زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

وقدّم العزيز لتقدّم العلم بقدرته على العلم بحكمته. ورفعهما على البدل من الضمير ، أو الصفة لفاعل «شهد».

وفي المدارك (١) «روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ هذه الآية عند منامه خلق الله تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة. ومن قال بعدها : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي عند الله وديعة ، يقول الله تعالى يوم القيامة : إنّ لعبدي عندي عهدا وأنا أحقّ من وفي بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنّة».

وقال سعيد بن جبير : «كان حول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما ، فلمّا نزلت : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، خررن سجّدا». وهو دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله.

وقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) جملة مستأنفة مؤكّدة للأولى ، أي : لا دين مرضيّ عند الله تعالى سوى الإسلام ، وهو التوحيد والتدرّع بالشرع الّذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقرأ الكسائي بالفتح (٢) على أنّه بدل من «أنّه» ، بدل الكلّ إن فسّر الإسلام بالإيمان أو بما يتضمّنه ، وبدل الاشتمال إن فسّر بالشريعة.

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى ، أو من أرباب الكتب المتقدّمة ، في دين الله الّذي بيّنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال قوم : إنّه حقّ ، وقال قوم : إنّه مخصوص بالعرب ، ونفاه آخرون مطلقا أو في التوحيد. فثلّث النصارى ، وقالت اليهود : عزير ابن الله. وقيل : هم قوم موسى اختلفوا بعده. وقيل : هم النصارى

__________________

(١) مدارك التنزيل المطبوع بهامش تفسير الخازن ١ : ٢١٧.

(٢) أي : بفتح «أن» في قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) على أنه بدل من «أنه» في قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

٤٦١

اختلفوا في أمر عيسى عليه‌السلام. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي : من بعد ما علموا حقيقة الأمر ، وتمكّنوا من العلم بها بالآيات والحجج (بَغْياً بَيْنَهُمْ) حسدا بينهم ، وطلبا للرئاسة ، لا لشبهة لهم في الإسلام وخفاء في الأمر.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يفوته شيء من أعمالهم. هذا وعيد لمن كفر منهم.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))

(فَإِنْ حَاجُّوكَ) في الدين ، وجادلوك فيه بعد ما أقمت الحجج (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أخلصت نفسي وجملتي لله وحده ، لا أشرك فيها غيره. والمعنى : ديني التوحيد ، وهو الأصل الّذي يلزم جميع المكلّفين الإقرار به. وإنّما عبّر بالوجه عن النفس لأنّه أشرف الأعضاء الظاهرة ، ومظهر القوى والحواسّ. (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على التاء ، وحسن للفصل ، أو مفعول معه.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) الّذين لا كتاب لهم ، كمشركي العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) كما أسلمت ، لمّا وضحت لكم الحجّة على صحّة الإسلام ، أم أنتم بعد على كفركم؟! ونظيره قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (١). وفيه تعيير لهم بالبلادة أو المعاندة. لفظه لفظ الاستفهام ، والمراد الأمر.

(فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) فقد نفعوا أنفسهم ، بأن أخرجوها من الضلال إلى الهدى (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : كفروا ولم يقبلوا ، وأعرضوا عنه ، فلم يضرّوك (فَإِنَّما

__________________

(١) المائدة : ٩١.

٤٦٢

عَلَيْكَ الْبَلاغُ) إذ ما عليك إلا أن تبلّغ وقد بلّغت (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) وعد ووعيد.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) يجحدون حجج الله وبيّناته (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) أي : قتلهم لا يكون إلا بغير حقّ.

روي عن أبي عبيدة بن الجرّاح قال : «قلت : يا رسول الله أيّ الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبيّا أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ، ثمّ قرأ عليه‌السلام : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) ، ثمّ قال عليه‌السلام : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أوّل النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلوهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم ، وهو الّذي ذكره الله تعالى». وكذا قال المفسّرون (١).

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) هم أهل الكتاب الّذين في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قتل أوّلوهم الأنبياء ومتابعيهم من عبّاد بني إسرائيل ، وكان هؤلاء راضين بما فعلوا ، وقصدوا قتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، ولكنّ الله عصمهم. وقد سبق (٢) مثله في سورة البقرة.

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٣٤٧ ـ ٣٤٨ ، مجمع البيان ٢ : ٤٢٣.

(٢) في ص : ١٥٩ ذيل الآية ٦١.

٤٦٣

وقرأ حمزة : ويقاتلون الّذين. وقد منع سيبويه إدخال الفاء في خبر «إنّ» ، كـ : ليت ولعلّ ، ولذلك قيل : الخبر قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا) إذ لم ينالوا بها الثناء والمدح ، ولم تحقن دماؤهم وأموالهم (وَالْآخِرَةِ) بأنّهم لم يستحقّوا بها الثواب ، فصارت كأنّها لم تكن. وهذا هو حقيقة الحبوط ، وهو الوقوع على خلاف الوجه المأمور به ، فلا يستحقّ عليه الثواب والأجر. وهذا التركيب عند سيبويه كقولك : زيد فافهم رجل صالح. والفرق بين «إنّ» و «ليت ولعلّ» أنه لا يغيّر معنى الابتداء ، بخلافهما. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون عنهم العذاب.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

(أَلَمْ تَرَ) ألم ينته علمك (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) أعطوا حظّا وافرا (مِنَ الْكِتابِ) أي : التوراة ، أو جنس الكتب السماويّة. و «من» للتبعيض أو البيان. وتنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير. (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) الداعي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وكتاب الله تعالى القرآن والتوراة ، لما روي : «أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل مدارسهم فدعاهم ، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أيّ دين أنت؟ فقال عليه‌السلام : على دين إبراهيم ، فقالا له : إنّ إبراهيم كان يهوديّا ، فقال : هلموا إلى

٤٦٤

التوراة ، فإنّها بيننا وبينكم ، فأبيا ، فنزلت».

وقيل : نزلت في الرجم. وقد اختلفوا فيه ، لما روي عن ابن عبّاس : «أنّ رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا ـ وكانا ذوي شرف فيهم ، وكان في كتابهم الرجم ـ فكرهوا رجمهما لشرفهما ، ورجوا أن يكون عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رخصة في أمرهما ، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحكم عليهما بالرجم.

فقال له النعمان بن أوفى وبحريّ بن عمرو : جرت عليهما يا محمّد ، ليس عليهما الرجم.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بيني وبينكم التوراة.

قالوا : قد أنصفتنا.

قال : فمن أعلمكم بالتوراة؟

قالوا : رجل أعور يسكن فدك ، يقال له : ابن صوريا. فأرسلوا إليه ، فقدم المدينة ، وكان جبرئيل عليه‌السلام قد وصفه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت ابن صوريا؟

قال : نعم.

قال : أنت أعلم اليهود؟

قال : كذلك يزعمون.

قال : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب ، فقال له : اقرأ ، فلمّا أتى على آية الرجم وضع كفّه عليها وقرأ ما بعدها.

فقال ابن سلام : يا رسول الله قد جاوزها ، وقام إلى ابن صوريا ورفع كفّه عنها ، ثمّ قرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى اليهود بأنّ المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البيّنة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى تربّص بها حتى تضع ما في بطنها.

٤٦٥

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باليهوديّين فرجما ، فغضب اليهود لذلك ، فنزلت».

(ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) طائفة منهم عن الداعي. وفي «ثمّ» استبعاد لتولّيهم مع علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب. (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) وهم قوم عادتهم الإعراض. والجملة حال من «فريق» ، وإنّما ساغ لتخصّصه بالصفة.

(ذلِكَ) إشارة إلى التولّي والاعراض (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي : قلائل ، أربعين يوما عدد أيّام عبادتهم العجل ، أو سبعة أيّام. يعني : جرأتهم على التولّي والتعرّض بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم ، لهذا الاعتقاد الزائغ والطمع الفارغ ، من خوف الخلود في النار (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من أنّ النار لن تمسّهم إلّا أيّاما قلائل ، أو أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، أو أنّه تعالى وعد يعقوب عليه‌السلام أن لا يعذّب أولاده إلّا تحلّة القسم ، أو أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه.

(فَكَيْفَ) يصنعون (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ) أي : لجزاء يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : لا شكّ في وقوعه لمن نظر في الأدلّة. فهذا استعظام لما يحيق بهم في الآخرة ، وتكذيب لقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ أوّل راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفّار راية اليهود ، فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد ، ثمّ يأمر بهم إلى النار».

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) جزاء ما كسبت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الضمير يرجع إلى «كلّ نفس» على المعنى ، لأنّه في معنى : كلّ إنسان.

وفي الآية دلالة على أنّ العبادة لا تحبط ، وأنّ المؤمن لا يخلّد في النار ، لأنّ توفية جزاء إيمانه وعمله الصالح لا تكون في النار ولا قبل دخولها ، فإذن هي بعد الخلاص منها.

٤٦٦

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))

روي أنه لمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة ووعد أمّته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات من أين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملك فارس والروم؟ ألم تكفه المدينة ومكّة حتى طمع في الروم وفارس؟ فنزلت.

(قُلِ اللهُمَ) الميم عوض عن «يا» ولذلك لا يجتمعان ، وهو من خصائص هذا الاسم ، كاختصاص دخول «يا» عليه مع لام التعريف وقطع همزته ، وتاء القسم. وقيل : أصله : يا الله أمّنا بخير ، فخفّف بحذف حرف النداء ومتعلّقات الفعل وهمزته.

(مالِكَ الْمُلْكِ) يتصرّف فيما يمكن التصرّف فيه تصرّف الملّاك فيما يملكون. وهو نداء ثان عند سيبويه ، فإنّ الميم تمنع الوصفيّة.

(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) تعطي منه ما تشاء لمن تشاء ، من النصيب الّذي قسّمته له من أسباب الدنيا (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) وتستردّ منه على وفق المصلحة والحكمة ، ومن ذلك إعطاؤه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه وأمّته ، ونزعه من صناديد قريش ومن الروم وفارس. فالملك الأوّل عامّ ، والآخران بعضان منه.

وقيل : المراد بالملك النبوّة ، ونزعها نقلها من قوم إلى قوم. وقيل : المراد بإيتاء الملك ملك القناعة. وقال عليه‌السلام : «ملوك الجنّة من أمّتي القانعون بالقوت يوما فيوما».

أو ملك العافية ، أو ملك قيام الليل ، ونزعه بالعكس.

(وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) من أوليائك في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما ، بالنصر

٤٦٧

والتوفيق (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) من أعدائك في أحدهما ، أو فيهما ، بالتخلية والخذلان. وعن الشبلي : تعزّ بالمعرفة من استغنى بالمكوّن عن الكونين ، وتذلّ من استغنى بالخلق عن الخالق ، أو المراد عزّ القناعة وذلّ الحرص.

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك. واللام للجنس ، أي : الخير كلّه في الدنيا والآخرة من قبلك. وإنّما قال : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) وإن كان بيده كلّ شيء من خير أو شرّ ، لأنّ الآية تضمّنت إيجاب الرغبة إليه ، فلا يحسن في هذه الحالة إلّا ذكر الخير ، لأنّ الترغيب لا يكون إلّا في الخير ، أو ليكون مشعرا بأنّ الخير بالذات من الله تعالى ، والشرّ لا يكون منه إلّا بالعرض (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزك شيء ، تقدر على إيجاد المعدوم ، وإفناء الموجود ، وإعادة ما كان موجودا.

وروي الثعلبي بإسناده عن عمرو بن عوف ما حاصله : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقعة الأحزاب حين خطّ الخندق ، وقطع لكلّ عشرة أربعين ذراعا ، وأخذوا يحفرون ، فظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول ، فوجّهوا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره ، فجاء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ المعول منه فضربها به ضربة صدّعها (١) ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي (٢) المدينة ، كأنّ مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبّر وكبّر معه المسلمون ، وقال : أضاءت لي منها قصور الحيرة (٣) كأنّها أنياب الكلاب.

ثمّ ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم.

ثمّ ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي قصور صنعاء واليمن ، وأخبرني جبرئيل عليه‌السلام أنّ أمّتي ظاهرة على كلّها ، فأبشروا.

فقال المنافقون : ألا تعجبون من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمنّيكم ويعدكم الباطل ،

__________________

(١) أي : قطعها.

(٢) اللابتان : حرّتان يكتنفان المدينة ، والحرّة : كلّ أرض ذات حجارة سود.

(٣) في هامش النسخة الخطّية : «الحيرة بكسر الحاء البلد القديم بظهر الكوفة ، شبّه انضمام بعضها ببعض مع بياضها وصغرها بأنياب الكلاب ، منه».

٤٦٨

ويخبركم أنّه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنّها تفتح لكم وأنتم تحفرون من شدّة الخوف.

فأنزل الله تعالى هذه الآية في ذلك ، وعقّبه ببيان قدرته على معاقبة الليل والنهار والموت والحياة ، وسعة فضله ، فقال : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقتير ، دلالة على أنّ من قدر على معاقبة الذلّ والعزّ وإيتاء الملك ونزعه ، قدر على إعطاء المؤمنين الملك والعزّ والنصر ، والغلبة على أهل الكفر.

والولوج : الدخول في مضيق. وإيلاج الليل والنهار إدخال أحدهما في الآخر بالتعقيب أو الزيادة والنقص.

والمراد بإخراج الحيّ من الميّت وبالعكس إنشاء الحيوانات من موادّها وإماتتها ، أو إنشاء الحيوان من النطفة والنطفة منه. وقيل : إخراج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن.

وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب الميّت بالتشديد ، والباقون بالتخفيف.

روي جعفر بن محمد عن أبيه ، عن آبائه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لمّا أراد الله تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي (١) ، وشهد الله (٢) ، وقل اللهمّ مالك الملك ـ إلى قوله : ـ «بغير حساب» ، تعلّقن بالعرش وليس بينهنّ وبين الله حجاب ، وقلن : يا ربّ تهبطنا إلى دار الذنوب ، وإلى من يعصيك ، ونحن معلّقات بالطهور وبالقدس! فقال تعالى : وعزّتي وجلالي ما من عبد قرأكنّ في دبر كلّ صلاة إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان فيه ، وإلّا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلّ يوم سبعين نظرة ،

__________________

(١) البقرة : ٢٥٥.

(٢) آل عمران : ١٨.

٤٦٩

وإلّا قضيت له في كلّ يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ، وإلّا أعذته من كلّ عدوّ ونصرته عليه ، ولا يمنعه دخول الجنّة إلّا الموت».

وقال معاذ بن جبل : «احتبست عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما لم أصلّ معه الجمعة ، فقال : يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة؟

قلت : يا رسول الله كان ليوحنّا اليهودي عليّ أوقية من برّ ، وكان على بابي يرصدني ، فأشفقت أن يحبسني دونك.

قال : أتحبّ يا معاذ أن يقضي الله دينك؟

قلت : نعم يا رسول الله.

قال : قل : «اللهمّ مالك الملك ـ إلى قوله ـ بغير حساب». وقل : يا رحمن الدّنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطي منهما ما تشاء ، وتمنع منهما ما تشاء ، صلّ على محمّد وآله ، واقض عنّي ديني. فإن كان عليك ملء الأرض ذهبا لأدّاه الله عنك».

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨))

ولمّا بيّن سبحانه أنّه مالك الدنيا والآخرة ، القادر على الإعزاز والاذلال ، نهى المؤمنين أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة جاهليّة قبل الإسلام ، أو غير ذلك من الأسباب الّتي يتصادق بها ، حتى لا يكون حبّهم وبغضهم إلّا في الله ، لأنّ الإعزاز لا يكون إلّا عنده وعند أوليائه المؤمنين ، دون أعدائه الكافرين المتّصفين بالذلّة من عنده ، فإنّ هذا أصل كبير من أصول الإيمان ، فقال : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : لا ينبغي للمؤمنين أن يتّخذوا (الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) لنفوسهم ، وأن يستعينوا بهم

٤٧٠

ويلتجؤا إليهم ويظهروا المحبّة لهم (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لأنّ المؤمنين هم الّذين أحقّاء بالموالاة ، لأنّ في موالاتهم كفاية عن موالاة الكفرة.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي : اتّخاذهم أولياء (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ) من ولايته (فِي شَيْءٍ) يصحّ أن يسمّى ولاية ، فإنّ موالاتي المتعاديين لا يجتمعان.

وقوله : «من الله» في موضع النصب على الحال ، لأنّه في الأصل : فليس في شيء ثابت من الله ، فلمّا تقدّم انتصب على الحال.

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) إلّا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتّقاؤه أو اتّقاء. والفعل معدّى بـ «من» ، لأنّه في معنى : تحذروا أو تخافوا. وقرأ يعقوب : تقيّة. وهذه رخصة في موالاتهم عند الخوف. والمراد بهذه الموالاة المخالفة الظاهرة ، والقلب مطمئنّ بالعداوة ، فمنع الله تعالى من موالاتهم ظاهرا وباطنا في الأوقات كلّها إلّا وقت المخافة باطنا ، فإنّ إظهار الموالاة جائز للتقيّة.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) يخوّفكم الله على موالاة الكفّار عذاب نفسه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فلا تتعرّضوا لسخطه بموالاة أعدائه ومخالفة أحكامه. وهذا وعيد شديد مشعر بتناهي المنهيّ في القبح. وذكر النفس ليعلم أنّ المحذّر منه عقاب يصدر من الله ، فلا يبالى دونه بما يحذر من الكفرة.

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))

ولمّا تقدّم النهي عن اتّخاذ الكفّار أولياء خوّفوا من الإبطان ـ بخلاف

٤٧١

الإظهار ـ فيما نهوا عنه ، فقال : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا) تسرّوا (ما فِي صُدُورِكُمْ) ما في قلوبكم من ولاية الكفّار أو غيرها ممّا لا يرضى الله. وإنّما ذكر الصدر لأنّه محلّ القلب (أَوْ تُبْدُوهُ) تظهروه (يَعْلَمْهُ اللهُ) ولم يخف عليه ، فلا ينفعكم إخفاؤه (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فيعلم سرّكم وعلنكم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا عمّا نهيتم عنه.

والآية بيان لقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، فكأنّه قال : ويحذّركم ذاته المميّزة من سائر الذوات ، لأنّها متّصفة بعلم ذاتيّ محيط بالمعلومات كلّها ، وقدرة ذاتيّة تعمّ المقدورات بأسرها ، فلا تجسروا على عصيانه ، إذ ما من معصية إلّا وهو مطلّع عليها ، قادر على العقاب بها.

ولمّا حذّر العقاب في الآية المتقدّمة بيّن وقت العقاب ، فقال : (يَوْمَ تَجِدُ) منصوب بـ «اذكر» ، يعني : اذكر (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) في الدنيا (مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) أي : مكتوبا في صحفهم يقرءونه ، ونحوه : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) (١) (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) والمعنى : تجد كلّ نفس صحائف أعمالها أو جزاء أعمالها من الخير والشرّ حاضرة (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ) وبين ذلك اليوم (أَمَداً بَعِيداً).

وهذه الجملة الفعليّة حال من الضمير في (عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ). أو خبر لـ (ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) و «تجد» مقصور على مفعول (ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ). أو يكون (يَوْمَ تَجِدُ) منصوبا بـ «تودّ» يعني : تتمنّى كلّ نفس يوم تجد جزاء أعمالها لو أنّ بينها وبينه مدّة بعيدة متمادية ، كقوله : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) (٢). ولا تكون «ما» شرطيّة ، لارتفاع «تودّ».

__________________

(١) الكهف : ٤٩.

(٢) الزخرف : ٣٨.

٤٧٢

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كرّره للتوكيد والتذكير (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) هذا إشارة إلى أنّه تعالى إنّما نهاهم وحذّرهم رأفة بهم ومراعاة لصلاحهم. أو المعطوف والمعطوف عليه مشعران بأنّه ذو عقاب ليخشى عذابه ، وذو مغفرة لترجى رحمته.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))

قيل : إنّ وفد نجران لمّا قالوا : إنّما نعبد المسيح حبّا لله ، فردّ الله سبحانه عليهم ، وجعل مصداق ذلك اتّباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (قُلْ) يا محمّد لهؤلاء (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) أي : إن كنتم صادقين في دعوى محبّة الله (فَاتَّبِعُونِي) فيما أمرتكم ونهيتكم.

والمحبّة عبارة عن ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه ، بحيث يحملها على ما يقرّبها إلى ذلك الشيء. والعبد إذا علم أنّ الكمال الحقيقي ليس إلّا لله ، وأنّ كلّ ما يراه كمالا من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله ، لم يكن حبّه إلّا لله وفي الله ، وذلك يقتضي إرادة طاعته ، والرغبة فيما يقرّبه إليه. فلذلك فسّرت المحبّة بإرادة الطاعة ، وجعلت مستلزمة لاتّباع الرسول في عبادته ، والحرص على مطاوعته.

وقوله : (يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) جواب الأمر ، أي : يرض عنكم ، ويكشف الحجب المانعة الوصول إليه عن قلوبكم ، بالتجاوز عمّا فرط منكم ، فيقرّبكم من جناب عزّه ، ويبوّئكم في جوار قدسه. عبّر عن ذلك بالمحبّة على

٤٧٣

طريق الاستعارة أو المقابلة. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تحبّب إليه بطاعته واتّباع نبيّه.

وقيل : نزلت هذه الآية لمّا قالت اليهود : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (١). في أقوام زعموا على عهده أنّهم يحبّون الله ، فأمروا أن يجعلوا لقولهم تصديقا من العمل.

ثمّ أكّد ذلك بقوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) يحتمل المضيّ والمضارع ، بمعنى : فإن تتولّوا (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي : لا يرضى عنهم ، ولا يثني عليهم. وإنّما لم يقل : ولا يحبّهم ، لقصد العموم ، والدلالة على أنّ التولّي كفر ، وأنّه من هذه الحيثيّة ينفي محبّة الله تعالى ، وأنّ محبّته مخصوصة بالمؤمنين.

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ

__________________

(١) المائدة : ١٨.

٤٧٤

أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)) (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

ولمّا أوجب طاعة الرسل ، وبيّن أنّها الجالبة لمحبّة الله تعالى ، عقّب ذلك ببيان مناقبهم ، تحريضا على إطاعتهم ، فقال : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) بالرسالة ، والخصائص الروحانيّة ، والفضائل الجسمانيّة ، ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم.

وآل إبراهيم : إسماعيل وإسحاق وأولادهما. وقد دخل فيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : إنّ آل إبراهيم هم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الّذين هم أهل بيته ، ومن اصطفاه الله تعالى واختاره من خلقه ، لا يكون إلّا معصوما مطهّرا عن القبائح. وعلى هذا ، فيجب أن يكون الاصطفاء مخصوصا بمن كان معصوما من آل إبراهيم ، نبيّا كان أو إماما.

٤٧٥

وآل عمران : موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. أو (١) عيسى وأمّه مريم بنت عمران بن ماثان بن العازار بن أبي يوذ بن رب بابل بن ساليان بن يوحنّا بن أوشيا بن أموذ بن مشكي بن حارقار بن أجاز بن يونام ابن عرزيا بن يوزام بن ساقط بن ايشا بن راجعيم بن سليمان بن داود بن ايشا بن عومل بن اينا بن سلمون بن ياعر بن يخشون بن عمياد بن رام بن خضروم بن فارص بن يهودا بن يعقوب (٢) عليه‌السلام. وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) حال أو بدل من الآلين ، أو منهما ومن نوح ، أي : أنّهم ذرّيّة واحدة متسلسلة متشعّبة بعضها من بعض. وقيل : بعضها من بعض في الدين. والذرّيّة الولد ، تقع على الواحد والجمع ، فعليّة من الذرّ ، أو فعّولة من الذرء ، أبدلت همزتها ياء ، ثمّ قلبت الواو ياء وأدغمت.

(وَاللهُ سَمِيعٌ) بأقوال الناس (عَلِيمٌ) بأعمالهم ، فيصطفي من كان مستقيم القول والعمل. أو سميع بقول امرأة عمران ، عليم بنيّتها.

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) فينتصب به «إذ».

وقيل : نصبه بإضمار «اذكر». وهذه حنّة بنت فاقوذا ، وأخت إيشاع زوجة زكريّا ، جدّة (٣) عيسى عليه‌السلام. وكان يحيى ومريم ابني خالة من الأب.

روي أنّ حنّة كانت عجوزا ، فبينا هي في ظلّ شجرة إذ رأت طائرا يطعم فرخه ، فحنّت إلى الولد وتمنّته ، فقالت : اللهمّ إنّ لك عليّ نذرا إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدس ، فيكون من خدمه ، فحملت بمريم وهلك عمران.

وكان هذا النذر مشروعا في عهدهم للغلمان ، فلعلّها بنت الأمر على التقدير ، أو

__________________

(١) أي : آل عمران : عيسى وأمّه ...

(٢) في ضبط هذه الأسماء اختلاف ، راجع تفسير البيضاوي ٢ : ١٤.

(٣) أي : أن حنّة ـ وهي أم مريم ـ جدّة عيسى عليه‌السلام.

٤٧٦

طلبت ذكرا.

(مُحَرَّراً) معتقا لخدمته ، لا يد لي عليه ، ولا أستخدمه ، ولا أشغله بشيء ، أو مخلصا للعبادة. ونصبه على الحال.

روي عن الصادق عليه‌السلام : «أنّ الله عزوجل أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ولدا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ، فحملت حنّة ، فقالت : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)».

(فَتَقَبَّلْ مِنِّي) ما نذرته قبول رضا (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) بما أقول (الْعَلِيمُ) بما أنوي.

(فَلَمَّا وَضَعَتْها) وكانت ترجو أن يكون غلاما ، خجلت واستحيت منكّسة الرأس (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها) حال كونها (أُنْثى) الضمير لما في بطنها ، وتأنيثه لأنّه كان أنثى.

فإن قلت : كيف جاز انتصاب «أنثى» حالا من الضمير في «وضعتها» وهو كقولك : وضعت الأنثى أنثى؟

قلت : الأصل : وضعته أنثى ، وإنّما أنث لأنّ تأنيثها علم من الحال ، فإنّ الحال وصاحبها بالذات واحد ، أو على تأويل مؤنّث ، كالنفس والحبلة. وإنّما قالته تحسّرا وتحزّنا إلى ربّها ، لأنّها كانت ترجو أن تلد ذكرا ، ولذلك نذرت تحريره.

وقال الله تعالى في جوابها : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) أي : بالشيء الّذي وضعته. وهو استئناف من الله تعالى ، تعظيما لموضوعها ، وتجهيلا لها بشأنها. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب : وضعت ، على أنّه من كلامها تسلية لنفسها. ورويت هذه الرواية عن عليّ عليه‌السلام ، أي : ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر تسلية.

(وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) بيان لقوله : «والله أعلم» أي : وليس الذكر الّذي طلبت كالأنثى الّتي وهبت. واللام فيهما للعهد. ويجوز أن يكون من قولها بمعنى :

٤٧٧

وليس الذكر والأنثى سيّان في ما نذرت ، فتكون اللام للجنس (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) عطف على ما قبلها من مقالها ، وما بينهما اعتراض. وإنّما ذكرت ذلك لربّها تقرّبا إليه ، وطلبا لأنّ يعصمها ويصلحها ، حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها ، فإنّ مريم في لغتهم بمعنى العابدة.

روي الثعلبي بإسناده عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «حسبك من نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

(وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها) أجيرها بحفظك (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) المطرود. وأصل الرجم الرمي بالحجارة.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد ، فيستهلّ صارخا من مسّه ، إلّا مريم وابنها». ومعناه : أنّ الشيطان يطمع في إغواء كلّ مولود بحيث يتأثّر منه ، إلّا مريم وابنها ، فإنّ الله عصمهما ببركة هذه الاستعاذة».

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها) فرضي بها في النذر مكان الذكر (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) بوجه حسن تقبل به النذائر ، وهو إقامتها مقام الذكر ، أو تسلّمها من أمّها عقيب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسدانة. ويجوز أن يكون مصدرا على تقدير مضاف ، أي :

بأمر ذي قبول حسن ، وأن يكون «تقبّل» بمعنى : استقبل ، كتقضّى وتعجّل ، بمعنى :

استقضى واستعجل ، يقال : استقبل الأمر إذا أخذ بأوّله وعنفوانه ، أي : فيأخذها في أوّل أمرها حين ولدت قبل أن تكبر وتصلح للسدنة بقبول حسن.

روي : «أنّ حنّة لمّا ولدتها لفّتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت : خذوا هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنّها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، فإنّ بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم ، فقال زكريّا : أنا أحقّ بها ، لأنّ خالتها كانت عندي ، فأبوا إلّا القرعة ، وكانوا سبعة وعشرين ،

٤٧٨

فانطلقوا إلى نهر فالقوا فيه أقلامهم ، فطفا قلم زكريّا ورسبت أقلامهم ، فتكفّلها».

(وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها ، أي : جعل نشوءها نشوءا حسنا ، وربّاها تربية حسنة ، وأصلح أمرها في جميع حالاتها (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) شدّد الفاء حمزة وعاصم ، والفعل لله تعالى ، بمعنى : وضمّها إليه ، وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها. وقصّروا زكريّا غير عاصم في رواية ابن عيّاش ، وخفّف الباقون ومدّوا زكريّاء مرفوعا.

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) قيل : إنّه بنى لها زكريّا محرابا في المسجد ، أي : الغرفة الّتي بنيت لها يصعد إليها بسلّم كباب الكعبة. وقيل : أشرف مواضعه ومقدّمها ، سمّي به لأنّه محلّ محاربة الشيطان ، كأنّها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) جواب «كلّما» وناصبه.

وروي أنّه كان لا يدخل عليها غيره ، وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب ، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء.

(قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) من أين هذا الرزق الآتي في غير أوانه ، والأبواب مغلقة عليك؟ وهو دليل على جواز الكرامة للأولياء. وجعل ذلك معجزة زكريّا يدفعه اشتباه الأمر عليه.

(قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فلا تستبعده. قيل : تكلّمت صغيرة كعيسى ، ولم ترضع ثديا قطّ ، وكان رزقها ينزل عليها من الجنّة (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير ، لكثرته ، أو بغير استحقاق ، تفضّلا منه بغير محاسبة ومجازاة على عمل. وهو يحتمل أن يكون من كلامها ، وأن يكون من كلام الله تعالى.

روي صاحب الكشّاف (١) وغيره من المفسّرين المخالفين والمنافقين أنّ

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٣٥٨ ، تفسير البيضاوي ٢ : ١٧.

٤٧٩

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاع في زمن قحط ، فأهدت له فاطمة رغيفين وبضعة لحم آثرته بها ، فرجع بها إليها وقال : هلمّي يا بنيّة ، فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما ، فبهتت وعلمت أنّها نزلت من عند الله.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها : أنّى لك هذا؟

فقالت : هو من عند الله ، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب.

فقال عليه الصلاة والسلام : «الحمد لله الّذي جعلك شبيهة سيّدة نساء بني إسرائيل. ثمّ جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته ، فأكلوا عليه حتى شبعوا ، وبقي الطعام كما هو ، فأوسعته فاطمة على جيرانها».

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) في ذلك المكان أو الوقت ، إذ يستعار هنا وثمّ وحيث للزمان وإن كانت موضوعة للمكان.

لمّا رأي حال مريم من كرامتها على الله ومنزلتها من الله (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) ولدا مباركا تقيّا نقيّا من ايشاع ، كما وهبتها لأختها حنّة العجوز العاقر ، أي : لمّا رأي الفواكه في غير أوانها انتبه على جواز ولادة العاقر من الشيخ ، فسأل وقال : ربّ هب لي من لدنك ذرّيّة ، لأنّه لم يكن على الوجوه المعتادة وبالأسباب المعهودة (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) مجيبه.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أي : من جنسهم ، كقولهم : زيد يركب الخيل ، فإنّ المنادي كان جبرئيل. وقرأ حمزة والكسائي : فناداه بالإمالة والتذكير. (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أي : قائما في الصلاة. و «يصلّي» صفة «قائم» أو خبر آخر ، أو حال عن الضمير في «قائم».

(أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي : بأنّ الله. وقرأ ابن عامر وحمزة بالكسر على إرادة القول ، أو لأنّ النداء ضرب من القول. وقرأ حمزة والكسائي : يبشرك بفتح

٤٨٠