زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

وخصّص الأبناء لأنّ الذكور أشهر وأعرف ، وهم بصحبة الآباء ألزم ، وبقلوبهم ألصق. وقيل : الضمير للعلم أو للقرآن أو التحويل. والأوّل أصحّ.

(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تخصيص لمن عاند واستثناء معنويّ لمن آمن منهم ، كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ، أو لجهّالهم الّذين قال فيهم : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) (١).

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)) (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مبتدأ وخبر. وهو كلام مستأنف. وفيه وجهان : أن يكون

__________________

(١) البقرة : ٧٨.

٢٦١

اللّام للعهد والإشارة إلى الحقّ الّذي عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يكون للجنس على معنى : الحقّ ما ثبت أنّه من الله تعالى كالّذي أنت عليه ، لا ما لم يثبت كالّذي عليه أهل الكتاب. ويجوز أن يكون «الحقّ» خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الحقّ ، فيكون «من ربّك» في محلّ النصب على الحال ، أو يكون خبرا بعد خبر.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكّين أنّه من ربّك ، أو في كتمانهم الحقّ عالمين به. وليس المراد به نهي الرسول عن الشكّ فيه ، لأنّه غير متوقّع منه ، بل إمّا تحقيق الأمر وأنّه بحيث لا يشكّ فيه ناظر ، أو أمر الأمّة باكتساب المعارف المزيلة للشّك على الوجه الأبلغ ، لأنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) ولكلّ أمّة من أهل الأديان المختلفة قبلة ، والتنوين عوض المضاف إليه (هُوَ مُوَلِّيها) أحد المفعولين محذوف ، أي : هو مولّيها وجهه ، أو الله تعالى مولّيها إيّاه. وقرأ ابن عامر : مولّاها ، أي : هو مولّى تلك الجهة ، أي : جعل وجهه إيّاها وجاعله هو الله. ويجوز أن يكون المعنى : ولكلّ منكم يا أمّة محمد جهة يصلّي إليها ، جنوبيّة أو شماليّة ، أو شرقيّة أو غربيّة ، حال كون كلّ منها مسامتة للكعبة.

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي : سارعوا إلى الطاعات من أمر القبلة وغيره ممّا ينال به سعادة الدارين ، أو الفاضلات من الجهات ، وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت.

(أَيْنَ ما تَكُونُوا) في أيّ موضع تكونوا من موافق ومخالف ، مجتمع الأجزاء ومتفرّقها (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) يحشركم الله إلى المحشر للجزاء ، أو أينما تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض أرواحكم. قال الرضا عليه‌السلام : وذلك والله أن لو قام قائمنا يجمع الله إليه جميع شيعتنا من جميع البلدان. وقيل : معناه : أيّ موضع كنتم من الجهات المختلفة يجمعكم ، ويجعل صلواتكم كأنّها إلى جهة

٢٦٢

واحدة ، وكأنّكم حاضري المسجد. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الإماتة والإحياء والجمع.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ومن أيّ بلد خرجت للسّفر (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إذا صلّيت (وَإِنَّهُ) وإنّ هذا المأمور به (لَلْحَقُ) للثابت الّذي لا يزول بنسخ (مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). وقرأ أبو عمرو بالياء. وهذا تهديد لهم في المخالفة.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) كرّر هذا الحكم لتعدّد علله ، فإنّه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل : تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابتغاء مرضاته ، وجري العادة الإلهيّة على أن يولّي أهل كلّ ملّة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميّز بها كما وقع في كتب أهل الكتاب ، ودفع حجج المخالفين على ما يبيّنه. مع أنّ القبلة لها شأن ، والنسخ من مظانّ الفتنة والشبهة ، فالحريّ أن يؤكّد أمرها ويعاد ذكرها مرّة بعد أخرى.

(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) علّة لقوله : (فَوَلُّوا). والمعنى : أنّ التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأنّ النبيّ المنعوت في التوراة قبلته الكعبة ، وأنّ محمّدا يجحد ديننا ويتّبعنا في قبلتنا ، ويدفع احتجاج المشركين بأنّه يدّعي ملّة إبراهيم ويخالف قبلته.

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) استثناء من الناس ، أي : لئلّا يكون لأحد من الناس حجّة إلّا المعاندين منهم ، فإنّهم يقولون : ما تحوّل إلى الكعبة إلّا ميلا إلى دين قومه وحبّا لبلده ، ولو كان على الحقّ للزم قبلة الأنبياء ، أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم. وتسمية هذه حجّة مثل قوله : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) (١) لأنّهم يسوقون مساقها. وقيل : الحجّة بمعنى الاحتجاج.

__________________

(١) الشورى : ١٦.

٢٦٣

(فَلا تَخْشَوْهُمْ) فلا تخافوهم ، فإنّ مطاعنهم لا تضرّكم (وَاخْشَوْنِي) فلا تخالفوا ما أمرتكم (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) علّة محذوف ، أي : وأمرتكم بالتحويل لإتمامي النعمة عليكم ، وإرادتي اهتداءكم. أو عطف على علّة مقدّرة مثل : واخشوني لأحفظكم منهم ، أو لأوفّقكم ولأتمّ نعمتي عليكم ، أو عطف على (لِئَلَّا يَكُونَ).

وفي الحديث : «تمام النعمة دخول الجنّة». وعن عليّ عليه‌السلام «تمام النعمة الموت على الإسلام». وروي عن ابن عبّاس قال : ولأتمّ نعمتي عليكم في الدنيا والآخرة ، أمّا في الدّنيا فأنصركم على أعدائكم ، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وأمّا في الآخرة فجنّتي ورحمتي.

وروي عن علي عليه‌السلام قال : «النعم ستّة : الإسلام ، والقرآن ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والستر ، والعافية ، والغنى عمّا في أيدي الناس».

(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي : لكي تهتدوا ، و «لعلّ» من الله واجب. وقيل : لتهتدوا إلى ثوابها. وقيل : إلى التمسّك بها.

وقوله : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) متّصل بما قبله ، أي : ولأتمّ نعمتي عليكم في أمر القبلة ، أو في الآخرة بالثواب ، كما أتممتها بإرسال رسول منكم. وإمّا أن يتعلّق بما بعده ، أي : كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني بالطاعة.

(يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) يوحى إليه بأدلّة التوحيد والنبوّة (وَيُزَكِّيكُمْ) ويحملكم على ما تصيرون به أزكياء ، من الأمر بطاعة الله واتّباع مرضاته (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) وأحكام الشريعة. وفي المجمع (١) : أنّ المراد بالآيات والكتاب والحكمة القرآن ، جمعا بين صفاته ، لاختلاف فائدتها (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) بالفكر والنظر ، إذ لا طريق لكم إلى معرفته سوى

__________________

(١) مجمع البيان : ١ : ٢٣٣.

٢٦٤

الوحي ، ولا سبيل لكم إلى علمه إلا من جهة السمع. وكرّر «يعلّمكم» ليدلّ على أن هذا التعليم جنس آخر ، أي : ليس من جنس ما يحصل بالفكر.

(فَاذْكُرُونِي) بأنواع الطاعة (أَذْكُرْكُمْ) بصنوف الثواب والرحمة. وقيل :

اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدّة والبلاء ، واذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة. وعن الباقر عليه‌السلام قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ الملك ينزل الصحيفة من أوّل النهار وأوّل الليل ، يكتب فيها عمل ابن آدم ، فأملوا في أوّلها خيرا وفي آخرها خيرا ، فإنّ الله تعالى يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله ، فإنّ الله تعالى يقول : اذكروني أذكركم».

(وَاشْكُرُوا لِي) ما أنعمت عليكم (وَلا تَكْفُرُونِ) بجحد نعمائي وعصيان أمري.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) بحبس النفس على اجتناب المعاصي والحظوظ النفسيّة المحرّمة ، وعلى تحمّل الطاعات والعبادات. وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله : «الصبر صبران : صبر على ما تكره ، وصبر على ما تحبّ». (وَالصَّلاةِ) الّتي هي أمّ العبادات ، وأفضلها في الدين ، لأنّها معراج المؤمنين ، والمناجاة لربّ العالمين ، وتتضمّن الذكر والخشوع والخضوع ، وتذكّر المبدأ والمعاد والوعد والوعيد.

٢٦٥

(إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالمعونة والنصرة ، والتوفيق في أداء العبادات والاجتناب من المقبّحات. ولا يجوز أن يكون «مع» هاهنا بمعنى الاجتماع ، لأنّ ذلك من صفات الأجسام ، تعالى الله عن ذلك. وفي الآية دلالة على أنّ في الصلاة لطفا للعبد ، لأنّه سبحانه أمرنا بالاستعانة بها ، ويؤيّده قوله سبحانه : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (١).

ولمّا أمر الله سبحانه عباده بالصبر والصلاة رغّبهم في الجهاد بقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) أي : هم أموات (بَلْ أَحْياءٌ) هم أحياء (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ما حالهم. عن الحسن : أنّ الشهداء أحياء عند الله تعالى ، تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الرّوح والفرح ، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوّا وعشيّا ، فيصل إليهم الوجع وشدّة الألم. وفيها دلالة على أنّ الأرواح جواهر قائمة بأنفسها ، مغايرة لما يحسّ من البدن ، تبقى بعد الموت درّاكة ، وعليه جمهور الصحابة والتابعين. وعن مجاهد : يرزقون ثمر الجنّة ، يجدون ريحها وليسوا فيها. وقالوا : يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة ، فيحييها ويوصل إليها النعم وإن كانت في حجم الذرّة. وقيل : نزلت في شهداء بدر ، وكانوا أربعة عشر رجلا ، ستّة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار.

وروى الشيخ محمد بن يعقوب الكليني في الكافي (٢) ، والشيخ أبو جعفر في تهذيب (٣) الأحكام ، مسندا إلى عليّ بن مهزيار ، عن الحسن ، عن القاسم بن محمد ، عن الحسين بن أحمد ، عن يونس بن ظبيان ، والشهيد في الذكرى (٤) ، عن يونس

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

(٢) الكافي ٣ : ٢٤٥ ح ٦.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٤٦٦ ح ١٢٥٦.

(٤) ذكرى الشيعة ٢ : ٩١.

٢٦٦

قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام جالسا ، فقال : ما تقول الناس في أرواح المؤمنين؟

قلت : يقولون : في حواصل طير خضر ، في قناديل تحت العرش.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : سبحان الله ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر. يا يونس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا ، يأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا».

وعنه ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن أبي بصير قال : «سألت عن أرواح المؤمنين ، فقال : في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان» (١).

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

ولمّا بيّن سبحانه ما كلّف عباده من العبادات عقّبه ببيان ما امتحنهم من فنون المشقّات ، فقال خطابا للمؤمنين : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) ولنصيبنّكم إصابة من يختبر لأحوالكم ، ليظهر على أهل العالم هل تصبرون على البلاء وتستسلمون لحكم الله أم لا؟ (بِشَيْءٍ) بشيء قليل (مِنَ الْخَوْفِ) خوف قصد المشركين وسائر الأعداء (وَالْجُوعِ) بسبب تشاغلهم بالجهاد في سبيل الله عن المعاش ، واحتياجهم إلى الّذي لحقهم ، أو الصوم. وإنّما قلّله بالإضافة إلى ما وقاهم عنه ليخفّف عليهم ،

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٤٦٦ ح ١٥٢٧.

٢٦٧

ويريهم أنّ رحمته لا تفارقهم ، أو بالنسبة إلى معانديهم في الآخرة. وإنّما أخبرهم به قبل وقوعه ليوطّنوا عليه نفوسهم.

(وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) عطف على شيء أو الخوف. وسبب النقص الانقطاع بالجهاد عن العمارة. وقيل : المراد هلاك المواشي ، أو أداء الزكوات والصّدقات ، أو مطلق الخسران والغبن (وَالْأَنْفُسِ) بالأمراض ، أو بموت الأقارب والأحبّة في الجهاد وغيره (وَالثَّمَراتِ) بذهاب حمل الأشجار بسبب الآفات السّماويّة ، وارتفاع البركات ، أو لاشتغالهم بالقتال عن عمارة البستان ، وعن مناكحة النسوان ، فتقلّ ثمرات البساتين وحمل البنات والبنين بذلك. وقيل : أراد به موت الأولاد ، لأنّ الولد ثمرة القلب.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم ، فيقول الله : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم ، فيقول الله : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول الله عزوجل : ابنوا لعبدي بيتا في الجنّة وسمّوه بيت الحمد.

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) بما لهم على الصبر في تلك المشاقّ والمكاره من المثوبة الجزيلة والعاقبة الجميلة.

ثمّ وصف عزّ اسمه الصّابرين بقوله : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) نالتهم بليّة في النفس أو المال فوطّنوا أنفسهم على ذلك احتسابا للأجر (قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) إقرارا بالعبوديّة والملكيّة ، أي : نحن عبيد الله ومماليكه (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرارا بالبعث والنشور ، أي : نحن إلى حكمه نصير. ولهذا قال عليّ عليه‌السلام : «إنّ قولنا : (إِنَّا لِلَّهِ) إقرار على أنفسنا بالملك (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار على أنفسنا بالهلك».

والخطاب للرسول ، أو لمن تتأتّى منه البشارة. والمصيبة تعمّ ما يصيب

٢٦٨

الإنسان من مكروه ، لقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء يؤذي المؤمن فهو مصيبة». وليس الصبر بالاسترجاع باللّسان ، بل به وبالقلب ، بأن يتصوّر معنى الاسترجاع ، وهو أنّه ما خلق لأجله ، وأنّه راجع إلى جزاء ربّه ، ويتذكّر نعم الله عليه ليرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استردّه منه ، فيهون على نفسه ويستسلم له.

والمبشّر به محذوف دلّ عليه قوله : (أُولئِكَ) الّذين وصفهم الله بأنّهم من الصّابرين المسترجعين المستسلمين لقضاء الله (عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الصّلاة في الأصل الدعاء ، ومن الله العطوفة والرأفة المستلزمتان المغفرة والتزكية واللطف والإحسان. جمع بينها وبين الرحمة للتنبيه على كثرتها وتنوّعها ، كقوله : (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (١) و (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢). والمعنى : عليهم رأفة بعد رأفة ، ورحمة أيّ رحمة.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه».

وعن الصادق عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أربع من كنّ فيه كتبه الله من أهل الجنّة : من كانت عصمته شهادة أن لا إله إلّا الله ، ومن إذا أنعم الله عليه النعمة قال : الحمد لله ، ومن إذا أصاب ذنبا قال أستغفر الله ، ومن إذا أصابته مصيبة قال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)».

روي : «أنّه طفئ سراج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، فقيل : أمصيبة هي؟ قال : نعم ، كلّ شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة».

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) للحقّ والصّواب ، حيث استرجعوا وسلّموا أنفسهم لحكم الله وقضائه.

__________________

(١) الحديد : ٢٧.

(٢) التوبة : ١١٧.

٢٦٩

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨))

ولمّا ذكر الله سبحانه امتحان العباد بالتكليف والإلزام مرّة ، وبالمصائب والآلام أخرى ، ذكر سبحانه أنّ من جملة ذلك أمر الحجّ الّذي يتضمّن المشاقّ الكثيرة والمتاعب العظيمة ، فقال : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) هما علما جبلين بمكّة (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) من أعلام مناسكه ، جمع شعيرة وهي العلامة ، أي : هما من أعلام مناسكه ومتعبّداته (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ). الحجّ لغة القصد ، والاعتمار الزيارة ، فغلبا شرعا على قصد البيت وزيارته على الوجهين المخصوصين ، فهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان. ومعناه : إذا قصده لأجل أداء النسكين المعروفين (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أصله : يتطوّف ، فأدغم.

وإنّما قال : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) والسعي بينهما واجب ، لأنّه كان على الصّفا أساف ، وعلى المروة نائلة ، وهما صنمان ، يروى أنّهما كانا رجلا وامرأة زنيا في الكعبة ، فمسخا حجرين ، فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلمّا طالت المدّة عبدا ، وكان أهل الجاهليّة إذا سعوا مسحوهما ، فلمّا جاء الإسلام وكسرت الأوثان تحرّج المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهليّة ، ورفع عنهم الجناح بهذه الآية ، والإجماع على أنّه مشروع في الحجّ والعمرة.

(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي : من تبرّع بالسعي بين الصفا والمروة بعد ما أدّى الواجب من حجّ أو عمرة ، أو من تطوّع بالخيرات وأنواع الطاعات. ونصبه على أنّه صفة مصدر محذوف ، أو بحذف الجارّ وإيصال الفعل إليه ، أو بتعدية الفعل ، لتضمّنه معنى «أتى» أو «فعل». وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب : يطّوّع ، وأصله : يتطوّع ، فأدغم ، مثل : يطّوّف (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) مثيب على الطاعة (عَلِيمٌ) لا يخفى عليه

٢٧٠

خافية ، فلا يبخس أحدا حقّه.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ السعي بين الصفا والمروة عبادة. ولا خلاف في ذلك ، وإنّما الخلاف في وجوبه ، فهو عندنا واجب في الحجّ والعمرة بالإجماع ، وبه قال الحسن وعائشة. ومذهب الشافعي أنّه واجب وركن. وقال : إنّ السنّة أوجبت السّعي ، وهوقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كتب عليكم السعي فاسعوا».

وعن أحمد : سنّة ، وبه قال أنس ، لقوله تعالى (فَلا جُناحَ). وهو ضعيف ، لأنّ نفي الجناح يدلّ على الجواز الداخل في معنى الوجوب ، فلا يدفعه. وعن أبي حنيفة : أنّه واجب يجبر بالدم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠))

ثمّ حثّ الله سبحانه على إظهار الحقّ وبيانه ، ونهى عن إخفائه وكتمانه ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) كأحبار اليهود (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) الحجج الدالّة على صحّة نبوّة محمد المكتوبة في كتابهم الشاهدة عليها. وهو جمع بيّنة ، فعيلة من البيان ، وهو ظهور الحقّ ، وكلّ ما قام به حقّ يسمّى بيّنة وحجّة وبرهانا (وَالْهُدى) وهو ما يهدي إلى وجوب اتّباعه من الأدلّة الهادية إلى نعته ، والأمر باتّباعه والإيمان به. وقيل : المراد بالأوّل الأدلّة النقليّة ، وبالثاني الأدلّة العقليّة (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ) لخّصناه للناس (فِي الْكِتابِ) في التوراة ، بحيث لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم ، فكتموا ذلك المبيّن الملخّص (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أي : الّذين يتأتّى منهم اللعن عليهم من الملائكة ومؤمني الثقلين.

٢٧١

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي : ندموا على ما فعلوا من الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب عنه (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من أحوالهم فيما يستقبل من الأوقات ، وتداركوا ما فرط منهم (وَبَيَّنُوا) للناس ما بيّنه الله في كتابهم ، ليمحوا سمة الكفر عنهم ، ويتمّ توبتهم ، ويعرفوا بضدّ ما عرفوا ، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أقبل توبتهم بالمغفرة (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرّحمة.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ كتمان الحقّ مع الحاجة إلى إظهاره من أعظم الكبائر ، وأنّ من كتم شيئا من العلوم الدينيّة وفعل مثل فعلهم فهو في أعظم الجرم. وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». وفيها أيضا دلالة على وجوب الدعاء إلى التوحيد والعدل ، لأنّ في كتاب الله ما يدلّ عليهما ، تأكيدا لما في العقول من الأدلّة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢))

وبعد بيان حال من كتم الحقّ ، وحال من تاب منهم ، عقّبه بحال من يموت من غير توبة منهم ومن الكفّار عموما ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي : من لم يتب من الكاتمين ومن غيرهم من الكفرة المصرّين حتى ماتوا (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ) استقرّ عليهم (لَعْنَةُ اللهِ) إبعادهم عن رحمته وإيجاب العقاب عليهم (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أراد بالناس من يعتدّ بلعنه من خلقه ، وهم المؤمنون خاصّة. قيل : الأوّل لعنهم أحياء ، وهذا لعنهم أمواتا ، بدليل قوله : (خالِدِينَ فِيها)

٢٧٢

دائمين في اللعنة أو النار. وإضمارها قبل الذكر تفخيما لشأنها وتهويلا ، أو اكتفاء بدلالة اللعن عليها. وقيل : يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) أي : يكون عذابهم على وتيرة واحدة ، فلا يخفّف أحيانا ويشتدّ أحيانا (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لا يمهلون من الإنظار ، أو لا ينتظرون ليعتذروا ، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة.

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣))

عن ابن عبّاس قال : إنّ كفّار قريش قالوا : يا محمد صف لنا وانسب لنا ربّك ، فنزلت : (وَإِلهُكُمْ) خالقكم والمنعم عليكم بجميع النعم من أصولها وفروعها ، ولا شيء سواه بهذه الصفة ، ولا يقدر عليها ، فإنّ كلّ ما سواه إمّا نعمة وإمّا منعم عليه (إِلهٌ واحِدٌ) خطاب للعام ، أي : المستحقّ منكم للعبادة واحد فرد في الإلهيّة لا شريك له ، فلا يصحّ أن يعبد غيره ويسمّى إلها (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير للوحدانيّة ، وإزاحة لأن يتوهّم أنّ في الوجود إلها غيره ولكن لا يستحقّ منهم العبادة (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) كالحجّة عليها ، فإنّه سبحانه لمّا كان مولى النعم كلّها أصولها وفروعها ، وما سواه إمّا نعمة أو منعم عليه ، فلا يستحقّ العبادة أحد غيره. وهما خبران آخران لقوله : «إلهكم» أو لمبتدأ محذوف.

قال في المجمع : «الآية متّصلة بما قبلها وما بعدها ، فاتّصالها بما قبلها كاتّصال الحسنة بالسيّئة لتمحو أثرها ، ويحذّر من مواقعتها ، فإنّه لمّا ذكر الشرك وأحكامه أتبع ذلك بذكر التوحيد وأحكامه ، واتّصالها بما بعدها كاتّصال الحكم بالدلالة على صحّته ، لأنّ ما ذكر في الآية الّتي بعدها هي الحجّة على صحّة التوحيد» (١).

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٢٤٤.

٢٧٣

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤))

روي أنّ للمشركين كان حول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما ، فلمّا سمعوا هذه الآية قالوا : إن كنت صادقا فائت بآية نعرف بها صدقك ، فنزلت : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في إنشائهما على سبيل الاختراع والابتداع. جمع السّماوات وأفرد الأرض ، لأنّ السماوات طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة ، بالجنس واللون والقطر والكبر ، بخلاف الأرضين.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) تعاقبهما ، فإنّ كلّا منهما يعقب الآخر ، كقوله تعالى : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) (١) ، أو اختلافهما في الجنس والصفة ، من اللون والطول والقصر والحركة والسّكون.

(وَالْفُلْكِ) والسّفن الحاملة للأثقال والأحمال (الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أي : بالّذي ينفعهم ، فتكون «ما» موصولة ، أو بنفعهم ، فتكون مصدريّة. وتوصيف الفلك للاستدلال بالبحر وأحواله. وتخصيصه بالذكر لأنّه سبب الخوض فيه والاطّلاع على عجائبه ، ولذلك قدّمه على ذكر المطر والسحاب ، لأنّ منشأهما البحر في غالب الأمر. وتأنيث الفلك لأنّه بمعنى السّفينة.

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) يعني : من مطر «من» الأولى للابتداء ،

__________________

(١) الفرقان : ٦٢.

٢٧٤

والثانية للبيان. والسماء يحتمل الفلك والسحاب وجهة العلوّ (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) فعمّر به الأرض بعد خرابها بالنبات ، أو بأهل الأرض بإخراج الأقوات (وَبَثَ) ونشر وفرّق (فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) ، عطف على «أنزل» أي : ما بثّ فيها من كلّ حيوان يدبّ ، أو على «أحيا» فإنّ الدوابّ ينمون بالخصب ويعيشون بالمطر. هذا استدلال بنزول المطر ، وتكوّن النبات به ، وبثّ الحيوانات في الأرض.

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) في مهابّها : قبولا ، ودبورا ، وشمالا ، وجنوبا. وفي أحوالها : باردة ، وحارّة ، ولينة ، وعاصفة. وقرأ حمزة والكسائي على الإفراد (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ) المذلّل لله تعالى (بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لا ينزل ولا ينكشف ـ مع أنّ الطبع يقتضي أحدهما ـ حتى يأتي أمر الله. وقيل : مسخّر الرياح تقلّبه في الجوّ بمشيئة الله يمطر حيث شاء. واشتقاقه من السّحب ، لأنّ بعضه يجرّ بعضا.

(لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتفكّرون فيها ، وينظرون إليها بعيون عقولهم ، ويعتبرون بها ، لأنّها دلائل على عظيم القدرة وعجيب الحكمة.

وفي المجمع : «قد بيّن العلماء تفصيل ما تدلّ عليه ، فقالوا :

أمّا السماوات والأرض ، فيدلّ تغيّر أجزائهما ، واحتمالهما الزيادة والنقصان ، وأنّهما من الحوادث لا ينفكّان عن حدوثهما. ثم إن حدوثهما وخلقهما يدلّ على أنّ لهما خالقا لا يشبههما ولا يشبهانه ، لأنّه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم القادر لنفسه الّذي ليس بجسم ولا عرض ، إذ جميع ما هو بصفة الأجسام والأعراض محدث ، ولا بدّ له من محدث ليس بمحدث ، لاستحالة التسلسل ، ويدلّ كونهما على جهة الإتقان والإحكام والاتّساق والانتظام على كون فاعلهما عالما حكيما.

وأمّا اختلاف الليل والنهار ، وجريهما على وتيرة واحدة ، وأخذ أحدهما من

٢٧٥

صاحبه الزيادة والنقصان ، وتعلّق ذلك بمجاري الشمس والقمر ، فيدلّ على عالم مدبّر يدبّرهما على هذا الحدّ ، لا يسهو ولا يذهل من جهة أنّها أفعال محكمة واقعة على نظام وترتيب ، لا يدخلها تفاوت ولا اختلال.

وأمّا الفلك الّتي تجري في البحر بما ينفع الناس ، فيدلّ حصول الماء على ما تراه من الرقّة واللطافة الّتي لولاهما لما أمكن جري السفن عليه ، وتسخير الرياح لإجرائها في خلاف الوجه الّذي يجري الماء إليه ، على منعم دبّر ذلك لمنافع خلقه ، ليس من جنس البشر ، ولا من قبيل الأجسام ، لأنّ الأجسام يتعذّر عليها فعل ذلك.

وأمّا الماء الّذي ينزل من السّماء ، فيدلّ إنشاؤه وإنزاله قطرة قطرة ، لا تلتقي أجزاؤه ، ولا تتألّف في الجوّ ، فينزل مثل السيل ، فيخرّب البلاد والديار. ثمّ إمساكه في الهواء ـ مع أنّ من طبع الماء الانحدار ـ إلى وقت نزوله بقدر الحاجة وفي أوقاتها ، على أنّ مدبّره قادر على ما يشاء من الأمور ، عالم حكيم خبير.

وأمّا إحياء الأرض بعد موتها ، فيدلّ بظهور الثمار وأنواع النبات وما يحصل به من أقوات الخلق ، وأرزاق الحيوانات ، واختلاف طعومها وألوانها وروائحها ، واختلاف مضارّها ومنافعها في الأغذية والأدوية ، على كمال قدرته ، وبدائع حكمته ، سبحانه من عليم حكيم ، ما أعظم شأنه!!

وأمّا بثّ كلّ دابّة فيها ، فيدلّ على أنّ لها صانعا مخالفا لها منعما بأنواع النعم ، خالقا للذوات المختلفة بالهيئات المختلفة في التراكيب المتنوّعة ، من اللحم والعظم ، والأعصاب والعروق ، وغير ذلك من الأعضاء والأجزاء المتضمّنة لبدائع الفطرة وغرائب الحكمة ، الدالّة على عظيم قدرته وجسيم نعمته.

وأمّا الرياح ، فيدلّ تصريفها بتحريكها وتفريقها في الجهات ، مرّة حارّة ومرّة باردة ، وتارة لينة وأخرى عاصفة ، وطورا عقيما وطورا لاقحة ، على أنّ مصرّفها قادر على ما لا يقدر عليه سواه ، إذ لو اجتمع الخلائق كلّهم على أن يجعلوا الصبا

٢٧٦

دبورا والشمال جنوبا لما أمكنهم ذلك.

وأمّا السّحاب المسخّر فيدلّ على أنّ ممسكه هو القدير الّذي لا شبيه له ولا نظير ، لأنّه لا يقدر على تسكين الأجسام بغير علاقة ولا دعامة إلا الله سبحانه ، القادر لذاته ، لا نهاية لمقدوراته.

فهذه هي الآيات الدالّة على أنّه سبحانه صانع غير مصنوع ، قادر لا يعجزه شيء ، عالم لا يخفى عليه شيء ، حيّ لا تلحقه الآفات ، ولا تغيّره الحادثات ، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، وهو السميع البصير. استشهد بحدوث هذه الأشياء على قدمه وأزليّته ، وبما وسمها به من العجز والتسخير على كمال قدرته ، وبما ضمّنها من البدائع على عجائب خلقته.

وفيها أيضا أوضح دلالة على أنّه سبحانه المنّان على عباده بفوائد النعم ، المنعم عليهم بما لا يقدر غيره على الإنعام بمثله من جزيل القسم ، فيعلم بذلك أنّه سبحانه الإله الّذي لا يستحقّ العبادة سواه.

وفي هذه الآية أيضا دلالة على وجوب النظر والاستدلال ، وأنّ ذلك هو الطريق إلى معرفته ، وفيها البيان لما يجب فيه النظر وإبطال التقليد» (١).

وفي الأنوار : «اعلم أنّ دلالة هذه الآيات على وجود الإله عزوجل ووحدته من وجوه كثيرة ، يطول شرحها مفصّلا. والكلام المجمل أنّها أمور ممكنة وجد كلّ منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة وأنحاء مختلفة ، إذ كان من الجائز مثلا أن لا تتحرّك السماوات أو بعضها كالأرض ، وأن تتحرّك بعكس حركاتها ، وبحيث تصير المنطقة دائرة مارّة بالقطبين ، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلا ، وعلى هذا الوجه ، لبساطتها وتساوي أجزائها ، فلا بدّ من موجد قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته ، وتقتضيه مشيئته ، متعاليا عن معارضة غيره ، إذ لو كان معه إله

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٢٤٧.

٢٧٧

يقدر على ما يقدر عليه الآخر. فإن توافقت إرادتهما فالفعل إن كان لهما لزم اجتماع مؤثّرين على أثر واحد ، وإن كان لأحدهما لزم ترجيح الفاعل بلا مرجّح ، وعجز الآخر المنافي لإلهيّته ، وإن اختلفت لزم التمانع والتطارد ، كما أشار إليه بقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١). وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله ، وحثّ على البحث والنظر فيه» (٢). ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» أي : لم يتفكّر فيها.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

وبعد بيان التوحيد بالأدلّة الواضحة ذكر حال الكفرة المصرّين على الكفر والعناد ، الّذين يتّخذون آلهة أخرى من الجمادات ، فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) أمثالا من الأصنام الّتي يعبدونها. وقيل : من الرؤساء الّذين كانوا

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

(٢) أنوار التنزيل ١ : ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٢٧٨

يطيعونهم ، بدلالة قوله تعالى بعد ذلك : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) (١). وقال الباقر عليه‌السلام : «هم أئمّة الظلمة وأشياعهم». ولعلّ المراد أعمّ منهما ، وهو ما يشغل عن طاعة الله عزوجل.

(يُحِبُّونَهُمْ) يعظّمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب (كَحُبِّ اللهِ) حبّا كحبّ الله ، أي : كتعظيمه ، والإضافة إلى الفاعل ، أي : كما يحبّ الله. وإنما استغني عن ذكر من يحبّه ، لأنّه غير ملبس. وقيل : كحبّهم الله. وعن ابن عبّاس : كحبّكم الله ، أي : كحبّ المؤمن الله ، أي : يسوّون بينه وبينهم في محبّتهم ، لأنّهم كانوا يقرّون بالله ويتقرّبون إليه. والمحبّة ميل القلب ، من الحبّ ، استعير لحبّة القلب ، ثمّ اشتقّ منه الحبّ ، لأنّه أصابها ورسخ فيها. ومحبّة العبد لله إرادة طاعته ، والاعتناء بتحصيل مراضيه. ومحبّة الله للعبد إرادة إكرامه ، وتوفيقه في الطاعة ، وصونه عن المعاصي.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) لا تنقطع محبّتهم لله ، بخلاف محبّة الأنداد ، فإنّها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب ، ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى الله عند الشدائد ، ويعبدون صنما زمانا ويعدلون منه إلى غيره ، أو يأكلونه ، كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة ، والحيس هو تمر وأقط (٢) وسمن.

ولمّا ذكر الّذين اتّخذوا الأنداد بيّن حالهم في المعاد بقوله : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : ولو يعلم هؤلاء الذين أشركوا ، باتّخاذ الأنداد (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) أي : إذا عاينوا العذاب يوم القيامة ، فأجرى المستقبل مجرى الماضي لتحقّقه ، كقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٣).

وقوله : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) سادّ مسدّ مفعولي «يرى». وجواب «لو»

__________________

(١) البقرة : ١٦٦.

(٢) الأقط : الجبن والقطعة منه.

(٣) الأعراف : ٤٤.

٢٧٩

محذوف ، أي : لو يعلمون أنّ القدرة كلّها لله على كلّ شيء من الثواب والعقاب وغيره دون أندادهم ، ويعلمون شدّة عقابه للظالمين حين شاهدوا أنواع عذابهم يوم القيامة ، لكان لهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ، ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم ، فندموا أشدّ الندم ، فحذف الجواب لعدم الوصول إلى كنهه.

وقرأ ابن عامر ويعقوب ونافع : ولو ترى ، على أنّه خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي : ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما وخطبا جسيما. وابن عامر : إذ يرون على البناء للمفعول. ويعقوب «إنّ» بالكسر ، وكذا (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) على الاستئناف ، أو على إضمار القول.

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) بدل من «إذ يرون» أي : إذ تبرّأ المتبوعون ـ وهم الرؤساء ـ من الأتباع الضعفاء (وَرَأَوُا الْعَذابَ) أي رائين له ، والواو للحال ، و «قد» مقدّرة. وقيل : عطف على «تبرّأ». (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) يحتمل العطف على «تبرّأ» ، أو «رأوا» ، أو الحال ، والأول أظهر. ومعنى الأسباب : الوصل الّتي كانت بينهم يتواصلون عليها ، من الأتباع ، والاتّفاق على الدين ، وسائر الأغراض الداعية إلى ذلك. والمعنى : زال عنهم سبب يمكن أن يتوصّل به من مودّة أو عهد أو قرابة ، فلا ينتفعون بشيء من ذلك. وأصل السبب الحبل الّذي يرتقى به الشجر.

(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي : وقال الأتباع (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) «لو» للتمنّي ، ولذلك أجيب بالفاء ، أي : ليت لنا عودا إلى الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) من الرؤساء فيها (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) في الآخرة.

(كَذلِكَ) مثل ذلك الآراء الفظيع (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) ندامات. وهي ثالث مفاعيل «يري» من رؤية القلب ، وإلّا فحال ، يعني : تنقلب حسرات عليهم ، فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ)

٢٨٠