنّ نبيّا يبعث منهم ، وقد قرب زمانه. والسين للمبالغة ـ أي : يسألون أنفسهم الفتح عليهم ، كالسّين في «استعجب واستسخر» ـ والإشعار بأنّ الفاعل يسأل ذلك عن نفسه.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) من الحقّ (كَفَرُوا بِهِ) حسدا وخوفا على رئاستهم وانسداد وظائفهم كما مرّ (فَلَعْنَةُ اللهِ) أي : غضبه وعقابه (عَلَى الْكافِرِينَ) أي :

عليهم. فأتى بالمظهر موضع المضمر للدلالة على أنّهم لعنوا لكفرهم ، فيكون اللام للعهد. ويجوز أن يكون للجنس ، ويدخل اليهود فيه دخولا قصديّا ، لأنّ الكلام سيق بالأصالة فيهم.

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) «ما» نكرة بمعنى شيء مميّزة لفاعل «بئس» المستكن ، و «اشتروا» صفته. ومعناه : باعوا أو اشتروا بحسب ظنّهم ، فإنّهم ظنّوا أنّهم خلّصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا. والمخصوص بالذمّ قوله : (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ).

ولمّا كان البيع والشراء إزالة ملك المالك إلى غيره بعوض يعتاضه منه ، ثمّ يستعمل ذلك في كلّ معتاض من عمله عوضا خيرا كان أو شرّا ، واليهود أو بقوا نفوسهم بكفرهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهلكوها ، فخاطبهم الله بما كانوا يعرفونه ، فقال : بئس الشيء الّذي رضوا به عوضا من الإيمان بالله ، وما أنزله الله على نبيّه ، وما أعدّ لهم به من ثواب الله ، الكفر به وما أعدّ لهم بكفرهم من النار.

(بَغْياً) طلبا لما ليس لهم ، وحسدا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ كان من ولد إسماعيل ، وكانت الرسل قبل من بني إسرائيل ، وهو علّة «يكفروا» دون «اشتروا» للفصل.

(أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) لأن ينزّل ، أو حسدوه على أن ينزّل الله. وقرأ ابن كثير وأبو

١٨٩

عمرو ويعقوب بالتخفيف. (مِنْ فَضْلِهِ) يعني : الوحي والنبوّة (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) على من اختاره للرسالة ، كما تقتضيه حكمته الباهرة.

(فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) للكفر والحسد على من هو أفضل الخلق. وقيل : لكفرهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد عيسى ، أو بعد قولهم : عزير ابن الله ، وقولهم : يد الله مغلولة ، أو لأجل تضييعهم أحكام التوراة ونعوت خير الأنبياء ، وغير ذلك من أنواع كفرهم ، فصاروا أحقّاء لغضب مترادف متعاقب.

(وَلِلْكافِرِينَ) وللجاحدين نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَذابٌ مُهِينٌ) يريد به إذلالهم ، بخلاف عذاب العاصي ، فإنّه طهرة لذنوبهم ، وتمحيص وتكفير لها ، فمن ينتقل من عذاب النار إلى الجنّة من عصاة المؤمنين لا يكون عذابه مهينا.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) يعمّ الكتب المنزلة بأسرها (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي : بالتوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) يجحدون بما سواه ، حال من الضمير في «قالوا» أي : قالوا ذلك والحال أنّهم يكفرون بما وراء التوراة. و «وراء» في الأصل مصدر جعل ظرفا ، ويضاف إلى الفاعل ، فيراد ما يتوارى به وهو خلفه ، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدّامه ، ولذلك عدّ من الأضداد.

(وَهُوَ الْحَقُ) والضمير لما وراءه ، والمراد به القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) من التوراة ، لأنّ تصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أنزل معه من القرآن مكتوب عندهم في التوراة. وهو حال مؤكّدة تتضمّن ردّ مقالتهم بأنّهم لمّا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها.

ثمّ ردّ الله تعالى عليهم قولهم : نؤمن بما أنزل علينا فقال : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اعتراضا عليهم بقتل الأنبياء مع ادّعاء الإيمان بالتوراة ، والتوراة لا تسوّغه. وإنّما أسند القتل إليهم لأنّه فعل آبائهم ، وأنّهم راضون به عازمون عليه كما مرّ غير مرّة. وقرأ نافع وحده : أنبياء الله مهموزا في كلّ القرآن ،

١٩٠

مأخوذا من النبأ بمعنى الخبر ، والباقون بالياء من النبوة بمعنى الرفعة.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ الإيمان بكتاب من كتب الله لا يصحّ إذا لم يحصل الإيمان بما سواه من كتب الله المنزلة الّتي هي مثله في اقتران المعجزة.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣))

ثمّ حكى سبحانه عنهم ما يدلّ على قلّة بصيرتهم في الدين ، وضعفهم في اليقين ، فقال : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) يعني : الآيات التسع المذكورة في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) (١) الدالّة على صدقه (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها معبودا (مِنْ بَعْدِهِ) بعد مجيء موسى بالبيّنات ، أو بعد ذهابه إلى الطور (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) واضعون العبادة في غير موضعها. وهو حال ، يعني : اتّخذتم العجل ظالمين بعبادته ، أو بالإخلال بآيات الله ، أو اعتراض بمعنى : وأنتم قوم عادتكم الظلم.

ومساق الآية لإبطال قولهم : نؤمن بما أنزل علينا ، والتنبيه على أنّ طريقتهم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طريقة أسلافهم مع موسى عليه‌السلام ، لا لتكرار القصّة.

وكذا ما بعدها ، وهو قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا)

__________________

(١) الإسراء : ١٠١.

١٩١

أي : قلنا لهم خذوا (ما آتَيْناكُمْ) ما أمرتم به في التوراة (بِقُوَّةٍ) بجدّ (وَاسْمَعُوا) سماع طاعة (قالُوا سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك ، أى : سمعناه ولكن لا سماع طاعة (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) تداخل فيها حبّه ، ورسخ فيها صورته ، لفرط شغفهم وحرصهم بعبادته ، كما يتداخل الصبغ الثوب ، والشراب أعماق البدن. و (فِي قُلُوبِهِمُ) بيان لمكان الإشراب ، كقوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (١).

وليس معنى «أشربوا» أنّ غيرهم فعل ذلك بهم ، بل هم الفاعلون ، كما يقول القائل : أنسيت ذلك من النسيان ، وليس يريد أنّ غيره فعل ذلك به ، ويقال : اوتي فلان علما جمّا ، وإن كان هو المكتسب. وقيل : إنّما أشرب حبّ العجل قلوبهم من زيّنه عندهم ودعاهم إليه ، كالسامريّ وشياطين الإنسان والجنّ.

وقوله : (بِكُفْرِهِمْ) معناه بسبب كفرهم ، وذلك لأنّهم كانوا مجسّمة أو حلوليّة ، ولم يروا جسما أعجب منه ، فتمكّن في قلوبهم ما سوّل لهم السّامريّ. وليس المعنى أنّهم اشربوا حبّ العجل جزاء على كفرهم ، لأنّ محبّة العجل كفر قبيح ، والله سبحانه لا يفعل الكفر في العبد لا ابتداء ولا جزاء ؛ بل معناه أنّهم بسبب كفرهم بالله اشربوا حبّ العجل.

(قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) أي : بالتوراة. والمخصوص بالذمّ محذوف ، نحو عبادة العجل ، أو هذا الأمر ، أو ما يعمّه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث إلزاما عليهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تقرير للقدح في دعواهم الإيمان بالتوراة ، وتقديره : إن كنتم مؤمنين بها ما أمركم إيمانكم بهذه القبائح ، وما رخّص لكم فيها إيمانكم بها ، أو إن كنتم مؤمنين بها فبئس ما أمركم به إيمانكم بها ، لأنّ المؤمن لا يتعاطى إلا ما يقتضيه إيمانه ، لكنّ الإيمان بها لا يأمرهم بذلك ، فإذا لستم بمؤمنين.

__________________

(١) النساء : ١٠.

١٩٢

ففي هذا نفي عن التوراة أن يكون يأمر بشيء يكرهه الله من أفعالهم ، وإعلام بأنّ الّذي يأمرهم بذلك أهواؤهم ، ويحملهم عليه آراؤهم.

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

ثمّ عاد سبحانه إلى الاحتجاج على اليهود بما فضح به أحبارهم وعلماءهم ، ودعاهم إلى قضيّة عادلة بينه وبينهم ، فقال : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) خاصّة بكم كما قلتم : لن يدخل الجنّة إلا من كان هودا ، ونصبها على الحال من الدار (مِنْ دُونِ النَّاسِ) سائرهم أو المسلمين ، واللام للعهد على الاحتمال الثاني (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأنّ من أيقن أنّه من أهل الجنّة اشتاقها ، وأحبّ التخلّص إليها من الدار الّتي فيها أنواع المشاقّ والهموم والآلام والغموم ، وتمنّى سرعة الوصول إلى نعمها اللذيذة العظيمة الدائمة ، كما روي أنّ عليّا عليه‌السلام كان يطوف بين الصفّين بصفّين في غلالة (١) ، فقال له ابنه الحسن عليه‌السلام : ما هذا بزيّ المحاربين ، فقال : يا بنيّ لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط أم سقط الموت عليه.

وقال عمّار بصفّين : الآن ألا في الأحبّة ، محمدا وحزبه. ويروي أنّ حبيب بن

__________________

(١) الغلالة : الثوب الذي يلبس تحت الثياب أو تحت درع الحديد.

١٩٣

مظاهر ضحك يوم الطّف ، فقيل له في ذلك ، فقال : أيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا الموضع؟ والله ما هو إلّا أن يقبل علينا هذا القوم بسيوفهم فنعانق الحور العين.

وقال حذيفة ـ رضى الله عنه ـ حين احتضر : جاء حبيب على فاقة ، لا أفلح من ندم ، أي : على التمنّي ، سيّما إذا علم أنّ الدار الآخرة سالمة لا يشاركه فيها غيره.

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من موجبات النار ، كالكفر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن ، وتحريف التوراة. ولمّا كانت اليد العاملة مختصّة بالإنسان آلة لقدرته ، بها عامّة صنائعه ، ومنها أكثر منافعه ، عبّر بها عن النفس تارة والقدرة أخرى. وهذا من المعجزات ، لأنّه إخبار بالغيب ، وكان كما أخبر ، لأنّهم لو تمنّوا لنقل واشتهر ، فإنّ التمنّي ليس من عمل القلب ليخفي ، بل هو أن يقول : ليت لي كذا ، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولي المطاعن في الإسلام أكثر من الذرّ ، وليس أحد منهم نقل ذلك.

وروي الكلبي عن ابن عبّاس أنّه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لهم : إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا : اللهمّ أمتنا ، فو الّذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلا غصّ (١) بريقه فمات مكانه. وبرواية أخرى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو تمنّوا الموت لغصّ كلّ إنسان بريقه فمات مكانه ، وما بقي يهوديّ على وجه الأرض.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تهديد لهم ، وتنبيه على أنّهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم من دخول الجنّة ونفيه عمّن هو لهم.

ثمّ أخبر عن حرصهم على الحياة بقوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) من «وجد» بعقله الجاري مجرى «علم» ، كقولهم : وجدت زيدا ذا

__________________

(١) غصّ بالطعام والماء : اعترض في حلقه شيء منه فمنعه التنفّس.

١٩٤

الحفاظ (١). ومفعولاه «هم» و «أحرص». وتنكير حياة لأنّه أريد فرد مخصوص من أفرادها ، وهي الحياة المتطاولة.

(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) محمول على المعنى ، فكأنّه قال : أحرص من الناس ومن الّذين أشركوا. وإفرادهم بالذكر للمبالغة ، فإنّ حرصهم شديد ، إذ لم يعرفوا إلّا الحياة العاجلة ، وللزيادة في التوبيخ والتقريع ، فإنّه لمّا زاد حرصهم وهم مقرّون بالجزاء على حرص المنكرين ، دلّ ذلك على علمهم بأنّهم صائرون إلى النار.

ويجوز أن يراد : وأحرص من الّذين أشركوا ، فحذف لدلالة (أَحْرَصَ النَّاسِ) عليه.

وقيل : من الّذين أشركوا المجوس ، لأنّهم كانوا يحيّون مملوكهم ويقولون : عش ألف نيروز وألف مهرجان. قال ابن عبّاس : هو قول بعض الأعاجم منهم لمن عطس : هزار سال بزي (٢).

ويجوز أن يكون (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) خبر مبتدأ محذوف صفته (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) على أنّه أريد بالّذين أشركوا اليهود ، لأنّهم قالوا : عزير ابن الله ، أي : ومنهم ناس يودّ أحدهم. وهو على الوجهين الأوّلين بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف.

وقوله : (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) حكاية لودادهم. و «لو» بمعنى ليت. وكان أصله لو أعمّر ، فأجري على الغيبة لقوله : «يودّ» ، كقولك : حلف بالله ليفعلنّ. وأصل سنة سنوة ، لقولهم : سنوات. وقيل : سنهة كجبهة ، لقولهم : سانهته ، وتسنّهت النخلة إذا أتت عليها السنون.

(وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) الضمير لـ «أحدهم» و «أن يعمّر»

__________________

(١) يقال : إنه لذو حفاظ ، أي : أن له أنفة.

(٢) زي بالفارسيّة بمعنى : عش ، وهزار بمعنى : ألف ، وسال بمعنى : عام ، أي : عش ألف سنة.

١٩٥

فاعل مزحزحه ، أي : وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره ، يعني : لا يبعّده منه أن يطول له البقاء ، لأنّه لا بدّ للعمر من الفناء. أو لما دلّ عليه «يعمّر» من مصدره ، و «أن يعمّر» بدل منه. أو مبهم و «أن يعمّر» مبيّنه. والزحزحة التنحية والتبعيد.

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازيهم. في هذه الآية دلالة على أنّ الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا مذموم ، وإنّما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة ، وتلافي الفائت بالتوبة والإنابة ، ودرك السعادة بالإخلاص في العبادة ، وإلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله : بقيّة عمر المؤمن لا قيمة له ، يدرك بها ما فات ، ويحيي بها ما أمات.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨))

عن ابن عبّاس : أنّ ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك لمّا قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة سألوه فقالوا : يا محمد كيف نومك ، فقد أخبرنا عن نوم النبيّ الّذي يأتي في آخر الزمان؟

فقال : تنام عيناي وقلبي يقظان.

قالوا : صدقت يا محمد. فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟

فقال : أمّا العظام والعصب والعروق فمن الرجل ، وأمّا اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة.

قالوا : صدقت يا محمد. فما بال الولد يشبه أعمامه وليس فيه من شبه أخواله شيء ، أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شيء؟

١٩٦

فقال : أيّهما علا ماؤه كان الشبه له.

قالوا : صدقت يا محمد.

قالوا : فأخبرنا عن ربّك ما هو؟ فأنزل الله سبحانه (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إلى آخر السورة.

فقال ابن صوريا : خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتّبعتك ، أيّ ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟

فقال له : جبرئيل.

قال : ذاك عدوّنا ينزل بالقتال والشدّة وسائر النوازل والمصائب ، وأشدّها أنّه أنزل على نبيّنا أنّ بيت المقدس سيخرّبه بخت نصّر ، فبعثنا من يقتله ، فرآه ببابل غلاما مسكينا فدفع عنه جبرئيل ، وقال : إن كان ربّكم أمره بهلاككم فلا يسلّطكم عليه ، وإلّا فبم تقتلونه؟ وميكائيل ينزل الخصب واليسر والرخاء والسلام ، فلو كان ميكائيل هو الّذي يأتيك لآمنّا بك ، فنزلت : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ).

قرأ حمزة والكسائي على وزن سلسبيل. وقرأ ابن كثير : جبريل ، بكسر الراء وحذف الهمزة. وقرأ عاصم : جبرئيل كجحمرش. وقرأ الباقون : جبريل كقنديل. ومنع صرفه للعجمة والتعريف. ومعناه عبد الله.

(فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) فإنّ جبريل نزّل القرآن. أضمر ما لم يسبق ذكره فخامة لشأنه ، كأنّه لتعيّنه وفرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره (عَلى قَلْبِكَ) فإنّه القابل الأوّل للوحي ، ومحلّ الفهم والحفظ. وكان حقّه : على قلبي ، لكنّه جاء على حكاية كلام الله ، كأنّه قال : قل ما تكلّمت به (بِإِذْنِ اللهِ) بأمره وتيسيره ، حال من فاعل «نزّل» (مُصَدِّقاً) موافقا (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب (وَهُدىً وَبُشْرى) وهاديا ومبشّرا بالنعيم الدائم (لِلْمُؤْمِنِينَ) أحوال من مفعوله. وإنّما خصّ الهدى بالمؤمنين من

١٩٧

حيث كانوا هم المهتدين به ، العاملين بما فيه ، وإن كان هدى لغيرهم أيضا.

والظاهر أنّ جواب الشرط (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ). والمعنى : فمن عادى منهم جبريل فقد خلع ربقة الإنصاف ، أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إيّاه ، فإنّه نزّل كتابا مصدّقا لما بين يديه من الكتب ، فيكون مصدّقا لكتابهم ، فلو أنصفوا لأحبّوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما يصحّح الكتاب المنزل عليهم ، فحذف الجواب وأقيم علّته مقامه ، أو : من عاداه فالسبب في عداوته أنّه نزّل عليك.

وقيل : محذوف ، مثل : فليمت غيظا ، أو فهو عدوّ لي وأنا عدوّه ، كما قال : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) أراد بعداوة الله مخالفته عنادا ، أو معاداة المقرّبين من عباده ، وصدّر الكلام بذكره تعالى تفخيما لشأنهم ، كقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (١).

وأفرد الملكان بالذكر لمزيّة فضلهما ، كأنّهما من جنس آخر ، وهو (٢) ممّا ذكر أنّ التغاير في الوصف ينزّل منزلة التغاير في الذات. والتنبيه على أنّ معاداة الواحد والكلّ سواء في الكفر واستجلاب العداوة من الله تعالى ، وأنّ من عادى أحدهم فكأنّه عادى الجميع ، إذ الموجب لمحبّتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد. ولأنّ المحاجّة كانت فيهما.

ولم يقل : «فإنّه» لئلّا يتوهّم أنّه يرجع إلى جبرئيل أو ميكائيل. ووضع الظاهر وهو «للكافرين» موضع المضمر ـ أعني : لهم ـ للدلالة على أنّه تعالى عاداهم لكفرهم ، وأنّ عداوة الملائكة والرّسل كفر.

وقرأ نافع : ميكائل كميكاعل ، وأبو عمرو ويعقوب وعاصم : ميكال كميعاد.

__________________

(١) التوبة : ٦٢.

(٢) أي : وتنزيل الملكين منزلة كونهما من جنس آخر من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ ، فإن مغايرة وصفهما لأوصاف سائر الملائكة تنزّل منزلة التغاير في الذات.

١٩٨

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

عن ابن عبّاس أنّ ابن صوريا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل عليك من آية فنتّبعك لها ، فأنزل الله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) ظاهرات واضحات ، تفصل بين الحقّ والباطل. وهي القرآن وما فيها من الدلالات وسائر المعجزات (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) أي : المتمرّدون من

١٩٩

الكفرة. والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره ، فإن كان في الكفر فهو أعظم الكفر ، وإن كان فيما دون الكفر فهو أعظم المعاصي ، كأنّه متجاوز عن حدّه. واللام للجنس. والأولى أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب.

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على محذوف ، تقديره : أكفروا بالآيات وكلّما عاهدوا عهدا؟ أراد به العهد الّذي أخذه الأنبياء على أممهم أن يؤمنوا ويطيعوا الأوامر الإلهيّة (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) نقضه. وأصل النبذ الطرح والرفض ، لكنّه يغلب فيما ينسى. وإنّما قال : «فريق» لأنّ بعضهم لم ينقض.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالتوراة ، وليسوا من الدين في شيء ، فلا يبالون بنقض الميثاق ، ولا يعدّونه ذنبا ، ولهذا كانت اليهود موسومين بالغدر ونقض العهود ، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا ، وكم عاهدوا لرسول الله فلم يفوا ، فينقضون عهدهم في كلّ مرّة. وهذا ردّ لما يتوهّم أنّ الفريق هم الأقلّون ، أو أنّ من لم ينبذ جهارا فهم يؤمنون به خفاء.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) كعيسى ومحمد (نَبَذَ فَرِيقٌ) ترك وألقى طائفة (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ) يعني التوراة ، لأنّ كفرهم بالرسول المصدّق لها كفر بها فيما يصدّقه ، ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيّدين بالآيات. وقيل : القرآن.

وقوله : (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مثّل لإعراضهم عنه رأسا بالإعراض عمّا يرمى به وراء الظهر ، لعدم الالتفات إليه.

(كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّه كتاب الله ، يعني : أنّ علمهم به راسخ ، ولكن يتجاهلون عنادا. قال الشعبي : هو بين أيديهم يقرءونه ، ولكن نبذوا العمل به. وقال سفيان بن عيينة : أدرجوه في الحرير والديباج ، وحلّوه بالذهب والفضّة ، ولم يحلّوا حلاله ، ولم يحرّموا حرامه. فالنبذ بهذا المعنى.

وهاتان الآيتان دالّتان على أنّ معظم اليهود أربع فرق :

٢٠٠