زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

والمعاصي. وعن ابن عبّاس معناه : ويجعلهم مطيعين مخلصين. والزكاء : هو الطاعة والإخلاص لله سبحانه.

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القويّ الّذي لا يقهر ولا يغلب على ما يريد ، ومن جملته بعث النبيّ المنعوت (الْحَكِيمُ) المحكم لبدائع صنعتك.

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١))

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) الّتي هي الحقّ. هذا استبعاد وإنكار لأن يكون في العقلاء من يرغب عن ملّته الواضحة وطريق الحقّ ، أي : لا يرغب أحد عن ملّته (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ). محلّه الرفع على المختار بدلا من الضمير المستكن في «يرغب». وصحّ البدل لأنّ «من يرغب» غير موجب ، كقولك : هل جاءك أحد إلا زيد؟

ومعنى «سفه نفسه» امتهنها واستخفّ بها. وأصل السفه الخفّة. وقيل : معناه : جهل قدره ، أو جهل نفسه بما فيها من الآيات الدالّة على أنّ لها صانعا ليس كمثله شيء.

قال المبرّد وثعلب : سفه بالكسر متعدّ ، وبالضمّ لازم. ويشهد له ما جاء في الحديث : «الكبر أن تسفه الحقّ ، وتغمص (١) الناس».

وقيل : أصله : سفه نفسه ، على الرفع ، فنصب على التمييز ، نحو : غبن رأيه ، وألم رأسه. أو : سفه في نفسه ، فنصب بنزع الخافض.

__________________

(١) أي : تحتقرهم وتستصغرهم.

٢٤١

والأوّل أوجه ، لشذوذ تعريف المميّز ، وبعد نزع الخافض منها.

ثمّ بيّن خطأ رأي من رغب عن ملّته بقوله : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) اجتبيناه بالرسالة (فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الفائزين. فمن كان صفوة العباد وخيرتهم في الدنيا ، مشهودا له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة ، كان حقيقا بالاتّباع له ، لا يرغب عنه إلا سفيه أو متسفّه ، أذلّ نفسه بالجهل والإعراض عن النظر.

ومعنى «أسلم» في قوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أخطر ببالك النظر في الدلائل المفضية به إلى التوحيد ، لتخلص لله العبادة (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي : نظرت وعرفت خالق العالم فعبدته خالصا. وقيل : إنّ معنى «أسلم» أذعن وأطع.

وهذه الآية ظرف لـ «اصطفيناه» وتعليل له ، أي : اخترناه في ذلك الوقت. أو منصوب بإضمار : أذكر ، كأنّه قيل : أذكر ذلك الوقت لتعلم أنّه المصطفى الصالح المستحقّ للإمامة والتقدّم ، بسبب المبادرة إلى إخلاص السرّ والإذعان حين دعاه ربّه إلى التوحيد على طريق النظر ، فأخطر بباله دلائله المؤدّية إلى المعرفة الداعية إلى التوحيد وسائر أصول قواعد الإسلام.

وعن ابن عبّاس : إنّما قال ذلك إبراهيم عليه‌السلام حين خرج من السّرب (١).

وروي أنّ عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام ، فقال لهما : قد علمنا أنّ الله تعالى قال في التوراة : إنّي باعث من ولد إسماعيل نبيّا اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن فهو ملعون ، فأسلم سلمة ، وأبى مهاجر أن يسلم ، فنزلت : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) الى آخر الآيتين.

__________________

(١) السّرب : الحفير تحت الأرض ، أو الغار والكهف.

٢٤٢

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))

روي أنّ اليهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهوديّة يوم مات؟ فنزلت : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ). التوصية التقدّم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة. وأصلها الوصل ، يقال : وصّاه إذا وصله ، وفصّاه إذا فصله ، كأنّ الموصّي يصل فعله بفعل الوصيّ. والضمير في «بها» للملّة ، أو لقوله : «أسلمت» على تأويل الكلمة أو الجملة. وقرأ نافع وابن عامر : أوصى. والأوّل أبلغ.

(وَيَعْقُوبُ) عطف على إبراهيم ، أي : وصّى بها عنه يعقوب. وهو ابن إسحاق ، عن ابن عبّاس : إنّما سمّي يعقوب لأنّه وعيصا كانا توأمين ، فتقدّم عيص وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه.

(يا بَنِيَ) على إضمار القول عند البصريّين ، ومتعلّق بـ «وصّى» عند الكوفيّين ، لأنّه نوع من القول.

وبنو إبراهيم كانوا أربعة : إسماعيل ، وإسحاق ، ومدين ، ومدان. وفي الكواشي (١) : ثمانية ، الأربعة المذكورة ، وزمران ، ويفشان ، ويشبق ، وشوّخ. وقيل :

__________________

(١) هو موفّق الدين أحمد بن يوسف الكواشي الشافعي الموصلي المفسّر ، له التفسير الكبير والصغير ، وتوفّي سنة ٦٨٠. الكنى والألقاب ٣ : ١٠١. ولم يكن تفسيره لدينا ، ولعلّه لم يطبع إلى الآن.

٢٤٣

أربعة عشر.

وبنو يعقوب اثنا عشر : يوسف ، وابن يامين ، وروبيل ، ويهودا ، وشمعون ، وتفتوني ، ولأوان ، ودان ، وقهاب ، ويشجر ، ونقتالي ، وجادو.

وقيل : روبيل ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، وبشسوخور ، وزبولون ، ودوني ، ونفتوني ، وكودا ، واوشير ، وبنيامين ، ويوسف (١).

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أي : أعطاكم دين الإسلام الّذي هو صفوة الأديان ، ووفّقكم للأخذ به ، لقوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : فلا يكن موتكم إلّا على كونكم ثابتين على الإسلام ، فظاهره النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام. والمقصود هو النهى عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا ، والأمر بالثبات على الإسلام ، كقولك : لا تصلّ إلّا وأنت خاشع ، فلا تنهاه عن الصّلاة ، ولكن على ترك الخشوع. وتغيير العبارة للدلالة على أنّ موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه ، وأنّ من حقّ الموت أن لا يحلّ بهم. ونظيره في الأمر : مت وأنت شهيد ، وليس مرادك الأمر بالموت ، ولكن على صفة الشهداء.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي : حاضرين ، جمع الشهيد بمعنى الحاضر. «أم» منقطعة ، أي : بل أكنتم شهداء. ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، أي : ما كنتم حاضرين (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) حين احتضر وقال لبنيه ما قال ، فلم تدّعون اليهوديّة عليه؟! أو متّصلة بمحذوف ، تقديره : أكنتم غائبين أم كنتم شهداء؟

وقيل : الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : ما شاهدتم ، وإنّما علمتموه من الوحي.

(إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) بدل من «إذ حضر» (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أيّ شيء تعبدونه من بعد وفاتي؟ فحذف المضاف. أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام ،

__________________

(١) في ضبط هذه الأسماء اختلاف ، انظر التبيان ١ : ٤٨٢ ، مجمع البيان ١ : ٢١٧ ، أنوار التنزيل ١ : ١٩٠.

٢٤٤

وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما. ولفظة «ما» يسأل به عن كلّ شيء ما لم يعرف ، فإذا عرف خصّ العقلاء بـ «من» إذا سئل عن تعيينه. ويجوز أن يقال : (ما تَعْبُدُونَ) سؤال عن صفة المعبود ، كما إذا سئل عن وصف زيد قيل : ما زيد؟ أفقيه أم طبيب؟

(قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) عطف بيان لآبائك. وجعل إسماعيل وهو عمّه من جملة آبائه ، لأنّ العمّ أب والخالة أمّ ، لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوّة ، لا تفاوت بينهما ، ومنه قوله عليه‌السلام : عمّ الرجل صنو (١) أبيه ، أي : لا تفاوت بينهما ، كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. وقال في العبّاس : هذا بقيّة آبائي. وقال : ردّوا عليّ أبي ، فإنّي أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود. وقدّم ذكره على إسحاق لأنّه كان أكبر منه ، وكان عمّ يعقوب ، وجعله أبا له ، وكان جدّا لنبيّنا.

وقوله : (إِلهاً واحِداً) بدل من (إِلهَ آبائِكَ) كقوله : (بِالنَّاصِيَةِ * ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) (٢). وفائدته التصريح بالتوحيد ، ونفي الوهم الناشئ من تكرير المضاف ، لتعذّر العطف على المجرور. أو نصب على الاختصاص ، أي : نريد بإله آبائك إلها واحدا.

(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) حال من فاعل «نعبد» ، أو مفعوله ، لرجوع الضمير إليه في «له» ، أو منهما. ويحتمل أن يكون اعتراضا ، أي : ومن حالنا أنّا له مسلمون مخلصون له التوحيد ، أو مذعنون. ويجوز أن يكون جملة معطوفة على «نعبد».

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) إشارة إلى الأمّة المذكورة ، يعني : أنّ إبراهيم ويعقوب وبنيهما قد مضت. والأمّة في الأصل ما يقصد به. ويسمّى بها الجماعة ، لأنّ الفرق تؤمّها ، أي : تقصدها.

__________________

(١) الصنو : الأخ ، وإذا خرجت نخلتان من أصل واحد فكلّ واحدة منها صنو.

(٢) العلق : ١٥ ـ ١٦.

٢٤٥

(لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) لكلّ أجر عمله. والمعنى : أنّ أحدا لا ينفعه كسب غيره ، متقدّما كان أو متأخّرا ، فكما أنّ أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا ، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم ، فانتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم ، وإنّما تنتفعون باتّباعهم ، كما وقع في الحديث : «يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم ، وتأتوني بأنسابكم» يعني لا يكن من الناس : إتيان الأعمال ، ومنكم إتيان الأنساب ، بل ليكن من الجميع إتيان الأعمال.

(وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ولا تؤاخذون بسيّئاتهم ، كما لا تثابون بحسناتهم.

وفي هذه الآية ردّ للّذين افتخروا بآبائهم كما كان دأب الجاهليّة ، ودلالة على بطلان قول المجبّرة : إنّ الأبناء يؤاخذون بذنوب الآباء ، وإنّ ذنوب المسلمين تحمل على الكفّار.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦))

عن ابن عبّاس : أنّ عبد الله بن صوريا وكعب بن الأشرف ومالك بن الضّيف وجماعة من اليهود ونصارى أهل نجران خاصموا أهل الإسلام ، كلّ فرقة تزعم أنّها أحقّ بدين الله من غيرها ، فقالت اليهود : نبيّنا موسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وقالت النصارى : نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا الإنجيل أفضل

٢٤٦

الكتب ، وكلّ فريق منهما قالوا للمؤمنين : كونوا على ديننا ، فنزلت (وَقالُوا) أي : أهل الكتاب من اليهود والنصارى (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) «أو» للتنويع. والمعنى : مقالتهم أحد هذين القولين ، فقالت اليهود : كونوا هودا ، وقالت النصارى : كونوا نصارى (تَهْتَدُوا) تصيبوا طريق الحقّ. هذا جواب الأمر.

(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي : بل نكون ملّة إبراهيم ، أي : أهل ملّته ، أو بل نتّبع ملّة إبراهيم (حَنِيفاً) مائلا عن كلّ دين باطل إلى دين الحقّ ، حال من المضاف أو المضاف إليه ، كقولك : رأيت وجه هند قائمة. وأصل الحنف الميل في القدمين. وتحنّف إذا مال.

وقوله (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطفا على «حنيفا» تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، لأنّ كلّا منهم يدّعي اتّباع إبراهيم وهو على الشرك.

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) الخطاب للمؤمنين ، لقوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ) (١) أمرهم سبحانه بإظهار ما تديّنوا به على الشرع ، فبدأ بالإيمان بالله ، لأنّه أوّل الواجبات بالإضافة إلينا ، أو سبب للإيمان بغيره.

ثمّ ثنّى بالإيمان بالقرآن والكتب المنزلة على الأنبياء (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) أي : بالقرآن ، قدّمه على سائر الكتب لتقدّمه بالشرف ، وإن كان متأخّرا بالزمان (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) أي : بالصّحف ، وهي وإن نزلت إلى إبراهيم ، لكنّهم لمّا كانوا متعبّدين بتفصيلها داخلين تحت أحكامها ، فهي أيضا منزلة إليهم ، كما أنّ القرآن منزل إلينا.

والأسباط جمع سبط ، وهو الحافد. يريد به حفدة يعقوب ، أو أبناء يعقوب وذراريهم ، فإنّهم حفدة إبراهيم وإسحاق عليهما‌السلام ، وكان الحسن والحسين عليهما‌السلام سبطي رسول الله ، أي : حافديه.

__________________

(١) البقرة : ١٣٧ ، وسيأتى تفسيرها في ص ٢٤٨.

٢٤٧

(وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) أي : بالتوراة والإنجيل. أفردهما بالذكر بحكم أبلغ ، لأنّ أمرهما بالإضافة إلى موسى وعيسى مغاير لما سبق ، والنزاع وقع فيهما (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) جملة المذكورين منهم وغير المذكورين (مِنْ رَبِّهِمْ) منزلا عليهم من ربّهم.

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي : لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كما فعلت اليهود والنصارى ، بل نؤمن بجميع الأنبياء وكتبهم. ولمّا كان «أحد» في سياق النفي مفيدا للعموم ، فصحّ دخول «بين» عليه.

(وَنَحْنُ لَهُ) أي : لله (مُسْلِمُونَ) مذعنون مخلصون.

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨))

ولمّا نزل قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) الآية قرأها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اليهود والنصارى ، فلمّا سمعت اليهود ذكر عيسى أنكروا وكفروا ، وقالت النصارى : إنّ عيسى ليس كسائر الأنبياء ، لأنّه ابن الله ، فنزلت : (فَإِنْ آمَنُوا) آمن هؤلاء الكفّار (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) أي : إيمانا مثل إيمانكم بالله وكتبه ورسله. فالباء مزيدة و «ما» مصدريّة. (فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي : سلكوا طريق الهدى.

هذا من باب التبكيت والتعجيز ، كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (١) لأنّ دين الحقّ واحد لا مثل له ، وهو دين الإسلام ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً

__________________

(١) البقرة : ٢٣.

٢٤٨

فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (١) ، فلا يوجد إذن دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقّا ، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين.

فقيل : «فإن آمنوا» بكلمة الشكّ على سبيل الفرض والتقدير ، أي : فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم مساويا له في الصحّة والسداد فقد اهتدوا.

وفيه : أنّ دينهم الّذي هم عليه وكلّ دين سواه مغاير له غير مماثل ، لأنّه حقّ وهدى ، وما سواه باطل وضلال. ونحو هذا قولك للرجل الّذي تشير عليه : هذا هو الرأي الصواب ، فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به ، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، ولكنّك تريد تبكيت صاحبك ، أو توقيفه على أنّ ما رأيت لا رأي وراءه.

ويجوز أن لا تكون الباء صلة زائدة ، وتكون للاستعانة ، كقولك : كتبت بالقلم وعملت بالقدوم (٢) ، أي : فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم الّتي آمنتم بها فقد اهتدوا.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) عمّا تقولون لهم ولم ينصفوا ، أو أعرضوا عن الإيمان بالجميع (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) فما هم إلا في شقاق الحقّ ، وهو المناواة (٣) والمخالفة ، فإنّ كلّ واحد من المتخالفين في شقّ غير شقّ الآخر ، وليسوا من طلب الحقّ في شيء ، أي : فإن تولّوا عن الشهادة والدخول في الإيمان.

(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) أي : يكفيك ويدفع عنك يا محمد شرّ اليهود والنصارى. وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم ، وإجلاء بني النضير ، وضرب الجزية على الفريقين. ففيه تسلية وتسكين للمؤمنين ، ووعد لهم بالحفظ والنّصر على من

__________________

(١) آل عمران : ٨٥.

(٢) آلة للنحت والنجر.

(٣) في هامش الخطّية : «ناواه : عاداه. منه».

٢٤٩

ناواهم ، والضمان من الله لإظهار نيّته عليهم ، وكفايته من يشاقّه من اليهود والنصارى. وفيه دلالة على صحّة نبوّته ، لأنّه تعالى قد أنجز وعده ، فوافق المخبر الخبر. ومعنى السين أنّ ذلك كائن لا محالة ، وإن تأخّر إلى حين.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) من تمام الوعد. يعني : أنّه يسمع أقوالكم ، ويعلم إخلاصكم ونيّاتكم من إظهار الدين ، فهو مستجيبكم وموصلكم إلى مرادكم ، ومجازيكم لا محالة. أو وعيد للمعرضين ، يعني : أنّه يسمع ما يبدون ، ويعلم ما يخفون من الحسد والحقد ، وهو معاقبهم عليه.

(صِبْغَةَ اللهِ) أي : صبغنا صبغته. فنصبها على أنّه مصدر مؤكّد لقوله : (آمَنَّا) (١) ، كما انتصب (وَعْدَ اللهِ) (٢) عمّا تقدّمه. وقيل : على الإغراء ، أي : عليكم صبغة الله ، بمعني : الزموها. وقيل : على البدل من (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) (٣). وهي فعلة من «صبغ» كالجلسة من «جلس» وهي الحالة الّتي يقع عليها الصبغ.

والمراد بها فطرة الله الّتي فطر الناس عليها ، فإنّها حلية الإنسان كما أنّ الصبغة حلية المصبوغ. أو هدانا هدايته فأرشدنا حجّته. أو طهّر قلوبنا بالإيمان تطهيره. وسمّاه صبغة ، لأنّ أثره ظهر عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ ، وتداخل في قلوبهم تداخل الصّبغ الثوب. أو للمشاكلة ، فإنّ النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمّونه المعموديّة ، ويقولون : هو تطهير لهم ، وبه تتحقّق نصرانيّتهم ، فأمر المسلمون أن يقولوا : آمنّا بالله ، وصبغنا بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم ، أو طهرنا به تطهيرا لا مثل تطهيركم.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أي : لا صبغة أحسن من صبغته ، لأنّه يصبغ عباده بالإيمان ، ويطهّرهم به من أوساخ الكفر ، فلا صبغة أحسن من صبغة الله.

__________________

(١) في الآية (١٣٦ ـ ١٣٥) من سورة البقرة ، ومضى تفسيرها في ص : ٢٤٧.

(٢) النساء : ١٢٢ ، يونس : ٤.

(٣) في الآية (١٣٦ ـ ١٣٥) من سورة البقرة ، ومضى تفسيرها في ص : ٢٤٧.

٢٥٠

(وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) تعريض بهم ، أي : لا نشرك به كشرككم. وهو عطف. على «آمنّا» ، وذلك يقتضي دخول قوله : (صِبْغَةَ اللهِ) في مفعول «قولوا». ولمن نصبها على الإغراء أو البدل أن يضمر «قولوا» معطوفا على «الزموا» أو «اتّبعوا ملّة إبراهيم» ، و «قولوا آمنّا» بدل اتّبعوا ، لئلّا يلزم تخلّل الأجنبي ـ وهو قوله : «صبغة الله» ـ بين المعطوف والمعطوف عليه ، فإنّ ذلك موجب لفكّ النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتّساقه.

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١))

روي أنّ أهل الكتاب قالوا : الأنبياء كلّهم منّا ، فلو كنت نبيّا لكنت منّا ، فنزلت : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) أتجادلوننا (فِي اللهِ) في شأنه واصطفائه نبيّا من العرب دونكم (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) لا اختصاص له بقوم دون قوم ، بل نشترك جميعا في أنّا عبيده ، فهو ربّنا ، يصيب برحمته من يشاء من عباده إذا كان أهلا للكرامة ، كما اقتضت حكمته.

(وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) يعني : أنّ العمل هو أساس الأمر ، فكما أنّ لكم أعمالا يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها ، فإنّ لنا أيضا أعمالا معتبرة في ذلك ، فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا.

٢٥١

(وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) موحّدون نخلصه بالإيمان والطاعة دونكم. خلاصة المعني : أنّ كرامة النبوّة إمّا تفضّل من الله على من يشاء ، والكلّ فيه سواء ، وإمّا إفاضة حقّ على المستعدّين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلّي بالإخلاص ، فلا تستبعدوا أن يؤهّل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة. وهذا كالتبكيت والإلزام لهم.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) «أم» منقطعة ، والهمزة للإنكار. وعلى قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالتاء يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في «أتحاجّوننا» ، فتكون متّصلة ، بمعني : أيّ الأمرين تأتون : المحاجّة ، أو ادّعاء اليهوديّة أو النصرانيّة على الأنبياء؟ وعلى القراءة الأولى لا تكون إلا منقطعة.

ثمّ وبّخهم الله تعالى بقوله : (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) وقد نفى الأمرين عن إبراهيم بقوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) (١) ، واحتجّ عليه بقوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ). وهؤلاء المعطوفون على إبراهيم أتباعه في الدين وفاقا.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) يعني : شهادة الله لإبراهيم بالحنيفيّة ، والبراءة عن اليهوديّة والنصرانيّة. والمعنى : لا أحد أظلم من أهل الكتاب ، لأنّهم كتموا هذه الشهادة ، أو : منّا لو كتمنا هذه الشهادة. وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله تعالى لمحمّد بالنبوّة في كتبهم وغيرها. و «من» للابتداء كما في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) (٢) ، وكما في قولك : هذه شهادة منّي لفلان.

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد لهم. وقرئ بالتاء ، أي : لا يخفى على

__________________

(١) آل عمران : ٦٧ ، ٦٥.

(٢) التوبة : ١.

٢٥٢

الله شيء من المعلومات ، فكونوا على حذر من الجزاء على أعمالكم بما تستحقّونه من العذاب.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) تكرار للمبالغة في التحذير والزجر عمّا استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتّكال عليهم. وقيل : الخطاب فيما سبق لهم ، وفي هذه الآية لنا ، تحذيرا عن الاقتداء بهم. وقيل : المراد بالأمّة في الأوّل الأنبياء ، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى ، فلا تكرار.

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢))

ثمّ ذكر الّذين عابوا المسلمين بالانصراف عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة ، فقال : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) الجهّال الخفاف الأحلام الّذين استمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر. يريد به : المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين. وفائدة تقديم الإخبار توطين النفس لسماع هذا المكروه ، وإعداد الجواب (ما وَلَّاهُمْ) ما صرفهم (عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) يعني : بيت المقدس. والقبلة في الأصل الحال الّتي عليها الإنسان من الاستقبال ، فصارت عرفا للمكان المتوجّه نحوه للصّلاة (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي : بلاد المشرق والمغرب ، والأرض كلّها ، لا يختصّ به مكان دون مكان ، وإنّما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان. (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو ما ترتضيه الحكمة وتقتضيه المصلحة من التوجّه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى.

٢٥٣

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣))

ثمّ بيّن سبحانه فضل هذه الأمّة على سائر الأمم ، فقال : (وَكَذلِكَ) إشارة إلى مفهوم الآية المتقدّمة ، أي : كما جعلناكم مهديّين إلى الصراط المستقيم ، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي : خيارا ، أو عدولا مزكّين بالعلم والعمل. وهو في الأصل اسم المكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب ، ثمّ استعير للخصال المحمودة ، لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط ، كالجود بين الإسراف والبخل ، والشجاعة بين التهوّر والجبن ، ثمّ أطلق على المتّصف بهذه الخصال ، مستويا فيه الواحد والجمع والمذكّر والمؤنّث ، كسائر الأسماء التي وصف بها. واستدلّ به على أنّ الإجماع حجّة ، إذ لو كان فيما اتّفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم.

ومتى قيل : إذا كان في الأمّة من ليس هذه صفته ، فكيف وصفت جماعتهم بذلك؟

فالجواب : أنّ المراد به من كان بتلك الصّفة ، ولأنّ كلّ عصر لا يخلو من جماعة هذه صفتهم ، ولا يكون الاستمساك على حجّية الإجماع إلّا لوجود الإمام المعصوم في جملتهم ، فالحقيقة الحجّة قول الإمام لا اجتماع الأمّة.

ويؤيّده ما روى بريد بن معاوية العجلي ، عن الباقر عليه‌السلام قال : «نحن الأمّة

٢٥٤

الوسط ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحجّته في أرضه». وفي رواية أخرى قال : «إلينا يرجع الغالي ، وبنا يلحق المقصّر».

وروى أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي ، عن عليّ عليه‌السلام : أنّ الله تعالى إيّانا عني بقوله : (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (١).

(لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) علّة للجعل ، أي : لتعلموا بالتأمّل فيما نصب لكم من الحجج وأنزل من الكتاب أنّه تعالى ما بخل على أحد وما ظلم ، بل أوضح السبل وأرسل الرسل ، فبلّغوا ونصحوا ، ولكنّ الّذين كفروا حملتهم الشهوات النفسانيّة على الإعراض عن الآيات البيّنة ، فتشهدون على معاصريكم وعلى الّذين قبلكم وبعدكم (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) أي : شاهدا عليكم بما يكون من أعمالكم ، فيزكّيكم ويعلم بعدالتكم.

روي : «أنّ الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله الأنبياء بالبيّنة على أنّهم قد بلّغوا وهو أعلم بهم ، إقامة للحجّة على المنكرين ، فيؤتى بأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيشهدون لهم ، فتقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيّه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسأل عن حال أمّته ، فيشهد بعدالتهم».

وهذه الشهادة وإن كانت لهم ، لكن لمّا كان الرسول كالرقيب المهيمن على أمّته عدّي بـ «على» ، كما في قوله : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢). وأخّرت الصلة أوّلا لأنّ الغرض في الأوّل إثبات شهادتهم على الأمم ، وقدّمت آخرا للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ : ١١٩ ح ١٢٩.

(٢) المائدة : ١١٧.

٢٥٥

وقيل : الشهود أربعة : الملائكة ، والأنبياء ، وأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والجوارح ، كما قال : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) (١) الآية.

(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) «التي» ليست بصفة القبلة ، بل هي المفعول الثاني لـ «جعل». يعني : وما جعلنا القبلة الجهة الّتي كنت عليها ، وهي الكعبة ، لأنّه عليه‌السلام كان يصلّي إليها بمكّة ، ثمّ لمّا هاجر أمر بالصّلاة إلى صخرة بيت المقدس تألّفا لليهود. أو هي الصخرة ، لقول ابن عبّاس : كانت قبلته بمكّة بيت المقدس ، إلّا أنّه يجعل الكعبة بينه وبينه. فالمخبر به على الأوّل الجعل الناسخ ، وعلى الثاني الجعل المنسوخ. والمعنى : أنّ أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس.

(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) إلّا لنمتحن النّاس ، ونعلم من يتّبعك في الصّلاة إلى الصخرة ممّن يرتدّ عن دينك آلفا لقبلة آبائه. أو لنعلم الآن ممّن يتّبع الرسول ممّن لا يتّبعه. وعلى الأوّل معناه : ما رددناك إلى التي كنت عليها إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممّن ينكص على عقبيه ، لقلقه وضعف إيمانه.

وإنّما قال : «لنعلم» ولم يزل عالما بذلك لأنّ معناه : لنعلمه علما يتعلّق به الجزاء ، وهو أن يتعلّق علمه به موجودا حاصلا. فهذا ونظائره باعتبار التعلّق الحالي الّذي هو مناط الجزاء ، لا بأن يكون علمه تعالى غاية الجعل ، إذ هو سبحانه لم يزل عالما.

وقيل : ليعلم رسوله والمؤمنون ، لكنّه أسند إلى نفسه لأنّهم خواصّه. أو المعنى : لنميّز الثابت من المتزلزل ، كقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (٢)

__________________

(١) النور : ٢٤.

(٢) الأنفال : ٣٧.

٢٥٦

فوضع العلم موضع التمييز المسبّب عنه. وهو الأصحّ ، لأنّه واضح خال عن التعسّف.

والعلم إمّا بمعنى المعرفة ، أو معلّق عن العمل ، لما في «من» من معنى الاستفهام ، أو مفعوله الثاني «ممّن ينقلب» ، أي : لنعلم من يتّبع الرسول متميّزا ممّن ينقلب.

(وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) «إن» هي المخفّفة من الثقيلة ، و «اللّام» هي الفارقة بينها وبين الناصبة. وعند الكوفيّين هي النافية ، واللّام بمعنى إلّا. وهذا مستبعد. والضمير في «كانت» لما دلّ عليه قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) من الجعلة ، أو التولية ، أو الردّة ، أو التحويلة ، أو القبلة. والمعنى : وقد كانت هذه الجعلة لثقيلة شاقّة ، أو ما كانت إلّا ثقيلة على الناس (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) إلى حكمة الأحكام ، وهم الثابتون على الايمان والاتّباع لرسول الله. وفي الكشّاف : «يحكى عن الحجّاج أنّه قال للحسن : ما رأيك في أبي تراب؟ فقرأ قوله : (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) قال : وعليّ منهم ، وهو ابن عمّ رسول الله ، وختنه على ابنته ، وأقرب النّاس إليه ، وأحبّهم» (١).

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي : ثباتكم على الإيمان. وقيل : إيمانكم بالقبلة المنسوخة ، بل شكر صنيعكم ، وأعدّ لكم الثواب الجزيل. وقيل : معناه من صلّى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة ، لما روي عن ابن عبّاس أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا وجّه إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل من إخواننا؟ فنزلت : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي : صلاتكم إلى بيت المقدس.

(إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فلا يضيع أجورهم ، ولا يدع صلاحهم. وتقديم الرؤوف مع أنّه أبلغ من الرحيم محافظة على الفواصل.

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٢٠١.

٢٥٧

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦))

قال المفسّرون : كانت الكعبة أحبّ القبلة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه قبلة أبيه إبراهيم وأقدم القبلتين ، وأدعى للعرب إلى الإيمان ، لأنّها مفخرة العرب ومطافهم ، ولمخالفة اليهود. فقال لجبرئيل عليه‌السلام : وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها. فقال له جبرئيل : إنّما أنا عبد مثلك ، وأنت كريم على ربّك ، فادع ربّك واسأله. ثمّ ارتفع جبرئيل ، واستحيى رسول الله أن يسال ذلك ربّه ، فيديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبرئيل الّذي توقّع ، فنزلت : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) تردّد وجهك في جهة السماء تطلّعا للوحي (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) فلنمكّننّك من استقبالها ، من قولك : ولّيته كذا ، إذا صيّرته واليا له ، أو فلنجعلنّك تلي جهتها دون جهة بيت المقدس (تَرْضاها) تحبّها وتتشوّق إليها ، لمقاصد دينيّة أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته.

(فَوَلِّ وَجْهَكَ) أصرف وجهك (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نحوه ، وهو منصوب

٢٥٨

على الظرف ، أي : اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد ، أي : في جهته وسمته. وقيل : الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء ، من «شطر» إذا انفصل ، ودار شطور أي : منفصلة عن الدور ، ثمّ استعمل لجانب الشيء وإن لم ينفصل كالقطر. والحرام المحرّم ، أي : محرّم فيه القتال ، أو ممنوع من الظّلمة أن يتعرّضوه. وإنّما ذكر المسجد دون الكعبة لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في المدينة ، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإنّ استقبال عينها حرج عليه ، بخلاف القريب.

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستّة عشر شهرا ، ثمّ وجّه إلى نحو الكعبة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجد بني سلمة ، وقد صلّى ركعتين من الظهر ، فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسمّي المسجد مسجد القبلتين.

وخصّ الرسول بالخطاب أوّلا تعظيما له ، وإيجابا لرغبته ، ثمّ عمّم تصريحا بعموم الحكم ، وتأكيدا لأمر القبلة ، وتحضيضا للأمّة على المتابعة ، فقال : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) أينما كنتم من الأرض ، في برّ أو بحر ، سهل أو جبل (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فهو خطاب لجميع أهل الآفاق (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني : علماء اليهود والنصارى (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ) أنّ التحويل أو التوجّه إلى الكعبة هو الحقّ (مِنْ رَبِّهِمْ) صادرا منه ، لأنّه كان في بشارة أنبيائهم رسول الله ، وفي كتبهم أنّه يصلّي القبلتين (وَمَا) كان (اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعد ووعيد للفريقين. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء.

ثمّ بيّن رسوخ كفرهم وعنادهم بقوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) برهان قاطع وحجّة ساطعة على أنّ الكعبة قبلة ، واللام موطّئة للقسم (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) جواب القسم المضمر ، وقد سدّ مسدّ جزاء الشرط. والمعنى : ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها بحجّة ، وإنّما خالفوك مكابرة وعنادا ، لعلمهم بما في كتبهم من نعتك وكونك على الحقّ.

٢٥٩

(وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) قطع لأطماعهم ، فإنّهم قالوا : لو ثبتّ على قبلتنا لكنّا نرجو أن تكون صاحبنا الّذي ننتظره ، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم. وقبلتهم وإن تعدّدت ، لأنّ اليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى مطلع الشمس ، لكنّها متحدة بالبطلان ومخالفة الحقّ.

(وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) فإنّ اليهود تستقبل الصخرة ، والنصارى مطلع الشمس ، لا يرجى توافقهم ، كما لا يرجى موافقتهم لك ، لتصلّب كلّ حزب فيما هو وثباته عليه.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) على سبيل الفرض والتقدير (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي : ولئن اتّبعتهم مثلا بعد ما بان لك الحقّ وجاءك فيه الوحي (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لمن المرتكبين الظلم الفاحش.

أكّد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه ، وهي : تصدير الكلام بالقسم المضمر أوّلا ، ثمّ تصدير الجملة بـ «إنّ» الّتي تفيد التأكيد والتحقيق ثانيا ، والتركيب من الجملة الاسميّة ثالثا ، وإدخاله في جملة الظالمين دون قوله : فإنّك ظالم رابعا ، واللّام في قوله : (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) خامسا ، وإسناد اتّباع الباطل بعد حصول العلم بعدم جوازه سادسا ، وتنزيل اتّباعهم في شيء واحد منزلة اتّباع أهوائهم سابعا ، تعظيما للحقّ المعلوم ، وتحريضا على اقتفائه ، وتحذيرا عن متابعة الهوى ، واستفظاعا لصدور الذنب عن الأنبياء ، وتحذيرا وتهجينا لحال من يترك الدليل بعد تبيينه.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني : علماءهم (يَعْرِفُونَهُ) الضمير للرسول وإن لم يسبق ذكره ، لدلالة الكلام عليه ، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإيذان بأنّه لشهرته معلوم بغير إعلام ، أي : يعرفون رسول الله بأوصافه معرفة جليّة (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) كمعرفتهم أبناءهم ، لا يلتبسون عليهم بغيرهم.

قيل : سأل عمر عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أنا أعلم به منّي بابني ، قال : ولم؟ قال : لأنّي لست أشكّ في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه نبيّ ، فأمّا ولدي فلعلّ والدته خانت.

٢٦٠