زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

أصله : وما يخرجون ، فعدل إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود ، والإقناط عن الخلوص والرجوع إلى الدنيا. وفي «هم» دلالة على قوّة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩))

ولمّا قدّم سبحانه ذكر التوحيد وأهله ، والشرك وأهله ، أتبع ذلك بذكر ما تتابع منه سبحانه على الفريقين من النعم والإحسان ، ليجعلوها وسيلة إلى شكر منعمها الحقيقي ، وينقادوا لأمره ، وينتهوا عن اتّباع الشيطان ، لما في ذلك من الجحود لنعمه والكفران ، فقال خطابا عامّا لجميع المكلّفين من بني آدم : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا) لفظه لفظ الأمر ومعناه الإباحة (مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً). عن ابن عبّاس : أنّها نزلت في قوم حرّموا على أنفسهم رفيع الملابس ولذيذ المطاعم. و «حلالا» مفعول «كلوا» أو صفة مصدر محذوف ، أو حال «ممّا في الأرض». و «من» للتبعيض ، لأنّ كلّ ما في الأرض غير مأكول «طيّبا» طاهرا من كلّ شبهة. وقيل : الطيّب هو الحلال ، فجمع بينهما لاختلاف اللفظين تأكيدا. وقيل : معناه تستطيبونه وتستلذّونه في العاجل والآجل.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) يقال : اتّبع خطواته ، ووطئ على عقبه ، أي : اقتدى به واستنّ بسنّته. فالمعنى : لا تقتدوا به في اتّباع الهوى ، فتحرّموا الحلال وتحلّلوا الحرام.

٢٨١

وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة بتسكين الطاء ، وهما لغتان ، جمع خطوة ، وهو ما بين قدمي الخاطي ، وهي المرّة من الخطو ، كالغرفة والغرفة ، والقبضة والقبضة.

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة ، وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه ، ولذلك سمّاه وليّا في قوله : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) (١).

وهذه الآية دالّة على إباحة المأكل إلّا ما دلّ الدليل على حظره ، فجاءت مؤكّدة لما في العقل.

ثمّ بيّن عداوته ووجوب التحرّز عن متابعته ، فقال : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) أي : لا يأمركم بخير قطّ ، واستعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على الشرّ ، تسفيها لرأيهم ، وتحقيرا لشأنهم. والسوء والفحشاء ما أنكره العقل ، واستقبحه الشرع. والعطف لاختلاف الوصفين ، فإنّ ما أنكره العقل سوء لاغتمام العاقل به ، وفحشاء باستقباحه إيّاه. وقيل : السوء يعمّ القبائح ، والفحشاء ما يتجاوز الحدّ في القبح من الكبائر ، كالشرك وقتل النفس المعصومة والزنا. وقيل : الأول ما لا حدّ فيه ، والثاني ما شرع فيه الحدّ.

(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) كاتّخاذ الأنداد ، وتحليل المحرّمات ، وتحريم الطيّبات. ويدخل فيه كلّ ما يضاف إلى الله تعالى ممّا لا يجوز عليه ، وجميع الاعتقادات الباطلة والمذاهب الفاسدة. وفيه دليل على المنع من اتّباع الظنّ رأسا. وأمّا اتّباع المجتهد لما أدّى إليه ظنّ مستند إلى مدرك شرعيّ ـ كخبر الواحد ـ فوجوبه قطعيّ ، والظنّ في طريقه ، فإنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم ، كما بيّن في الكتب الأصوليّة.

__________________

(١) البقرة : ٢٥٧.

٢٨٢

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))

عن ابن عبّاس قال : دعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود إلى الإسلام ، فقالوا : بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا من التمسّك باليهوديّة ، فهم كانوا خيرا منّا وأعلم ، فنزلت : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن وشرائع الإسلام. عدل عن الخطاب عنهم للنداء على ضلالتهم ، فإنّه لا ضالّ أضلّ من المقلّد ، كأنّه التفت إلى العقلاء وقال لهم : أنظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون؟ والقائل لهم : النبيّ والمسلمون (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) وجدناهم عليه. وقيل : نزلت في المشركين ، أمروا باتّباع القرآن وسائر ما أنزل الله تعالى من الحجج والآيات ، فجنحوا إلى التقليد في عبادة الأصنام.

(أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الواو للحال أو العطف ، والهمزة للردّ والتعجيب. وجواب «لو» محذوف ، أي : لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكّرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحقّ لاتّبعوهم. وهو دليل على منع التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد ، وأمّا اتّباع الغير في الدين إذا علم بدليل مّا أنّه محقّ ـ كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام ـ فهو في الحقيقة ليس بتقليد ، بل اتّباع الغير لما أنزل الله تعالى.

ثمّ ضرب الله سبحانه مثلا للكفّار في تركهم إجابة من يدعوهم إلى التوحيد ، وركونهم إلى التقليد ، فقال : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) المضاف مقدّر ، تقديره : مثل

٢٨٣

داعي الّذين كفروا إلى الإيمان (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) أو : مثل الّذين كفروا كمثل بهائم الّذي ينعق (بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) دعاء الناعق ونداءه الّذي هو تصويت وزجر ، ولا تفقه شيئا آخر ولا تعي ، كما يفهم العقلاء ويعون.

والمعنى : أنّ الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ، ولا يتأمّلون فيما يقرّر معهم ، فهم في ذلك كالبهائم الّتي ينعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مقصده ، وتحسّ بالنداء ولا تفهم معناه.

وقيل : معناه : ومثلهم في اتّباعهم آباءهم وتقليدهم لهم ، كمثل البهائم الّتي لا تسمع إلّا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته ، فكذلك هؤلاء يتّبعونهم على ظاهر حالهم ولا يفقهون أهم على حقّ أم على باطل؟

وقيل : هو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه ، وهو التصويت على البهائم. وهذا يغني عن الإضمار ، لكن لا يساعده قوله : (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) لأنّ الأصنام لا تسمع ، إلّا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركّب.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) رفع على الذمّ ، أي : هم صمّ (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي : بالفعل ، للإخلال بالنظر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))

ثمّ خاطب سبحانه المؤمنين ، وذكر نعمه الظاهرة عليهم وإحسانه التامّ

٢٨٤

عليهم ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي : كلوا من مستلذّات ما رزقناكم ، لأنّ كلّ ما رزقه الله تعالى لا يكون إلّا حلالا. ثمّ أمرهم بالقيام بحقوقها ، فقال : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) الّذي رزقكم إيّاها وأحلّ لكم ، فإنّ عبادته لا تتمّ إلا بالشكر (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إن صحّ أنّكم تخصّونه بالعبادة ، وتقرّون أنّه المنعم على الحقيقة. وفي الحديث : «يقول الله : إنّي والجنّ والإنس في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري».

ولمّا ذكر سبحانه إباحة الطيّبات عقّبه بتحريم المحرّمات ، فقال : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي : أكلها والانتفاع بها ، وهي الّتي ماتت من غير ذكاة شرعيّة ، والسنّة ألحقت بها ما أبين من حيّ (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) خصّ اللحم بالذكر لأنّه معظم ما يؤكل من الحيوان ، وسائر أجزائه كالتابع له في الحرمة (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي : رفع به الصوت عند ذبحه للصنم. والإهلال أصله رؤية الهلال ، لكن لمّا جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رؤي سمّي ذلك إهلالا ، ثمّ قيل لرفع الصوت وإن كان بغير التكبير.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ) على مضطرّ آخر بالاستيثار لنفسه عليه أو بقصد اللذّة (وَلا عادٍ) سدّ الرمق أو الجوعة. وعنهم عليهم‌السلام غير باغ على إمام المؤمنين ، فإنّ نفسه معرّض للقتل في حكم الدين ، فلا يجوز أن يستبقى (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي : لا حرج عليه في تناوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) بما فعل (رَحِيمٌ) بما رخّصه فيه.

قال في المجمع : «إنّما ذكر المغفرة لأحد الأمرين : إمّا ليبيّن أنّه إذا كان يغفر المعصية فإنّه لا يأخذ بما رخّص فيه ، وإمّا لأنّه وعد بالمغفرة عند الإنابة إلى طاعة الله ممّا كانوا عليه من تحريم ما لم يحرّمه الله ، من السائبة والبحيرة وغيرهما» (١).

فإن قلت : «إنّما» يفيد قصر الحكم على ما ذكر ، وكم من حرام لم يذكر؟

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

٢٨٥

قلت : المراد قصر الحرمة على ما ذكر ممّا استحلّوه لا مطلقا ، أو قصر حرمته على حال الاختيار ، كأنّه قيل : إنّما حرّم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطرّوا إليها.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر اليهود الّذين تقدّم ذكرهم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ) ويستبدلون بتحريفه (ثَمَناً قَلِيلاً) عرضا حقيرا وهو الرشوة ، أو المراد الوظائف المرسومة المأخوذة عن رعاياهم كما مرّ (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) إما في الحال ادّعاء ، لأنّهم أكلوا ما يتلبّس بالنار ، لكونها عقوبة عليه ، فكأنّه إذا أكل ما يؤدي إلى النار أكل النار ، كقولهم : أكل فلان الدم ، إذا أكل الدية الّتي هي بدل منه. أو في المآل حقيقة ، أي : لا يأكلون يوم القيامة إلّا النّار. ومعنى (فِي بُطُونِهِمْ) ملء بطونهم ، يقال : أكل في بطنه ، وأكل في بعض بطنه.

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عبارة عن غضبه عليهم ، وتعريض بحرمانهم حال مقابليهم ـ وهم أهل الجنّة ـ في إكرام الله إيّاهم بكلامه والزلفى من الله (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ولا يثني عليهم ، ولا يصفهم بأنّهم أزكياء (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

٢٨٦

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في الدنيا (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) في الآخرة ، بكتمان الحقّ للمطامع والأغراض الدنيويّة (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجّب من حالهم في جرأتهم على النار ، والتباسهم بموجبات النار من غير مبالاة. و «ما» تامّة مرفوعة بالابتداء ، وتخصيصها كتخصيص قولهم : «شرّ أهرّ ذا ناب. أو استفهاميّة وما بعدها خبرها ، أي : أيّ شيء صبرهم؟ أو موصولة وما بعدها صلة والخبر محذوف ، أي : الّذي صبّرهم شيء عظيم. يقال : أصبره على كذا وصبّره بمعنى.

(ذلِكَ) ذلك العذاب (بِأَنَّ اللهَ) بسبب أنّ الله (نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) في كتب الله ، فاللام فيه للجنس ، واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله وكفرهم ببعض. أو في التوراة ، فاللام للعهد ، واختلفوا بمعنى : تخلّفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها ، أو خلّفوا خلاف ما أنزل الله مكانه ، أي : حرّفوا ما فيها. أو في القرآن ، واختلافهم فيه قولهم : سحر ، وتقوّل ، وكلام علّمه بشر ، وأساطير الأوّلين (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) لفي خلاف بعيد عن الحقّ ، غير مجتمعين على الصواب.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

ولمّا حوّلت القبلة أكثروا الخوض في نسخها ، وزعم كلّ واحد من الفريقين

٢٨٧

أنّ البرّ هو التوجّه إلى قبلته ، وصرفوا أكثر أوقاتهم إلى البحث عنه ، حتى اشتغلوا عن أكثر أمورهم ، فنزلت : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) البرّ كلّ فعل مرضيّ. ومعناه : ليس البرّ ما أنتم عليه ، فإنّه منسوخ ، بل البرّ إنّما يكون ما اتّبعه المؤمنون. وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة ، فقيل : ليس البرّ الّذي يجب صرف الهمّة إليه مقصورا بأمر القبلة. أو ليس البرّ العظيم الّذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمر القبلة. وقرأ حمزة وحفص البرّ بالنصب ، بتقديم الخبر على الاسم.

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي : لكنّ البرّ الّذي ينبغي أن يهتمّ به برّ من آمن بالله ، أو ولكن ذا البرّ من آمن بالله. يدخل فيه جميع ما لا يتمّ معرفة الله إلّا به ، كمعرفة حدوث العالم ، وإثبات المحدث ، وصفاته الواجبة والجائزة ، وما يستحيل عليه تعالى ، ومعرفة عدله وحكمته (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يدخل فيه : التصديق بالبعث ، والحساب ، والعقاب ، والثواب (وَالْمَلائِكَةِ) بأنّهم عباد الله المكرمون ، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (١) (وَالْكِتابِ) وبالكتب المنزلة ، ومنها القرآن (وَالنَّبِيِّينَ) وبالأنبياء كلّهم ، وأنّهم معصومون ، وخاتمهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ شريعته ناسخة لجميع الشرائع ، والتمسّك بها لازم لجميع المكلّفين إلى يوم القيامة. وقرأ نافع وابن عامر : ولكن ، بالتخفيف ورفع البرّ.

(وَآتَى الْمالَ) أعطاه (عَلى حُبِّهِ) أي : حبّ المال والشحّ به ، كما قال ابن مسعود ، عن رسول الله حين سئل عنه : «أيّ الصدقة أفضل؟ قال : أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل العيش وتخشى الفقر ، لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا». وقيل : الضمير لله تعالى أو للمصدر ، أي : حبّ الله أو حبّ الإيتاء ، أي : يعطيه وهو طيّب النفس. والجار والمجرور في موضع الحال.

__________________

(١) اقتباس من الآية (٢٦ ـ ٢٧) من سورة الأنبياء.

٢٨٨

(ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى) يريد المحاويج منهم ، ولم يقيّد لعدم الالتباس. وقدّم ذوي القربى لأنّ إيتاءهم صدقة وصلة ، كما قال عليه‌السلام : «صدقتك على المسكين صدقة ، وعلى ذي رحمك اثنتان». وقال عليه‌السلام لفاطمة بنت قيس لمّا قالت : يا رسول الله ، إنّ لي سبعين مثقالا من ذهب ، فقال : «اجعليها في قرابتك». وعن الباقر والصّادق عليهما‌السلام : أنّ المراد قرابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١). (وَالْمَساكِينَ) جمع المسكين ، وهو الّذي أسكنته الخلّة ، وهي الحاجة. أو دائم السكون إلى النّاس ، لأنّه لا شيء له ، كالمسكير للدائم السكر (وَابْنَ السَّبِيلِ) المسافر المنقطع به. جعل من أبناء السبيل لملازمته له ، كما يقال للصّ القاطع : ابن الطريق. وقيل : هو الضيف ، لأنّ السّبيل يرعف (٢) به ، أي : يقدّمه إلى بيت الضيف. والقول الأوّل مرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام ومجاهد ، والثاني عن ابن عبّاس وقتادة وابن جبير (وَالسَّائِلِينَ) الّذين ألجأتهم الحاجة إلى السّؤال. وقال عليه‌السلام : «للسّائل حقّ وإن جاء على فرسه». (وَفِي الرِّقابِ) أي : صرف المال في تخليصها ، بمعاونة المكاتبين ، أو فكّ الأسارى ، أو ابتياع الرقاب لعتقها.

(وَأَقامَ الصَّلاةَ) المفروضة ، أي : أدّاها لميقاتها وعلى حدودها (وَآتَى الزَّكاةَ) أعطى زكاة ماله. يحتمل أن يكون المقصود منه ومن قوله : (آتَى الْمالَ) الزكاة المفروضة ، ولكن الغرض من الأولى بيان مصارفها ، وبالثاني أداؤها والحثّ عليها. وأن يكون المراد بالأوّل نوافل الصدقات ، أو حقوقا كانت في المال سوى الزكاة. وعن الشعبي قال : إنّ في المال حقّا سوى الزكاة ، وتلا هذه الآية ، فقال : ذكر إيتاء المال في هذا الوجوه ، ثمّ قفّاه بإيتاء الزّكاة.

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) رعف يرعف : سبق وتقدّم. (لسان العرب ٩ : ١٢٣)

٢٨٩

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) عطف على «من آمن». والمراد بالعهد جميع العهود والنذور الّتي بينهم وبين الله ، والعقود التي بينهم وبين الناس ، وكلاهما يلزم الوفاء به.

(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) نصب على الاختصاص أو المدح ، ولم يعطف ، بأن قال : والصّابرون ، لفضل الصبر في الشدائد على سائر الأعمال. عن الزهري : البأساء في الأموال ، والضرّاء في الأنفس كالمرض (وَحِينَ الْبَأْسِ) وقت مجاهدة العدوّ.

(أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي : صدقوا الله فيما قبلوا منه ، والتزموه علما ، وتمسّكوا به عملا ، في الدين واتّباع الحقّ وطلب البرّ (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) عن الكفر وسائر الرذائل بوسيلة فعل هذه الفضائل.

وهذه الآية الشريفة جامعة للكمالات الإنسانيّة بأسرها ، دالّة عليها صريحا أو ضمنا ، فإنّها بكثرتها وتشعّبها منحصرة في ثلاثة أشياء : صحّة الاعتقاد ، وحسن المعاشرة ، وتهذيب النفس. وقد أشير إلى الأوّل بقوله : «من آمن» إلى قوله :

«والنّبيّين» وإلى الثاني بقوله : (وَآتَى الْمالَ) إلى قوله : (وَفِي الرِّقابِ) ، وإلى الثالث بقوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) إلى آخرها ، ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه واعتقاده ، وبالتقوى اعتبارا بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحقّ ، وإليه أشار بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان».

واستدلّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ المعنيّ بها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأنّه لا خلاف بين الأمّة أنّه كان جامعا لهذه الخصال ، فهو مراد بها قطعا ، ولا قطع على كون غيره جامعا لها ، ولهذا قال الزجّاج والفرّاء : إنّها مخصوصة بالأنبياء المعصومين ، لأنّ هذه الأشياء لا يؤدّيها بكلّيّتها على حقّ الواجب فيها إلّا الأنبياء عليهم‌السلام.

٢٩٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

ولمّا بيّن سبحانه أنّ البرّ لا يتمّ إلّا بالإيمان والتمسّك بالشرائع ، بيّن أحكامها ، وبدأ بحفظ الدماء والجراح ، لأنّه الأهمّ ، فإنّه سبب بقاء الحياة الّذي به انتظام العالم ، ولا تحصل العبادة إلّا به ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) أي : فرض وأوجب القصاص ، أي : المساواة (فِي الْقَتْلى) جمع المقتول ، وهو أن يفعل بالقاتل ما فعله بالمقتول (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى).

روي أنّه كان في الجاهليّة بين حيّين من أحياء العرب دماء ، وكان لأحدهما طول وفضل على الاخر ، فأقسموا : لنقتلنّ بالعبد منّا الحرّ منكم ، وبالمرأة منّا الرجل منكم ، وبالرجل منّا الرجلين منكم ، بجراحة منّا جراحتين منكم ، ونتزوّج بنسائكم بغير مهور ، فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمر فيها أن يتقابلوا على طريق المساواة. ولا خلاف أنّ المراد به قتل العمد ، فإنّ العمد هو الّذي يجب فيه القصاص ، دون الخطأ المحض وشبيه العمد. قال الصّادق عليه‌السلام : «لا يقتل حرّ بعبد ، ولكن يضرب ضربا شديدا ، ويغرم دية العبد». ولا يقتل الرجل بالمرأة ، إلّا إذا أدّى إلى أهله نصف ديته.

٢٩١

فإن قلت : كيف قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) والأولياء مخيّرون بين القصاص والعفو وأخذ الدية.

قلت : المراد أنّه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص ، والفرض قد يكون مضيّقا وقد يكون مخيّرا فيه ، أو فرض عليكم التمسّك بما حدّ لكم ، وترك مجاوزته إلى ما لم يجعل لكم. ويجب على القاتل تسليم النفس إلى أولياء المقتول. ويجوز قتل العبد بالحرّ والأنثى بالذكر إجماعا. وليس في الآية ما يمنع ذلك ، لأنّه لم يقل : ولا تقتل الأنثى بالذكر ، ولا العبد بالحرّ. فما تضمّنته الآية معمول به. وما قلناه مثبت بالإجماع ، ولقوله سبحانه : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (١). وتفصيل هذا المبحث يحال إلى الكتب الفقهيّة.

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ) من جهته (شَيْءٌ) أي : شيء من العفو ، على أنّه كقولك : سير بزيد بعض السير وطائفة من السير ، لأنّ «عفا» لازم لا يتعدّى إلّا بواسطة «عن» ، فلا يصحّ أن يكون «شيء» في معنى المفعول به.

وإنّما قيل : شيء من العفو ، للإشعار بأنّه إذا عفي له طرف من العفو ، بأن يعفي عن بعض الدم ، أو عفا عنه بعض الورثة ، تمّ العفو وسقط القصاص ، ولم تجب إلّا الدّية.

وقيل : «عفي» بمعنى : ترك ، و «شيء» مفعول به. وهو ضعيف ، إذ لم يثبت «عفا الشيء» بمعنى : تركه ، بل أعفاه ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «واعفوا اللحى».

فإن قلت : إن «عفا» يتعدّى بـ «عن» لا باللّام ، فما وجه قوله : «فمن عفي له»؟

قلت : يتعدّى بـ «عن» إلى الجاني وإلى الذنب ، فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه ، قال الله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) (٢) و (عَفَا اللهُ عَنْها) (٣). فإذا تعدّى إلى الذنب

__________________

(١) المائدة : ٤٥.

(٢) التوبة : ٤٣.

(٣) المائدة : ١٠١.

٢٩٢

قيل : عفوت لفلان عمّا جنى ، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه. وعلى هذا ما في الآية ، كأنّه قيل : فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه ، يعني : وليّ الدم ، فاستغنى عن ذكر الجناية.

وأخوه هو وليّ المقتول. وذكر بلفظ الأخوّة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من أخوّة الإسلام.

(فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أي : فليكن ، أوفا لأمر ، أو فعلى العافي اتّباع. وهذه توصية للعافي والمعفوّ عنه جميعا ، أي : فليتّبع الوليّ القاتل بالمعروف ، بأن لا يشدّد في الطلب ، أو لا يطالبه إلّا مطالبة جميلة ، وينظره إن كان معسرا ، ولا يطالب بالزيادة على حقّه ، وليؤدّ إليه المعفوّ له بدل الدم أداء بإحسان ، بأن لا يمطله.

(ذلِكَ) أي : الحكم المذكور في العفو والدية ، أو النهي عن تجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) لما فيه من التسهيل والتفع. قيل : كتب على اليهود القصاص وحده ، وعلى النصارى العفو ، وخيّرت هذه الأمّة بينهما وبين الدية ، تيسيرا عليهم ، وتقديرا للحكم على حسب مراتبهم ، فالأفضل أن يختار العفو ، والأوسط الدية ، ثمّ يختار القصاص.

(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) بأن قتل بعد قبول الدية أو العفو ، أو تجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة. وقيل : في الدنيا ، بأن يقتل لا محالة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذه الدية».

ثمّ بيّن سبحانه وجه الحكمة في إيجاب القصاص ، فقال : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) وفيه فصاحة عجيبة ، وبلاغة بليغة ، من أنّ القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل ظرفا للحياة ، من قبيل جعل الشيء محلّ ضدّه. وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة معنى : أنّ لكم في هذا الجنس من الحكم الّذي هو القصاص

٢٩٣

حياة عظيمة ، وذلك أنّهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، ويقتلون بالمقتول غير قاتله ، فتقع الفتنة ، فكانت في القصاص حياة أيّ حياة ، أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، فسلم صاحبه من القتل ، وسلم هو من القود ، فكان القصاص سبب حياة نفسين.

ويحتمل أن يكون كلا الظرفين خبرين لـ «حياة» ، وأن يكون أحدهما خبرا والآخر صلة له ، أو حالا من الضمير المستكن فيه.

وقال في المجمع : ونظيره من كلام العرب : القتل أنفى للقتل ، إلّا أنّ ما في القرآن أكثر فائدة ، وأوجز في العبارة ، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة ، وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة.

أمّا كثرة الفائدة ، فلأنّ فيه جميع ما في قولهم : القتل أنفى للقتل ، وزيادة معان ، منها : إبانة العدل لذكره القصاص ، ومنها : إبانة الغرض المرغوب فيه وهو الحياة ، ومنها : الاستدعاء بالرغبة والرهبة ، وحكم الله به.

وأمّا الإيجاز في العبارة ، فإن الذي هو نظير : القتل أنفى للقتل ، قوله : القصاص حياة ، وهو عشرة أحرف ، وذلك أربعة عشر حرفا.

وأمّا بعده من الكلفة ، فهو أن في قولهم : القتل أنفى للقتل ، تكريرا غيره أبلغ منه.

وأمّا الحسن بتأليف الحروف المتلائمة ، فإنه مدرك بالحسّ ، وموجود باللفظ ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة ، لبعد الهمزة من اللام ، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام» (١).

ثمّ نادى أرباب العقول الصافية إلى التأمّل في حكمة القصاص ، من استبقاء

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٢٦٦.

٢٩٤

الأرواح وحفظ النفوس ، بقوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي : يا ذوي العقول الكاملة تأمّلوا في شرع القصاص وما يتعلّق به (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) القتل خوفا من القصاص ، أو لعلّكم تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له ، وغير ذلك من المعاصي.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

ثمّ بيّن سبحانه شريعة أخرى ، وهي الوصيّة ، فقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي ، حضر أسبابه وظهر أماراته (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) مالا. وقيل : مالا كثيرا ، لما روي عن عليّ عليه‌السلام : «أنّ مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهم أو ستّمائة ، فمنعه وقال : قال الله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والخير هو المال الكثير».

وهذا هو المأخوذ به عندنا ، لأنّ قوله عليه‌السلام حجّة.

و (الْوَصِيَّةُ) مرفوع بـ «كتب». وتذكير فعلها للفصل ، أو على تأويل : أن يوصي ، أو الإيصاء ، ولذلك ذكّر الراجع في قوله : «فمن بدّله». والعامل في «إذا». مدلول «كتب» ـ أي : وجب ـ لا «الوصيّة» ، لتقدّمه عليها (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي : لوالديه وأقاربه (بِالْمَعْرُوفِ) أي : بالشيء الّذي يعرف العقلاء أنّه لا جور فيه ولا حيف ، فلا يفضّل الغنيّ ، ولا يتجاوز الثلث. وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصا في مروءته وعقله».

٢٩٥

(حَقًّا) مصدر مؤكّد ، أي : حقّ ذلك حقّا واجبا (عَلَى الْمُتَّقِينَ) على من آثر التقوى.

قالوا : إنّ هذا الحكم كان في بدء الإسلام ، فنسخ بآية المواريث ، وبقوله : «إنّ الله أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ألا لا وصيّة لوارث».

وفيه بحث ، لأن آية المواريث لا تعارضه ، بل تؤكّده ، من حيث إنّها تدلّ على تقديم الوصيّة مطلقا. والحديث من الآحاد ، ولم يجوّز أصحابنا نسخ القرآن بخبر الواحد. وقالوا : إنّ الوصيّة لذي القرابة من أوكد السّنن.

ورووا عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل : «هل تجوز الوصيّة للوارث؟ فقال : نعم ، وتلا هذه الآية».

وروى السّكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن عليّ عليه‌السلام قال : «من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية».

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة».

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت إلّا ووصيّته تحت رأسه».

ثمّ أوعد سبحانه على تغيير الوصيّة ، فقال : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) غيّر الإيصاء عن وجهه ، من الأوصياء والشهود (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وصل إليه وتحقّق عنده (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أي : فما إثم الإيصاء المغيّر أو إثم التبديل إلّا على مبدّليه ، دون غيرهم من الموصي والموصى له ، لأنّه الّذي حاف (١) وخالف الشرع ، والموصي والموصى له بريئان من الحيف. وفي الآية دلالة على أنّ الوصيّ أو الوارث إذا فرّط في الوصيّة أو غيّرها لا يأثم الموصي بذلك ، ولم ينقص من أجره شيء ، وأنّه لا يجازى أحد على عمل غيره.

__________________

(١) أي : جار وظلم.

٢٩٦

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما قاله الموصي من العدل أو الجنف (عَلِيمٌ) بما يفعله الوصيّ من التصحيح أو التبديل. وقيل : سميع بجميع المسموعات ، عليم بجميع المعلومات. وعلى التقادير وعيد للمبدّل بغير حقّ.

ولمّا تقدّم الوعيد لمن بدّل الوصيّة ، بيّن في هذه الآية أنّ ذلك يلزم من غيّر حقّا بباطل ، فأمّا من غيّر باطلا بحقّ فهو محسن ، فقال : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ) أي : توقّع وعلم ، وقد شاع في كلامهم : أخاف أن يقع كذا ، يريدون التوقّع والظنّ الغالب الجاري مجرى العلم (جَنَفاً) ميلا عن الحقّ بالخطإ في الوصيّة (أَوْ إِثْماً) تعمّدا للحيف (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) بين الورثة والموصى لهم ، بإجرائهم على نهج الشرع (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في هذا التبديل ، لأنّه تبديل باطل إلى حقّ ، بخلاف الأوّل (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وعد للمصلح. وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم ، وكون الفعل من جنس ما يؤثم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤))

ثمّ بيّن سبحانه فريضة أخرى ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ) فرض ووجب (عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأنبياء وأممهم ، من لدن عهد آدم إلى عهدكم. يروى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : أوّلهم آدم. يعني : أنّ الصوم عبادة قديمة ما أخلى الله أمّة من إيجابها عليهم لم يوجبها عليكم وحدكم.

٢٩٧

وفيه توكيد للحكم ، وترغيب في الفعل ، وتطييب على النفس.

والصوم في اللغة الإمساك عمّا تنازع إليه النفس. وفي الشرع الإمساك عن المفطرات المعلومة شرعا ، فإنّها معظم ما تشتهيه الأنفس.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) المعاصي ، فإنّ الصوم يكسر الشهوة الّتي هي مبدأها ، والصائم أردع لنفسه عن مواقعة السوء. عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «خصاء أمّتي الصوم». وعنه عليه‌السلام : «من لم يستطع الباه فليصم ، فإنّ الصوم له وجاء» (١). أو تتّقون بالمحافظة عليها وتعظيمها (٢) بعدم الإخلال بأدائه ، لأصالته وقدمه. وتخصيص المؤمنين بالخطاب لقبولهم لذلك ، ولأنّ العبادة لا تصحّ إلّا منهم ، ووجوبه عليهم لا ينافي وجوبه على غيرهم.

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) مؤقّتات بعدد معلوم أو قلائل ، فإنّ القليل من المال يعدّ عدّا ، كقوله : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) (٣) ، والكثير يهال (٤) هيلا. ونصبها ليس بالصيام ، لوقوع الفصل بينهما ، بل بإضمار «صوموا» لدلالة الصيام عليه. والمراد بها رمضان ، أو ما وجب صومه قبل وجوبه ونسخ به ، وهو عاشوراء ، أو ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، كما قال قتادة. أو بـ «كما كتب» على الظرفيّة ، أو على أنّه مفعول ثان لـ «كتب عليكم» على السعة.

وقيل : معناه : صومكم كصومهم في عدد الأيّام ، كما روي أنّ رمضان كتب على النصارى ، فوقع في برد أو حرّ شديد ، فحوّلوه إلى الربيع ، وزادوا عليه عشرين

__________________

(١) الباه : النكاح والجماع. والوجء : أن ترضّ أنثيا الفحل ـ أي : تدقّ وتكسر ـ رضّا شديدا يذهب شهوة الجماع. ومعنى الحديث : أن من لم يستطع التزويج فعليه بالصوم ، فإنه سبب كسر الشهوة. وقريب منه الحديث الأوّل.

(٢) أي : بالمحافظة على عبادة الصوم وتعظيمها ، ومرجع الضمير يعلم بقرينة المقام.

(٣) يوسف : ٢٠.

(٤) يهال أي : يصبّ.

٢٩٨

كفّارة لتحويله. وقيل : زادوا ذلك لموتان أصابهم.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) يضرّه الصوم (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أو راكب سفر (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي : فعليه صوم عدّة أيّام المرض أو السفر من أيّام أخر إذا أفطر ، فحذف الشرط والمضاف إليه للعلم بها. وفيه دلالة على أنّ المسافر والمريض مكتوب عليهما الإفطار ، وأن يصوموا أيّاما أخر. وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام. وعند الشافعيّة هذا على سبيل الرخصة. وقول أكثر الأصحاب والتابعين من العامّة موافق لمذهبنا.

وفي الحديث : «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر». و «ليس من البرّ الصيام في السفر».

وروى العيّاشي بإسناده مرفوعا إلى محمد بن مسلّم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصوم في السفر تطوّعا ولا فريضة ، حتّى نزلت هذه الآية بكراع الغميم عند صلاة الفجر ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإناء فشرب وأمر الناس أن يفطروا ، فقال قوم : قد توجّه النهار ولو صمنا يومنا هذا ، فسمّاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العصاة ، فلم يزالوا يسمّون بذلك الاسم حتى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

وأيضا عنه عليه‌السلام : «الصيام في شهر رمضان في السفر كالمفطر في الحضر».

وعنه عليه‌السلام قال : «لو أنّ رجلا مات صائما في السفر لما صلّيت عليه».

وعنه عليه‌السلام قال : «من سافر أفطر وقصّر ، إلّا أن يكون رجلا سفره إلى صيد ، أو في معصية الله».

وروي أنّ عمر بن الخطّاب أمر رجلا صام في السفر أن يعيد صومه.

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) وعلى المطيقين للصيام الّذين لا عذر لهم إن أفطروا (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) نصف صاع. وقيل : مدّ. وكان ذلك في بدء الإسلام ، فإنّه

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٨١ ح ١٩٠.

٢٩٩

فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوا ، فاشتدّ عليهم ، فرخّص لهم في الإفطار والفدية ، ثمّ نسخ بقوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

وقيل : هو الرخصة في الإفطار والفدية لمن يتعبه الصوم ويجهده ، وهم الشيوخ والعجائز والمراضع ، فيكون حكمه ثابتا. فهذا القول موافق لمذهبنا.

وروى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ معناه : وعلى الّذين يطيقون الصوم ثم أصابهم كبر وعطاش وشبه ذلك فدية لكلّ يوم مدّ من طعام.

وقرأ نافع وابن عامر برواية ابن ذكوان بإضافة الفدية إلى الطعام وجمع المساكين. وقرأ هشام : مساكين بغير إضافة الفدية إلى الطعام.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فزاد على مقدار الفدية (فَهُوَ) أي : التطوّع (خَيْرٌ لَهُ). وقرأ حمزة والكسائي : يطّوّع ، أي : يتطوّع (وَأَنْ تَصُومُوا) رفع على الابتداء ، أي : صيامكم أيّها المطيقون وجهدكم طاقتكم (خَيْرٌ) أي : أفضل ثوابا (لَكُمْ) من الفدية وتطوّع الخير ، أو منهما ومن التأخير للقضاء (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمّة. وجوابه محذوف ، دلّ عليه ما قبله ، أي : اخترتموه.

وقيل : معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبّر علمتم أنّ الصوم خير لكم من الفدية والتطوّع.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥))

ثمّ بيّن سبحانه وقت الصوم ، فقال : (شَهْرُ رَمَضانَ) مبتدأ خبره ما بعده ، أو

٣٠٠