زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

فرقة آمنوا بالتوراة ، وقاموا بحقوقها ، كمؤمني أهل الكتاب. وهم الأقلّون المدلول عليهم بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

وفرقة جاهروا بنبذ عهود التوراة ، وتخطّي حدودها تمرّدا وفسوقا. وهم المعنيّون بقوله : (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ).

وفرقة لم يجاهروا بنبذها ، ولكن نبذوا لجهلهم بها. وهم الأكثرون.

وفرقة تمسّكوا بها ظاهرا ، ونبذوها حقيقة ، عالمين بالحال بغيا وعنادا. وهم المتجاهلون.

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) عطف على «نبذ» أي : هذا الفريق المذكور من اليهود نبذوا كتاب الله ، واتّبعوا كتب السحر الّتي تقرؤها أو تتبعها الشياطين من الجنّ أو الإنس أو منهما (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي : على عهد ملكه ، أو في زمان ملكه ، على أن يكون «على» بمعنى «في» و «تتلوا» حكاية حال ماضية.

قيل : يسترقون السمع ، ويضمّون إلى ما سمعوا أكاذيب ويلقونها إلى الكهنة ، وهم يدوّنونها ويعلّمون الناس. وفشا ذلك في عهد سليمان حتى قيل : إنّ الجنّ يعلمون الغيب ، وإنّ هذا علم سليمان ، وملك سليمان ، تمّ بهذا العلم ، وإنّه تسخّر به الإنس والجنّ والريح له.

وعن السدّي أنّ سليمان عليه‌السلام كان قد جمع كتب السحرة ووضعها في خزانته ، قيل : كتمها تحت كرسيّه لئلّا يطّلع عليها الناس ولا يعلموا بها ، فلمّا مات سليمان عليه‌السلام استخرجت السحرة تلك الكتب وقالوا : إنّما تمّ ملك سليمان بالسحر ، وبه سخّر الإنس والجنّ والطير ، وزيّنوا السحر في أعين الناس بالنسبة إلى سليمان ، وشاع ذلك في اليهود ، وقبلوه لعداوتهم لسليمان.

(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) هذا تكذيب للشياطين ، ودفع لما افتروا عليه من العمل بالسحر. عبّر عن السحر بالكفر ليدلّ على أنّه كفر ، وأنّ من كان نبيّا كان معصوما

٢٠١

عنه (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) باستعمال السحر وتدوينه في الكتب. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : ولكن بالتخفيف ورفع الشياطين (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) إغواء وإضلالا. والجملة حال عن الضمير.

قال التفتازاني : علم السحر هو مزاولة النفوس الخبيثة لأفعال وأقوال يترتّب عليها أمور خارقة للعادة (١).

وقال البيضاوي : «السحر ما يستعان في تحصيله بالتقرّب إلى الشيطان ممّا لا يستقلّ به الإنسان ، وذلك لا يستتبّ ـ أي : لا يتمّ ـ إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس ، فإنّ التناسب شرط في التضامّ والتعاون ، وبهذا يميّز الساحر عن النبيّ والوليّ» (٢) انتهى كلامه.

وما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية ، أو بخفّة اليد في تقليب الأشياء ، وخفّة الأعمال ، نحو المشي على الأرسان (٣) واللعب بالمهاريق واللحاق ، فهو شبيه بالسحر ، وتسمّى بالشعبدة ، منسوبة إلى رجل اسمه شعباد ، وهو معرّب ، وأصله خفّة اليد في تقليب الأشياء ، وخفّة الأعمال ، ولا يكون سحرا حقيقيّا ، وكلّها حرام عند علمائنا.

وقال في المجمع : «إنّ السحر خدع وتمويهات لا حقيقة لها ، يخيّل أنّ لها حقيقة. وقيل : إنّه يمكن الساحر أن يقلّب الإنسان حمارا ، ويقلّبه من صورة إلى صورة ، وينشئ الحيوان على وجه الاختراع. وهذا باطل ، ومن صدّق به فهو لا يعرف النبوّة ، ولا يأمن من أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع. ولو أنّ الساحر قدر على نفع أو ضرّ وعلم الغيب ، لقدر على إزالة الممالك واستخراج الكنوز من

__________________

(١) شرح المقاصد ٥ : ٧٩.

(٢) أنوار التنزيل ١ : ١٧٥.

(٣) جمع الرسن ، وهو الحبل المعروف.

٢٠٢

معادنها ، والغلبة على البلدان بقتل الملوك من غير أن ينالهم مكروه وضرر ، فلمّا رأيناهم أسوء الناس حالا ، وأكثرهم مكيدة واحتيالا ، علمنا أنّهم لا يقدرون على شيء من ذلك. فأمّا ما روي من الأخبار أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سحر ، فكان يرى أنّه فعل ما لم يفعله ، أو أنّه لم يفعل ما فعله ، فأخبار مفتعلة لا يلتفت إليها ، وقد قال الله تعالى حكاية عن الكفّار : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (١) ، فلو كان السحر عمل فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان الكفّار صادقين في مقالهم ، وحاشا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كلّ صفة نقص تنفّر عن قبول قوله ، فإنّه حجّة الله على خليقته ، وصفوته على بريّته» (٢).

(وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) إمّا عطف على «ما تتلوا» أي : واتّبعوا ما أنزل على الملكين ، أو على «السحر» أي : يعلّمون الناس ما أنزل على الملكين. والمراد بهما واحد ، والعطف لتغاير الاعتبار ، فإنّ اعتبار السحر الّذي أنزل على الملكين غير اعتبار السحر الّذي يعلّمه الناس ، أو لأنّ الثاني أقوى من الأوّل.

وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ، تمييزا بينه وبين المعجزة ، فإنّ السحر كان كثيرا في ذلك الوقت ، وابتلاء من الله تعالى للناس ، فمن تعلّمه منهما وعمل به كان كافرا ، ومن تجنّبه أو تعلّمه لأن لا يعمل به ولكن ليتوقّاه كان مؤمنا. ونعم ما قيل :

عرفت الشرّ لا للشرّ لكن لتوقّيه

ومن لم يعرف الشرّ من الخير يقع فيه

كما ابتلى قوم طالوت بالنهر (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) (٣).

وما روي أنّهما طعنا في بني آدم لكثرة عصيانهم ، وزكّيا أنفسهما بالعصمة والطهارة ، وافتخرا عليهم ، فلأجل هذا افتتنا فمثلا بشرين ، وركب فيهما الشهوة ،

__________________

(١) الإسراء : ٤٧ ، الفرقان : ٨.

(٢) مجمع البيان ١ : ١٧٧.

(٣) البقرة : ٢٤٩.

٢٠٣

فتعرّضا لامرأة يقال لها زهرة ، فحملتهما على المعاصي والشرك ، ثمّ صعدت إلى السماء بما تعلّمت منهما ، فمحكيّ عن اليهود ، وبطلانه لا يخفى على من قال بعصمة الملائكة.

وقيل : رجلان سمّيا ملكين باعتبار صلاحهما.

وحكي عن ابن عبّاس أنّ «ما أنزل» نفي معطوف على «ما كفر» تكذيب لليهود في هذه القصّة.

وقوله : (بِبابِلَ) ظرف أو حال من «الملكين» ، أو الضمير في «أنزل». والمشهور أنّه بلد من نواحي الكوفة (هارُوتَ وَمارُوتَ) عطف بيان للملكين. ومنع صرفهما للعجمة والعلميّة ، ولو كانا من الهرت والمرت ـ بمعنى الكسر ـ لانصرفا.

ومن جعل «ما» نافية أبدلهما من الشياطين بدل البعض ، وما بينهما اعتراض.

وفي هذا التأويل يكون هاروت وماروت رجلين من جملة الناس أو الجنّ ، ويكون الملكان اللذان نفي عنهما السحر جبرئيل وميكائيل عليهما‌السلام ، فإنّ سحرة اليهود كانت تدّعي أنّ الله أنزل السحر على لسان جبرئيل وميكائيل على سليمان ، فأكذبهم تعالى في ذلك.

وعلى الوجه الأوّل قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) معناه : ما يعلّمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له : إنّما نحن اختبار وابتلاء من الله ، فمن تعلّم منّا وعمل به كفر ، ومن تعلّم وتوقّى عمله ثبت على الإيمان (فَلا تَكْفُرْ) باعتقاد جوازه والعمل به.

وعلى الوجه الثاني معناه : ما يعلّمانه حتى يقولا : إنّا مفتونان فلا تكن مثلنا.

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) الضمير لما دلّ عليه «من أحد» فإنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، أي : فيتعلّم الناس من هاروت وماروت (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي : من علم السحر الّذي يكون سببا للتفريق بين الزوجين من حيلة

٢٠٤

وتمويه ، كالنفث في العقد ، ونحو ذلك ممّا لا يكون له حقيقة في الوجود ، بل محض التخيّل والتمويه ، فيحدث بينهما عند سماعهما أو أبصارهما صنعة هذه الحيل النشوز والخلاف ، لا أنّ السحر له أثر في نفسه ، بدليل قوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) أي : لا يلحقون بغيرهم ضررا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بمشيئته ، لأنّه ربّما يحدث الله عنده فعلا من أفعاله ابتلاء منه ، وربّما لم يحدث ، أو : إلّا بعلمه ، فيكون على وجه التهديد.

(وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ) لأنّهم يقصدون به العمل ، أو لأنّ العلم يجرّ إلى العمل غالبا (وَلا يَنْفَعُهُمْ) إذ مجرّد العلم به غير مقصود ، ولا نافع في الدارين.

(وَلَقَدْ عَلِمُوا) أي : اليهود (لَمَنِ اشْتَراهُ) أي : استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى. واللام موطّئة للقسم. والأظهر أنّها لام الابتداء علّقت «علموا» عن العمل. (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) من نصيب (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ما باعوا به حظّ أنفسهم ، حيث اختاروا التكسّب بالسحر ، أو اشتروها به على ما مرّ (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

إنّما نفى العلم عنهم مع إثباته أوّلا على سبيل التوكيد القسمي ، لأنّ معناه : لو كانوا يعملون بعلمهم ، فجعلهم حين لم يعملوا به كأنّهم منسلخون عن العلم. أو الّذين علموا هم الشياطين. أو الّذين خبّر عنهم بأنّهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم والّذين لم يعلموا هم الّذين تعلّموا السحر. أو الأوّل العلم الإجمالي بقبح العمل أو ترتّب العقاب من غير تفصيل ، والثاني هو العلم التفصيلي بالقبح والعقاب الأليم والعذاب العظيم.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) بالرسول والكتاب (وَاتَّقَوْا) واتّقوا الله بترك المعاصي ، كنبذ كتاب الله تعالى ، واتّباع السحر وكتب الشياطين (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) هذا جواب «لو». وأصله : لأثيبوا مثوبة من الله خيرا ممّا شروا به أنفسهم ، فحذف الفعل ،

٢٠٥

وركّب الباقي جملة اسميّة لتدلّ على ثبات المثوبة والجزم بخيريّتها. وحذف المفضّل عليه إجلالا للمفضّل من أن ينسب إليه. وتنكير المثوبة ، لأنّ المعنى : لشيء من الثواب خير.

وقيل : «لو» للتمنّي ، كأنّه قيل : وليتهم آمنوا ، ثمّ ابتدأ بقوله : «لمثوبة».

وإنّما سمّي الجزاء ثوابا أو مثوبة لأنّ المحسن يثوب إليه ، أي : يرجع.

(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أنّ ثواب الله خير ممّا هم فيه ، وقد علموا ، ولكنّ الله سبحانه جهّلهم ، لتركهم التدبّر أو العمل بالعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥))

ولمّا شرح الله تعالى قبائح السّلف من اليهود شرع في قبائح المعاصرين منهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجدّهم واجتهادهم في الطعن والقدح في دينه ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا).

الرعي حفظ الغير لمصلحته. وكان المسلمون يقولون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ألقى إليهم شيئا من العلم : راعنا ، أي : راقبنا وتأنّ بنا فيما تلقّننا حتى نفهمه ونحفظه ، وسمع ذلك اليهود فافترصوه وخاطبوه به مريدين نسبته إلى الرعن وهو الحمق ، أو سبّه بالكلمة العبرانيّة الّتي كانوا يتسابّون بها ، وهي : راعينا ، فنهي المؤمنون عنها ، وأمروا بما يفيد تلك الفائدة ، ولا يقبل التلبّس ، وهو : انظرنا ، بمعنى :

انظر إلينا ، فحذف حرف الجرّ ، أو بمعنى : انتظرنا ، من «نظره» إذا انتظره.

٢٠٦

(وَاسْمَعُوا) وأحسنوا الاستماع بآذان واعية وأذهان حاضرة ، حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة. أو واسمعوا سماع قبول ، لا كسماع اليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا. أو واسمعوا ما أمرتم به بجدّ حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) يعني : للّذين سبّوا رسول الله عذاب مؤلم موجع.

روي أنّ طائفة من اليهود كانوا يظهرون مودّة المؤمنين ، ويزعمون أنّهم يودّون لهم الخير ، فنزلت : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) أي : ولا يودّ الّذين كفروا من المشركين. والودّ محبّة الشيء مع تمنّيه ، ولذلك يستعمل في كلّ منهما. و «من» للتبيين ، لأنّ الّذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون ، كقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) (١) (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) مفعول «يودّ». و «من» الأولى مزيدة للاستغراق ، والثانية للابتداء. وفسّر الخير بالوحي ، وكذلك الرحمة ، كقوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) (٢).

والمعنى : أنّ اليهود والمشركين يرون أنفسهم أحقّ بالوحي ، فيحسدونكم به ، وما يحبّون أن ينزّل عليكم شيء من الوحي ، وبالعلم والنصرة. ويحتمل أن يكون المراد به ما يعمّ ذلك. والأوّل مرويّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام.

(وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) بالنبوّة (مَنْ يَشاءُ) ولا يشاء إلّا ما تقتضيه الحكمة فيستنبئه ويعلّمه الحكمة وينصره.

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) إشعار بأن إيتاء النبوّة من الفضل العظيم ، كقوله :

__________________

(١) البيّنة : ١.

(٢) الزخرف : ٣٢.

٢٠٧

(إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (١) ، وأنّ حرمان بعض عباده عن الاستنباء ليس لضيق فضله ، بل لمشيئته على وفق اقتضاء المصلحة. والحكمة فيه : أنّ كلّ خير نال عباده في دينهم أو دنياهم فإنّه من عنده ، ابتداء منه إليهم ، وتفضّلا عليهم ، من غير استحقاق منهم لذلك عليه.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦))

روي أنّهم طعنوا في النسخ ، فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا؟! فنزلت : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها).

النسخ في اللغة بمعنى إزالة الصّورة عن الشيء وإثبات غيرها فيه ، كنسخ الظلّ للشمس ، ثمّ استعمل لكلّ إزالة ونقل ، كقولك : نسخت الرّيح الأثر أي : أزالته ، ونسخت الكتاب أي : نقلته ، ومنه التناسخ. ونسخ الآية بيان انتهاء التعبّد بقراءتها ، أو الحكم المستفاد منها ، أو بهما جميعا. وإنساؤها إذهابها عن القلوب ، ومثله قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (٢) أي : إلّا ما شاء الله أن تنساه.

و «ما» شرطيّة جازمة لـ «ننسخ» ، منتصبة به على المفعوليّة.

وقرأ ابن عامر : ننسخ ، من «أنسخ» أي : نأمرك بنسخها. وابن كثير وأبو عمرو : ننسأها ، أي : نؤخّرها من النّسا.

والمعنى : أنّ كلّ آية نذهب بها على ما توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة ،

__________________

(١) الإسراء : ٨٧.

(٢) الأعلى : ٦ ـ ٧.

٢٠٨

من إزالة لفظها وحكمها معا ، أو من إزالة أحدهما ، إلى بدل أو لا إلى بدل (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) بما هو خير للعباد في النفع والثواب سهولة وصعوبة (أَوْ مِثْلِها) فيهما.

وقرأ أبو عمرو بقلب الهمزة ألفا ، وننسخها ، يعني : نأمر جبرئيل بإعلامك.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ أو بما هو خير منه.

والآية دلّت على جواز النسخ وتأخير الإنزال ، إذ الأصل اختصاص «أنّ» وما يتضمّنها ـ كـ «من» و «ما» وغيرهما ـ بالأمور المحتملة ، وذلك لأنّ الأحكام شرعت والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم ، فضلا من الله ورحمة ، وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص ، كأسباب المعاش ، فإنّ النافع في عصر قد يضرّ في غيره.

واحتجّ بها من منع النسخ بلا بدل ، أو بدل أثقل ، ونسخ الكتاب بالسنّة ، فإنّ الناسخ هو المأتيّ به بدلا ، والسنّة ليست كذلك.

والكلّ ضعيف ، إذ قد يكون عدم الحكم أو الأثقل أصلح وأنفع. والسنّة ما أتى به الله تعالى وأمر به. وليس المراد بالخير والمثل ما يكون كذلك في اللفظ ، فإنّه قد يكون خيرا ومثلا في المصلحة والأجر.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))

ولمّا بيّن لهم أنّه مالك أمورهم ومدبّرها على حسب مصالحهم ، من نسخ الآيات وغيره ، قرّر على ذلك بقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) الخطاب للنبيّ ، والمراد هو

٢٠٩

وأمّته ، لقوله : (وَما لَكُمْ). وإنّما أفرده لأنّه أعلمهم ومبدأ علمهم (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فهو يملك تدبيركم ، ويجريه على حسب مصالحكم ، وهو أعلم بما يتعبّدكم به من ناسخ ومنسوخ. فهو كالدليل على قوله : (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وعلى جواز النسخ ، ولذلك ترك العاطف.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : سواه (مِنْ وَلِيٍ) يقوم بأمركم (وَلا نَصِيرٍ) أي : ناصر ينصركم بما يكون صلاحا لكم. والفرق بين الوليّ والنصير : أنّ الوليّ قد يضعف عن النصرة ، والنصير قد يكون أجنبيّا عن المنصور.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) كقول اليهود له : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (١) وغير ذلك. «أم» معادلة للهمزة في (أَلَمْ تَعْلَمْ) أي : ألم تعلموا أنّه مالك الأمور ، قادر على الأشياء كلّها ، يأمر وينهى كما أراد ، أم تعلمون وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه‌السلام. أو منقطعة ، والمراد : بل يوصيهم بالثقة فيما أصلح لهم ممّا يتعبّدهم ، وترك الاقتراح عليه كما اقترحت اليهود على موسى ، من الأشياء الّتي عقباها وبال عليهم.

وفي المجمع : «عن ابن عبّاس أنّه قال : إنّ رافع بن حرملة ووهب بن زيد قالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ائتنا بكتاب تنزله علينا من السّماء جهارا نقرؤه ، وفجّر لنا أنهارا نتّبعك ونصدّقك ، فنزلت هذه الآية» (٢).

وقيل : في المشركين لمّا قالوا : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) (٣).

(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) ومن ترك الثقة بالآيات البيّنة وشكّ فيها واقترح غيرها (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي : ذهب عن قصد الطريق المستقيم حتى وقع

__________________

(١) النساء : ١٥٣.

(٢) مجمع البيان ١ : ١٨٣.

(٣) الإسراء : ٩٣.

٢١٠

في الكفر بعد الإيمان. ومعنى الآية : لا تقترحوا فتضلّوا وسط السّبيل ، ويؤدّي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد ، وتبديل الكفر بالإيمان.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠))

روي أنّ فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود ـ كحييّ بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ، وأضرابهما ـ قالوا لحذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر بعد وقعة أحد : ألم تروا ما أصابكم؟ ولو كنتم على الحقّ ما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ، ونحن أهدى منكم سبيلا.

فقال عمّار : كيف نقض العهد فيكم؟

قالوا : شديد.

قال : فإنّي قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت.

فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ.

وقال حذيفة : وأمّا أنا فقد رضيت بالله ربّا ، وبمحمد نبيّا ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن إماما ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين إخوانا.

ثم أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبراه ، فقال : أصبتما خيرا وأفلحتما ، فنزلت. (وَدَّ) أي : تمنّى (كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني : أحبارهم ، كفنحاص ، وزيد بن قيس ، وحييّ بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ، وأمثالهم (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) أي : أن

٢١١

يردّوكم يا معشر المؤمنين ، أي : يرجعوكم ، فإنّ «لو» تنوب عن «أن» في المعنى وهو التوقّع ، دون اللفظ وهو العمل (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) مرتدّين ، وهو حال من ضمير المخاطبين. وإنّما قال : «كثير» لأنّه إنّما آمن منهم القليل ، كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار.

(حَسَداً) علّة «ودّ». وقوله : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) يجوز أن يتعلّق بـ «ودّ» ، أي : تمنّوا ذلك من قبل أنفسهم وتشهّيهم ، لا من قبل التديّن والميل مع الحقّ ، لأنّهم ودّوا ذلك (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) أي : من بعد ما ظهر لهم أنّكم على الحقّ بالمعجزات والنعوت المذكورة في التوراة ، فكيف يكون تمنّيهم من قبل الحقّ؟! أو بـ «حسدا» (١) أي : حسدا منبعثا من أصل نفوسهم ، فيكون على طريق التوكيد.

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) العفو ترك عقوبة المذنب ، والصفح ترك تثريبه ، أي : فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عمّا يكون منهم من الجهل والعداوة (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) الّذي هو الإذن في قتالهم ، أو قتل بني قريظة ، وإجلاء بني النضير ، وإذلال من سواهم من اليهود بضرب الجزية عليهم.

حكي عن ابن عباس (٢) أنّه منسوخ بآية السيف (٣). وفيه نظر ، إذ الأمر غير مطلق ؛ بل مقيّد بغاية.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على الانتقام منهم.

ولمّا أمر سبحانه بالصفح عنهم حتى يأمرهم بالقتال ، عقّبه بالأمر بالصلاة والزكاة ، ليستعينوا بهما على ما شقّ عليهم من شدّة عداوة اليهود لهم ، كما قال :

__________________

(١) يعني : يجوز أن يتعلّق قوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) بقوله تعالى : (حَسَداً).

(٢) حكاه عنه الشيخ في التبيان ١ : ٤٠٧.

(٣) التوبة : ٥ ، ٢٩.

٢١٢

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (١) ، فقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) عطفا على «فاعفوا». فأمرهم بالصبر والمخالفة واللجأ إلى الله عزوجل بالعبادة والبرّ.

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) كصلاة أو صدقة وغيرهما من الطاعات (تَجِدُوهُ) أي : ثوابه (عِنْدَ اللهِ). وفي هذا دلالة على أنّ ثواب الخيرات والطاعات لا يضيع ولا يحبط ولا يبطل ، لأنّه إذا أحبط لا يجدونه. (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عالم لا يضيع عنده عمل عامل.

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢))

ثمّ حكى الله سبحانه نبذا من أقوال اليهود والنصارى ودعاويهم الباطلة ، فقال عطفا على قوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) المراد به :

وقالت اليهود : لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنّة إلّا من كان نصارى ، فلفّ بين القولين ، ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كلّ فريق قوله ، وأمنا من الالتباس ، لما علم من الخلاف بين الفريقين ، وتضليل كلّ واحد منهما لصاحبه. ونحوه قوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) (٢).

والهود : جمع الهائد ، كعائذ وعوذ ، بمعنى التائب. يقال : هاد يهود هودا ، إذا تاب ورجع إلى الحقّ. وتوحيد الاسم المضمر في «كان» وجمع الخبر لاعتبار اللفظ والمعنى.

__________________

(١) البقرة : ٤٥.

(٢) البقرة : ١٣٥.

٢١٣

(تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) إشارة إلى الأمانيّ المذكورة ، وهي : أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربّهم ، وأن يردّوهم كفّارا ، وأن لا يدخل الجنّة غيرهم ، أي : تلك الأمانيّ الكاذبة أمانيّهم. والجملة اعتراض. والأمنيّة أفعولة من التمنّي ، كالأضحوكة والأعجوبة.

(قُلْ هاتُوا) هلمّوا أحضروا (بُرْهانَكُمْ) حجّتكم البيّنة على اختصاصكم بدخول الجنّة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم ، فإنّ كلّ قول لا دليل عليه غير ثابت ، بل باطل. وليس هذا بأمر ، بل هو تعجيز وإنكار ، بمعنى أنّه إذا لم يمكنكم الإتيان ببرهان يصحّح مقالتكم فاعلموا أنّه باطل فاسد.

وفي هذه الآية دلالة على فساد التقليد ، ألا ترى أنّه لو جاز التقليد لما أمروا بأن يأتوا فيما قالوه ببرهان. وفيها أيضا دلالة على جواز المحاجّة في الدين.

(بَلى) إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنّة (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أخلص له نفسه ، بأن لا يشرك به غيره ، أو قصده. وقيل : وجّه وجهه لطاعة الله. وقيل : فوّض أمره إلى الله. وقيل : استسلم لأمر الله ، وخضع وتواضع لله ، لأنّ أصل الإسلام الخضوع والانقياد. وأصله (١) العضو المخصوص المعلوم ، تسمية باسم أشرف أعضاء النفس (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله (فَلَهُ أَجْرُهُ) الّذي وعد له على عمله (عِنْدَ رَبِّهِ) ثابتا عنده لا يضيع ولا ينقص.

والجملة جواب «من» إن كانت شرطيّة ، وخبرها إن كانت موصولة. والفاء فيها لتضمّنها معنى الشرط ، فيكون الردّ بقوله : «بلى» وحده. ويحسن الوقف عليه.

ويجوز أن يكون (مَنْ أَسْلَمَ) فاعل فعل مقدّر ، مثل : بلى يدخلها من أسلم ،

__________________

(١) يعني : وأصل التسليم والانقياد الخضوع لله تعالى بالوجه ، وهو أشرف أعضاء النفس ، فسمّي تسليم النفس باسم أشرف أعضائها.

٢١٤

ويكون (فَلَهُ أَجْرُهُ) معطوفا على (بَلى مَنْ أَسْلَمَ).

(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

روي أنّ وفد نجران لمّا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاهم أحبار اليهود ، فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى والإنجيل ، وقالت النصارى لهم نحوه ، وكفروا بموسى والتوراة ، فنزلت : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) أي : أمر يصحّ ويعتدّ به من الدّين (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) الواو للحال ، والكتاب للجنس ، أي : قالوا ذلك وحالهم أنّهم من أهل العلم والكتاب والتلاوة.

(كَذلِكَ) مثل ذلك الّذي سمعت (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) كعبدة الأصنام والمعطّلة (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) هذا تفسير لقوله : «كذلك» والمعنى : أنّهم يقولون : كلّ أهل دين ليسوا على شيء. وبّخهم الله على المكابرة والتشبّه بالجهّال ، ونظمهم أنفسهم في سلك من لا يعلم.

ولمّا قصد بهذا القول كلّ فريق إبطال دين الآخر من أصله ، والكفر بنبيّه وكتابه ، مع أنّ ما لم ينسخ منهما حقّ واجب القبول والعمل به ، فلا يرد : أنّهم صدقوا في هذا القول ، لأنّ كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء ، فكيف وبّخهم الله به؟

(فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بين الفريقين (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بما يقسم لكلّ فريق ما يليق به من العقاب. وقيل : حكمه بينهم أن يكذّبهم ويدخلهم النّار.

٢١٥

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥))

روي أنّ النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلّوا فيه ، وأنّ الروم غزوا أهله فخرّبوه ، وأحرقوا التوراة ، وقتلوا وسبوا ، وفي شأنهم نزلت : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ثاني مفعولي «منع» ، تقول : منعته كذا. ومثله (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) (١). ويجوز أن يكون منصوبا بأنّه مفعول له ، بمعنى : منعها كراهة أن يذكر. وهو حكم عامّ في جنس مساجد الله ، وإن كان السبب خاصّا ، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا : ومن أظلم ممّن آذى الصالحين.

(وَسَعى فِي خَرابِها) بالهدم ، أو بتعطيل مكان مرشّح للصلاة ، بمنع دخول المؤمنين فيها.

وروي عن الصّادق عليه‌السلام أنّ المراد بذلك قريش حين منعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخول مكّة والمسجد الحرام ، وبه قال بعض (٢) المفسّرين.

(أُولئِكَ) أي : المانعون (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخشوع ، فضلا عن أن يجترءوا على تخريبها. أو ما كان

__________________

(١) الإسراء : ٩٤ ، الكهف : ٥٥.

(٢) كابن زيد ، والبلخي ، والجبائي ، والرمّاني ، راجع التبيان ١ : ٤١٦.

٢١٦

الحقّ أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلا عن أن يمنعوهم منها. أو ما كان لهم في علم الله تعالى وقضائه ، فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة واستخلاص المساجد منهم ، وقد أنجز وعده.

وقيل : معناه النهي عن تمكينهم من الدخول في مسجد من المساجد. وهو مذهب الإماميّة. فقد روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أن ينادي : ألا لا يحجّنّ بعد هذا العام ـ يعني : عام الحديبية ـ مشرك ، ولا يطوفنّ بالبيت عريان. وجوّزه أبو حنيفة ، ومنع مالك ، وفرّق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره. والحقّ الأوّل ، لإجماع أهل الحقّ على المنع.

(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) قتل وسبي ، أو ذلّة بضرب الجزية عليهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) في نار جهنّم بكفرهم وظلمهم.

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) يريد بهما ناحيتي الأرض ، أي : له الأرض كلّها لا يختصّ به مكان دون مكان ، فإن منعتم أن تصلّوا في المسجد الحرام أو الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجدا (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) ففي أيّ مكان فعلتم التولية شطر القبلة (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي : جهته الّتي أمر بها ، فإنّ إمكان التولية لا يختصّ بمسجد أو مكان. أو فثمّ ذاته ، أي : عالم مطّلع بما يفعل فيه.

(إِنَّ اللهَ واسِعٌ) بإحاطته بالأشياء أو برحمته ، يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم (عَلِيمٌ) بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلّها.

وقيل : نزلت في صلاة التطوّع على الراحلة للمسافر أينما توجّهت ، وأمّا الفرائض فقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١). يعني : أنّ الفرائض لا تصلّيها إلّا إلى القبلة. وهو المرويّ عنهم عليهم‌السلام. قالوا : وصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيماء على راحلته أينما توجّهت ، حيث خرج إلى خيبر ، وحين رجع من مكّة ، وجعل

__________________

(١) البقرة : ١٤٤ و ١٥٠.

٢١٧

الكعبة خلف ظهره.

قيل : في قوم عميت عليهم القبلة في السفر فصلّوا إلى أنحاء مختلفة ، فلمّا أصبحوا تبيّنوا خطأهم. وعلى هذا لو أخطأ المجتهد ثمّ تبيّن له الخطأ لم يلزمه التدارك.

وقيل : هي توطئة لنسخ القبلة ، وتنزيه للمعبود أن يكون في حيّز وجهة ، كما زعم المجسّمة.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧))

روي أنّ اليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله ، ومشركو العرب قالوا : الملائكة بنات الله ، فنزلت في شأنهم : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) معطوفا على (قالَتِ الْيَهُودُ) أو «منع». وقرأ ابن عامر بغير واو (سُبْحانَهُ) تنزيه وتبعيد له عن ذلك ، فإنّه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء ، فردّ الله تعالى لما قالوه ، وبيّن فساده (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون ، لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه ، وكلّ ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكوّنه الواجب لذاته ، فلا يكون له ولد ، لأنّ من حقّ الولد أن يجانس والده.

وإنّما جاء بـ «ما» الّذي لغير أولي العلم ، وقال : «قانتون» على تغليب أولي العلم ، تحقيرا لشأنهم.

وتنوين «كلّ» عوض عن المضاف إليه ، أي : كلّ ما فيهما. ويجوز أن يراد : كلّ من جعلوه ولدا له مطيعون مقرّون بالعبوديّة ، فيكون إلزاما بعد إقامة الحجّة.

واحتجّ بها الفقهاء على أنّ من ملك ولده عتق عليه ، لأنّه تعالى نفي الولد

٢١٨

بإثبات الملك ، وذلك يقتضي تنافيهما.

فالآية مشعرة على فساد ما قالوه (١) من ثلاثة أوجه :

أحدها : قوله «سبحانه».

والثاني : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

والثالث : قوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ).

ولمّا نزّه سبحانه نفسه عن اتّخاذ الأولاد ، ودلّ عليه بأنّ له ما في السموات والأرض ، أكّد ذلك بحجّة رابعة وقال : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها ، أي : بديع سماواته وأرضه ، من «بدع» فهو بديع. وقيل : هو بمعنى المبدع ، كما يجيء السميع بمعنى ، المسمع ، أي : منشئ السّماوات والأرض من غير سبق مثال.

وتقرير هذه الحجّة : أنّ الوالد عنصر الولد المنفصل بانفصال مادّته عنه ، والله سبحانه مبدع الأشياء كلّها ، فاعل على الإطلاق ، منزّه عن الانفعال ، فلا يكون والدا.

والإبداع اختراع الشيء لا عن شيء دفعة. وهو أليق بهذا الموضع من الصنع الّذي هو تركيب الصورة بالعنصر ، والتكوين الّذي يكون بتغيير وفي زمان غالبا.

(وَإِذا قَضى أَمْراً) أي : أراد شيئا. وأصل القضاء إتمام الشيء قولا ، كقوله : (وَقَضى رَبُّكَ) (٢) ، أو فعلا كقوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (٣). وأطلق على تعلّق الإرادة الإلهيّة بوجود الشيء من حيث إنّه يوجبه. (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من «كان» التامّة ، أي : أحدث فيحدث. وليس المراد به حقيقة أمر وامتثال ، بل تمثيل

__________________

(١) أي : ما قالوه من اتّخاذ الولد.

(٢) الإسراء : ٢٣.

(٣) فصّلت : ١٢.

٢١٩

حصول ما تعلّقت به إرادته بلا مهلة ، بطاعة المأمور المطيع بلا توقّف.

فالمعنى : أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقّف ، كالمأمور المطيع إذا أمر لا يتوقّف. أكّد بهذا استبعاد الولادة ، لأنّ من كانت هذه صفته في كمال القدرة فحاله مبائنة لحال الأجسام في توالدها. ففيه تقرير لمعنى الإبداع ، وإيماء إلى حجّة خامسة ، وهي : أنّ اتّخاذ الولد ممّا يكون بأطوار ومهلة ، وفعله تعالى يستغني عن ذلك.

وقرأ ابن عامر بالنصب على «أن» المقدّر ، والباقون بالرفع على تقدير : فهو يكون.

والسبب في الضلالة أنّ أرباب الشرائع المتقدّمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى باعتبار أنّه السبب الأوّل ، حتى قالوا : إنّ الأب هو الربّ الأصغر ، والله سبحانه وتعالى هو الربّ الأكبر ، ثمّ ظنّت الجهلة منهم أنّ المراد به معنى الولادة ، فاعتقدوا ذلك تقليدا ، ولذلك كفر قائله ، ومنع منه مطلقا ، حسما لمادّة الفساد.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١))

٢٢٠