زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

خبر محذوف ، تقديره : ذلكم شهر رمضان ، أو بدل من الصيام على حذف المضاف ، أي : كتب عليكم صيام شهر رمضان. ورمضان مصدر «رمض» إذا احترق ، من الرمضاء ، فأضيف إليه الشهر وجعل علما ، كما قيل : ابن داية للغراب ، بإضافة الابن إلى داية (١) البعير ، لكثرة وقوعه عليها إذا دبرت (٢). والدأية الموضع الّذي يقع عليه القتب (٣). ومنع الصرف للتعريف والألف والنون. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من صام رمضان ، فعلى حذف المضاف لا من الالتباس. وإنّما سمّي به لارتماضهم ، أي : احتراقهم فيه من حرّ الجوع والعطش ، أو لارتماض الذنوب فيه.

(الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أي : ابتدأ فيه إنزاله ، وكان ذلك في ليلة القدر. وقيل : أنزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ، ثمّ نزل إلى الأرض نجوما على حسب صلاح العباد.

وروى الثعلبي بإسناده ، عن أبي ذرّ الغفاري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أنزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لستّ ، وفي رواية أخرى لثلاث مضين من شهر رمضان ، وأنزل إنجيل عيسى عليه‌السلام لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، وأنزل زبور داود لثمان عشرة ليلة مضت من رمضان ، وأنزل الفرقان على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأربع وعشرين من شهر رمضان». وهذا بعينه رواه العيّاشي (٤) عن أبي عبد الله ، عن آبائه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : معناه : أنزل في شأنه القرآن ، وهو فرض صومه وإيجابه على الخلق.

__________________

(١) الدّاية : فقار الكاهل في مجتمع ما بين الكتفين من كاهل البعير خاصّة. انظر (لسان العرب ١٤ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨)

(٢) الدّبرة : قرحة الدابّة والبعير ، أو الجرح الذي يكون في ظهر الدّابّة.

(٣) القتب : الرّحل.

(٤) تفسير العيّاشي ١ : ٨٠ ح ١٨٤.

٣٠١

فيكون «فيه» بمعنى : في فرضه ، كما يقول القائل : أنزل في الزكاة كذا ، أي : في فرضها.

ثمّ وصف سبحانه القرآن بقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ) حال من القرآن ، أي : هاديا لهم بإعجازه ودالّا لهم على ما كلّفوه من العلوم (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) أي : ودلالات بيّنة ممّا يهدي إلى الحقّ. عن ابن عبّاس : المراد بالهدى الأوّل الهدى من الضلالة ، وبالثاني : بيان الحلال والحرام. وقيل : المراد بالأوّل ما كلّف من العلوم ، وبالثاني ما يشتمل عليه من ذكر الأنبياء وشرائعهم وأخبارهم ، لأنّها لا تدرك إلّا بالقرآن (وَالْفُرْقانِ) أي : ممّا يفرّق بين الحقّ والباطل.

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «القرآن جملة الكتاب ، والفرقان المحكم الواجب العمل «به». ويجوز تسمية الكتاب الفرقان تسمية الكلّ بأشرف أجزائه.

روى الحسن بن محبوب ، عن أبي أيّوب ، عن أبي الورد ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس في آخر جمعة من شعبان ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس إنّه قد أظلّكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، وهو شهر رمضان ، فرض الله صيامه ، وجعل قيام ليلة فيه بتطوّع صلاة كمن تطوّع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور ، وجعل لمن تطوّع فيه بخصلة من خصال الخير والبرّ كأجر من أدّى فريضة من فرائض الله فيما سواه ، ومن أدّى فيه فريضة من فرائض الله كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور. وهو شهر الصبر ، وإنّ الصبر ثوابه الجنّة. وهو شهر المواساة. وهو شهر يزيد الله في رزق المؤمن فيه. ومن فطّر فيه مؤمنا صائما كان له بذلك عند الله عتق رقبة ، ومغفرة لذنوبه فيما مضى.

فقيل له : يا رسول الله ليس كلّنا يقدر على أن يفطر صائما.

قال : فإنّ الله تعالى كريم ، يعطي هذا الثواب لمن لم يقدر منكم إلّا على

٣٠٢

مذقة (١) من لبن يفطر صائما ، أو شربة من ماء عذب ، أو تمرات ، لا يقدر على أكثر من ذلك. ومن خفّف فيه عن مملوكه خفّف الله عليه حسابه.

وهو شهر أوّله رحمة ، وأوسطه مغفرة ، وآخره الإجابة والعتق من النار.

ولا غنى بكم فيه عن أربع خصال : خصلتين ترضون الله بهما ، وخصلتين لا غنى بكم عنهما. أمّا اللتان ترضون الله بهما : فشهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّي رسول الله. وأمّا اللتان لا غنى بكم عنهما : فتسألون الله فيه حوائجكم والجنّة ، وتسألون الله فيه العافية ، وتتعوّذون من النار».

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نوم الصائم عبادة ، وصمته تسبيح ، ودعاؤه مستجاب ، وعمله مضاعف».

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) فمن حضر في الشهر مقيما غير مسافر (فَلْيَصُمْهُ) فليصم فيه. والأصل : فمن شهد فيه فليصم فيه ، لكن وضع المظهر موضع المضمر الأوّل للتعظيم ، ونصب على الظرف ، كقولك : شهدت يوم الجمعة ، وحذف الجارّ ونصب الضمير الثاني على الاتّساع.

(وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) حدّ المرض الّذي يوجب الإفطار ما يخاف بالصوم الزيادة المفرطة فيه. وحدّ السفر الّذي يوجب الإفطار ثمانية فراسخ كما يشهد له الروايات الواردة عن أئمّتنا صلوات الله عليهم. وتكريره لتخصيص قوله : (فَمَنْ شَهِدَ) ، أو لئلّا يتوهّم نسخه كما نسخ قرينه ، وهو قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ).

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أي : يريد أن ييسّر عليكم في الرخصة للمريض والمسافر ، إذ لم يوجب الصوم عليهما. وقيل : يريد بكم اليسر في جميع أموركم ، ولا يعسّر بالتضييق عليكم ، فلهذا نفى عنكم الحرج في الدين ،

__________________

(١) المذيق : اللبن الممزوج بالماء ، والمذقة : الطائفة منه.

٣٠٣

وأمركم بالحنيفيّة السمحة الّتي لا إصر فيها ، ومن جملة ذلك ما أمركم بالإفطار في السفر والمرض. وفيه دلالة على بطلان قول المجبّرة ، فإنّهم قائلون بجواز تكليف ما لا يطاق.

(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) معطوفه محذوف ، دلّ عليه ما سبق ، أي : وشرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، والمرخّص له بالقضاء مراعاة لعدّة ما أفطر فيه ، والترخيص في إباحة الفطر لتكملوا العدّة (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) شرع ذلك. فهذه علل الفعل المحذوف على سبيل اللفّ ، فإنّ قوله : «ولتكملوا» علّة الأمر بمراعاة العدّة ، (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) علّة الأمر بالقضاء وبيان كيفيّته ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علّة الترخيص والتيسير ، أي : إرادة أن تشكروا. ويجوز أن يكون «ولتكملوا» معطوفا على علّة مقدّرة ، كأنّه قيل : يريد الله ليسهّل عليكم ولتكلموا العدّة. وعن عاصم : ولتكمّلوا بالتشديد.

والمراد بالتكبير عندنا التكبير عقيب أربع صلوات : المغرب والعشاء ليلة الفطر ، والغداة ، وصلاة العيد ، على مذهبنا. وقيل : التكبير عند الإهلال. وقيل : المراد به : ولتعظّموا الله على ما أرشدكم له من شرائع الدين.

وإنّما عدّي فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمّنا معنى الحمد ، كأنّه قيل : ولتكبّروا الله حامدين على ما هداكم. و «ما» يحتمل المصدر والخبر ، أي : على هدايتكم ، أو على الّذي هداكم إليه.

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦))

ولمّا ذكر سبحانه الصوم الّذي هو مظانّ إجابة الدعاء ، فقال بعد ذلك : (وَإِذا

٣٠٤

سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي : فقل لهم : إنّي قريب. وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد واطّلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم ، ونحوه قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١). روي أنّ أعرابيّا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقريب ربّنا فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية».

وقوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) تقرير للقرب ، ووعد للداعي بالإجابة (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) إذا دعوتهم للإيمان والطاعة ، كما أنّي أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أمر بالثبات والمداومة عليه.

روي عن الصادق عليه‌السلام أنّ معناه : وليتحقّقوا أنّي قادر على إعطائهم ما سألوه (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي : راجين إصابة الرشد ، وهو إصابة الحقّ.

فإن قلت : نحن نرى كثيرا من الناس يدعون الله فلا يجيبهم ، فما معنى قوله (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ)؟

قلت : المراد أنّه ليس أحد يدعو الله على ما توجبه الحكمة إلّا أجابه الله ، فإنّ الداعي إذا دعا يجب أن يسأل ما فيه صلاح له في دينه ، ولا يكون مفسدة له ولا لغيره ، فالآية عامّة مخصّصة بهذا الشرط.

فإن قلت : ما تقتضيه الحكمة لا بدّ أن يفعله سبحانه ، فما معنى الدعاء وإجابته؟

قلت : إنّ الدعاء عبادة في نفسها ، يعبد الله سبحانه بها ، لما في ذلك من إظهار الخضوع والافتقار إليه سبحانه. وأيضا فإنّه لا يمتنع أن يكون وقوع ما سأله إنّما صار مصلحة بعد الدعاء ، ولا يكون مصلحة قبل الدعاء.

ويؤيّد ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من

__________________

(١) ق : ١٦.

٣٠٥

مسلّم دعا إلى الله تعالى بدعوة ، ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم ، إلا أعطاه بها إحدى خصال ثلاث : إمّا أن يعجّل دعوته ، وإمّا أن يدّخر له في الآخرة ، وإمّا أن يدفع عنه السوء».

وروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ العبد ليدعو الله وهو يحبّه ، فيقول : يا جبرئيل لا تقض لعبدي هذا حاجته وأخّرها ، فإنّي أحبّ أن لا أزال أسمع صوته ، وإنّ العبد ليدعو الله وهو يبغضه ، فيقول : يا جبرئيل اقض لعبدي هذا حاجته بإخلاصه وعجّلها ، فإنّي أكره أن أسمع صوته».

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «ربّما أخّرت عن العبد إجابة الدعاء ، ليكون أعظم لأجر السائل ، وأجزل لعطاء الآمل».

وقيل لإبراهيم بن أدهم : «ما بالنا ندعوا الله سبحانه فلا يستجيب لنا؟ فقال : لأنّكم عرفتم الله فلم تطيعوه ، وعرفتم رسول الله فلم تتّبعوا سنّته ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه ، وأكلتم نعمة الله فلم تؤدّوا شكرها ، وعرفتم الجنّة فلم تطلبوها ، وعرفتم النار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ، ووافقتموه ، وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم ، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس».

قال في الأنوار : «واعلم أنّه لمّا أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدّة ، وحثّهم على القيام بوظائف التكبير والشكر ، عقّبه بهذه الآية الدالّة على أنّه خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم ، مجيب لدعائهم ، مجازيهم على أعمالهم ، تأكيدا له ، وحثّا عليه» (١).

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ : ٢١٨.

٣٠٦

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))

ثمّ بيّن أحكام الصوم فقال : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ) الجماع (إِلى نِسائِكُمْ) عن الصادق عليه‌السلام : «كان الأكل محرّما في شهر رمضان بالليل بعد النوم ، وكان النكاح حراما بالليل والنهار ، وكان رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له : مطعم بن جبير ، نام قبل أن يفطر ، وحضر حفر الخندق فأغمي عليه ، وكان قوم من الشبّان ينكحون بالليل سرّا في رمضان ، فنزلت الآية ، فأحلّ النكاح بالليل والأكل بعد النوم». وليلة الصيام الليلة الّتي تصبح منها صائما.

والرفث أصله القول الفاحش ، فكنّي به عن الجماع ، لأنّه لا يكاد يخلو من قبح ، فيجب أن يكنّى عنه. وعدّي بـ «إلى» لتضمّنه معنى الإفضاء. وإيثاره هاهنا بين الكنايات من الإفضاء والمسّ والغشيان والإتيان وغيرها استهجانا لما ارتكبوه قبل الإباحة ، ولذلك سمّاه خيانة. وعن ابن عبّاس : أنّ إظهار هذه الخيانة أوّلا صدر عن عمر ، فإنّه باشر بعد العشاء فندم وأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتذر إليه ، فقام رجال واعترفوا بما صنعوا.

٣٠٧

وقوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) استئناف يبيّن سبب الإحلال ، وهو قلّة الصبر عنهنّ ، وصعوبة الاجتناب عنهنّ ، لكثرة المخالطة ، وشدّة الملابسة ، وتلاصق أبدانكم بهنّ التصاق اللباس بالبدن. فلمّا كان الرجل والمرأة يعتنقان ، ويشتمل كلّ واحد على واحد ، شبّه باللباس ، أو لأنّ كلّا منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي : تخونونها بالمعصية ، ولا تؤدّون الأمانة بالامتناع عن المباشرة ، أو تظلمونها بتعريضها للعقاب ، وتنقيص حظّها من الثواب. والاختيان أبلغ من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) قبل توبتكم لمّا تبتم ممّا اقترفتموه ، فرخّص لكم وأزال التشديد عنكم (وَعَفا عَنْكُمْ) ومحا عنكم أثره (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) أي : جامعوهنّ حين نسخ عنكم تحريم المباشرة. والأمر للإباحة بعد الحظر. وفيه دليل على جواز نسخ السنّة بالقرآن. والمباشرة إلزاق البشرة بالبشرة ، كنّي به عن الجماع (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) واطلبوا ما قدّره لكم ، وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد. والمعنى : أنّ المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد ، فإنّه الحكمة من خلق الشهوة وشرع النكاح ، لا قضاء الشهوة وحدها ، أو اطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال الّذي بيّنه في كتابه.

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) هذا أيضا أمر الاباحة (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) أي : يظهر ويتميّز لكم على التحقيق (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) شبّه أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق ، وما يمتدّ معه من ظلمة اللّيل بخيطين أبيض وأسود. واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله : «من الفجر» عن بيان الخيط الأسود ، لدلالته عليه ، وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل ، كما أنّ قولك : رأيت أسدا مجاز ، فإذا زدت «من فلان» رجع تشبيها. ويجوز أن يكون «من» للتبعيض ، فإنّ ما

٣٠٨

يبدو بعض الفجر.

وروي أنّها نزلت ولم ينزل «من الفجر» ، فقال عديّ بن حاتم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود ، فكنت أنظر فيهما فلا يتبيّن لي؟ فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى رئيت نواجذه ، ثمّ قال : يا ابن حاتم إنّما ذلك بياض النهار وسواد الليل ، فابتداء الصوم من هذا الوقت ، ثمّ نزل : «من الفجر». فإن صحّ هذا النقل ، وكان قبل دخول رمضان ، فتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز.

(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ) من وقت طلوع الفجر الثاني ، وهو المستطير المعترض الّذي يأخذ الأفق ، وهو الفجر الصادق الّذي يجب عنده الصلاة (إِلَى اللَّيْلِ) هذا بيان آخر وقته وإخراج الليل عنه ، فينتفي صوم الوصال ، أي : أتمّوه إلى وقت دخول الليل ، وهو بعد غروب الشمس. وعلامة دخوله سقوط الحمرة من جانب المشرق ، وإقبال السواد منه إلى قامة الرأس. وعند العامّة دخول الليل بمجرّد استتار القرص. والأوّل مذهب فقهائنا إلّا علم الهدى (١) قدس‌سره.

وبعد حكم الصوم بيّن حكم الاعتكاف الّذي يكون الصوم من جملة شروطه ، فقال : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) معتكفون فيها ، أي : في حال اعتكافكم فيها. والاعتكاف هو اللبث في المسجد الأعظم من كلّ بلد ، يكون أقلّه ثلاثة أيّام. وعند بعض علمائنا (٢) الاعتكاف إنّما يكون في المساجد الأربعة لا غير : المسجد الحرام ، ومسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة. والمراد بالمباشرة الوطء فقط عند أكثر العامّة. وعند مالك وابن زيد الوطء وكلّ ما

__________________

(١) للاستزادة انظر جواهر الكلام ٧ : ١٠٩.

(٢) كالطبرسي في مجمع البيان ٢ : ٢٨١.

٣٠٩

دونه من قبلة وغيرها. وهو مذهبنا ، استنادا إلى الروايات المنقولة عن أئمّتنا عليهم‌السلام.

روي عن قتادة : كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثمّ يرجع ، فنهوا عن ذلك. فترك المباشرة شرط آخر لصحّة الاعتكاف. والشروط والأحكام المتعلّقة بالاعتكاف مذكورة في كتب الفقه.

(تِلْكَ) أي : الأحكام الّتي ذكرت (حُدُودُ اللهِ) حرمات الله ومناهيه (فَلا تَقْرَبُوها) فلا تأتوها. نهى أن يقرب الحدّ الحاجز بين الحقّ والباطل لئلّا يدانى الباطل ، فضلا عن أن يتخطّى عنه ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن لكلّ ملك حمى ، وأنّ حمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه». والرتع حول الحمى القرب منه. وهو أبلغ من قوله : «فلا تعتدوها». وقيل : معناه : وتلك فرائض الله فلا تقربوها بالمخالفة (كَذلِكَ) أي : مثل ذلك البيان (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) حججه ودلائله (لِلنَّاسِ) على ما أمرهم به ونهاهم عنه (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) مخالفة الأوامر والنواهي.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨))

ثمّ بيّن سبحانه شريعة أخرى من شرائع الإسلام نسقا على ما تقدّم من بيان الحلال والحرام ، فقال : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ) أي : لا يأكل بعضكم مال بعض (بِالْباطِلِ) بالوجه الّذي لم يبحه الله. و «بين» نصب على الظرف أو الحال من الأموال (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) عطف على المنهيّ. والإدلاء الإلقاء ، أي : ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكّام ، أو لا تلقوا بها إلى حكّام السوء على وجه الرشوة (لِتَأْكُلُوا) بالتحاكم (فَرِيقاً) طائفة (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) بما يوجب

٣١٠

إثما ، كشهادة الزور واليمين الكاذبة ، أو ملتبسين بالإثم أو بالصلح (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم مبطلون ظالمون في الدعوى وفي أخذ الأموال ، فإنّ ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح.

روي : «أنّ عبدان الحضرمي ادّعى على امرئ القيس الكندي قطعة أرض ، ولم يكن له بيّنة ، فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يحلف امرئ القيس فهمّ به ، فقرأ عليه‌السلام :

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) (١) فارتدع عن اليمين وسلّم الأرض إلى عبدان ، فنزلت هذه الآية».

وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لخصمين اختصما عنده : إنّما أنا بشر مثلكم ، فلعلّ بعضكم ألحن (٢) بحجّته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا ، فإن ما أقضي له قطعة من النار. فبكيا فقال كلّ واحد منهما : حقّي لصاحبي ، فقال : اذهبا فتوخّيا (٣) ، ثمّ استهما ، ثمّ ليحلّل كلّ واحد منكما صاحبه».

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

ثمّ بيّن سبحانه شريعة أخرى فقال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) روي أنّ معاذ

__________________

(١) آل عمران : ٧٧.

(٢) أي : أقوم بها من صاحبه ، وأقدر عليه ، من اللحن بمعنى الفطنة.

(٣) توخّى الأمر : تعمّده وتطلّبه دون سواه. واستهم القوم : تقارعوا.

٣١١

ابن جبل قال : «يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ، ثمّ يزيد حتى يستوي ، ثمّ لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، ولا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت».

والمعنى : يسألونك عن أحوال الأهلّة في زيادتها ونقصانها ، ووجه الحكمة في ذلك (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) أي : معالم لهم يحتاجون إلى مقاديرها في صومهم وفطرهم وعدد نسائهم ومحلّ ديونهم (وَالْحَجِ) ومعالم لحجّهم يعرف بها وقته. وهذا تخصيص بعد التعميم ، للاهتمام بشأنه.

وملخّص المعنى : أنّهم لمّا سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدّل أمره ، فأمره الله تعالى أن يجيب بأنّ الحكمة الظاهرة في ذلك أن يكون معالم للناس يوقّتون بها أمورهم ، ومعالم للعبادات الموقّتة يعرف بها أوقاتها ، خصوصا الحجّ ، فإنّ معرفة وقت الحجّ موقوفة عليها. والمواقيت جمع ميقات من الوقت. والفرق بينه وبين المدّة والزمان : أنّ المدّة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها ، والزمان مدّة مقسومة ، والوقت الزمان المفروض لأمر.

روي أنّ الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا ولا فسطاطا من بابه ، بل إن كانوا من أهل المدر ينقبون في ظهر بيوتهم نقبا منه يدخلون ويخرجون ، أو يتّخذون سلّما يصعدون فيه ، وإن كانوا من أهل الوبر يجعلون فرجة خلف الخباء يخرجون ويدخلون منه ، ويعدّون ذلك برّا ، فبيّن الله تعالى لهم أنّه ليس ببرّ ، فقال : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) أي : ليس البرّ بتحرّجكم من دخول الباب وإتيانكم البيوت من ورائها (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) أي : برّ من اتّقى المحارم والشهوات غير المشروعة.

ووجه اتّصاله بما قبله أنّهم سألوا عن الأمرين ، أو أنّه لمّا ذكر أنّ الأهلّة

٣١٢

مواقيت الحجّ ، وهذا أيضا من أفعالهم في الحجّ ، ذكره للاستطراد ، أو أنّهم لمّا سألوا عمّا لا يعنيهم ، ولا يتعلّق بعلم النبوّة ، وتركوا السؤال عمّا يعنيهم ويختصّ بعلم النبوّة ، عقّب بذكر جواب ما سألوه تنبيها على أنّ اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك ، ويهتمّوا بالعلم بها.

وكذا قال في المجمع : «قيل : إنّه سبحانه لمّا بيّن أنّ أمورنا مقدّرة بأوقات قرن به قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) ، أي : فكما أنّ أموركم مقدّرة بأوقات ، فلتكن أفعالكم جارية على الاستقامة ، باتّباع ما أمر الله به ، والانتهاء عمّا نهى عنه ، لأنّ اتّباع ما أمر به خير من اتّباع ما لم يأمر به» (١).

(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) إذ ليس في العدول برّ ، وباشروا الأمور من وجوهها الّتي يجب أن تباشر عليها ، أيّ الأمور كان. ويحتمل أن يكون هذا تمثيلا لتعكيسهم في سؤالهم ، وأنّ مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره. والمعنى : ليس البرّ وما ينبغي أن تكونوا عليه ، بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكنّ البرّ برّ من اتّقى ذلك وتجنّبه ، ولم يجسر على مثله.

ثمّ قال : وأتوا البيوت من أبوابها ، أي : وباشروا الأمور من وجوهها الّتي يجب أن تباشر عليها ، ولا تعكسوا. والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أنّ جميع أفعال الله حكمة وصواب ، من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شكّ في ذلك حتى لا يسأل عنه.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تظفروا بالهدى والبرّ.

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٢٨٤.

٣١٣

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤))

ثمّ بيّن سبحانه أمر الجهاد الّذي هو معظم أركان الإسلام ، فقال : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) جاهدوا لإعلاء كلمته وإعزاز دينه (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) قيل : كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافّة ، المقاتلين منهم والمتقاعدين ، لما روي أنّ المشركين صدّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكّة ثلاثة أيّام ، فرجع لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون وهم يومئذ كانوا ألفا وأربعمائة أن لا يفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم والشهر الحرام ، وكرهوا ذلك ، فنزلت. وعن الربيع بن أنس : هي أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقاتل من قاتل ويكفّ عمّن كفّ.

٣١٤

وقيل : معناه : الّذين يناصبونكم القتال ، ويتوقّع ذلك منهم ، دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهبان والنساء أو الكفرة كلّهم ، فإنّهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده ، فهم في حكم المقاتلين.

(وَلا تَعْتَدُوا) بابتداء القتال ، أو بقتال المعاهد ، أو المفاجأة به من غير دعوة ، أو المثلة ، أو قتل من نهيتم عن قتله من النساء والصبيان والشيوخ (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) لا يريد بهم الخير.

روي عن أئمّتنا عليهم‌السلام أنّ هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١). وكذلك قوله : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ناسخ لقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ) (٢).

ثمّ خاطب المؤمنين مبيّنا لهم كيفيّة القتال مع الكافرين ، فقال : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) وجدتموهم في حلّ أو حرم. وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملا ، وهو يتضمّن معنى الغلبة ، ولذلك يستعمل فيها (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي : مكّة ، كما أخرجوكم منها ، وقد فعل ذلك بمن لم يسلّم يوم الفتح.

(وَالْفِتْنَةُ) أي : المحنة الشديدة الّتي يفتتن بها الإنسان ، كالإخراج من الوطن المألوف (أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أصعب منه ، لدوام تعبها وتألّم النفس بها جدّا ، ومنه قول القائل :

لقتل بحدّ السيف أهون موقعا

على النفس من قتل بحدّ فراق

وقيل لبعض الحكماء : ما أشدّ من الموت؟ قال : الّذي يتمنّى فيه الموت.

__________________

(١) النساء : ٧٧.

(٢) الأحزاب : ٤٨.

٣١٥

وقيل : معناه : شركهم في الحرم وصدّهم إيّاكم عنه أشدّ من قتلكم إيّاهم فيه. ويسمّى الكفر فتنة لأنّه يؤدّي إلى الهلاك كالفتنة ، أو لأنّه فساد يظهر عند الاختبار.

ثمّ نهى ابتداء المسلمين بالقتال أو بالقتل في الحرم ، فقال : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لا تفاتحوهم بالقتال وهتك حرمة المسجد الحرام (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) حتى يبتدأ المشركون بذلك (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) بدءوكم بذلك (فَاقْتُلُوهُمْ) فلا تبالوا بقتالهم ثمّ ، فإنّهم الّذين هتكوا حرمته. وقرأ حمزة والكسائي : ولا تقتلوهم ، حتى يقتلوكم ، فإن قتلوكم. والمعنى : حتى يقتلوا بعضكم ، كقولهم : قتلنا بنو أسد «كذلك» مثل ذلك الجزاء (جَزاءُ الْكافِرِينَ) جزاؤهم ، فيفعل بهم مثل ما فعلوا (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن القتال والكفر (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ما قد سلف.

وفي الآية دلالة على وجوب إخراج الكفّار من مكّة ، كقوله : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ). والسنّة قد وردت أيضا بذلك ، وهوقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان». وعلى أنّه تقبل توبة القاتل عمدا ، لأنّه بيّن أنّه عزّ اسمه يقبل توبة المشرك ، والشرك أعظم من القتل.

ثم بيّن سبحانه غاية وجوب القتال ، فقال مخاطبا للمؤمنين : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) خالصا له ليس للشيطان فيه نصيب (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي : فلا تعتدوا على المنتهين ، لأنّ مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، إذ لا يحسن عقلا وشرعا أن يظلم إلّا من ظلم ، فوضع العلّة وهي : «فلا عدوان» موضع الحكم وهو : فلا تعتدوا وسمّي جزاء الظلم باسمه للمشاكلة والزواج ، كقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ). أو إن تعرّضتم للمنتهين صرتم ظالمين ، وينعكس الأمر عليكم. والفاء الأولى للتعقيب ، والثانية للجزاء.

٣١٦

روي : قاتل المشركون المسلمين عام الحديبية في ذي القعدة ، واتّفق خروجهم لعمرة القضاء فيه ، فكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته ، فبيّن الله سبحانه جواز القتال في الشهر الحرام بلا كراهة ، فقال : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) يعنى : هذا الشهر بذلك الشهر ، وهتكه بهتكه ، فلا تبالوا به. قوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) احتجاج عليه ، أي : كلّ حرمة ـ وهو ما يجب أن يحافظ عليها ـ يجري فيها القصاص ، بأن يهتك له حرمته ، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم مثل ذلك ، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم. ثمّ أكّد ذلك بقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) أي : فجازوه (بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) لا أزيد منه (وَاتَّقُوا اللهَ) في حال كونكم منتصرين ، ولا تعتدوا إلى ما لم يرخّص لكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فيحرسهم ويصلح شأنهم.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))

ولمّا أوجب سبحانه القتال في سبيل الله عقّب بذلك الإنفاق فيه ، فقال : (وَأَنْفِقُوا) من أموالكم (فِي سَبِيلِ اللهِ) في الجهاد وأبواب البرّ ، ولا تمسكوا كلّ الإمساك (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بالإسراف وتضييع وجه المعاش ، بل راعوا حدّ الوسط ، فإنّ خير الأمور أوسطها. ويقرب منه ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لو أنّ رجلا أنفق ما في يده في سبيل الله ما كان أحسن ، ولا وفّق ، لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أو بالكفّ عن الغزو والإنفاق فيه ، فإنّه يقوّي العدوّ ويسلّطهم على إهلاككم. ويؤيّده ما روي عن أبي أيّوب الأنصارى أنّه قال : لمّا أعزّ الله تعالى الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نقيم فيها

٣١٧

ونصلحها ، فنزلت. أو بالإمساك وحبّ المال ، فإنّه يؤدّي إلى الهلاك المؤبّد ، ولذلك سمّي البخل هلاكا ، وهو في الأصل انتهاء الشيء في الفساد.

والإلقاء طرح الشيء. وعدّي بـ «إلى» لتضمّن معنى الانتهاء. وقيل : الباء مزيدة. والمراد بالأيدي الأنفس. والتهلكة والهلاك والهلك واحد ، فهي مصدر ، ومثله التضرّة والتسرّة ، أي : لا توقعوا أنفسكم في الهلاك. وقيل : معناه : لا تجعلوها آخذة بأيديكم ، أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها ، فحذف المفعول.

(وَأَحْسِنُوا) أعمالكم وأخلاقكم ، أو تفضّلوا على المحاويج بالاقتصاد (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) في الأعمال والأخلاق ، أو المقتصدين في الإنفاق.

وفي الآية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس ، وعلى جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف ، لأنّ في ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة.

وفيها دلالة على جواز الصلح مع الكفّار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين ، كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الحديبية ، وفعله أمير المؤمنين عليه‌السلام بصفّين ، وفعله الحسن عليه‌السلام مع معاوية من المصالحة لمّا تشتّت أمره وخاف على نفسه وشيعته.

فإن عورضنا بأنّ الحسين عليه‌السلام قاتل وحده؟

فالجواب أنّ فعله عليه‌السلام يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّه ظنّ أنّهم لا يقتلونه ، لمكانه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والآخر : أنّه غلب على ظنّه أنّه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبرا ، كما فعل بابن عمّه مسلّم ، فكان القتل مع عزّ النفس والجهاد أهون عليه.

٣١٨

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧))

ثمّ أعاد الله سبحانه الكلام إلى فرض الحجّ والعمرة على العباد بعد بيانه فريضة الجهاد ، فقال : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ائتوا بهما تامّين كاملين مستجمعي مناسكهما بشرائطهما وأركانهما لوجه الله خالصا ، وأقيموهما إلى آخر ما فيهما. وظاهر الأمر يقتضى الوجوب ، فدلّ الأمر بإتمامهما على أنّ العمرة واجبة مثل الحجّ ، كما هو مذهبنا ، ومرويّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وعليّ بن الحسين عليه‌السلام وسعيد بن جبير ومسروق والسدّي ، وبه قال الشافعي في الجديد. وقال أهل العراق : إنها مسنونة. وهذا خلاف الظاهر ، وخلاف ما روي عن الأئمّة المعصومين صلوات الله

٣١٩

عليهم. وأركان أفعال الحجّ وشرائطها مذكورة في كتب الفقه ، فلا نطوّل الكتاب بذكرها.

(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) منعتم ، يقال : أحصر الرجل إذا منع من مراده بعدوّ أو بمرض أو غيرهما ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) (١). وحصر إذا حبسه عدوّ عن المضيّ ، أو سجن ، ومنه قيل للمحبس : الحصير. وهما بمعنى المنع في كلّ شيء ، مثل صدّه وأصدّه. فعند أبي حنيفة كلّ منع بعدوّ أو مرض أو غيرهما يثبت له حكم الإحصار. وعند مالك والشافعي وأحمد يختصّ بمنع العدوّ وحده ، وأمّا المنع بالمرض فقالوا : يبقى على إحرامه ، ولا يتحلّل حتى يصل إلى البيت ، فإن فاته الحجّ جعل ما يفعل المفوت من عمل العمرة عليه والهدي والقضاء. هذا إذا لم يشترط عندهم ، أمّا مع الشرط فالصدّ والحصر سواء.

وعند أصحابنا الإماميّة أنّ الإحصار يختصّ بالمرض والصدّ بالعدوّ. ولمّا كان لكلّ منهما حكم ليس للآخر اختصّ باسم ، فإنّ حكم الممنوع بالمرض أن يبعث هديه مع أصحابه ، ويواعدهم يوما لذبحه ، فيتحلّل في ذلك اليوم من كلّ شيء ، إلّا من النساء حتى يحجّ في القابل إن كان حجّة واجبا ، أو يطاف عنه للنساء إن كان حجّة ندبا. والممنوع بالعدوّ يذبح هديه حينئذ ويحلّ له كلّ شيء حتى النساء ، كما ذكره الله تعالى في قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ).

(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي : فعليكم ما استيسر ، أو فالواجب ما استيسر ، أو فاهدوا ما استيسر. يقال : يسر الأمر واستيسر ، وصعب واستصعب ضدّه. والهدي جمع الهدية. وقيل : مفرد مؤنثّه هدية ، وجمعه هديّ بتشديد الياء ، واشتقاقه من الهديّة. وقيل : من «هداه» إذا ساقه إلى الرشاد ، لأنّه يساق إلى الحرم. والمعنى : إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلّل ، تحلّل بذبح هدي يتيسّر عليه ، من بدنة أو بقرة أو

__________________

(١) البقرة : ٢٧٣.

٣٢٠