زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

الشيء ما يملؤه. و «ذهبا» نصب على التمييز. (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) محمول على المعنى ، كأنّه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. أو معطوف على مضمر تقديره : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تقرّب به في الدنيا ، ولو افتدى به من العذاب في الآخرة. أو المراد : ولو افتدى بمثله. والمثل يحذف كثيرا في كلامهم ، قالوا : ضربته ضرب زيد ، أي : مثل ضربه ، وقضيّة ولا أبا حسن لها ، أي : لا مثل أبي حسن ، كما أنّه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، أي : أنت لا تفعل.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مبالغة في التحذير وإقناط كلّي ، لأنّ من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرّما (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) في دفع العذاب. و «من» مزيدة للاستغراق.

ولمّا ذكر في هذه الآية (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) وصل ذلك بقوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) لئلّا يؤدّي امتناع غناء الفدية إلى الفتور في الصدقة ، وما جرى مجراها من وجوه الطاعة.

ومعنى الآية : لن تبلغوا حقيقة البرّ الذي هو كمال الخير. وقيل : لن تنالوا برّ الله ـ وهو الثواب والرحمة والرضا ـ حتى تنفقوا من أموالكم الّتي تحبّونها ، كقوله : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ... وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) (١) الآية ، أو ممّا يعمّ الأموال وغيرها ، كبذل الجاه في معاونة الناس ، والبدن في طاعة الله ، والمهجة في سبيله.

روي عن أبي الطفيل قال : «اشترى عليّ عليه‌السلام ثوبا فأعجبه فتصدّق به وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنّة ، ومن أحبّ شيئا فجعله لله قال الله تعالى يوم القيامة : قد كان العباد يكافئون فيما بينهم بالمعروف ، وأنا أكافئك اليوم بالجنّة».

__________________

(١) البقرة : ٢٦٧.

٥٢١

وروي أنّها لمّا نزلت جاء أبو طلحة : فقال : «يا رسول الله إنّ أحبّ أموالي إليّ بئر حا (١) ، فضعها حيث أراك الله. فقال : بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح لك ، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسّمها في أقاربه».

وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبّها فقال : هذه في سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسامة بن زيد. فقال زيد : إنّما أردت أن أتصدّق بها. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله قد قبلها منك. وذلك يدلّ على أنّ إنفاق أحبّ الأموال على أقرب الأقارب أفضل ، وأنّ الآية تعمّ الإنفاق الواجب والمستحبّ.

ويروي عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن هذه الآية فقال : «هو أن ينفق العبد المال وهو شحيح ، يأمل الدنيا ويخاف الفقر».

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) من ايّ شيء كان ، طيّب تحبّونه ، أو خبيث تكرهونه. و «من» لبيان «ما». (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم بحسبه.

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))

ولمّا بيّن الله سبحانه محاجّتهم في ملّة إبراهيم ، وكان ممّا أنكروا على

__________________

(١) بئر حابستان من بساتين المدينة ، أي : البستان الذي فيه بئر حا ، أضيف البئر إلى حا ، وكانت بساتين المدينة تدعى بالآبار التي فيها.

٥٢٢

نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحليله لحم الجزور ، وادّعوا تحريمه على إبراهيم ، وأنّ ذلك مذكور في التوراة ، فكذّب الله قولهم فقال : (كُلُّ الطَّعامِ) أي : كلّ أنواع الطعام ، أو كلّ المطعومات. والمراد أكلها. (كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) حلالا لهم. وهو مصدر نعت به ، ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع ، والمذكّر والمؤنّث ، قال الله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) (١).

(إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) يعقوب عليه‌السلام (عَلى نَفْسِهِ) كلحوم الإبل وألبانها. قيل : كان به عرق النساء ، فنذر إن شفي لم يأكل أحبّ الطعام إليه ، وكان ذلك أحبّه إليه. وقيل : فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطبّاء. (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي : من قبل إنزالها مشتملة على تحريم ما حرّم عليه لظلمهم وبغيهم ، عقوبة وتشديدا.

وحاصل المعنى : أنّ المطاعم كلّها لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرّم عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، لم يحرم منها شيء قبل ذلك ، غير المطعوم الواحد الّذي حرّمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فتبعوه على تحريمه.

وهذا ردّ على اليهود في دعوى براءة ساحتهم عمّا نطق به القرآن من تحريم الطيّبات عليهم ببغيهم وظلمهم ، في قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) (٢). وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) (٣) الآيتين ، بأن قالوا : لسنا أوّل من حرّمت عليه ، وإنّما كانت محرّمة على نوح وإبراهيم ومن بعده ، حتى انتهى الأمر إلينا ، فحرّمت علينا كما حرّمت على من قبلنا. وفي منع (٤) النسخ.

فكذّبهم الله ، ثم قال : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أمر

__________________

(١) الممتحنة : ١٠.

(٢) النساء : ١٦٠.

(٣) الأنعام : ١٤٦.

(٤) عطف على قوله : في دعوى براءة ساحتهم ... قبل أسطر.

٥٢٣

بمحاجّتهم بكتابهم ، وتبكيتهم بما فيه من أنّه قد حرّم عليهم بسبب ظلمهم ما لم يكن محرّما.

روي : «أنّه عليه‌السلام لمّا قال لهم بهتوا ، ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة». وفيه دليل على نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ابتدعه على الله تعالى ، بزعمه أنّ ذلك كان محرّما قبل نزول التوراة على بني إسرائيل ومن قبلهم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد ما لزمتهم الحجّة (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الّذين لا ينصفون من أنفسهم ، ويكابرون الحقّ بعد ما وضح لهم.

ثمّ عرّض بكذبهم فقال : (قُلْ صَدَقَ اللهُ) أي : ثبت أنّ الله تعالى صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي : ملّة الإسلام الّتي هي في الأصل ملّة إبراهيم عليه‌السلام ، أو مثل ملّته ، حتى تتخلّصوا من اليهوديّة الّتي اضطرّتكم إلى التحريف والمكابرة لتسوية الأغراض الدنيويّة ، وألزمتكم تحريم طيّبات أحلّها الله لإبراهيم ومن تبعه.

والصحيح أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن متعبّدا بشريعة من تقدّم من الأنبياء ، ولكن وافقت شريعته شريعة إبراهيم ، فلذلك قال : اتّبعوا ملّة إبراهيم ، وإلّا فالله هو الّذي أوحى بها إليه وأوجبها عليه ، فكانت شريعة له. فالتفسير الثاني هو الحقّ. وإنما رغّب الله في شريعة الإسلام بأنّها ملّة إبراهيم لأن المصالح إذا وافقت ما تميل النفس إليه ويقبله العقل بغير كلفة كانت أحقّ بالرغبة فيها ، وكان المشركون يميلون إلى اتّباع ملّة إبراهيم ، فلذلك خوطب بذلك.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فيه إشارة إلى أن اتّباعه واجب في التوحيد الصرف ، والاستقامة في الدين ، والتجنّب عن الإفراط والتفريط. وتعريض بشرك اليهود.

٥٢٤

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

ولمّا أمر الله سبحانه أهل الكتاب باتّباع ملّة إبراهيم ، ومن ملّته تعظيم البيت الحرام ، فذكر البيت وفضله وحرمته وما يتعلّق به ، فقال : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) أي : وضع للعبادة ، وجعل متعبّدا لهم. والواضع هو الله تعالى. ويدلّ عليه أنّه قرئ على البناء للفاعل.

عن مجاهد : أنّ المسلمين واليهود تفاخروا ، فقالت اليهود : بيت المقدس أعظم وأفضل من الكعبة ، لأنّها مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدّسة ، فقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله ردّا على قول اليهود : «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) للبيت الّذي ببكّة. وهي لغة في مكّة ، كالنبيط والنميط ، وأمر راتب وراتم ، ولازب ولازم. وقيل : بكّة موضع المسجد ، ومكّة البلد. وعن أبي جعفر عليه‌السلام : «بكّة المسجد ، ومكّة الحرم كلّه». من : بكّة إذا دقّه ، فإنّها تبكّ أعناق الجبابرة حين قصدوه ، أو من : بكّ بصيغة المجهول ، لأنّها مزدحم الناس للطواف.

روي : «أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن أوّل بيت وضع للناس. فقال : المسجد الحرام ، ثم بيت المقدس. وسئل كم بينهما؟ فقال : أربعون سنة».

روي عن مجاهد وقتادة والسدّي : أنّ الكعبة هي أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الله السماء والأرض ، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء».

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّها كانت مهاة بيضاء» يعني : درّة.

٥٢٥

وروي عن أبي خديجة عنه عليه‌السلام قال : «إن الله أنزله لآدم من الجنّة ، وكان درّة بيضاء ، فرفعه الله إلى السماء وبقي أسّه ، وهو بحيال هذا البيت ، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبدا ، فأمر الله إبراهيم وإسماعيل ببنيان البيت على القواعد».

وروي أصحابنا أنّ أوّل شيء خلق الله عزوجل موضع الكعبة ، ثم دحيت الأرض من تحتها.

وقيل : أوّل من بناه إبراهيم عليه‌السلام ، ثم هدم فبناه قوم من جرهم ، ثم العمالقة ، ثم قريش.

وقيل : هو أوّل بيت بناه آدم عليه‌السلام ، فانطمس في الطوفان ، ثم بناه إبراهيم عليه‌السلام.

وقيل : كان في موضعه قبل آدم عليه‌السلام بيت يقال له الضراح (١) ، تطوف به الملائكة ، فلمّا أهبط آدم أمر بأن يحجّه ويطوف حوله ، ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة ، تطوف به ملائكة السموات.

وقيل : المراد أنّه أوّل بيت بالشرف لا بالزمان.

(مُبارَكاً) كثير النفع والخير والبركة لمن حجّة واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله. وانتصابه على الحال من الضمير في الظرف.

وقيل : بركته لثبوت العبادة فيه دائما ، حتى يحكى أنّ الطواف به لا ينقطع عنه أبدا. وقيل : لأنّه يضاعف فيه ثواب العبادة. وقيل : لأنّه يغفر فيه الذنوب. والأولى حمله على الجميع.

(وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) لأنّه قبلتهم ومتعبّدهم ، ولأنّ فيه دلالة لهم على الله عزّ اسمه بإهلاكه كلّ من قصده من الجبابرة ، كأصحاب الفيل ، وغير ذلك من الآيات العجيبة ، كما قال : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) كانحراف الطير عن موازاة البيت على مدى

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «ضرح أي : بعد ، فقيل : ضراحا لبعده من الأرض. منه».

٥٢٦

الأعصار ولا تعلوه ، وأنّ السباع الضارية تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرّض لها ، وبانمحاق (١) الجمار على كثرة الرماة ، فلو لا أنها ترفع لكان يجتمع هناك من الحجارة مثل الجبال ، وباستئناس الطيور فيه بالناس ، وبالاستشفاء بالبيت ، وأنّه إذا كان الغيث من ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن ، وإذا كان من ناحية الركن الشامي كان الخصب بالشام ، وإذا عمّ البيت كان في جميع البلدان ، وغير ذلك من الآيات. والجملة مفسّرة للهدى ، أو حال أخرى.

وقوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) مبتدأ محذوف خبره ، أي : منها مقام إبراهيم ، أو بدل من «آيات» بدل بعض من الكلّ. وقيل : عطف بيان على أنّ المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصمّاء ، وغوصها فيها إلى الكعبين ، وتخصيصها بهذه الإلانة (٢) من بين الصخار ، وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء عليهم‌السلام ، وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة. وقيل : سبب هذا الأثر أنّه لمّا ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكّن من رفع الحجارة ، فغاصت فيه قدماه. وفيه قول آخر مرّ (٣) في سورة البقرة.

سئل الصادق عليه‌السلام عن الحطيم فقال : «هو ما بين الحجر الأسود والباب. قيل : ولم سمّي الحطيم؟ قال عليه‌السلام : لأنّ الناس يحطم بعضهم بعضا. وهو الموضع الّذي فيه تاب الله على آدم».

وقال عليه‌السلام : «إن تهيّأ لك أن تصلّي صلواتك كلّها الفرائض وغيرها عند الحطيم فافعل ، فإنّه أفضل بقعة على وجه الأرض ، وبعده الصلاة في الحجر أفضل».

وروي عن أبي حمزة الثمالي قال : «قال لنا عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : أيّ البقاع أفضل؟ فقلنا : الله ورسوله وابن رسوله أعلم. فقال لنا : أفضل البقاع ما بين الركن

__________________

(١) انمحق الشيء : اضمحلّ وبطل وامّحى.

(٢) مصدر ألان يلين ، أي : جعله ليّنا.

(٣) في ص : ٢٢٨ ذيل الآية ١٢٥.

٥٢٧

والمقام ، ولو أن رجلا عمّر ما عمّر نوح عليه‌السلام في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما ، يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ، ثم لقي الله عزوجل بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا».

وقال الصادق عليه‌السلام : «الركن اليماني بابنا الّذي ندخل منه الجنّة».

وروي : «أنّه من روي من ماء زمزم أحدث له به شفاء ، وصرف عنه داء».

(وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) جملة ابتدائيّة أو شرطيّة معطوفة من حيث المعنى على «مقام» ، لأنّه في معنى : آمن من دخله ، أي : ومنها آمن من دخله. أو فيه آيات بيّنات : مقام إبراهيم ، وآمن من دخله. اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما ، كقوله : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النساء ، والطيب ، وقرّة عيني في الصلاة» (١) ، لأنّ فيهما غنية عن غيرهما في الدارين ، من بقاء الأثر مدى الدهر والأمن من العذاب يوم القيامة ، كأنّه قيل : فيه آيات بيّنات : مقام إبراهيم ، وآمن من دخله ، وكثير سواهما. وقيل : قد يطلق الجمع ويراد منه التثنية ، لأنّها نوع من الجمع.

قال عليه‌السلام : «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا».

وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّ من دخله عارفا بما أوجبه الله عليه كان آمنا في الآخرة من النار».

وعند أصحابنا والحنفيّة : من لزمه القتل بقصاص أو غيره لم يتعرّض له ، ولكن ضيّق عليه المأكل والمشرب ليخرج منه.

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قصده للزيارة على الوجه المخصوص. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص : حجّ بالكسر. وهو لغة نجد. (مَنِ

__________________

(١) في هامش النسخة الخطية : «فإن قوله : قرة عيني ، ابتداء كلام ، لما ذكر الأولين أعرض عنهما وقال : مالي وما الدنيا ، وأعرض عن ذكر الثالث وقال : قرة عيني في الصلاة. منه».

٥٢٨

اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) بدل من الناس مخصّص له. والضمير راجع إلى البيت أو الحجّ. وكلّ مأتيّ إلى الشيء فهو سبيله.

روي عن أئمّتنا عليهم‌السلام أنّ الاستطاعة هي : الزاد والراحلة ، ونفقة من تلزمه نفقته ، والرجوع إلى كفاية ، إمّا من مال أو ضياع أو حرفة ، مع الصحّة في النفس ، وتخلية السّرب من الموانع ، وإمكان السير.

(وَمَنْ كَفَرَ) وضع «كفر» موضع «لم يحجّ» تأكيدا لوجوبه ، وتغليظا على تارك الحجّ ، ولذلك قال عليه‌السلام : «من مات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهوديّا أو نصرانيّا». كما جاء في الحديث : «من ترك الصلاة متعمّدا فقد كفر». (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) لم يقل : عنه ، ليكون بدلالته على الاستغناء الكامل أدلّ على عظم سخط الله الّذي وقع الاستغناء عبارة عنه. وفي الأثر : لو ترك الناس الحجّ عاما واحدا ما نوظروا ، أي : ما أمهلوا.

وفي الأنوار : «قد أكّد أمر الحجّ في هذه الآية من وجوه : الدلالة على وجوبه بصيغة الخبر ، وإبرازه في الصورة الاسميّة ، وإيراده على وجه يفيد أنّه حقّ واجب لله تعالى في رقاب الناس ، وتعميم الحكم أوّلا ثم تخصيصه ثانيا ، فإنّه كإيضاح بعد إبهام ، وتثنية وتكرير للمراد ، وتسمية ترك الحجّ كفرا من حيث إنّه فعل الكفرة ، وذكر الاستغناء ، فإنّه في هذا الموضع ممّا يدلّ على المقت والخذلان. وقوله : «عن العالمين» يدلّ عليه ، لما فيه من مبالغة التعميم ، والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان ، وهو غناؤه من جميع العالم ، والإشعار بعظم السخط ، لأنّه تكليف شاقّ جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن ، وصرف المال ، والتجرّد عن الشهوات ، والإقبال على الله تعالى» (١).

روي أنّه لمّا نزل صدر الآية جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرباب الملل فخطبهم

__________________

(١) أنوار التنزيل ٢ : ٣٢ ـ ٣٣.

٥٢٩

وقال : «إنّ الله كتب عليكم الحجّ فحجّوا ، فآمنت به ملّة واحدة ، أي : المسلمون ، وكفرت به خمس ، فنزل : ومن كفر».

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩))

ثمّ عاد الكلام إلى حجاج أهل الكتاب ، فقال مخاطبا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي : بآياته السمعيّة والعقليّة الدالّة على صدق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يدّعيه من وجوب الحجّ وغيره. وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أنّ كفرهم أقبح ، وأنّهم إن زعموا أنّهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما.

(وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) الواو للحال. والمعنى : لم تكفرون بالآيات الّتي دلّتكم على صدق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال أنّ الله شهيد مطّلع على أعمالكم ، فيجازيكم عليها ، لا ينفعكم التحريف والاستسرار ، فكيف تجسرون على الكفر بآياته؟! (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ) لم تمنعون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) هو دين الإسلام (مَنْ آمَنَ) كرّر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم ، وإشعارا بأنّ كلّ واحد من الأمرين مستقبح في نفسه ، مستقلّ باستجلاب العذاب. وسبيل الله دينه الحقّ المأمور بسلوكه ، وهو الإسلام.

قيل : كانوا يفتنون المؤمنين ، ويغرّون بينهم بأسباب العداوة ، حتى أتوا

٥٣٠

الأوس والخزرج ، فذكّروهم الحروب الّتي كانت بينهم في الجاهليّة ليعودوا لمثلها.

(تَبْغُونَها عِوَجاً) تطلبون لها اعوجاجا وميلا عن الاستقامة. وهو حال من الواو ، أي : باغين طالبين لها اعوجاجا ، بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أنّ فيه عوجا عن الحقّ ، بمنع النسخ في شريعة موسى ، وتغيير صفة رسول الله ، ونحوهما ، أو بأن تحرّشوا بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختلّ أمر دينهم. (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) بأنّها سبيل الله الّذي ارتضاه ، وتجدون ذلك في كتابكم ، أو أنتم عدول بين أهل دينكم ، يثقون بأقوالكم ، ويستشهدونكم في القضايا (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد لهم.

ولمّا كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ، ختمها بقوله : (وَاللهُ شَهِيدٌ). ولمّا كان في هذه الآية صدّهم للمؤمنين عن الإسلام ، وكانوا يخفونه ويحتالون فيه ، قال : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١))

روي أنّ نفرا من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدّثون فمرّ بهم شاس بن قيس اليهودي ، فغاظه تألّفهم واجتماعهم ، فأمر شابّا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكّرهم يوم بعاث ـ بالعين المهملة ، وهو اسم حصن للأوس ـ وينشدهم بعض ما قيل فيه ، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ، ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا : السلاح السلاح ، واجتمع من القبيلتين خلق عظيم ، فتوجّه إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه فقال : أتدعون الجاهليّة وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله

٥٣١

بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة ، وألّف بينكم ، فعلموا أنّها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم ، فألقوا السلاح ، واستغفروا ، وعانق بعضهم بعضا ، وانصرفوا مع الرسول. فخاطبهم الله بعد ما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يخاطب أهل الكتاب ، إظهارا لجلالة قدرهم ، وإشعارا بأنّهم الأحقّاء بأن يخاطبهم الله تعالى ويكلّمهم ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) في إحياء الضغائن الّتي كانت بينكم في الجاهليّة (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ).

ثم عظّم الشأن عليهم بأن قال : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) أي : ومن أين يتطرّق إليكم الكفر (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) والحال أنّ آيات الله تتلى عليكم على لسان رسوله (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) وهو بين أظهركم يعظكم وينبّهكم. هذا إنكار وتعجيب لكفرهم في حال اجتمع لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان ، الصارفة عن الكفر.

(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) ومن يتمسّك بدين الله ، أو يلتجئ إليه في مجامع أموره (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فقد حصل له الهدى لا محالة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) حقّ تقواه وما يجب منها ، وهو

٥٣٢

استفراغ الوسع في القيام بالواجب ، والاجتناب عن المحارم. وعن الصادق عليه‌السلام : «هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى». وقيل : هو أن ينزّه الطاعة عن الالتفات إليها ، وعن توقّع المجازاة عليها. ونحوه قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (١) أي : بالغوا في التقوى حتّى لا تتركوا من المستطاع فيها شيئا. وفي هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب. وأصل تقاة وقية ، فقلبت واوها المضمومة تاء ، كما في تؤدة وتخمة ، والياء ألفا.

(وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : ولا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت ، كما تقول لمن تستعين به على القتال : لا تأتني إلّا وأنت على فرس ، فلا تنهاه عن الإتيان ، ولكنّك تنهاه عن خلاف الحال الّتي ذكرتها في وقت الإتيان ، فإنّ النهي عن المقيّد بحال أو غيرها قد يتوجّه بالذات نحو الفعل تارة والقيد أخرى ، وقد يتوجّه نحو المجموع دونهما ، وكذلك النفي ، ومثل ذلك مرّ (٢) في سورة البقرة.

(وَاعْتَصِمُوا) وتمسّكوا (بِحَبْلِ اللهِ) بدين الإسلام أو بكتابه ، لقوله عليه‌السلام : «القرآن حبل الله المتين». استعير له الحبل من حيث إنّ التمسّك به سبب النجاة من الردى ، كما أنّ التمسّك بالحبل سبب للسلامة من التردّي. واستعير للوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحا للمجاز. (جَمِيعاً) أي : مجتمعين. ومعناه : واجتمعوا على التمسّك بعهد الله ، وهو الإيمان أو القرآن.

وروي أبان بن تغلب عن الصادق عليه‌السلام : «نحن حبل الله الّذي قال : واعتصموا بحبل الله جميعا».

والأولى حمله على الجميع. والّذي يؤيّده ما رواه أبو سعيد الخدري

__________________

(١) التغابن : ١٦.

(٢) راجع ص : ٢٤٤.

٥٣٣

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

(وَلا تَفَرَّقُوا) ولا تتفرّقوا عن الحقّ بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلف اليهود والنصارى ، أو لا تتفرّقوا تفرّقكم في الجاهليّة يحارب بعضكم بعضا ، أو لا تذكروا ما يوجب التفرّق ويزيل الألفة ، بل اثبتوا عليه ، والزموا الجماعة والائتلاف على الطاعة.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) الّتي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدّي إلى زوال الغلّ بينكم (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) في الجاهليّة متقابلين (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإسلام (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) متحابّين مجتمعين على الأخوّة في الله تعالى.

وقيل : كان الأوس والخزرج أخوين لأبوين ، فوقع بين أولادهما العداوة ، وتطاولت الحروب بينهم مائة وعشرين سنة ، حتّى أطفأها الله تعالى بالإسلام ، وألّف بينهم برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) مشرفين على الوقوع في نار جهنّم لكفركم ، إذ لو أدرككم الموت في تلك الحالة لوقعتم في النار (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بالإسلام. والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا. وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه ، أو لأنّه بمعنى الشفة ، فإنّ شفا البئر وشفتها طرفها ، كالجانب والجانبة. وأصله شفو ، فقلبت الواو ألفا في المذكّر ، وحذفت في المؤنّث.

(كَذلِكَ) مثل ذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) دلائله (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه.

٥٣٤

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)) (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩))

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) «من» للتبعيض ، لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية ، ولا يصلح لذلك إلّا من يعلم المعروف معروفا والمنكر منكرا ، فإنّ الجاهل ربّما نهى عن معروف أو أمر بمنكر. ولأنّه لا يصلح له كلّ أحد ، إذ للمتصدّي له شروط لا يشترك فيها جميع الأمّة ، كالعلم بالأحكام ومراتب الاحتساب ، وكيفيّة إقامتها ، وكالتمكّن من القيام بها. أو للتبيين ، بمعنى : وكونوا أمّة تأمرون ، كقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) (١). والدعاء إلى الخير يعمّ الدعاء إلى ما فيه

__________________

(١) آل عمران : ١١٠.

٥٣٥

صلاح دينيّ أو دنيوي. وعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه عطف الخاصّ على العامّ ، للإيذان بفضله.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المخصوصون بكمال الفلاح ، الأحقّاء به دون غيرهم.

وفي هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعظم محلّهما وموقعهما في الدين ، لأنّه سبحانه علّق الفلاح بهما.

روي أنّه عليه‌السلام سئل : «من خير النّاس؟ فقال : آمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأتقاهم لله ، وأوصلهم للرحم».

والأمر بالمعروف يكون واجبا ومندوبا على حسب ما يؤمر به. والنهي عن المنكر واجب كلّه ، لأنّ جميع ما أنكره الشرع حرام.

واعلم أنّ العاصي يجب عليه أن ينهى عمّا يرتكبه ، لأنّه يجب عليه تركه وإنكاره ، فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة رسوله ، وخليفة كتابه».

وعن درّة بنت أبي لهب قالت : «جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو على المنبر فقال : يا رسول الله من خير النّاس؟ قال : آمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأتقاهم لله ، وأرضاهم».

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) ذكر الاختلاف بعد التفريق للتأكيد واختلاف اللفظين. وقيل : معناه : كالّذين تفرّقوا بالعداوة ، واختلفوا بالديانة ، وهم اليهود والنصارى ، اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة على ما عرفت. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الآيات البيّنة ، والحجج المبيّنة للحقّ ، الموجبة للاتّفاق والائتلاف والاجتماع على كلمة الحقّ. والأظهر أن

٥٣٦

النهي فيه مخصوص بالتفرّق في الأصول دون الفروع ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اختلاف أمّتي رحمة». ولقوله عليه‌السلام : «من اجتهد فأصاب فله أجران ، ومن أخطأ فله أجر واحد».

وقيل : هم مبتدعوا هذه الأمّة ، وهم المجبّرة والحشويّة وسائر المخالفين المعاندين للحقّ.

(وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وعيد للّذين تفرّقوا ، وتهديد على التشبّه بهم.

وقوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) منصوب بما في «لهم» من معنى الفعل ، أو بإضمار «اذكر». وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه.

وقيل : إنّه يوسم أهل الحقّ ببياض الوجه والصحيفة ، وإشراق البشرة ، وسعي النور بين يديه وبيمينه. وأهل الباطل بسواد اللون ، وكسف وجهه ، واسوداد صحيفته ، وإحاطة الظلمة به من كلّ جانب. نعوذ بالله.

وإنّما تبيضّ فيه وجوه المؤمنين ثوابا لهم على الإيمان والطاعة ، وتسودّ وجوه الكافرين عقوبة لهم على الكفر والسيّئات ، بدلالة ما بعده ، وهو قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) على إرادة القول ، أي : فيقال لهم : أكفرتم. والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم. وهم أهل الكتاب كفروا برسول الله بعد إيمانهم به قبل مبعثه ، أو جميع الكفّار كفروا بعد ما أقرّوا به حين أشهدهم على أنفسهم ، إذ قيل لهم : ألست بربّكم؟ قالوا : بلى ، أو بعد ما تمكّنوا من الإيمان بالنظر في الدلائل والآيات. وقيل : هم المرتدّون.

وعن عليّ عليه‌السلام وقتادة : هم أهل البدع والأهواء والآراء الباطلة من هذه الأمّة.

٥٣٧

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «والّذي نفسي بيده ليردنّ عليّ الحوض ممّن صحبني أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولنّ : أصحابي أصحابي ، فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى». ذكره الثعلبي في تفسيره.

وقال أبو أمامة الباهلي : هم الخوارج. ولمّا رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال : كلاب النار هؤلاء شرّ قتلى تحت أديم السماء ، وخير قتلى تحت أديم السماء الّذين قتلهم هؤلاء. فقال له أبو غالب : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : بل سمعته من رسول الله غير مرّة. قال : فما شأنك دمعت عيناك؟ قال : رحمة لهم ، كانوا من أهل الإسلام فكفروا. ثم قرأ هذه الآية ، ثم أخذ بيده فقال : إن بأرضك منهم كثيرا ، فأعاذك الله منهم.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».

وعلى كلّ التقادير يقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أمر إهانة (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بسبب كفركم ، أو جزاء لكفركم.

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) يعني : الجنّة والثواب المخلّد. سمّى الله سبحانه الثواب رحمة ، وهو نعمة يستحقّ بها الشكر ، وكلّ نعمة تفضّل ، لأنّ سبب الثواب الّذي هو التكليف تفضّل ، ليكون الثواب على هذا الوجه تفضّلا. وكان حقّ الترتيب أن يقدّم ذكر المؤمنين ، ولكن قصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم.

وقوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) استئناف للتأكيد ، كأنّه قيل : كيف يكونون فيها؟

فقيل : هم فيها خالدون ، ولا يظعنون (١) عنها ولا يموتون.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) الواردة في الوعد والوعيد (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) ملتبسة

__________________

(١) أي : لا يرحلون عنها.

٥٣٨

بالحقّ والعدل لا شبهة فيها (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) أي : ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه ، إذ يستحيل الظلم منه ، لأنّ فاعل الظلم إمّا لجهله بقبح الظلم أو لحاجته إليه من دفع ضرر أو جرّ نفع ، وهو العالم بالذات بجميع المعلومات ، والغنيّ المطلق ، فلا يأخذ أحدا بغير جرم ، ولا يزيد في عقاب مجرم ، ولا ينقص من ثواب محسن.

ثمّ بيّن وجه استغنائه عن الظلم بقوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا وخلقا (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي : أمور العباد ، فيجازي كلّا بما وعد له وأوعد. ووضع هذا في موضع «ترجعون» ليكون أفحم في الذكر.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠))

ولمّا تقدّم ذكر الأمر والنهي عقّبه سبحانه بذكر من تصدّى للقيام بذلك ، ومدحهم ترغيبا في الاقتداء بهم ، فقال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) أي : وجدتم خير أمّة ، لأن «كان» عبارة عن وجود الشيء في زمان مّا ، ولم يدلّ على طروء انقطاع الخيريّة ، كقوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١). وقيل : كنتم في علم الله أو في اللوح خير أمّة ، أو كنتم في الأمم المتقدّمين مذكورين بأنّكم خير أمّة موصوفين به. (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أظهرت لهم.

وقوله : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي : بالطاعات (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي :

__________________

(١) النساء : ٩٦.

٥٣٩

عن المعاصي. كلام مستأنف بيّن به كونهم خير أمّة ، كما يقال : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويحسن إليهم.

وقوله : (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) يتضمّن الإيمان بكلّ ما يجب أن يؤمن به ، لأنّ الإيمان بالله إنّما يثبت ويعتدّ به إذا حصل الإيمان بكلّ ما أمر أن يؤمن به. وإنّما أخّره وحقّه أن يقدّم لأنّه قصد بذكره الدلالة على أنّهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، إيمانا بالله وتصديقا به ، وإظهارا لدينه.

واستدلّ بهذه الآية على أنّ الإجماع حجّة ، لأنّها تقتضي كونهم آمرين بكلّ معروف وناهين عن كلّ منكر ، إذ اللام فيهما للاستغراق ، فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك. وعندنا أنّ اجماع الأمّة إنّما يكون حجّة لوجود المعصوم فيهم ، وفي الحقيقة إنّما تكون الحجّة في قوله. وتبيين ذلك مذكور في كتب الأصول.

(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) إيمانا كما ينبغي ، وهو الإيمان بالنبيّ وبجميع ما جاء به ، كما أنهم يؤمنون بالله حقّ الإيمان به (لَكانَ) ذلك الإيمان (خَيْراً لَهُمْ) في الدنيا والآخرة ممّا هم عليه من الرئاسة وحظوظ الدنيا ، لأنّهم ينجون به في الدنيا من القتل ، وفي الآخرة من العذاب ، ويفوزون بالجنّة.

(مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) أي : المعترفون بما دلّت عليه كتبهم من صفة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبشارة به ، المقرّون به ، كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود ، والنجاشي وأصحابه من النصارى (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) أي : الخارجون عن طاعة الله ورسوله ، المتمرّدون في الكفر. وهذه (١) الجملة والّتي (٢) بعدها واردتان على سبيل الاستطراد.

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «يعني : منهم المؤمنون. منه».

(٢) في هامش النسخة الخطّية : «يعني : لن يضرّوكم. منه».

٥٤٠