زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

بالمحافظة عليها ـ مع أنّها داخلة في الصلوات ، واللام للاستغراق ـ لاختصاصها بمزيد فضل يقتضي رفع شأنها ، فإفرادها بالذكر كإفراد النخل والرمّان بين الفاكهة ، وجبرئيل عن الملائكة.

وهي صلاة العصر ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الأحزاب : «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله بيوتهم نارا». وقال عليه‌السلام : «إنّها الصلاة الّتي شغل عنها سليمان بن داود عليه‌السلام حتى توارت بالحجاب».

وعن حفصة : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ هذه الآية هكذا : والصلاة الوسطى صلاة العصر. وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها ، واجتماع ملائكة الليل والنهار فيها.

وقيل : صلاة الظهر ، لأنّها وسط النهار. وكانت أشقّ الصلوات عليهم ، فكانت أفضل ، لقوله عليه‌السلام : «أفضل الأعمال أحمزها». وروي ذلك أيضا مرفوعا.

وقيل : صلاة الفجر. ويؤيّده قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (١). ولأنّها بين صلاتي النهار والليل.

وقيل : المغرب ، لأنّها المتوسّط بالعدد.

وقيل : العشاء ، لأنّها بين جهرتين واقعتين في طرفي الليل.

(وَقُومُوا لِلَّهِ) في الصلاة (قانِتِينَ) دائمين في قيامكم ، أو خاشعين ، أو ذاكرين له في القيام. والقنوت الذكر فيه. ويؤيّده ما روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «القنوت الدعاء في الصلاة في حال القيام». وما شاع عند الفقهاء أنّه هو الدّعاء في الصلاة مع رفع اليدين. والأمر الأوّل للوجوب إجماعا. والثاني على الاختلاف. والأكثر على ندبيّته ، وهو الأصحّ.

ولمّا ذكر سبحانه وجوب المحافظة على الصلوات عقّبه بذكر الرخصة في

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

٣٨١

عدم حفظ أركانها عند التعذّر ، فقال : (فَإِنْ خِفْتُمْ) فإن كان بكم خوف من عدوّ أو غيره (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) فصلّوا راجلين أو راكبين حيث أمكن. ورجال جمع راجل أو رجل بمعناه ، كقائم وقيام. وفيه دليل على وجوب الصّلاة حال المسايفة. وإليه ذهب جميع أصحابنا والشافعي. وعند أبي حنيفة لا يصلّى حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ) وزال خوفكم (فَاذْكُرُوا اللهَ) صلّوا صلاة الأمن مع محافظة الأركان والشروط (كَما عَلَّمَكُمْ) مثل ما علّمكم من الشرائع وموافقا له ، أو فاشكروا الله على الأمن واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علّمكم كيف تصلّون في حال الخوف والأمن. و «ما» مصدريّة ، أي : كتعليم الله إيّاكم. (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) مفعول «علّمكم».

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠))

ثمّ عاد إلى ذكر أحكام الزواج وتوابعها ، فقال : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) أي : الّذين يتقاربون الوفاة منكم ، لأنّ المتوفّى لا يؤمر ولا ينهى (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ). قرأها بالنصب أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم على تقدير : والّذين يتوفّون منكم يوصون وصيّة ، أو ليوصوا وصيّة ، أو كتب الله عليهم وصيّة ، أو ألزم الله الّذين يتوفّون وصيّة. وقرأ الباقون بالرفع على تقدير : وصيّة الّذين يتوفّون ، أو وحكمهم وصيّة ، أو والّذين يتوفّون أهل وصيّة ، أو كتب عليهم وصيّة (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) نصب بـ «يوصون» إن أضمرت ، وإلّا فبالوصيّة. ومعناه :

٣٨٢

ما ينتفعن به حولا من النفقة والكسوة والسكنى (غَيْرَ إِخْراجٍ) بدل أو مصدر مؤكّد ، أي : يمسكن في البيوت إمساكا غير إخراج ، كقولك : هذا القول غير ما تقول ، أو حال من أزواجهم ، أي : غير مخرجات.

والمعنى : أنّ حقّ الّذين يتوفّون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يموتوا ، بأن تمتّع أزواجهم بعدهم حولا كاملا ، أي : ينفق عليهنّ من تركته ، ولا يخرجن من مساكنهنّ. فكان ذلك قبل الإسلام وبدئه ، ثمّ نسخت المدّة بقوله : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (١) وإن كان متقدّما في التلاوة فهو متأخّر في النزول.

(فَإِنْ خَرَجْنَ) من منزل الأزواج قبل الحول من غير أن يخرجهنّ الورثة. وقيل : إنّ المراد إذا خرجن بعد مضيّ الحول وقد مضت العدّة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يا معشر أولياء الميّت (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) كالتطيّب وترك الحداد والتعرّض للأزواج (مِنْ مَعْرُوفٍ) ممّا لم ينكره الشرع من طلب النكاح والتزيّن. وهذا يدلّ على أنّه لم يجب عليها ملازمة مسكن الزوج للحداد عليه ، وإنّما كانت مخيّرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها (وَاللهُ عَزِيزٌ) ينتقم ممّن خالفه منهم (حَكِيمٌ) يراعي مصالحهم.

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

ولمّا قدّم سبحانه بيان أحوال المعتدّات عقّبه ببيان ما يجب لهنّ من المتعة فقال : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أي : تمتيع بوجه شرعيّ ، من النفقة والكسوة والمسكن المذكور ، متاعا إلى الحول.

__________________

(١) البقرة : ٢٣٤.

٣٨٣

وقيل : المراد بالمتاع المتعة ، فتكون مخصوصة بالآية المتقدّمة ، فإنّ المتعة للمطلّقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها مهر ، فأمّا المدخول بها فلها مهر مثلها إن لم يسمّ لها مهر ، وإن فرض لها مهر ولم يدخل بها فنصف المهر.

قال في الكشّاف (١) : «عمّ المطلّقات هنا بإيجاب المتعة لهنّ بعد ما أوجبها لواحدة منهنّ ، وهي المطلّقة غير المدخول بها ، وقال : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ، كما قال ثمّة : «حقّا على المحسنين».

وقيل : قد تناولت التمتيع الواجب والندب جميعا ، ويكون اللام للعهد ، والتكرير للتأكيد.

(كَذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق والعدد (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) وعد بأنّه سيبيّن لعباده من الدلائل الهادية والأحكام اللازمة ممّا يحتاجون إليها معاشا ومعادا (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لعلّكم تفهمونها فتستعملون العقل فيها.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

ولمّا ذكر قوله : يبيّن آياته ، ليعتبروا منها ويجعلوها وسيلة إلى امتثال أوامره

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٢٨٩ ، والآية في سورة البقرة : ٢٣٦.

٣٨٤

تعالى ، عقّبه بأنّ من جملة آياته المعتبرة ما أخبر به بقوله : «ألم تر» ، تقريرا لمن سمع بهذه القصّة لأهل الكتاب ، وتعجيبا من شأنها. ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع ، لأنّ هذا يجري مجرى المثل في معنى التعجيب.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يريد أهل داوردان (١) قرية قبل واسط ، وقع فيهم طاعون ، فخرجوا هاربين ، فأماتهم الله تعالى ، ثمّ أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنّه لا مفرّ من حكم الله (وَهُمْ أُلُوفٌ) أي : ألوف كثيرة. قيل : عشرة آلاف. وقيل : ثلاثون. وقيل : سبعون. ومن بدع التفاسير معنى ألوف متألّفون ، جمع آلف أو إلف ، كقاعد وقعود ، والواو للحال (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول له (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) أي : قال لهم الله : موتوا فماتوا ، كقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) (٢). والمعنى : أنّهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علّة بأمر الله ومشيئته. وقيل : ناداهم به ملك ، وإنّما أسند إلى الله تعالى تخويفا وتهويلا (ثُمَّ أَحْياهُمْ).

قيل : مرّ حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرّقت أوصالهم ، فلوى شدقه (٣) وأصابعه تعجّبا ممّا رأى ، فأوحي إليه : ناد فيهم أن قوموا بإذن الله ، فنادى ، فنظر إليهم قياما يقولون : سبحانك اللهمّ وبحمدك لا إلا إلّا أنت.

وقيل : هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ، فخرجوا ثمّ جبنوا وكرهوا الموت ، فاعتلّوا وقالوا : إنّ الأرض الّتي نأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء ، فأرسل الله عليهم الموت ، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، فلمّا رأى الملك ذلك قال : اللهم ربّ يعقوب وإله

__________________

(١) داوردان بفتح الواو وسكون الراء : من نواحي شرقي واسط بينهما فرسخ. انظر معجم البلدان ٢ : ٤٣٤.

(٢) البقرة : ١١٧.

(٣) الشّدق : جانب الفم.

٣٨٥

موسى قد ترى معصية عبادك ، فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنّهم لا يستطيعون الفرار منك ، فأماتهم الله ثمانية أيّام ثمّ أحياهم.

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث يبصّرهم ما يعتبرون به ويستبصرون ، كما بصّركم باقتصاص خبرهم ، أو حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا ، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم القيامة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) لما ذكر من النعمة عليهم ، بما أراهم من الآية العظيمة في أنفسهم ، ليلتزموا سبيل الله ، ويتجنّبوا طريق الردى.

وفائدة ذكر هذه القصّة حثّ المسلمين على التوكّل والاستسلام للقضاء ، وتشجيعهم على الجهاد والتعرّض للشهادة.

فلمّا بيّن أنّ الفرار عن الموت غير مخلص ، وأنّ المقدّر لا محالة واقع ، أمرهم بالقتال ، إذ لو جاء أجلهم ففي سبيل الله وإلّا فالنصر والثواب.

وقال : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما يقوله المتخلّف والسابق (عَلِيمٌ) بما يضمرانه ، وعلمه محيط بكيفيّة الجزاء وكمّيته.

ثمّ رغّبهم في الجهاد وبذل الأنفس والأموال فيه ، بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) «من» استفهاميّة مرفوعة الموضع بالابتداء ، و «ذا» خبره ، و «الّذي» صفة «ذا» أو بدله. وإقراض الله مثل لتقديم العمل الّذي به يطلب ثوابه (قَرْضاً حَسَناً) إقراضا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس ، أو مقرضا حلالا طيّبا. وقيل : القرض الحسن المجاهدة والإنفاق في سبيل الله (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) فيضاعف جزاءه. أخرجه على سبيل المغالبة للمبالغة ، كما مرّ في (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) (١).

وقرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى ، فإنّ (مَنْ

__________________

(١) البقرة : ٩.

٣٨٦

ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) في معنى. أيقرض الله أحد؟ وقرأ ابن كثير : فيضعّفه بالرفع ، وابن عامر ويعقوب بالنصب.

(أَضْعافاً كَثِيرَةً) لا يعلم كنهها إلّا الله ، كما روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لمّا نزلت هذه الآية : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) (١) قال رسول الله : ربّ زدني ، فأنزل الله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٢) فقال رسول الله : ربّ زدني ، فأنزل الله سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) والكثير عند الله لا يحصى». وقيل : هي أنّ الواحد بسبعمائة.

و «أضعافا» جمع ضعف. ونصبه على الحال من الضمير المنصوب ، أو المفعول الثاني ، لتضمّن المضاعفة معنى التصيير ، أو المصدر ، على أنّ الضعف اسم مصدر ، وجمعه للتنويع.

(وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) يقتّر على بعض ويوسّع على بعض وفق ما اقتضت حكمته ، فلا تبخلوا عليه بما وسّع الله عليكم كيلا يبدّل حالكم (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على ما قدّمتم.

قال الكلبي في نزول هذه الآية : «إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنّة.

فقال أبو الدحداح الأنصاري ـ واسمه عمرو بن الدحداح ـ : يا رسول الله إنّ لي حديقتين إن تصدّقت بإحداهما فإنّ لي مثليها في الجنّة؟

قال : نعم.

__________________

(١) النمل : ٨٩ ، القصص : ٨٤.

(٢) الأنعام : ١٦٠.

٣٨٧

قال : وأمّ الدحداح معي؟

قال : نعم.

قال : والصبية معي؟ قال : نعم.

قال : فتصدّق بأفضل حديقتيه ، فدفعها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية ، فضاعف الله له صدقته ألفي ألف ، وذلك قوله : «أضعافا كثيرة».

فرجع أبو الدحداح ، فوجد أم الدحداح والصبية في الحديقة الّتي جعلها صدقة ، فقام على باب الحديقة ، وتحرّج أن يدخلها ، فنادى : يا أمّ الدّحداح! قالت : لبّيك يا أبا الدحداح.

قال : إنّي قد جعلت حديقتي هذه صدقة ، واشتريت مثليها في الجنّة ، وأمّ الدحداح معى ، والصبية معى.

فقالت : بارك الله لك فيما شريت وفيما اشتريت. فخرجوا منها وأسلموا الحديقة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال النبيّ : كم نخلة متدلّ عذوقها لأبي الدحداح في الجنّة».

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ

٣٨٨

عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)) (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١))

ولمّا قدّم سبحانه ذكر الجهاد عقّبه بقصّة مشهورة في بني إسرائيل تضمّنت

٣٨٩

شرح ما نالهم في قعودهم عنه ، تحذيرا من سلوك طريقتهم فيه ، فقال : (أَلَمْ تَرَ) ألم ينته علمك يا محمد (إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الملأ جماعة الأشراف من الناس ، لأنّ هيبتهم تملأ الصدور ، أو لأنّهم باجتماعهم للتشاور يملأون المجلس ، ولا واحد له كالقوم. و «من» للتبعيض (مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي : من بعد وفاته. و «من» للابتداء (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) وهو يوشع أو شمعون أو إشمويل ، وهو الأعراف (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) أنهض للقتال معنا أميرا ننتهي إلى أمره (نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بتدبير أمره في الحرب وصواب رأيه فيه. وجزم «نقاتل» على الجواب.

(قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) فصّل بين عسى وخبره بالشرط. والمعنى : أتوقّع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم. فأدخل «هل» على فعل التوقّع مستفهما عمّا هو متوقّع عنده ومظنون تقريرا وتثبيتا.

(قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أيّ داع لنا إلى ترك القتال ، وأيّ غرض لنا يوجبه؟ (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا) من أوطاننا (وَأَبْنائِنا) وأفردنا عن أولادنا ، وذلك أنّ جالوت ومن معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، وغلبوا على بني إسرائيل ، فأخذوا ديارهم ، وسبوا أولادهم ، وأسّروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين.

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد والقعود عن القتال.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) طالوت اسم أعجميّ ، لأنّه علم عبري ، كجالوت وداود. وفيه سببان : التعريف والعجميّة. وجعله فعلوتا من الطول ـ أصله طولوت ـ تعسّف ، لأنّه يدفعه منع صرفه ، فهو عجميّ وافق عربيّا ،

٣٩٠

كما وافق حنطا حنطة ورخمان رحمانا.

وروي أنّ نبيّهم عليه‌السلام لمّا دعا الله أن يملكهم أتي بعصا يقاس بها من يملّك عليهم ، فلم يساوها إلّا طالوت.

(قالُوا) إنكارا لتملّكه عليهم (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) من أين يكون له ذلك ويستأهل؟ (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) والحال أنّا أحقّ منه بالملك وراثة ومكنة ، ولا بدّ للملك من مال يتقوّى به. وإنّما قالوا ذلك لأنّ طالوت كان فقيرا راعيا أو سقّاء أو دبّاغا من أولاد بنيامين بن يعقوب ، ولم يكن من سبط النبوّة ولا من سبط الملك ، وإنّما كانت النبوّة في أولاد لاوي بن يعقوب ، والملك في سبط يهوذا ، ولم يكن طالوت من أحد السبطين.

ولمّا استبعدوا تملّكه لفقره وسقوط نسبه (قالَ) نبيّهم ردّا عليهم أوّلا : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) اختاره عليكم ، وهو أعلم بالمصالح.

وثانيا : بأنّ الشرط فيه وفور العلم ليتمكّن به من معرفة الأمور السياسيّة ، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب ، وأقوى على مقاومة العدوّ ومكابدة الحروب ، لا ما ذكرتم ، فقال : (وَزادَهُ بَسْطَةً) سعة وامتدادا (فِي الْعِلْمِ) بتدابير الحروب والسياسة ، ويجوز أن يكون عالما بالديانات وبغيرها. وقيل : قد أوحي إليه ونبّئ. (وَالْجِسْمِ) بطول القامة على وجه كان الرجل القائم يمدّ يده فينال رأسه ، وبالوجاهة التامّة وكمال الشجاعة ، وذلك أعظم في النفوس ، وأهيب في القلوب ، وأدخل في الحروب.

وثالثا : بأنّه مالك الملك على الإطلاق ، فقال : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) وفق الحكمة والمصلحة.

ورابعا : بأنّه واسع الفضل ، يوسّع على الفقير ويغنيه ، عالم بمن يليق بالملك ، فقال : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) بمن يصطفيه للرئاسة والملك.

٣٩١

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) بعد أن أقام الحجّة على أحقّية طالوت بالملك (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) أي : الصندوق. فعلوت من التوب ، وهو الرجوع ، لأنّه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه ، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه. وليس بفاعول ، لقلّة نحو : سلس وقلق ، ولأنّه تركيب غير معروف ، فلا يجوز ترك المعروف إليه. ويريد به صندوق التوراة ، وكان من خشب الشمشاد الّذي يتّخذ منه المشط ، ومموّها بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين.

روي عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّ التابوت كان الّذي أنزله الله على أمّ موسى ، فوضعت فيه ابنها وألقته في البحر ، وكان في بني إسرائيل يتبرّكون به ، فلمّا حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آثار النبوّة ، وأودعه إيّاه عند وصيّه يوشع بن نون ، فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفّوا به ، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات ، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام التابوت عندهم ، فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتابوت رفعه الله عنهم ، فلمّا سألوا النبيّ بعث الله طالوت عليهم يقاتل معهم ، ردّ الله عليهم التابوت» (١).

(فِيهِ) في إتيانه (سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) سكون لكم وطمأنينة ، أو في التابوت ، أي : مودع فيه ما تسكنون إليه ، وهو التوراة. وكان موسى عليه‌السلام إذا قاتل قدّمه ، فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرّون.

وقيل : هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت ، لها جناحان ورأس كرأس الهرّ وذنب كذنبه ، فتئنّ فيزفّ التابوت نحو العدوّ وهم يمضون معه ، فإذا استقرّ ثبتوا وسكنوا ونزل النصر.

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ٨١ ـ ٨٢.

٣٩٢

وقيل : صور الأنبياء من آدم إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعن عليّ عليه‌السلام : كانت فيه ريح هفّافة (١) من الجنّة ، لها وجه كوجه الإنسان.

(وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) رضاض (٢) الألواح ، وعصا موسى ، وثيابه ، وعمامة هارون. وآلهما : أبناؤهما أو أنفسهما. وإقحام الآل لتفخيم شأنهما أو أنبياء بني إسرائيل ، لأنّهم أبناء عمّهما ، وهو عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، فكان أولاد يعقوب آلهما. (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) روي أنّه سبحانه رفعه بعد موسى ، فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه ، وكان ذلك آية لاصطفاء الله طالوت.

وقيل : كان بعد موسى مع أنبيائهم يستفتحون به ، حتى أفسدوا فغلبهم الكفّار عليه ، وكان في أرض جالوت إلى أن ملّك الله طالوت ، فأصابهم بلاء حتى هلكت خمس مدائن ، فتشاءموا بالتابوت ، فوضعوه على ثورين أخرجوهما من بلادهم ، فساقتهما الملائكة إلى طالوت.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يحتمل أن يكون من تمام كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يكون ابتداء خطاب من الله تعالى.

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) فصل عن موضع كذا إذا انفصل عنه وجاوزه.

وأصله : فصل نفسه عنه ، ثمّ كثر حذف المفعول حتى صار في حكم اللازم. ومعناه : انفصل عن البلد بالجنود لقتال العمالقة ، وكانوا ثمانين ألف مقاتل. وقيل : سبعين ألفا.

وروي أنّه قال لهم : لا يخرج معهم إلّا الشابّ النشيط الفارغ ، فاجتمع إليه ممّن اختاره ثمانون ألفا ، وكان الوقت قيظا (٣) ، فسلكوا مفازة وسألوا أن يجري الله

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «ريح هفّافة : ساكنة طيّبة. منه».

(٢) رضاض الشيء : فتاته وكساره.

(٣) القيظ : اشتداد الحرّ.

٣٩٣

تعالى لهم نهرا.

(قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) فليس من أشياعي وأتباعي (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) أي : من لم يذقه ، من : طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا. وإنّما علم ذلك بالوحي إن كان نبيّا كما قيل ، أو بإخبار النبيّ (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) استثناء من قوله : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) والجملة الثانية في حكم المتأخّرة ، إلّا أنّها قدّمت للعناية بها ، كما قدّم «والصابئون» في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) (١).

ومعناه : الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع ، والدليل عليه قوله : (فَشَرِبُوا مِنْهُ) أي : فكرعوا فيه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) إذ الأصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط. وتعميم الأوّل ليتّصل الاستثناء ، أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلا منهم. والقليل كانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا. وقيل : ثلاثة آلاف. وعن السدّي أربعة آلاف رجل. ونافق ستّة وسبعون ألفا ، ثمّ نافق الأربعة الآلاف إلّا ثلاث مائة وبضعة عشر. وقيل : ألفا. روي أنّه من اقتصر على الغرفة كفته لشربه وإداواته (٢) ، ومن لم يقتصر غلب عليه عطشه ، واسودّت شفته ، ولم يقدر أن يمضي ، وهكذا الدنيا لقاصد الآخرة.

(فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي : تخطّى النهر طالوت والّذين آمنوا معه ، يعني : القليل الّذين لم يخالفوه (قالُوا) أي : بعضهم لبعض حين رأوا كثرة عدد جنود جالوت (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) لكثرتهم وقوّتهم.

__________________

(١) المائدة : ٦٩.

(٢) الإداوة : المطهرة.

٣٩٤

وجالوت جبّار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد ، وكانت بيضته فيها ثلاث مائة رطل. هكذا قال صاحب الكشّاف (١).

(قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) أي : قال الخلّص منهم الّذين تيقّنوا لقاء الله وتوقّعوا ثوابه ، أو علموا أنّهم يستشهدون عمّا قريب فيلقون الله.

وقيل : إنّ الضمير في «قالوا» للكثير الّذين شربوا وانخذلوا ، و «الّذين يظنّون» هم القليل الّذين ثبتوا معه وتيقّنوا أنّهم يلقون الله.

(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) بحكمه ونصره وتيسيره. و «كم» تحتمل الخبر والاستفهام. و «من» مبيّنة أو مزيدة. والفئة الفرقة من الناس ، من :

فأوت رأسه إذا شققته ، أو من : فاء إذا رجع ، فوزنها فعة أو فلة. (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر والإثابة.

(وَلَمَّا بَرَزُوا) ظهروا (لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) لمحاربتهم ودنوا منهم (قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ) صبّب (عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) أي : وفّقنا للثبوت في مداحض الحرب بتقوية القلوب وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فيه ترتيب بليغ ، إذ سألوا أوّلا إفراغ الصبر في قلوبهم الّذي هو ملاك الأمر ، ثمّ ثبات القدم في مزالق الحرب المسبّب عن النصر ، ثمّ النصر على القوم المترتّب عليهما غالبا ، فاستجاب لهم ربّهم (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) فكسروهم بنصره ، أو مصاحبين لنصره إيّاهم إجابة لدعائهم (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ).

روي أنّ إيشا أبا داود كان في عسكر طالوت مع ستّة من بنيه أو عشرة ، وكان داود أصغرهم يرعى الغنم ، فأوحى الله إلى نبيّهم أنّه الّذي يقتل جالوت فطلبه

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٢٩٦.

٣٩٥

من أبيه ، فجاء وقد كلّمه في الطريق ثلاثة أحجار ، دعاه كلّ واحد منها وقالت له : إنّك بنا تقتل جالوت ، فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله ، ثمّ زوّجه طالوت بنته.

وروي عليّ بن إبراهيم عن الصادق عليه‌السلام : «أنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّهم أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى عليه‌السلام ، وكان داود شديد البطش شجاعا قويّا في بدنه ، فلمّا جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوت عليه ، فجاء إلى معركة الجهاد ووقف بحذاء جالوت ، وكان جالوت على الفيل ، وعلى رأسه التاج ، وفي جبهته ياقوتة يلمع نوره ، وجنوده بين يديه ، فأخذ داود حجرا من تلك الأحجار الّتي ذكرت ، فرمى به في ميمنة جالوت ، فوقع عليهم فانهزموا ، وأخذ حجرا آخر ورمى به في ميسرة جالوت ، فوقع عليهم فانهزموا ورمى بالثالث إلى جالوت فأصابه موضع الياقوتة في جبهته ووصلت إلى دماغه ، ووقع في الأرض ميّتا» (١).

(وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أعطاه ملك بني إسرائيل في الأرض المقدّسة ، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قطّ قبل داود (وَالْحِكْمَةَ) النبوّة ، ولم يكن نبيّا قبل قتله جالوت (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) من أمور الدين والدنيا ، كصنعة الدروع وكلام الطير.

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ولو لا أنّه يدفع بعض الناس ببعض ، بأن ينصر المسلمين على الكفّار ويكفّ بهم فسادهم (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) بشؤمهم وبطلت منافعها ، أو لغلب المفسدون وأفسدوا في الأرض.

وقيل : ولولا أنّ الله ينصر المسلمين على الكفّار لعمّ الكفر ونزل العذاب ، واستؤصل أهل الأرض.

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ٨٢ ـ ٨٣.

٣٩٦

وعن عليّ عليه‌السلام وقتادة وجمع من المفسّرين أنّ معناه : يدفع الله بالبرّ عن الفاجر الهلاك.

ومثله ما رواه جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله يدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي منهم ، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا ، وإنّ الله ليدفع بمن يزكّي من شيعتنا عمّن لا يزكّي منهم ، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا ، وإنّ الله ليدفع بمن يحجّ من شيعتنا عمّن لا يحجّ منهم ، ولو اجتمعوا على ترك الحجّ لهلكوا».

وقريب من معناه ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لولا عباد لله ركّع ، وصبيان رضّع ، وبهائم رتّع ، لصبّ عليهم العذاب صبّا».

وروي جابر بن عبد الله قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده ، وأهل دويرته ودويرات حوله ، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم». وذلك قوله : (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) ذو تفضّل ونعمة عليهم في الدنيا على العموم والآخرة على الخصوص.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣))

٣٩٧

(تِلْكَ) إشارة إلى القصص الّتي اقتصّها من حديث إماتة الألوف من الناس وإحيائهم ، وتمليك طالوت ، ونزول التابوت ، وانهزام الجبابرة مع شدّة قوّتهم وشوكتهم على يد صبيّ (آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ) دلالات الله على قدرته ، نقرأها ، أي : يقرأها جبرئيل عليك بأمرنا (بِالْحَقِ) بالوجه المطابق الّذي لا يشكّ فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لما أخبرت بها من غير استماع وتعرّف بقراءة وكتابة.

(تِلْكَ الرُّسُلُ) إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة ، أو الجماعة المعلومة للرسول (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره.

ثمّ فصّل ذلك التفضيل بقوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) من غير سفير وهو موسى.

وقيل : موسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كلّم موسى ليلة الحيرة وفي الطور ، ومحمّدا ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى ، وبينهما بون بعيد.

(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أي : منهم رفعه على سائر الأنبياء ، بأن فضّله على غيره من وجوه متعدّدة أو بمراتب متباعدة ، وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه خصّ بالدعوة العامّة ببعثه إلى جميع الإنس والجنّ ، وبالحجج المتكاثرة والمعجزات المتصاعدة إلى ثلاثة آلاف ، وقيل إلى ألف ، وهو الأصحّ ، وبالمعجزة القائمة إلى يوم القيامة ، وهي القرآن وسائر الآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر ، والفضائل العلميّة والعمليّة غير المحصورة. وهذا دليل بيّن أنّ من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضّل على غيره ، ولمّا كان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الّذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها ، كان هذا المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع ، اللهمّ ارزقنا شفاعته يوم الدين.

وفي هذا الإبهام من تعظيم شأنه وإعلاء مكانه ما لا يخفى ، لأنّ فيه أنّه العلم المشهور المتعيّن لهذا الوصف المستغني عن التعيين ، وقد سئل الحطيئة عن أشعر

٣٩٨

الناس ، فذكر زهيرا والنابغة قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخّم أمره.

وقيل : إبراهيم خصّصه بالخلّة الّتي هي أعلى المراتب. وقيل : إدريس ، لقوله تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (١). وقيل : أولوا العزم من الرسل.

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) مرّ (٢) تفسيره. خصّ عيسى بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه. وجعل معجزاته سبب تفضيله ، لأنّها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ) مشيئة إلجاء وقسر (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد الرسل (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) المعجزات الواضحات ، لاختلافهم في الدين ، وتكفير بعضهم بعضا وتضليلهم ، ولم يلجئهم به ، لأنّه ينافي التكليف الّذي هو مناط الجزاء (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بتوفيقه التزام دين الأنبياء تفضّلا (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) لإعراضه عنه عنادا وإنكارا (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) كرّره للتأكيد (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من التخلية لعناد عباده ، والعصمة لطلب هدايتهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

ولمّا قصّ الله سبحانه أخبار الأمم السالفة ، وثبت رسالة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيّن

__________________

(١) مريم : ٥٧.

(٢) في ص : ١٨٦.

٣٩٩

مزيّة مرتبته على سائر الأنبياء ، عقّبه بالحثّ على الطاعة ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ما أوجبت عليكم إنفاقه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) لا تجارة فيه ، أي : من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرّطتم من الإنفاق والخلاص من عذابه ، إذ لا بيع فيه فتبتاعوا ما تنفقونه أو تفتدون به من العذاب (وَلا خُلَّةٌ) صداقة حتّى يسامحكم أخلّاؤكم به أو يعينكم عليه (وَلا شَفاعَةٌ)(إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (١) حتى تتّكلوا على شفعاء تشفع لكم في حطّ ما في ذممكم.

فلفظ شفاعة وإن كان عامّا إلّا أنّه يراد به الخاصّ بلا خلاف ، ولقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٢) و (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٣) ، ولأنّ الأمّة أجمعت على إثبات الشفاعة يوم القيامة.

وإنّما رفعت الثلاثة مع قصد التعميم لأنّها في التقدير جواب : هل فيه بيع أو خلّة أو شفاعة؟ وقد فتحها ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو على الأصل.

(وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يريد : والتاركون للزكاة هم الّذين ظلموا أنفسهم ، أو وضعوا المال في غير موضعه ، وصرفوه على غير وجهه ، فوضع الكافرون موضعه تغليظا وتهديدا ، كقوله : (وَمَنْ كَفَرَ) (٤) مكان : من لم يحجّ ، وإيذانا بأنّ ترك الزكاة من صفات الكفّار ، كقوله : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (٥).

__________________

(١) طه : ١٠٩.

(٢) الأنبياء : ٢٨.

(٣) البقرة : ٢٥٥.

(٤) آل عمران : ٩٧.

(٥) فصّلت : ٦ ـ ٧.

٤٠٠