زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

الياء والتخفيف ، من : بشره يبشره. ويحيى إن كان أعجميّا فإنّما منع من الصرف للتعريف والعجمة ، وإن كان عربيّا فللتعريف ووزن الفعل.

(مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي : بعيسى ، سمّي بذلك لأنّه لم يوجد إلا بكلمة الله ، وهو قوله : كن من غير سبب ، أي : وجد بأمره تعالى دون أب ، فشابه البدعيّات الّتي هي عالم الأمر. أو بكتاب الله تعالى ، سمّي كلمة كما قيل كلمة الحويدرة (١) لقصيدته (وَسَيِّداً) يسود قومه ويفوقهم في الشرف والعلم والعبادة أو الحال ، وكان فائقا للناس كلّهم في أنّه ما همّ بمعصية (وَحَصُوراً) مبالغا في حبس النفس عن مقاربة النساء وسائر الشهوات والملاهي.

روي : «أنّه مرّ في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للّعب خلقت».

(وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : رسولا شريفا رفيع المنزلة ناشئا من الأنبياء الصالحين ، أو كائنا من عدادهم.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استبعادا من حيث العادة ، أو استعظاما ، أو تعجّبا ، أو استفهاما عن كيفيّة حدوثه (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أدركني كبر السنّ وأثّر فيّ وأضعفني. وكان له تسع وتسعون سنة. وقيل : مائة وعشرون سنة ، ولامرأته ثمان وتسعون سنة. (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) لا تلد ، من العقر وهو القطع ، لأنّها ذات عقر من الأولاد.

(قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي : يفعل ما يشاء من الأفعال العجيبة الخارقة للعادة ، مثل ذلك الفعل ، وهو إنشاء الولد من شيخ فإن وعجوز عاقر ، أو كما أنت عليه وزوجك من الكبر والعقر يفعل ما يشاء من خلق الولد. أو (كَذلِكَ اللهُ) مبتدأ

__________________

(١) اسم شاعر.

٤٨١

وخبر ، أي : الله على مثل هذه الصفة ، و (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيان له. أو «كذلك» خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك ، و (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيان له.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي : علامة أعرف بها وقت الحمل لاستقبله بالبشاشة والشكر ، وتزيح مشقّة الانتظار.

(قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أن لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا. وإنّما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصّة ليخلص المدّة لذكر الله وشكره ، قضاء لحقّ النعمة. (إِلَّا رَمْزاً) إشارة بنحو يد أو رأس. وأصله التحرّك ، ومنه الراموز للبحر. والاستثناء منقطع. وقيل : متّصل. والمراد بالكلام ما دلّ على الضمير ، وهي المعجزات الباهرة.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) في أيّام الحبسة. وهو مؤكّد لما قبله ، مبيّن للغرض منه. وتقييد الأمر بالكثرة يدلّ على أنّه لا يفيد التكرار (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِ) من زوال الشمس إلى أن تغيب. وقيل : من العصر. (وَالْإِبْكارِ) من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ) معطوفة على (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) (١) ، أي : اذكر ، إذ كلّموها شفاها ـ كرامة لها ـ هذا القول (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أوّلا حين تقبّلك

__________________

(١) آل عمران : ٣٥.

٤٨٢

من أمّك ، ولم يقبل قبلك أنثى ، وربّاك واختصّك بأنواع الكرامة ، وفرّغك للعبادة ، وأغناك برزق الجنّة عن الكسب.

(وَطَهَّرَكِ) من الأدناس والأقذار العارضة للنساء ، من الحيض والنفاس.

(وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) ثانيا ، بأنّ أرسل إليك الملائكة ، ووهب لك عيسى من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء ، وبرّأك ممّا قذفه اليهود بإنطاق الطفل ، وجعلك وابنك آية للعالمين. ومن أنكر الكرامة لغير الأنبياء زعم أنّ ذلك إنّما كانت معجزة زكريّا ، أو تقدمة لنبوّة عيسى ، فإنّ الإجماع ثابت على أنّه تعالى لم يستنبئ امرأة ، لقوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) (١) ، وبإجماع أهل البيت والشافعيّة يجوز ظهور الكرامة لغير الأنبياء من أهل التقوى والصلاح.

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمرت بالصلاة في الجماعة بذكر هيآتها وأركانها ، من القنوت والركوع والسجود ، مبالغة في المحافظة عليها. وقدّم السجود على الركوع إمّا لكونه كذلك في شريعتهم ، أو للتنبيه على أنّ الواو لا توجب الترتيب ، أو ليقترن «اركعي» بالراكعين ، للإيذان بأنّ من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلّين.

وقيل : المراد بالقنوت إدامة الطاعة ، كقوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) (٢). وبالسجود الصلاة ، كقوله تعالى : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (٣). وبالركوع الخشوع والإخبات.

__________________

(١) الأنبياء : ٧.

(٢) الزّمر : ٩.

(٣) ق : ٤٠.

٤٨٣

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)) (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))

(ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من قصّة زكريّا ويحيى ومريم (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ

٤٨٤

نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي : من الغيوب الّتي لم تعرفها إلّا بالوحي ، لأنّ علم ما غاب عن الإنسان لا يمكن حصوله إلّا بدراسة الكتب أو بالتعلّم أو بالوحي ، ومعلوم أنّك لم تشاهد القصص ولم تقرأها من كتاب ولا تعلّمتها ، إذ كان نشؤك بين قوم لم يكونوا أهل كتاب ، فوضح أنّك لم تعرف ذلك إلّا بالوحي.

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) أقداحهم الّتي يكتبون بها التوراة في النهر تبرّكا ، يقترعون بها على مريم ، فارتزّ (١) قلم زكريّا وارتفع فوق الماء ، ورسبت أقلام الباقين من الأحبار كما ذكر. والمراد تقرير كونه وحيا على سبيل التهكّم بمنكريه ، فإنّ طريق معرفة الوقائع المشاهدة والسماع ، وكان عدم السماع معلوما عندهم علما يقينيّا لا شبهة فيه عندهم ، فبقي أن يكون الاتّهام باحتمال العيان ، ولا يظنّ به عاقل ، ونحوه : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) (٢) (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) (٣).

وقوله : (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) متعلّق بمحذوف دلّ عليه (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) ، أي : يلقونها ليعلموا أو لينظروا أو ليقولوا أيّهم يكفل مريم (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في شأنها تنافسا في كفالتها.

وفي هذه الآية دلالة على أن للقرعة مدخلا في تميّز الحقوق. وقد قال الصادق عليه‌السلام : «ما تقارع قوم ففوّضوا أمورهم إلى الله تعالى إلّا خرج سهم المحقّ».

وقال : «أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى الله تعالى ، أليس الله تعالى يقول : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (٤)».

وقال الباقر عليه‌السلام : «أوّل من سوهم عليه مريم بنت عمران ، ثمّ تلا : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ). والسهام ستّة ، ثمّ استهموا في يونس. ثمّ كان عبد المطّلب ولد له تسعة بنين ، فنذر في العاشر إن رزقه الله غلاما أن يذبحه ،

__________________

(١) أي : ثبت.

(٢) القصص : ٤٤ و ٤٦.

(٣) القصص : ٤٤ و ٤٦.

(٤) الصافّات : ١٤١.

٤٨٥

فلمّا ولد عبد الله لم يقدر أن يذبحه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلبه ، فجاء بعشرة من الإبل فساهم عليها وعلى عبد الله ، فخرجت السهام على عبد الله ، فزاد عشرا ، فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشرا ، فلمّا أن أخرجت مائة خرجت السهام على الإبل ، فقال عبد المطّلب : ما أنصفت ربّي ، فأعاد السهام ثلاثا فخرجت على الإبل ، فقال : الآن علمت أنّ ربّي قد رضي بها ، فنحرها».

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) بدل من «إذ قالت» (١) الأولى ، وما بينهما اعتراض. ويجوز أن يبدل من «إذ يختصمون» ، على أنّ وقوع الاختصام والبشارة في زمان متّسع ، كقولك : لقيته سنة كذا. (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) المسيح لقبه ، وهو من الألقاب المشرّفة ، كالصدّيق والفاروق اللّذين من ألقاب أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه. وأصله بالعبرانيّة : مشيحا ، فعرّبته العرب. ومعناه : المبارك ، كقوله : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) (٢). وكذلك عيسى معرّب ايشوع.

واشتقاق المسيح من المسح ، لأنّه مسحه جبرئيل عليه‌السلام بجناحه وقت ولادته ، يعوّذه بذلك من الشيطان. وقيل : لأنّه مسح بالبركة ، فإنّه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلّا برىء. وقيل : لأنّه مسح الأرض ولم يقم في موضع. وقيل : عيسى من العيس ، وهو بياض تعلوه حمرة.

وإنّما قيل : اسمه المسيح عيسى بن مريم ، وهذه ثلاثة أشياء ، والاسم منها عيسى ، والمسيح لقب من ألقابه الشريفة. والابن صفة ، لأنّ الاسم يكون علامة للمسمّى يتميّز بها عن غيره ، فكأنّه قيل : إنّ مجموع هذه الثلاثة هو الّذي يتميّز بذلك عن غيره. ويجوز أن يكون عيسى خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو عيسى ، وابن مريم صفته.

__________________

(١) مرّ تفسيرها في ص : ٤٨٢.

(٢) مريم : ٣١.

٤٨٦

وإنّما قيل : ابن مريم والخطاب لها تنبيها على أنّه يولد من غير أب ، إذ الأولاد تنسب إلى الآباء ، ولا تنسب إلى الأمّ إلّا إذا فقد الأب ، وبذلك فضّلت واصطفيت على نساء العالمين.

(وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) حال مقدّرة من «كلمة». وهي وإن كانت نكرة لكنّها موصوفة. وتذكيره للمعنى. والوجاهة في الدنيا النبوّة والرئاسة على الناس ، وفي الآخرة الشفاعة وعلوّ الرتبة. (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) من الله تعالى. وهذا أيضا حال. وقيل : إشارة إلى علوّ درجته في الجنّة ، أو رفعه إلى السماء وصحبة الملائكة.

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) في موضع الحال من «يكلّم» (وَكَهْلاً) عطف عليه ، أي : يكلّمهم حال كونه طفلا وكهلا كلام الأنبياء ، من غير تفاوت بين حال الطفوليّة وحال الكهولة الّتي يستحكم فيها العقل ، ويستنبأ فيها الأنبياء عليهم‌السلام. والمهد مصدر ، سمّي به ما يمهّد للصبيّ من مضجعه. وقيل : إنّه رفع شابّا ، والمراد كهلا بعد نزوله. وذكر أحواله المختلفة المتنافية إرشاد إلى أنّه بمعزل عن الألوهيّة. (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) حال ثالث من «كلمة» أو ضميرها الذي في «يكلّم».

(قالَتْ) تعجّبا واستبعادا عاديّا ، أو استفهاما عن أنّه يكون بتزوّج أو غيره (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) القائل جبرئيل عليه‌السلام ، أو الله جلّ جلاله وجبرئيل عليه‌السلام حكى لها قوله تعالى (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إشارة إلى أنّه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرّجا بأسباب وموادّ ، يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك.

وقوله : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) وعلم الشريعة (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) كلام مبتدأ ذكر تطييبا لقلبها ، وإزاحة لما همّها من خوف اللوم لمّا علمت أنّها تلد من غير زواج ، أو عطف على «يبشّرك» أو «وجيها». والكتاب الكتبة ، عن ابن جريج. أعطى الله عزوجل عيسى عليه‌السلام تسعة أجزاء من الخطّ ، وسائر الناس جزءا. وقيل :

٤٨٧

أراد به جنس الكتب المنزلة ، وخصّ الكتابان لفضلهما.

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) منصوب بمضمر على إرادة القول ، تقديره : ويقول : أرسلت رسولا بأنّي قد جئتكم ، أو بالعطف على الأحوال المتقدّمة ، متضمّنا معنى النطق ، وكأنّه قال : وناطقا بأنّي قد جئتكم. وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم ، أو للردّ على من زعم أنّه مبعوث إلى غيرهم.

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) في موضع النصب بدل من (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ). أو في موضع جرّ بدل من «آية». أو في موضع رفع على : هي أنّي أخلق لكم. ومعناه : أقدّر لكم وأصوّر شيئا مثل صورة الطير. (فَأَنْفُخُ فِيهِ) الضمير للكاف ، أي : في ذلك المماثل (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) فيصير حيّا طيّارا بأمر الله تعالى. نبّه به على أنّ إحياءه من الله تعالى لا منه. وقرأ نافع : فيكون طائرا. قيل : لم يخلق غير الخفّاش.

(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) أي : الذي ولد أعمى. وقيل : الممسوح العين.

(وَالْأَبْرَصَ) الذي به وضح (١).

روي أنّه ربما يجتمع عليه ألوف من المرضى ، وما يداوي إلّا بالدّعاء.

وفي الكشّاف : «وروي أنّه ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى ، من أطاق منهم أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى ، وما كانت مداواته إلّا بالدعاء وحده» (٢).

(وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) كرّر «بإذن الله» دفعا لتوهّم الألوهيّة ، فإنّ الإحياء ليس من جنس الأفعال البشريّة.

قيل : إنّه أحيا أربعة أنفس :

عازر ؛ وكان صديقا له ، وكان قد مات منذ ثلاثة أيّام ، فقال لأخته : انطلقي بنا

__________________

(١) الوضح : البرص.

(٢) الكشّاف ١ : ٣٦٤.

٤٨٨

إلى قبره ، ثمّ قال : اللهمّ ربّ السماوات السبع ، وربّ الأرضين السبع ، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك ، وأخبرهم بأنّي أحيي الموتى ، فأحي عازر ، فقام عازر فخرج من قبره ، وبقي وولد له.

وابن العجوز ؛ مرّ به ميّتا على سريره ، فدعا الله عيسى عليه‌السلام فجلس على سريره ، ونزل عن أعناق الرّجال ، ولبس ثيابه ، ورجع إلى أهله ، وبقي وولد له.

وابنة العاشر ؛ قيل له : أتحييها وقد ماتت أمس؟ فدعا الله عزوجل فعاشت وبقيت ، وولدت.

وسام بن نوح ؛ دعا عليه باسم الله الأعظم ، فخرج من قبره وقد شاب نصفه ، فقال : قد قامت القيامة؟ قال : لا ، ولكنّي دعوتك باسم الله الأعظم. قال : ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان ، لأن سام بن نوح قد عاش خمسمائة سنة وهو شابّ ، ثمّ قال له : مت ، قال : بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت ، فدعا الله سبحانه ففعل.

قال الكلبي : «كان عيسى عليه‌السلام يحيي الأموات بـ «يا حيّ يا قيّوم».

وإنّما خصّ عيسى عليه‌السلام بهذه المعجزات لأنّ الغالب كان في زمانه الطبّ ، فأراهم الله سبحانه الآيات من جنس ما هم عيه لتكون المعجزة أظهر ، كما أنّ الغالب لمّا كان في زمان موسى عليه‌السلام السحر أتاهم من جنس ذلك بما أعجزهم عن الإتيان بمثله ، وكان الغالب في زمن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيان والبلاغة والفصاحة ، فأراهم الله سبحانه المعجزة بالقرآن الذي بهرهم ما فيه من عجائب النظم وغرائب البيان ، ليكون أبلغ في باب الإعجاز.

(وَأُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) بالمغيّبات من أحوالكم الّتي لا تشكّون فيها ، كأن يقول : يا فلان تغدّيت بكذا وكذا ، وخبئ لك كذا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فيما ذكرت لكم (لَآيَةً) حجّة ومعجزة ودلالة (لَكُمْ إِنْ

٤٨٩

كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) موفّقين للإيمان ، فإنّ غيرهم لا ينتفع بالمعجزات ، أو مصدّقين للحقّ غير معاندين.

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) عطف على «رسولا» على الوجهين ، أو منصوب بإضمار فعل دلّ عليه «قد جئتكم» أي : وجئتكم مصدّقا.

(وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) مقدّر بإضمار «جئتكم». أو محمول على قوله : «بآية» أي : جئتكم بآية من ربّكم ولأحلّ لكم ، أو معطوف على معنى «مصدّقا» كقولهم : جئتك معتذرا ولأطيّب قلبك (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي : في شريعة موسى عليه‌السلام ، كالشحوم ، والثروب (١) ، والسّمك ، ولحوم الإبل ، والعمل في السبت. وهو يدلّ على أنّ شرعه كان ناسخا لشرع موسى. ولا يخلّ ذلك بكونه مصدّقا للتوراة ، كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بتناقض وتكاذب ، فإنّ النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان.

(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي : جئتكم بآية أخرى ألهمنيها ربّكم ، وهي قوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) فإنّه دعوة الحقّ المجمع عليها فيما بين الرّسل ، الفارقة بين النبيّ والساحر. أو جئتكم بآية على أنّ الله ربّي وربّكم.

وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) اعتراض. والظاهر أنّه تكرير لقوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : جئتكم بآية أخرى ممّا ذكرت لكم. وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) مرتّب عليه ، أي : لمّا جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة فاتّقوا الله في مخالفتي وتكذيبي ، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه. ثمّ شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل ، فقال : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) إشارة إلى استكمال القوّة النظريّة بالاعتقاد الحقّ الذي غايته التوحيد. وقال : (فَاعْبُدُوهُ) إشارة إلى استكمال القوّة

__________________

(١) الثروب جمع الثرب ، وهو الشحم الرقيق الذي على الكرش والأمعاء.

٤٩٠

العمليّة ، فإنّه بملازمة الطاعة التي هي الإيمان بالأوامر والانتهاء عن المناهي. وهذا حجّة على النصارى في قولهم : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) (١). والمعنى : لا تنسبوني إليه ، فأنا عبد له كما أنّكم عبيد له. ثمّ قرّر ذلك بأن بيّن أنّ الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة.

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦)) (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي : تحقّق كفرهم عنده تحقّق ما يدرك

__________________

(١) التوبة : ٣٠.

٤٩١

بالحواسّ (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) ملتجأ إلى الله أو ذاهبا إليه. ويجوز أن يتعلّق الجارّ بـ «أنصاري» مضمّنا معنى الإضافة ، أي : من الّذين يضيفون أنفسهم إلى الله تعالى في نصري ، بأن ينصروني كما ينصرني الله. وقيل : «إلى» هنا بمعنى : مع ، أو في ، أو اللّام.

(قالَ الْحَوارِيُّونَ) حواريّ الرجل صفوته وخاصّته وخالصته ، من الحور وهو البياض الخالص. ويقال للنساء الحضريّات الحواريّات ، لخلوص ألوانهنّ ونظافتهنّ. سمّي به أصحاب عيسى لخلوص نيّتهم ونقاء سريرتهم ، أو لأنّهم كانوا نورانيّين ، عليهم أثر العبادة. قيل : كانوا ملوكا يلبسون البيض ، استنصر بهم عيسى عليه‌السلام من اليهود. وقيل : قصّارين يحوّرون الثياب ، أي : يبيّضونها. وقيل : كانوا اثني عشر رجلا قالوا لجوابه : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي : أنصار دينه (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ) كن شاهدا لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

ثمّ ناجوا ربّهم وقالوا : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي : مع الشاهدين بوحدانيّتك ، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم ، أو مع أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّهم شهداء على النّاس.

روي : أنّهم اتّبعوا عيسى ، وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح الله جعنا ، فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا ، فيخرج لكلّ إنسان منهم رغيفين يأكلهما ، وإذا عطشوا قالوا : يا روح الله عطشنا ، فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا ، فيخرج ماء فيشربون. قالوا : يا روح الله من أفضل منّا ، إذا شئنا أطعمتنا ، وإذا شئنا سقيتنا ، وقد آمنّا بك واتّبعناك؟ قال : أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه ، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء».

(وَمَكَرُوا) أي : الذين أحسّ عيسى منهم الكفر من اليهود ، بأن وكلّوا عليه

٤٩٢

من يقتله غيلة (وَمَكَرَ اللهُ) حين رفع عيسى عليه‌السلام وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل. والمكر من حيث إنّه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرّة لا يسند إلى الله تعالى ، إلّا على سبيل المقابلة والازدواج (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أقواهم مكرا ، وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب.

عن ابن عبّاس : «لمّا أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه‌السلام دخل خوخته (١) وفيها كوّة ، فرفعه جبرئيل من الكوّة إلى السّماء ، فقال الملك لرجل منهم خبيث : ادخل عليه فاقتله ، فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى ، فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنّه ليس في البيت ، فقتلوه وصلبوه وظنّوا أنّه عيسى».

قال وهب : «أسّروه ونصبوا له خشبة ليصلبوه ، فأظلمت الأرض ، وأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم ، فأخذوا رجلا ألقى الله عليه شبه عيسى يقال له يهوذا ، وهو الذي دلّهم على المسيح ، فصلبوه ظنّا منهم أنّه عيسى».

ولمّا بيّن سبحانه ما همّ به قوم عيسى من المكر به وقتله ، عقّبه بما أنعم عليه من لطف التدبير وحسن التقدير ، فقال : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى) ظرف لـ «مكر الله» أو «خير الماكرين» ، أو لمضمر مثل : وقع ذلك «إنّي متوفّيك» مستوفي أجلك ، يعني : أنّي عاصمك من أن يقتلك الكفّار ، ومؤخّرك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم أو قابضك من الأرض ، من : توفّيت مالي على فلان إذا استوفيته.

ويدلّ على القولين ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ عيسى لم يمت ، وإنّه راجع إليكم قبل يوم القيامة». وقد صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «كيف أنتم إذا نزل ابن

__________________

(١) الخوخة : مخترق ما بين كلّ دارين لم ينصب عليها باب. والكوّة : خرق في الحائط تؤدّي الضوء إلى البيت. لسان العرب ٣ : ١٤.

٤٩٣

مريم فيكم وإمامكم منكم؟!». رواه البخاري (١) ومسلّم (٢) في الصحيح.

وقيل : معناه متوفّي نفسك بالنوم ، إذ روي أنّه رفع نائما لئلّا يلحقه خوف ، فلمّا استيقظ وجد نفسه في السماء آمنا مقرّبا.

وقيل : مميتك من الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت.

وقيل : أماته الله سبع ساعات ، ثم رفعه إلى السماء.

(وَرافِعُكَ إِلَيَ) إلى سمائي التي هي محلّ كرامتي ومقرّ ملائكتي (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من سوء جوارهم أو قصدهم.

(وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعلونهم بالحجّة أو السيف في أكثر الأحوال. ومتّبعوه : من آمن بنبوّته من المسلمين ومن اليهود والنصارى. وإلى الآن لم تسمع غلبة اليهود عليهم ، ولم يتّفق لهم ملك ودولة. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) الضمير لعيسى ومن تبعه وكفر به ، وغلّب المخاطبين على الغائبين (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين.

ويفسّر الحكم ويفصّله قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بإذلالهم بالقتل والأسر والسبي والخسف والجزية (وَالْآخِرَةِ) بالعذاب الأبدي في النار (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أعوان يدفعون عنهم عذاب الله.

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي : يوفّر عليهم ويتمّ أجور أعمالهم. وقرأ حفص ورويس عن يعقوب : فيوفّيهم بالياء ، والباقون بالنون. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي : لا يريد تعظيمهم وإثابتهم ، ولا يرحمهم ولا يثني عليهم. هذا تقرير للتفصيل المذكور.

وهذه الآية حجّة على من قال بالإحباط ، لأنّه تعالى وعد بتوفية الأجر ، وهو

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ٢٠٥.

(٢) صحيح مسلم ١ : ١٣٦ ح ٢٤٤.

٤٩٤

الثواب ، والتوفية منافية للإحباط.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره. وهو مبتدأ خبره (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) بواسطة جبرئيل. وقوله : (مِنَ الْآياتِ) خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو حال من الهاء. ويجوز أن يكون خبرا و «نتلوه» حالا ، على أنّ العامل معنى الإشارة ، وأن يكونا خبرين. ومعناه : من جملة الحجج الدالّة على صدق نبوّتك ، إذا علمتهم بما لا يعلمه إلّا قارئ كتاب أو معلّم ، ولست بواحد منهما ، فلم يبق إلّا أنّك قد عرفته من طريق الوحي. (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) المشتمل على الحكم ، أو الحكم الممنوع عن تطرّق الخلل إليه. والمراد به القرآن. وقيل : اللوح.

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩))

عن ابن عباس : أن العاقب والسيّد ومن معهما من وفد نجران قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل رأيت ولدا من غير ذكر؟ فنزلت : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) إنّ شأن عيسى وحاله العجيبة كشأن آدم. وقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) جملة مفسّرة للتمثيل ، مبيّنة لما به الشبه ، أي : خلق آدم من تراب ولا أب هناك ولا أمّ ، فكذلك عيسى خلق من غير أب ، فهو مثيله في أحد الطرفين ، والوجود من غير أب وأمّ أغرب وأدخل في باب خرق العادة من الوجود من غير أب ، فشبّه الغريب بالأغرب ، ليكون أقطع للخصم ، وأحسم لمادّة الشبهة. والمعنى : قدّره جسدا من طين بدون وساطة الأب والأمّ.

(ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) أي : أنشأه بشرا حيّا سويّا ، كقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً

٤٩٥

آخَرَ) (١) أو معناه : قدّر تكوينه من التراب ثمّ كوّنه (فَيَكُونُ) حكاية حال ماضية ، أي : فكان في الحال على ما أراد. والمعنى : خلق الله عيسى من الريح ، ولم يخلق أحدا قبله من الريح ، كما خلق آدم من التراب ، ولم يخلق قبله أحدا من التراب.

وعن بعض العلماء : أنّه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون عيسى؟

قالوا : لأنّه لا أب له.

قال : فآدم أولى منه ، لأنّه لا أب ولا أمّ له.

قالوا : كان يحيي الموتى.

قال : فحزقيل أولى ، لأنّ عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف.

فقالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص.

قال : فجرجيس أولى ، لأنّه طبخ وأحرق ثمّ قام سالما ، أي : قام سالما وما برص ، لأنّ الإنسان إذا طبخ صار أبرص.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الحقّ. وقيل : الحقّ مبتدأ ،

__________________

(١) المؤمنون : ١٤.

٤٩٦

و «من ربّك» خبره ، أي : الحقّ المذكور من الله (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) خطاب للنبيّ على طريقة التهييج ، لزيادة الطمأنينة واليقين ، أو لكلّ سامع.

(فَمَنْ حَاجَّكَ) جادلك وخاصمك يا محمّد من النصارى (فِيهِ) في شأن عيسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي : من الأدلّة البيّنة الموجبة للعلم بأنّ عيسى عبدي ورسولي (فَقُلْ تَعالَوْا) هلمّوا أيّها النصارى بالرأي والعزم إلى حجّة أخرى قاضية فاصلة تميّز الصادق من الكاذب. وقوله : (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) جواب الأمر ، أي : يدع كلّ منّي ومنكم أبناءه أو نساءه أو من نفسه كنفسه إلى المباهلة. وإنّما قدّم الأبناء والنساء على النفس لأنّ الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم.

قال في الكشّاف : «فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبيّن الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختصّ به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضمّ الأبناء والنساء؟

قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حين استجرأ على تعريض أعزّته وأفلاذ كبده وأحبّ النّاس إليه ذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتّى هلك خصمه مع أحبّته وأعزّته هلاك الاستئصال إن تمّت المباهلة.

وخصّ الأبناء والنساء لأنّهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثمّ كانوا يسوقون مع الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمّون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق.

وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبّه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنّهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها.

وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم‌السلام. وفيه برهان واضح على صحّة نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه لم يروا أحد من موافق ولا مخالف أنّهم

٤٩٧

أجابوا إلى ذلك» (١) انتهى كلامه.

واعلم أنّه أجمع المفسّرون على أنّ المراد بأبنائنا الحسن والحسين عليهما‌السلام. قال أبو بكر الرازي : هذا يدلّ على أنّ الحسن والحسين عليهما‌السلام ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ ولد الابنة ابن في الحقيقة.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّهما أيضا : «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا».

وفيه تنبيه على كمال فضلهما ، ومزيّة مرتبتهما عند الله وعند رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبنسائنا (٢) فاطمة عليها‌السلام ، لأنّه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء. وهذا يدلّ على تفضيل الزهراء على جميع النساء. ويعضده ما جاء في الخبر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «فاطمة بضعة منّي ، من آذاها فقد آذاني».

وقال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله ليغضب لغضب فاطمة عليها‌السلام ، ويرضى لرضاها».

وقد صحّ عن حذيفة أنّه قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «آتاني ملك فبشّرني أنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة ، أو نساء أمّتي».

وعن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : «أسرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا فضحكت ، فسألتها ، فقالت عليها‌السلام : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي : ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الأمّة أو نساء المؤمنين ، فضحكت لذلك».

وبأنفسنا علي عليه‌السلام خاصّة. وهذا يدلّ على غاية الفضل ، وعلوّ الدرجة ، والبلوغ منه إلى حيث لا يبلغه أحد ، إذ جعله نفس الرسول ، وهذا لا يدانيه فيه أحد ولا يقاربه. وممّا يعضده من الآيات ما صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل عن بعض أصحابه ، فقال له قائل : فعليّ؟ فقال : إنّما سألتني عن الناس ، ولم تسألني عن

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٣٦٩.

(٢) أي : المراد بنسائنا ... ، عطفا على قوله : المراد بأبنائنا قبل أسطر.

٤٩٨

نفسي.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبريدة الأسلمي : «يا بريدة لا تبغض عليّا ، فإنّه منّي وأنا منه ، إن النّاس خلقوا من شجر شتّى ، وخلقت أنا وعليّ من شجرة واحدة».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأحد وقد ظهرت نكايته في المشركين ، ووقايته إيّاه بنفسه ، حتى قال جبرئيل : يا محمد إنّ هذه هي المواساة ، فقال : «يا جبرئيل إنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما».

(ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي : نتباهل ، بأن نلعن الكاذب منّا. والبهلة بالضمّ وبالفتح اللعنة. وأصله الترك ، من قولهم : بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار. والصرار : خيط يشدّ فوق الخلف (١) لئلّا يرضعها ولدها. (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) عطف فيه بيان.

قال في الكشّاف (٢) والأنوار (٣) والمجمع (٤) على اختلاف الألفاظ واتّفاق المعاني : وروي أنّ رسول الله لمّا دعاهم إلى المباهلة استمهلوا إلى صبيحة غد من يومهم ذلك ، فلمّا رجعوا إلى رحالهم قالوا للعاقب ـ وكان ذا رأيهم ـ : يا عبد المسيح ما ترى؟

قال : والله لقد عرفتم أنّ محمدا نبيّ مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيّا قطّ فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لتهلكنّ ، فإن أبيتم إلّا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

__________________

(١) الخلف : حلمة ضرع الناقة.

(٢) الكشّاف ١ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

(٣) أنوار التنزيل ٢ : ٢٢.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

٤٩٩

قال لهم الأسقف : انظروا محمدا في غد ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه ، فإنّه على غير شيء.

فلمّا كان الغد جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذا بيد عليّ ، محتضنا الحسين ، والحسن يمشي بين يديه ، وفاطمة ابنته تمشي خلفه ، وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمّنوا.

وخرج النصارى يتقدّمهم أسقفهم ، فلمّا رأي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقبل بمن معه سأل عنهم ، فقيل له : هذا ابن عمّه ، وزوج ابنته ، وأحبّ الخلق إليه. وهذان ابنا بنته من علي عليه‌السلام. وهذه الجارية بنته فاطمة ، أعزّ الناس عليه ، وأقربهم إلى قلبه.

وتقدّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجثا على ركبتيه.

فقال أبو حارثة الأسقف : والله جثا كما جثا الأنبياء للمباهلة. فجبن ولم يقدم على المباهلة.

فقال له السيّد : ادن يا أبا حارثة للمباهلة.

فقال : لا ، إنّي لأرى رجلا جريئا على المباهلة ، وأنا أخاف أن يكون صادقا ، ولئن كان صادقا لم يحل والله علينا الحول وفي الدنيا نصرانيّ يطعم الماء! فقال الأسقف : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك ، وأن نقرّك على دينك ، ونثبت على ديننا.

قال : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا ، يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم. فأبوا.

قال : فإنّي أناجزكم.

فقالوا : مالنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك ، فصالحنا على أن لا تغزونا ، ولا تخيفنا ، ولا تردّنا عن ديننا ، على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة من حلل الأواقي ، ألفا في صفر ، وألفا في رجب ، قيمة كلّ حلّة أربعون درهما ، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك. وعلى ثلاثين درعا عادية من حديد ، وثلاثين رمحا ،

٥٠٠