زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

١
٢

٣
٤

(١٧)

سورة الإسراء

(بني إسرائيل)

مكّيّة كلّها. وهي مائة وإحدى عشرة آية. في حديث أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين ، أعطي في الجنّة قنطارين من الأجر ، والقنطار ألف أوقيّة ومائتا أوقيّة ، والأوقيّة منها خير من الدنيا وما فيها».

روى الحسن بن أبي العلاء عن الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة بني إسرائيل في كلّ ليلة جمعة لم يمت حتّى يدرك القائم ، ويكون من أصحابه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١))

ولمّا ختم الله سبحانه سورة النحل بذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، افتتح سورة بني إسرائيل أيضا بذكره وبيان إسرائه إلى المسجد الأقصى ، فقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً). «سبحان» اسم بمعنى التسبيح. وقد يستعمل علما له ، فينقطع عن الإضافة ، ويمنع عن الصرف. قال :

قد قلت لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

٥

وانتصابه يفعل متروك إظهاره. والتقدير : أسبح الله سبحان. ثمّ نزّل منزلة الفعل ، فسدّ مسده. ودلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح والمعائب والنواقص. وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عمّا ذكر بعد. وأسرى وسرى بمعنى.

و «ليلا» نصب على الظرف. وفائدته ـ مع أنّ الإسراء لا يكون إلّا بالليل ـ الدلالة بتنكيره على تقليل مدّة الإسراء من مكّة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة. وذلك أنّ التنكير فيه معنى البعضيّة. والمعنى : أنزّه عن صفة العجز الّذي أذهب عبده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جزء من الليل.

(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بعينه ، لما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان ، إذ أتاني جبرئيل بالبراق».

أو من الحرم ، وسمّاه المسجد الحرام ، لأنّ كلّه مسجد ، أو لأنّه محيط به ، لما روي أنّه كان نائما في بيت أمّ هانئ أخت عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بعد صلاة العشاء ، فأسري به ورجع من ليلته ، وقصّ القصّة عليها ، وقال : مثّل لي النبيّون فصلّيت بهم. وقام ليخرج إلى المسجد فتشبّثت أمّ هانئ بثوبه. فقال : مالك؟ قالت : أخشى أن يكذّبك قومك إن أخبرتهم. قال : وإن كذّبوني.

فخرج إلى المسجد ، فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحديث الإسراء. فقال : يا معشر بني كعب بن لؤيّ هلمّوا ، فحدّثهم ، فمن بين مصفّق وواضع يده على رأسه تعجّبا وإنكارا. وارتدّ ناس ممّن كان قد آمن به. واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس ، فجلّى الله له بيت المقدس ، فطفق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينظر إليه وينعته لهم. فقالوا : أمّا النعت فقد أصاب.

فقالوا : أخبرنا عن عيرنا. فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها. وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق. وهو الإبل الّذي في لونه بياض إلى سواد ، وهو أطيب الإبل لحما ، وليس بمحمود عندهم في العمل. كذا قاله الأصمعي.

٦

فخرجوا يشتدّون في ذلك اليوم نحو الثنيّة ، فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد أشرقت. وقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلّا سحر مبين.

وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة ، وكان العروج به من بيت المقدس ، وأخبر قريشا أيضا بما رأى في السماء من العجائب ، وأنّه لقي الأنبياء ، وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى. وكان ذلك قبل الهجرة بسنة.

وما قاله بعضهم : إنّ ذلك العروج كان في النوم ، ظاهر البطلان ، مخالف لإجماع الإماميّة وجمهور العامّة.

وما قيل : من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّم الله سبحانه جهرة ورآه ، وقعد معه على سريره ، ونحو ذلك ، فهو من مقالات أهل التشبيه والتجسيم ، والله تعالى يتقدّس عن ذلك.

وكذا ظاهر البطلان ما روي من أنّه شقّ بطنه وغسل بطنه ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان طاهرا مطهّرا من كلّ سوء وعيب ، وكيف يطهّر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء؟! والقول الصحيح المنقول عن أئمّتنا عليهم‌السلام أنّ الله سبحانه أسرى بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقظة بشخصه من المسجد الحرام (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) بيت المقدس ، لأنّه لم يكن حينئذ وراءه مسجد (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) ببركات الدين والدنيا ، لأنّه مهبط الوحي ، ومتعبّد الأنبياء من لدن موسى ، ومحفوف بالأنهار والأشجار ، وموضع أمن وخصب ، حتّى لا يحتاجوا إلى أن تجلب إليهم الثمرات والحبوب من موضع آخر.

(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) كذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر ، ومشاهدته بيت المقدس ، وتمثّل الأنبياء له ، ووقوفه على مقاماتهم ، وصرف الكلام من الغيبة إلى التكلّم لتعظيم تلك البركات والآيات. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الْبَصِيرُ) بأفعاله ، فيكرمه ويقرّبه على حسب ذلك.

ومن جملة الأخبار الواردة في قصّة المعراج ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّه قال :

٧

«أتاني جبرئيل وأنا بمكّة فقال : قم يا محمّد. فقمت معه وخرجت إلى الباب ، فإذا معه ميكائيل وإسرافيل. فأتى جبرئيل بالبراق ، وكان فوق الحمار ودون البغل ، خدّه كخدّ الإنسان ، وذنبه كذنب البقر ، وعرفه كعرف الفرس ، وقوائمه كقوائم الإبل ، عليه رحل من الجنّة ، وله جناحان. فقال : اركب. فركبت ومضيت حتّى انتهيت إلى بيت المقدس ، فإذا ملائكة نزلوا من السماء بالبشارة والكرامة من عند ربّ العزّة. وصلّيت في بيت المقدس ، فبشّر لي إبراهيم في رهط من الأنبياء ، ثمّ موسى وعيسى.

ثمّ أخذ جبرئيل بيدي إلى الصخرة فأقعدني عليها ، فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا. فصعدت إلى السماء الدنيا ، ورأيت عجائبها وملكوتها ، وملائكتها يسلّمون عليّ.

ثمّ أصعدني إلى السماء الثانية ، فرأيت فيها عيسى بن مريم ويحيى بن زكريّا. ثمّ أصعدني إلى السماء الثالثة ، فرأيت يوسف. ثمّ أصعدني إلى السماء الرابعة ، فرأيت فيها إدريس ، وأصعدني إلى السماء الخامسة ، فرأيت فيها هارون وموسى. ثمّ أصعدني إلى السماء السادسة ، فإذا فيها خلق كثير يموج بعضها في بعض ، وفيها الكرّوبيّون. ثمّ أصعدني إلى السماء السّابعة ، فرأيت فيها إبراهيم عليه‌السلام. ثمّ جاوزناها متصاعدين إلى أعلى علّيّين.

ووصف ذلك إلى أن قال : ثمّ كلّمني ربّي وكلّمته ، ورأيت الجنّة والنار ، ورأيت العرش وسدرة المنتهى. ثمّ رجعت إلى مكّة ، فلمّا أصبحت حدّثت به الناس ، فكذّبني أبو جهل والمشركون».

وفي تفسير العيّاشي بالإسناد عن ابن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لمّا أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء الدنيا لم يمرّ بأحد من الملائكة إلّا استبشر به. قال : ثمّ مرّ بملك كئيب حزين ، فلم يستبشر به. فقال : يا جبرئيل ما مررت بأحد من الملائكة إلّا استبشر بي إلّا هذا الملك ، فمن هذا؟

٨

قال : هذا مالك خازن جهنّم ، وهكذا جعله الله.

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جبرئيل سله أن يرينيها.

قال : فقال جبرئيل : يا مالك هذا محمّد رسول الله ، وقد شكا إليّ وقال : ما مررت بأحد من الملائكة إلّا استبشر بي إلّا هذا ، فأخبرته أن الله هكذا جعله ، وقد سألني أن أسألك أن تريه جهنّم.

قال : فكشف له عن طبق من أطباقها. قال : فما رئي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضاحكا حتّى قبض».

وعن أبي بصير قال : «سمعته يقول : إنّ جبرئيل احتمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى انتهى به إلى مكان من السماء ، ثمّ تركه وقال له : ما وطأ نبيّ قطّ مكانك».

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

ولمّا أنكر الكفّار القرآن مع أنّه أمّ المعجزات ، وحديث المعراج مع إبانة آياته عندهم ، بيّن إنكارهم نبوّة موسى وكتابه مع ظهور معجزاته ، تسلية لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني : التوراة (وَجَعَلْناهُ هُدىً) حجّة ودلالة وإرشادا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا) على أن لا تتّخذوا ، كقولك : كتبت إليه أن افعل كذا. وقرأ أبو عمرو بالياء ، على لأن لا يتّخذوا. (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) ربّا غيري تكلون إليه أموركم.

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) نصب على الاختصاص بتقدير : أعني. أو على النداء إن قرئ : أن لا تتّخذوا بالخطاب. أو على أنّه أحد مفعولي «لا تتّخذوا» و «من دوني» حال من «وكيلا». فيكون كقوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) (١)

__________________

(١) آل عمران : ٨٠.

٩

والمعنى : قلنا لهم : لا تتّخذوا من دوني وكيلا يا ذرّيّة من حملنا مع نوح ، أو لا تتّخذوا ذرّيّة من حملنا مع نوح وكيلا. فيكون «وكيلا» موحّد اللفظ مجموع المعنى ، كرفيق في قوله : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (١) أي : لا تجعلونهم أربابا. وفيه تذكير بإنعام الله عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق ، بحملهم مع نوح في السفينة.

(إِنَّهُ) إنّ نوحا (كانَ عَبْداً شَكُوراً) يحمد الله على مجامع حالاته. وفيه إيماء بأنّ إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره ، وحثّ للذريّة على الاقتداء به. كأنّه قال : لا تتّخذوا من دوني وكيلا ، ولا تشركوا بي ، لأنّ نوحا كان عبدا شكورا ، وأنتم ذرّيّة من آمن به وحمل معه ، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم. وقيل : الضمير لموسى.

روي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : «أنّه كان إذا أصبح وأمسى قال : اللهمّ إنّي أشهدك أنّ ما أصبح وأمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فمنك ، وحدك لا شريك لك ، لك الحمد ولك الشكر بها عليّ حتى ترضى ، وبعد الرضا ، فهذا كان شكره».

وقيل : كان إذا أكل قال : الحمد لله الّذي أطعمني ، ولو شاء أجاعني. وإذا شرب قال : الحمد لله الّذي سقاني ، ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال : الحمد لله الّذي كساني ، ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال : الحمد لله الّذي حذاني ، ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الّذي أخرج عنّي أذاه في عافية ، ولو شاء حبسه.

وروي : أنّه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به ، فإن وجده محتاجا آثره به.

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ

__________________

(١) النساء : ٦٩.

١٠

وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))

ولمّا تقدّم أمره سبحانه لبني إسرائيل بالتوحيد ، ونهيه إيّاهم عن الشرك ، عقّب ذلك بذكر ما صدر منهم وما جرى عليهم ، تحذيرا للمشركين ، وتسلية لسيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وأوحينا إليهم وحيا مقضيّا مبتوتا (فِي الْكِتابِ) في التوراة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) لا محالة. جواب قسم محذوف.

ويجوز أن يجري القضاء المبتوت مجرى القسم. والمعنى : وقضينا قضاء مبتوتا جاريا مجرى القسم لتفسدنّ فيها. (مَرَّتَيْنِ) إفسادتين ، أولاهما : مخالفة أحكام التوراة ، وقتل شعيا ، وحبس أرميا. والآخرة : قتل زكريّا ويحيى ، وقصد قتل عيسى. (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) ولتستكبرنّ عن طاعة الله ، أو لتظلمنّ الناس.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) وعد عقاب أولاهما (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) أي : خلّينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم ، فهو كقوله : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ

١١

بَعْضاً) (١). وقوله : (أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢) وقوله (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) (٣). وهم بختنصر عامل لهراسف على بابل وجنوده. وقيل : جالوت الجزري.

وقيل : سنحاريب ، من أهل نينوى. (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ذوي قوّة وبطش في الحرب شديد (فَجاسُوا) تردّدوا لطلبكم ، من الجوس ، وهو التردّد (خِلالَ الدِّيارِ) وسطها للقتل والغارة. قتلوا سبعين ألفا من كبارهم ، وسبوا سبعين ألفا من صغارهم ، وحرّقوا التوراة ، وخرّبوا المسجد. (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) وكان وعد عقابهم لا بدّ أن يفعل.

عن ابن عبّاس وابن مسعود وابن زيد : أنّ الإفساد الأوّل قتل زكريّا ، والثاني قتل يحيى بن زكريّا. فسلّط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ـ ملكا من ملوك فارس ـ في قتل زكريّا ، وسلّط عليهم في قتل يحيى بختنصّر ، وهو رجل خرج من بابل.

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) أي : الدولة والغلبة (عَلَيْهِمْ) على الّذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلوّ. فردّ أسراهم إلى الشام ، وملك دانيال عليهم ، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر. أو بأن سلّط داود على جالوت فقتله.

(وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي : كثّر مالكم وأولادكم ، ورددنا لكم العدّة والقوّة (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) عددا ممّا كنتم. والنفير من ينفر مع الرجل من قومه. وقيل : جمع نفر ، كالعبيد. وهم المجتمعون للذهاب إلى العدوّ.

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ) في أقوالكم وأفعالكم (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) لأنّ ثوابه لكم ، فنفع إحسانكم عائد إليكم (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) فإنّ وبالها عليها. وإنّما ذكرها باللام ازدواجا. والمعنى : إنّ الإحسان والإساءة كليهما مختصّ بأنفسكم ، لا يتعدّى

__________________

(١) الأنعام : ١٢٩.

(٢) مريم : ٨٣.

(٣) فصّلت : ٢٥.

١٢

النفع والضرر إلى غيركم. وعن عليّ عليه‌السلام : «ما أحسنت إلى أحد ، ولا أسأت إليه ، وتلاها».

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) وعد عقوبة المرّة الآخرة (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي : بعثناهم ليسوؤا وجوهكم ، أيّ : يجعلوها بادية آثار المساءة فيها ، فحذف لدلالة ذكره أوّلا عليه. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر : ليسوء على التوحيد. والضمير فيه للوعد ، أو البعث ، أو لله. ويعضده قراءة الكسائي بالنون.

(وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) مسجد بيت المقدس ونواحيه (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا) وليهلكوا (ما عَلَوْا) ما غلبوه واستولوا عليه ، أو مدّة علوّهم (تَتْبِيراً) وذلك بأن سلّط الله عليهم الفرس مرّة أخرى ، فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه جودرز. وقيل : حردوس.

قيل : دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي ، فسألهم عنه.

فقالوا : دم قربان لم يقبل منّا. فقال : ما صدقوني. فقتل أكثرهم ، فلم يهدأ الدم. فقال : إن لم تصدّقوني ما تركت منكم أحدا. فقالوا : إنّه دم يحيى. فقال : لمثل هذا ينتقم ربّكم منكم.

ثمّ قال : يا يحيى قد علم ربّي وربّك ما أصاب قومك من أجلك ، فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي منهم أحدا ، فهدأ.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد المرّة الثانية توبة أخرى ، وانزجرتم عن المعاصي (وَإِنْ عُدْتُمْ) مرّة ثالثة إلى الفساد (عُدْنا) مرّة ثالثة إلى عقوبتكم. وقد عادوا فأعاد الله إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة ، فقتلوا منهم مائة ألف وثمانين ألفا ، وخرّب بيت المقدس. وعن الحسن : عادوا بتكذيب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقصد قتله ، فعاد الله بتسليطه عليهم ، فقتل قريظة ، وأجلى بني النضير ، وضرب الجزية على الباقين إلى يوم القيامة.

هذا لهم في الدنيا. (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) محبسا لا يقدرون على الخروج منها أبد الآباد. وقيل : بساطا كما يبسط الحصير.

١٣

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠))

ولمّا أمر بني إسرائيل بالرجوع إلى الطريق المستقيم من التوبة وقبول الإسلام ، بيّن أنّ هذا الكتاب هو الّذي يهدي للأحسن الأقوم ، فقال : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) للحالة أو الطريقة الّتي هي أعدل الحالات ، أو أصوب الطرق وأرشدها وأسدّها (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) وقرأ حمزة والكسائي : ويبشر بالتخفيف.

(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) عطف على (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً). فيكون هذا بشارة أخرى لهم. والمعنى : أنّه يبشّر المؤمنين ببشارتين : ثوابهم ، وعقاب أعدائهم. أو عطف على «يبشّر» بإضمار : يخبر.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))

ولمّا تقدّم من بشارة الكفّار بالعذاب ، بيّن عقيبه أنّهم يستعجلون العذاب جهلا وعنادا ، فقال : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) أي : الكافر بوقوع العذاب الموعود عليه إنكارا واستهزاء. أو المراد جنس الإنسان. والمعنى : ويدعو الله عند غضبه بالشّر على نفسه وأهله وماله ، أو يدعوه بما يحسبه خيرا وهو شرّ. (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) مثل دعائه بالخير (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يتسرّع إلى كلّ ما يخطر بباله ، لا ينظر عاقبته.

وعن ابن عبّاس : أنّ المراد به آدم ، فإنّه لمّا انتهى الروح إلى سرّته أخذ لينهض

١٤

فسقط ، فشبّه سبحانه ابن آدم بأبيه في الاستعجال وطلب الشيء قبل وقته.

وقيل : المراد النضر بن الحارث استعجل بالعذاب عنادا ، وقال : اللهمّ انصر خير الحزبين ، اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك. فأجيب له ، فضرب عنقه يوم بدر صبرا.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))

ثمّ بيّن أنّه أنعم عليهم بوجوه النعم ، كالليل والنهار للاستراحة وكسب الأرزاق ، ونحو ذلك ، وإن لم يشكروه وطلبوا منه ما فيه شرّ لهم ، فقال : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) تدلّان بتعاقبهما على نسق واحد ـ بإمكان غيره ـ على القادر الحكيم (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي : أزلنا الآية الّتي هي الليل بالإشراق والإضاءة. والإضافة للتبيين ، كإضافة العدد إلى المعدود. (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) مضيئة أو مبصرة للناس ، من : أبصره فبصر. أو مبصرا أهله ، كقولهم : أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء.

وقيل : الآيتان : القمر والشمس. وتقدير الكلام : وجعلنا نيّري الليل والنهار آيتين ، أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين. ومحو آية الليل ـ الّتي هي القمر ـ جعلها مظلمة في نفسها مطموسة النور ، أو نقص نورها شيئا فشيئا إلى المحاق. وجعل آية النهار ـ الّتي هي الشمس ـ مبصرة جعلها ذات شعاع تبصر الأشياء بضوئها.

(لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم ، وتتوصّلوا به إلى استبانة أعمالكم (وَلِتَعْلَمُوا) باختلافهما أو بحركاتهما (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) وجنس الحساب ، وآجال الديون ، وغير ذلك من المواقيت. ولو لا ذلك لما

١٥

علم أحد حسبان الأوقات ، ولتعطّلت الأمور. (وَكُلَّ شَيْءٍ) تفتقرون إليه في أمر الدين والدنيا (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) بيّنّاه بيانا غير ملتبس ، وميّزنا كلّ شيء تمييزا بيّنا.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥))

ولمّا قدّم سبحانه ذكر الوعيد أتبع ذلك بذكر كيفيّته ، فقال : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) عمله من الخير الّذي عاقبته يمنة ، والشرّ الّذي خاتمته شؤمة. وإنّما قيل للعمل طائر على عادة العرب ، فإنّهم إذا أخذوا في مقصد إن طار طير في أيمانهم يتّخذونه ميمونا ، وإن طار في شمائلهم يتّخذونه مشؤوما. ومثله قوله تعالى : (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) (١). وقوله : (إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) (٢). وعن ابن عيينة : هو من قولك : طار له سهم إذا خرج. يعني : ألزمناه ما طار من عمله.

(فِي عُنُقِهِ) لزوم الطوق والغلّ في العنق لا ينفكّ عنه ، كما قيل في المثل : تقلّدها طوق الحمامة. وقولهم : الموت في الرقاب. وهذا ربقة في رقبته. وعن الحسن : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلّدتها في عنقك.

(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) هو صحيفة عمله ، أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله ، فإنّ الأفعال الاختياريّة تحدث في النفس أحوالا ، ولهذا يفيد تكريرها لها

__________________

(١) يس : ١٩.

(٢) الأعراف : ١٣١.

١٦

ملكات. ونصبه بأنّه مفعول ، أو حال من مفعول محذوف ، وهو ضمير الطائر. ويعضده قراءة يعقوب : ويخرج ، من : خرج. (يَلْقاهُ) يرى ذلك الكتاب (مَنْشُوراً) مفتوحا معروضا عليه ليقرأه ويعلم ما فيه. وهما صفتان للكتاب ، أو «يلقاه» صفة و «منشورا» حال من مفعوله. وقرأ ابن عامر : يلقّاه على البناء للمفعول ، من : لقّيته كذا.

(اقْرَأْ كِتابَكَ) على إرادة القول. وعن قتادة : يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. وروى خالد بن نجيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يذكر العبد جميع أعماله وما كتب عليه ، حتّى كأنّه فعله تلك الساعة ، فلذلك قالوا : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (١).

(كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) الباء مزيدة ، أي : كفى نفسك. و «حسيبا» تمييز. وهو بمعنى الحاسب ، كالصريم بمعنى الصارم ، وضريب القداح بمعنى ضاربها.

و «على» متعلّق به ، من قولهم : حسب عليه كذا. أو بمعنى الكافي ، فوضع موضع الشهيد ، وعدّي بـ «على» ، لأنّه يكفي المدّعي ما أهمّه. وتذكيره على أنّ الحساب والشهادة ممّا يتولّاه الرجال ، أو على تأويل النفس بالشخص ، كما يقال : ثلاثة أنفس.

وكان الحسن إذا قرأها قال : يا ابن آدم أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي : لا ينجي اهتداؤه غيره ، ولا يردي ضلاله سواه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) ولا تحمل نفس حاملة وزرا (وِزْرَ أُخْرى) وزر نفس أخرى ، بل إنّما تحمل وزرها.

(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) وما صحّ منّا صحّة تدعو إليها الحكمة أن نعذّب قوما بعذاب الاستئصال (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) إلّا بعد أن نبعث إليهم رسولا يبيّن الحجج ويمهّد الشرائع ، فيلزمهم الحجّة ، بأن ينبّههم على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة في التكليفات العقليّة ، ويعلّمهم التكليفات النقليّة ، لئلّا يقولوا : كنّا غافلين ، فلو لا بعثت إلينا رسولا

__________________

(١) الكهف : ٤٩.

١٧

ينبّهنا على النظر في أدلّة العقل. وعلى هذا التأويل تكون الآية عامّة في العقليّات والنقليّات.

وقال أكثر المفسّرين ، وهو الأصح : إنّ المراد بالآية أنّه لا يعذّب سبحانه في الدنيا ولا في الآخرة إلّا بعد البعثة. فتكون الآية خاصّة فيما يتعلّق بالسمع من الشرعيّات. فأمّا ما كانت الحجّة من جهة العقل ، وهو الإيمان بالله تعالى ، فإنّه يجوز العقاب بتركه وإن لم يبعث الرسول ، عند من قال : إنّ التكليف العقلي ينفكّ من التكليف السمعي. على أنّ المحقّقين منهم يقولون : إنّه وإن جاز التعذيب عليه قبل بعثة الرسول ، فإنّ الله سبحانه لا يفعل ذلك ، مبالغة في الكرم والفضل والإحسان والطول.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦))

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) إذا دنا وقت إرادتنا بإهلاك أهل قرية بعد قيام الحجّة عليهم وإرسال الرسل إليهم.

وقيل : ذكر الإرادة على التجوّز والاتّساع ، وإنّما عنى بها قرب الهلاك والعلم بكونه لا محالة ، كما يقال إذا أراد العليل أن يموت : خلط في مأكله ويسرع إلى ما تتوق نفسه إليه ، وإذا أراد التاجر أن يفتقر : أتاه الخسران من كلّ وجه. ومعلوم أنّ العليل والتاجر لم يريدا في الحقيقة شيئا من ذلك ، لكن لمّا كان من المعلوم من حال هذا الهلاك ، ومن حال ذلك الخسران ، حسن هذا الكلام ، واستعمل ذكر الإرادة لهذا الوجه. ولكلام العرب إشارات واستعارات ومجازات ، وكان كلامهم بهذا يصير في الغاية القصوى من الفصاحة والبلاغة.

فالمعنى : إذا قرب وقت تعلّق علمنا بإهلاك أهل قرية (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) متنعّميها بالإيمان والطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم ، توكيدا للحجّة عليهم. ويدلّ على ذلك ما

١٨

قبله وما بعده ، فإنّ الفسق هو الخروج عن الطاعة والتمرّد في العصيان ، فيدلّ على الطاعة من طريق المقابلة.

وقيل : معناه : كثّرنا مترفيها. فيكون من باب : أمرت الشيء وآمرته فأمر ، إذا كثّرته فكثر. وفي الحديث : «خير المال سكّة مأبورة ، ومهرة مأمورة».

والسكّة : الطريقة المصطفّة من النخل. والمأبورة : الملقّحة. وقال الأصمعي : السكّة هاهنا الحديدة الّتي يحرث بها ، ومأبورة مصلحة. ومعنى الحديث : خير المال كثير النتاج والزرع. ويؤيّده قراءة يعقوب : آمرنا.

(فَفَسَقُوا فِيها) بالمعاصي. وتخصيص المترفين لأنّ غيرهم يتبعهم ، ولأنّهم أسرع في الحماقة ، وأقدر على الفجور. (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) يعني : كلمة العذاب السابقة بحلوله ، أو بظهور معاصيهم ، أو بانهماكهم في المعاصي (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) فأهلكناها بإهلاك أهلها. ومثله : أمرتك فعصيتني. ويشهد بصحّة هذا التأويل الآية المتقدّمة ، وهي قوله : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) إلى قوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله من ذلك بالقرون الخالية ، فقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا) وكثيرا أهلك (مِنَ الْقُرُونِ) بيان لـ «كم» وتمييز له (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) يعني : عادا وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا. والقرن مائة وعشرون سنة. وقيل : مائة سنة. وقيل : ثمانون. وقيل : أربعون. (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) يدرك بواطنها وظواهرها ، فلا يفوته شيء منها. فيعاقب عليها. ونبّه بهذا القول على أنّ الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير ، وأنّه عالم بها جميعا ، فيعاقب عليها.

١٩

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢))

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يدبّر عباده بحسب ما يراه من المصلحة ، فقال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) نعمها مقصورا عليها همّه (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من «له» بدل البعض ، لأنّ الضمير إلى «من» وهو في معنى الكثرة. وقيّد المعجّل والمعجّل له بالمشيئة والإرادة ، لأنّه لا يجد كلّ متمنّ ما يتمنّاه ، ولا يعطى إلّا بعضا منه ، وكثير منهم يتمنّون ذلك البعض وقد حرموه ، فاجتمع عليه فقر الدنيا وفقر الآخرة. وأما المؤمن التقيّ فقد اختار مراده ، وهو غني الآخرة ، فما يبالي أوتي حظّا من الدنيا أو لم يؤت ، فإن أوتي فيها ، وإلّا فربما كان الفقر خيرا له وأعون على مراده.

قيل : الآية نزلت في المنافقين ، كانوا يراؤن المسلمين ويغزون معهم ، ولم يكن غرضهم إلّا مساهمتهم في الغنائم ونحوها.

ويؤيّد هذا القول ما روي عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «معنى الآية : من كان يريد ثواب الدنيا بعمله الّذي افترضه الله عليه ، لا يريد به وجه الله والدار الآخرة ، عجّل له فيها ما يشاء من عرض الدنيا ، وليس له ثواب في الآخرة ، وذلك أنّ

٢٠