زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

من الإكرام والإعطاء ، وأن يختلطوا بالمسلمين فيطّلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى معانديهم ، وغير ذلك من المقاصد والأغراض. والمعنى أنّ دائرة الخداع راجعة إليهم ، وضررها يحيق بهم ولا يعدوهم إلى غيرهم ، وأنّهم في ذلك خدعوا أنفسهم لمّا غرّوها بذلك ، وخدعتهم أنفسهم حيث حدّثتهم بالأماني الباطلة ، وحملتهم على مخادعة من لا يخفى عليه خافية.

والنفس ذات الشيء وحقيقته ، ثم قيل للروح ، لأنّ نفس الحيّ بها ، وللقلب ، لأنّه محلّ الروح ، وللدّم ، لأنّ قوامها به ، وللماء ، لفرط حاجتها إليه ، وللرأي في قولهم : فلان يؤامر نفسه ، إذ الأمر ينبعث عنها. والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم. ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم ، أي : هم إنّما يخدعون ذواتهم وقلوبهم وآراءهم.

(وَما يَشْعُرُونَ) لا يحسّون بذلك ، لتمادي غفلتهم ، فإنّ الشعور علم الإنسان الشيء علم حسّ ، ومشاعر الإنسان حواسّه. جعل الله لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الّذي لا يخفى إلّا على مؤوف الحواسّ.

ثم فسّر علّة عدم شعورهم بخدعهم أنفسهم في القول المذكور فقال : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). أستعير المرض الّذي هو يعرض البدن فيخرجه عن الاعتدال الخاصّ به ويوجب الخلل في أفعاله للأعراض النفسانيّة الّتي تخلّ بكمالها ، كالجهل وسوء الاعتقاد والغلّ والحسد على رسول الله والمؤمنين ، وغير ذلك ممّا هو فساد وآفة ، لأنّها مانعة عن نيل الفضائل ، أو مؤدّية إلى زوال الحياة الحقيقيّة الأبديّة ، شبيهة بالمرض ، كما استعيرت الصحّة والسلامة في نقائض ذلك. فالمراد به هنا ما في قلوبهم من الكفر والحقد والحسد على رسول الله والمؤمنين. ويجوز أن يراد في الآية كلا المعنيين ، فإن قلوبهم كانت متألّمة تحرّقا على ما فات عنهم من الرئاسة ،

٦١

وحسدا على ما يرون من إثبات أمر الرسول واستعلاء شأنه يوما فيوما ، ونفوسهم كانت مؤوفة (١) بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحوها.

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بسبب ما ينزل على رسوله من الوحي ، فيكفرون ويزدادون كفرا إلى كفرهم ، فكأنّه سبحانه زادهم ما ازدادوه ، فأسند الفعل إلى المسبّب ، كما أسنده إلى السورة في قوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (٢) لكونها سببا ، أو أراد : كلّما زاد الله رسوله نصرة على الأعداء وتمكّنا وتبسّطا في البلاد واستعلاء لشأنه يوما فيوما ، فزادهم الله غمّهم بما زاد في إعلاء أمره واعتلاء ذكره ، فازدادوا غلّا وحسدا ، أو ازدادت قلوبهم ضعفا وجبنا حين شاهدوا شوكة المسلمين ، وإمداد الله لهم بالملائكة ، وقذف الرعب في قلوبهم. أو زاد الله غمّ قلوبهم التي كانت متألّمة تحرّقا على ما فات عنهم من الرئاسة بما زاد في إعلاء أمره وارتفاع ذكره.

وهذا عذاب لهم في الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة ، أي : مؤلم ، يقال : ألم فهو أليم ، كوجع فهو وجيع. وصف به العذاب للمبالغة على طريقة قولهم : جدّ جدّه. وذلك العذاب المؤلم لهم (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي : بسبب كذبهم. و «ما» مصدريّة. والكذب هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به. وفي هذا إشارة إلى قبح الكذب ، وأنّ لحوق العذاب الأليم من أجل كذبهم.

وقرأها عاصم وحمزة والكسائي ، وقرأ الباقون «يكذّبون» من : كذّبه ، لأنّهم يكذّبون الرسول بقلوبهم. أو من «كذّب» الّذي هو للمبالغة أو التكثير ، فيكون لازما. وفيه مبالغة إمّا باعتبار الكيف أو الكمّ ، مثل : بيّن الشيء وموّتت البهائم. أو من : كذّب الوحشي ، إذا جرى شوطا ووقف لينظر ما وراءه ، فإنّ المنافق متحيّر متردّد.

__________________

(١) أي أصابتها آفة.

(٢) التوبة : ١٢٥.

٦٢

ثم عطف على «يكذبون» قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ). ويجوز أن يكون معطوفا على «يقول» ، لأنك لو قلت : ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا ، صحّ الكلام. والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به ، ونقيضه الصلاح. وكان فساد المنافقين في الأرض بميلهم إلى الكفّار ، وإفشاء أسرار المسلمين إليهم ، وإغرائهم عليهم بتهييج الحروب والفتن ، فإنّ ذلك يؤدّي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدوابّ والحرث ، ومنه إظهار المعاصي ، والإهانة بالدّين ، فإنّ الإخلال بالشرائع والإعراض عنها ممّا يوجب الهرج والمرج ، ويخلّ بنظام العالم. والقائل هو الله تعالى ، أو الرسول ، أو بعض المؤمنين. وقرأ الكسائي بإشمام الضمّ الأوّل. وإسناد «قيل» إلى «لا تفسدوا» و «آمنوا» و «آمنّا» باعتبار إسناده إلى اللفظ ، كأنّه قيل : وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام ، فلا يرد كيف صحّ أن يسند «قيل» إلى «لا تفسدوا» ، وكذا إلى «آمنّا» و «آمنوا» ، وإسناد الفعل إلى الفعل ممّا لا يصحّ؟

وقوله : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) جواب لـ «إذا» ، وردّ للناصح على سبيل المبالغة. والمعنى : أنّه لا يصحّ مخاطبتنا بذلك ، فإنّ شأننا ليس إلّا الإصلاح ، وانّ حالنا متمحّضة عن شوائب الفساد ، لأنّ «إنّما» يفيد قصر ما دخله على ما بعده. وإنّما قالوا ذلك لأنّهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح ، لما في قلوبهم من المرض ، كما قال الله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (١).

ثم ردّ الله لما ادّعوه أبلغ ردّ بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) وأبلغيّته للاستئناف به ، وتصديره بحرفي التأكيد ، أعني : «ألا» المنبّهة على تحقّق ما بعدها ، فإنّ همزة الاستفهام الّتي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقا ،

__________________

(١) فاطر : ٨.

٦٣

ونظيره : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ) (١) ، و «إنّ» المقرّرة للنسبة ، وتعريف الخبر ، وتوسيط الفصل ، والاستدراك بقوله : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) هذا من تمام النصح والإرشاد ، فإنّ كمال الإيمان بمجموع الأمرين : الإعراض عمّا لا ينبغي ، وهو المراد بقوله : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) ، والإتيان بما ينبغي ، وهو المعنيّ بقوله : آمنوا. (كَما آمَنَ النَّاسُ) في حيّز النصب على المصدر ، و «ما» مصدريّة ، أي : آمنوا إيمانا كإيمان الناس. واللام للعهد ، أي : كإيمان أصحاب رسول الله ، وهم ناس معهودون ، أو عبد الله بن سلام وأضرابه ، أي : كما آمن أصحابكم وإخوانكم. أو للجنس ، فإنّ اسم الجنس كما يستعمل لمسمّاه مطلقا ، يستعمل لما يستجمع المعاني المقصودة منه والمخصوصة به ، ولذلك يسلب عن غيره فيقال : زيد ليس بإنسان. والمراد : الكاملون في الانسانيّة ـ أي : المؤمنون ، كأنّهم الناس على الحقيقة ، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحقّ والباطل ـ العاملون بقضيّة العقل.

وعلى التقادير : (قالُوا) في جواب الناصح : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) الاستفهام للإنكار ، واللام مشار بها إلى الناس ، كما تقول لصاحبك : إنّ زيدا قد سعى بك ، فيقول : أو قد فعل السفيه؟ وإنّما سفّهوهم لاعتقاد فساد رأيهم ، أو لتحقير شأنهم ، فإنّ أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال ، أو لعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسّر «الناس» بعبد الله بن سلام وأشياعه. والسفه خفّة وضعف في الرأي يقتضيهما نقصان العقل ، والحلم يقابله.

فردّ الله تعالى قولهم وجهّلهم بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) فإنّ الجاهل بجهله على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتمّ جهالة من المعترف بجهله ، فإنّه ربّما يعذر وتنفعه الآيات والنذر.

__________________

(١) القيامة : ٤٠.

٦٤

وإنّما فصلت هذه الآية بـ «لا يعلمون» والّتي قبلها بـ «لا يشعرون» لأنّه أكثر طباقا لذكر السفه ، فإنّ الفساد يدرك بالحسّ فناسب «لا يشعرون» ، أي : لا يحسّون ، وإنّ خفّة العقل والرأي يدرك بالعقل فناسبت «لا يعلمون». ولأن الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحقّ والباطل ممّا يفتقر إلى نظر وتفكّر ، وأمّا النفاق وما فيه من الفتن والفساد من التغاور والتحارب والتناحر فإنّما يدرك بأدنى تفطّن وتأمّل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم ، فهو كالمحسوس والمشاهد ، ولأنّه قد ذكر السفه فكان ذكر العلم معه أحسن.

ثم بيّن سبحانه ما كانوا يعاملون مع المؤمنين والكفّار فقال : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : صادفوهم ، من اللقاء بمعنى المصادفة ؛ يقال : لقيته ولاقيته إذا صادفته واستقبلته ، ومنه ألقيته : إذا طرحته ، فإنّك بطرحه جعلته بحيث يلقى. (قالُوا آمَنَّا) كما آمنتم بالله ورسوله.

(وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) من : خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه ، أو من خلاك ذمّ أي : عداك ومضى عنك ، ومنه : القرون الخالية. والمراد بـ «شياطينهم» الّذين ماثلوا الشيطان في تمرّدهم ، وهم المظهرون كفرهم ، وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر ، أو كبار المنافقين. والقائلون صغارهم. والنون عند سيبويه إمّا أصليّة من : شطن ، إذا بعد ، فإنّه بعيد عن الصلاح ، وإمّا زائدة من : شاط ، إذا بطل ، كما مرّ (١) في الاستعاذة.

والمعنى : إذا فارقوا المؤمنين وانفردوا مع رؤسائهم من الكفّار أو المنافقين الّذين أمروهم بالتكذيب أو مضوا إليهم (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي : إنّا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم. خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعليّة ، والشياطين بالجملة الاسميّة المؤكّدة بـ «إنّ» لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان ، وبالثانية

__________________

(١) في ص ٢٠.

٦٥

تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه.

وقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) تأكيد لما قبله ، لأنّ المستهزئ بالشيء المستخفّ به مصرّ على خلافه. ويجوز أن يكون بدلا منه ، لأنّ من حقّر الإسلام فقد عظّم الكفر ، أو استئنافا ، فكأنّ الشياطين قالوا لهم لمّا قالوا إنّا معكم : إن صحّ ذلك فما لكم توافقون المؤمنين وتدّعون الإيمان؟ فأجابوا بذلك.

والاستهزاء السخريّة والاستخفاف ، يقال : هزأت واستهزأت بمعنى ، كأجبت واستجبت. وأصله الخفّة من الهزء وهو القتل السريع ، يقال : هزأ فلان إذا مات على مكانه ، وناقة تهزأ ، أي : تسرع وتخفّ.

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يجازيهم على استهزائهم بإنزال الهوان والحقارة بهم. سمّي جزاء الاستهزاء باسمه ، كما سمّي جزاء السيّئة سيّئة في قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) ، إمّا لمقابلة اللفظ باللفظ ، أو لكونه مماثلا له في القدر ، أو يرجع الله وبال الاستهزاء عليهم ، فيكون كالمستهزئ بهم ، من باب إطلاق اسم السبب الّذي هو الاستهزاء على المسبّب الّذي هو وبال الاستهزاء. أو يعاملهم معاملة المستهزئ. أمّا في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم ، واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان. وأمّا في الآخرة فبأن يفتح لهم وهم في النار بابا إلى الجنّة ، فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سدّ عليهم الباب ، وذلك قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (٢).

وإنّما استؤنف به ولم يعطف ليدلّ على أنّ الله تعالى تولّى مجازاتهم على أبلغ الوجه بحيث استهزاؤهم ليس باستهزاء ، ولا يؤبه له في مقابلته ، لما ينزل بهم عن النكال ، ويحلّ بهم من الهوان والذلّ ، ولم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم بذلك.

__________________

(١) الشورى : ٤٠.

(٢) المطفّفين : ٣٤.

٦٦

ولم يقل : الله مستهزئ بهم ، ليطابق قولهم ، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالا فحالا ، ويتجدّد حينا بعد حين ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ، كما قال : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) (١) ، وما كانوا في أكثر أوقاتهم من تهتّك أستار وتكشّف أسرار.

(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) من : مدّ الجيش وأمدّه ، إذا زاده وألحق به ما يقوّيه ويكثره. وكذلك مدّ الدّواة وأمدّها : زادها ما يصلحها. ومنه : مددت السراج والأرض ، إذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومدّه الشيطان في الغيّ وأمدّه : إذا وصله بالوساوس حتى يتلاحق غيّه ويزداد انهماكا فيه ، لا من المدّ في العمر ، فإنّه يعدّى باللام كـ : أملى له. ويدلّ عليه قراءة ابن كثير : ويمدّهم.

والمعنى : أنّه يمنعهم ألطافه الّتي يمنحها المؤمنين ، ويخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، فتبقى قلوبهم متزايدة الرّين والظلمة كتزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين. أو مكّن الشيطان من إغوائهم ، ولم يمنعه منهم قسرا وإلجاء ، فزادهم طغيانا ، فأسند ذلك الزائد إلى الله سبحانه ، لأنّه مسبّب عن فعله بهم من منع الألطاف بسبب إصرار كفرهم ، إسناد الفعل إلى المسبّب.

والطغيان : الغلوّ في الكفر ، ومجاوزة الحدّ في العتوّ. وأصله تجاوز الشيء عن مكانه. قال الله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ) (٢).

وأضاف الطغيان إليهم لئلّا يتوهّم أنّ إسناد الفعل إليه سبحانه على الحقيقة ، بل يدلّ على أنّ الطغيان والتمادي في الضلال ممّا اقترفته نفوسهم واجترحته أيديهم ، وأنّ الله بريء منه ، ردّا لاعتقاد الكفرة القائلين : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) (٣) ،

__________________

(١) التوبة : ١٢٦.

(٢) الحاقّة : ١١.

(٣) الأنعام : ١٤٨.

٦٧

ونفيا لو هم من عسى يتوهّم عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان إليهم أن الطغيان فعله ، فلمّا أسند المدّ إليه على الطريق الّذي ذكر أضاف الطغيان إليهم ليميط الشبهة ويقلعها ، ويدفع في صدر من يلحد في صفاته. ومصداق ذلك : أنّه حين أسند المدّ إلى الشياطين أطلق الغيّ ولم يقيّده بالإضافة في قوله : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) (١). والعمه مثل العمى ، إلّا أنّ العمه في الرأي والبصيرة خاصّة ، وهو التحيّر والتردّد لا يدري صاحبه أين يتوجّه ، والعمى في البصر.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) اختاروها عليه واستبدلوها به. وأصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان ، ثم أستعير للإعراض عمّا في يده محصّلا به غيره ، سواء كان من المعاني أو الأعيان ، ثم اتّسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعا في غيره. والضلالة : الجور عن القصد وفقد الاهتداء ؛ يقال : ضلّ منزله ، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. والمعنى : أنّهم أخلّوا بالهدى الّذي جعل الله لهم بالفطرة الّتي فطر الناس عليها محصّلين الضلالة الّتي ذهبوا إليها ، أو اختاروا الضلالة واستحبّوها على الهدى.

ثم رشّح للمجاز بقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) فإنّه لمّا استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله ، تمثيلا لخسارتهم. والربح : الفضل على رأس المال. والتجارة : طلب الربح بالبيع والشراء. وأسند الخسران إلى التجارة وهو لأربابها على الاتّساع ، لتلبّسها بالّذي هو له في الحقيقة وهو الفاعل ، أو لمشابهتها إيّاه من حيث إنّها سبب الربح والخسران.

(وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لطرق التجارة ، فإنّ المقصود منها سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا ، لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف ، فلمّا اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم واختلّ عقلهم ، ولم

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٢.

٦٨

يبق لهم رأس مال يتوسّلون به إلى درك الحقّ ونيل الكمال ، فبقوا خاسرين آيسين عن الربح فاقدين للأصل.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨))

ولمّا جاء بحقيقة حالهم عقّبها بضرب المثل الّذي يصوّر المعقول في صورة المحسوس ، زيادة في التوضيح والتقرير ، فإنّه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألدّ ، لأنّه يريك المتخيّل محقّقا والمعقول محسوسا ، ولهذا أكثر الله في كتبه ذكر الأمثال ، وفشت في كلام الأنبياء. والحكماء ، قال الله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (١) ، ومن سور الإنجيل سورة الأمثال ، فقال سبحانه : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً).

والمثل في الأصل بمعنى النظير والشبيه ؛ يقال : مثل ومثل ومثيل ، كشبه وشبه وشبيه ، ثم شاع في القول السائر الممثّل مضربه بمورده : مثل. وهذا سمّي عند علماء البيان بالاستعارة التمثيليّة ، ولا يضرب إلّا ما فيه غرابة ، ولذا حوفظ عليه وحمي من التغيير ، ثم استعير لكلّ حال أو قصّة لها شأن وفيها غرابة ، مثل قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (٢) وقوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) (٣).

والاستيقاد طلب الوقود والسعي في تحصيله ، وهو سطوع النار وارتفاع

__________________

(١) العنكبوت : ٤٣.

(٢) الرعد : ٣٥.

(٣) النحل : ٦٠.

٦٩

لهبها. والنار جوهر لطيف مضيء حارّ محرق. والنور ضؤها وضوء كلّ نيّر ، وهو نقيض الظّلمة. واشتقاقها من : نار ينور نورا إذا نفر ، لأنّ فيها حركة واضطرابا.

و «الّذي» بمعنى : الّذين ، كما في قوله : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) (١) ، إن جعل مرجع الضمير في «بنورهم» ، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الجمع الّذي استوقد. على أنّ المنافقين لم يشبّه ذواتهم بذات المستوقد ، بل شبّهت قصّتهم بقصّة المستوقد. ونحوه قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) (٢) ، وقوله : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (٣) ، فلا يلزم تشبيه الجماعة بالواحد. والمعنى : حالهم العجيبة الشأن وقصّتهم كحال الّذي استوقد نارا.

(فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) أي : النار ما حول المستوقد إن جعلتها متعدّية.

ويحتمل أن تكون غير متعدّية مسندة إلى ما حوله ، والتأنيث للحمل على المعنى ، لأن ما حول المستوقد أشياء وأماكن ، أو إلى النار و «ما» موصولة في معنى الأمكنة نصب على الظرف ، أو مزيدة وحوله ظرف. وتركيب الحول للدوران. وقيل للعام : حول ، لأنّه يدور.

وقوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) جواب «لمّا» ، والضمير لـ «الّذي» ، وجمعه للحمل على المعنى. وعلى هذا إنّما قال : بنورهم ، ولم يقل : بنارهم ، لأنّه المراد من إيقادها ، أو استئناف أجيب به اعتراض سائل يقول : ما بالهم شبّهت حالهم بحال مستوقد انطفأت ناره؟ فقيل له : ذهب الله بنورهم. أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان. والضمير على الوجهين للمنافقين. والجواب محذوف كما في قوله

__________________

(١) التوبة : ٦٩.

(٢) الجمعة : ٥.

(٣) محمد : ٢٠.

٧٠

تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) (١) ، للإيجاز وأمن الإلباس ، كأنّه قيل : فلمّا أضاءت ما حوله خمدت فبقوا متحيّرين متحسّرين على فوت الضوء.

وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى إمّا لأنّ الإطفاء حصل بسبب خفيّ أو أمر سماوي كريح أو مطر ، أو للمبالغة ، ولذلك عدّي الفعل بالباء دون الهمزة ، لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك ، يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه ، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له ، فهو أبلغ من الإذهاب. ولذلك عدل عن الضوء الّذي هو مقتضى قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ) إلى النور ، فإنّه لو قيل : ذهب الله بضوئهم ، احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمّى نورا ، والغرض إزالة النور عنهم رأسا ، ألا ترى كيف قرّر ذلك وأكّده بقوله : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فذكر الظلمة الّتي هي عدم النور بالكلّية ، وجمعها ، ووصفها بأنّها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبح أصلا. و «ترك» في الأصل بمعنى : طرح وخلّى ، وله مفعول واحد ، وإذا ضمّن معنى «صيّر» تعدّى إلى مفعولين ، وجرى مجرى أفعال القلوب ، كقول عنترة (٢) :

فتركته جزر السّباع ينشنه ...

أي : طعمة السباع يأكلنه. ومنه قوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ). أصله : هم في ظلمات ، ثم دخل «ترك» فنصب الجزأين. والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا؟ أي : ما منعك؟ لأنّها تسدّ البصر وتمنع الرؤية. وظلماتهم : ظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة يوم القيامة. أو ظلمة الضلال ، وظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمد. أو ظلمة شديدة كأنّها ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض.

__________________

(١) يوسف : ١٥.

(٢) ديوان عنترة : ٢٦. وعجز البيت : يقضمن حسن بنانه والمعصم.

٧١

ومفعول «لا يبصرون» من قبيل المطروح المتروك غير المنويّ المقدّر ، وكأنّ الفعل غير متعدّ. والمعنى : لا يكون لهم بصر.

مثّل الله سبحانه في هذه الآية إظهار إيمانهم ـ من حيث إنّه يحقن الدماء ، ويحفظ الأموال والأولاد ، ويوجب مشاركتهم المسلمين في المغانم والأحكام ـ بالنار الموقدة للاستضاءة ، وذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إيّاها وإذهاب نورها. أو هذه الآية مثل ضربه الله تعالى لمن أتاه ضربا من الهدى فأضاعه ، ولم يتوصّل به إلى نعيم الأبد ، فبقي متجبّرا متحسّرا ، تقريرا وتوضيحا لما تضمّنته الآية الاولى. ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون ، فإنّهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحقّ باستبطان الكفر وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ، ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة ، أو ارتدّ عن دينه بعد ما آمن.

ولمّا سدّوا مسامعهم عن الإصغاء إلى الحقّ ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ، ويتبصّروا الآيات بأبصارهم ، جعلوا كأنّهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أي : إيفت (١) مشاعرهم الّتي هي أصل الإحساس والإدراك ، وانتفت قواهم ، كقوله :

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

أصمّ عن الشيء الّذي لا أريده

وأسمع خلق الله حين أريد

وإطلاقها عليهم على طريقة التمثيل لا الاستعارة ، إذ من شرطها أن يطوى ذكر المستعار له ، بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لولا القرينة ، كقول زهير :

لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم

وهاهنا وإن طوى ذكره لحذف المبتدأ لكنّه في حكم المنطوق به. هذا إذا جعلت

__________________

(١) أي : صارت مشاعرهم ذات آفة.

٧٢

الضمير للمنافقين ، فتكون الآية نتيجة التمثيل. وإن جعلته للمستوقدين فهي على حقيقتها. والمعنى : أنّهم لمّا أوقدوا نارا ، فذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات هائلة ، أدهشتهم بحيث اختلّت حواسّهم وانتقصت قواهم.

والصم أصله صلابة من اكتناز الأجزاء ، ومنه قيل : حجر أصمّ وقناة صمّاء ، سمّي به فقدان حاسّة السمع ، لأنّ سببه أن يكون باطن الصماخ مكتنزا لا يكون فيه تجويف يشتمل على هواء يسمع الصّوت بتموّجه. والبكم الخرس. والعمى عدم البصر عمّا من شأنه أن يبصر ، وقد يقال لعدم البصيرة. وقوله : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) معناه : لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه وضيّعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، تسجيلا عليهم بالطبع ، أو بقوا متحيّرين جامدين في مكانهم لا يبرحون ، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخّرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه؟ والفاء للدلالة على أنّ اتّصافهم بالأحكام السابقة سبب لتحيّرهم واحتباسهم.

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

ثمّ ضرب مثلا آخر لحالهم عطفا على (الَّذِي اسْتَوْقَدَ) ليكون كشفا لحالهم بعد كشف ، وإيضاحا غبّ إيضاح ، فإنّه كما يجب على البليغ في مظانّ الإجمال

٧٣

والإيجاز أن يجمل ويوجز ، فكذا الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصّل ويشبع ، فقال مزيدا (١) للكشف والإيضاح : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) على تقدير مضاف ، أي : مثلهم كمثل ذوي صيّب ، لقوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ). و «أو» في الأصل للتساوي في الشكّ ، ثم اتّسع فيها فأطلقت للتساوي من غير شكّ ، مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، ومن ذلك قوله : «أو كصيّب». ومعناه : أن قصّة المنافقين مشبهة بهاتين القصّتين ، وأنّهما سواء في صحّة التشبيه بهما ، وأنت مخيّر في التمثيل بهما ، أو بأيّتهما شئت.

والصيّب فيعل من الصوب ، وهو النزول من عال ، يقال للمطر والسحاب ذي الصوب ، والآية تحتملهما. وتنكيره لأنّه أريد نوع من المطر شديد. وتعريف السماء للدلالة على أنّ الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء كلّها ، فإنّ كلّ أفق منها يسمّى سماء ، كما أنّ كلّ طبقة منها سماء. ويؤيّده ما في الصيّب من المبالغة من جهة الأصل والبناء والتنكير. وقيل : المراد بالسماء السحاب ، فاللام لتعريف الماهيّة. والمعنى : مثلهم كمثل قوم أخذهم المطر النازل من السحاب.

(فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) إن أريد بالصيّب المطر. فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر ، وظلمة غمامه مع ظلمة الليل. وجعل الصيّب مكانا للرعد والبرق لأنّهما في أعلاه ومنحدره ملتبسين به. وإن أريد به السحاب فظلماته سحمته وتطبيقه مع ظلمة الليل. وارتفاعها بالظرف وفاقا ، لأنّه معتمد على موصوف.

والرعد صوت يسمع من السحاب. واشتهر بين علماء المعقول أنّ سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح. والبرق ما يلمع من السحاب ، من : برق الشيء بريقا. وكلاهما مصدر في الأصل ، ولذلك لم يجمعا.

وجاءت هذه الأشياء منكّرة لأنّ المراد أنواع منها ، فكأنّه قيل : في الصيّب

__________________

(١) في الخطّية : مزيّة ، والظاهر أنّها تصحيف : مزيدا.

٧٤

ظلمات داجية ، ورعد قاصف ، وبرق خاطف ، فأصحاب الصيّب المنعوت بهذه الصفات الهائلة (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ). والضمير راجع إلى أصحاب الصيّب. والمضاف وإن حذف لفظه وأقيم الصيّب مقامه لكن معناه باق ، فيجوز أن يعوّل عليه. وهذه الجملة استئناف ، فكأنّه لمّا ذكر ما يؤذن بالشدّة والهول قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك؟ فأجيب بها. وإنّما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة.

ويتعلّق قوله : (مِنَ الصَّواعِقِ) بـ (يَجْعَلُونَ) ، أي : من أجلها يجعلون. والصاعقة : قصفة رعد هائل معها نار لطيفة حديدة ، لا تمرّ بشيء إلّا أتت عليه ، أي : أهلكته ، من الصّعق وهو شدّة الصوت. وقد تطلق على كلّ هائل مسموع أو مشاهد. ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدّة الصوت. وبناؤها أن يكون صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد ، والتاء إمّا للمبالغة ، كما في الراوية بمعنى كثير الرواية للشعر وغيره ، أو مصدر كالعافية والكاذبة.

وقوله : (حَذَرَ الْمَوْتِ) نصب على العلّة ، أي : يضعون أناملهم في آذانهم لخوف أن يموتوا بهذه الأصوات الشديدة الهائلة لأجل الصواعق ، أو بالإحراق. والموت زوال الحياة. وفي الكشّاف : «الموت فساد بنية الحيوان ؛ وقيل : عرض لا يصحّ معه إحساس معاقب للحياة» (١). فهو يضادّها ، لقوله : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) (٢). وردّ بأنّ الخلق بمعنى التقدير ، والأعدام مقدّرة.

(وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط ، لا يخلّصهم الخداع والحيل. والجملة اعتراضيّة لا محلّ لها.

ولمّا ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدّة والهول فكأنّ قائلا قال : فكيف

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٨٥.

(٢) الملك : ٢.

٧٥

حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقيل : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) فهو استئناف ثان. و «كاد» من أفعال المقاربة ، وضعت لدنوّ الخبر من الوجود لعروض سببه ، لكنّه لم يوجد إمّا لفقد شرط أو لعروض مانع. و «عسى» موضوعة لرجائه ، فـ «كاد» خبر محض ، ولهذا جاءت متصرّفة ، بخلاف عسى. وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلا مضارعا ، تنبيها على أنّه المقصود بالقرب ، من غير «أن» ، ليؤكّد القرب بالدلالة على الحال. وقد تدخل عليه حملا لها على عسى ، كما تحمل عليها بالحذف من خبرها ، لمشاركتهما في أصل معنى المقاربة. والخطف : الأخذ بسرعة.

وقوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) استئناف ثالث ، كأنّه جواب لمن يقول : كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق وخفيته؟ فأجيب بذلك. و «أضاء» إمّا متعدّ والمفعول محذوف بمعنى : كلّما نوّر لهم ممشى شرعوه ، أو لازم بمعنى : كلّما لمع لهم مشوا في مطرح نوره. وكذلك أظلم ، فإنّه جاء متعدّيا منقولا من ظلم الليل ، ويشهد له قراءة «أظلم» على البناء للمفعول. وإنّما قال مع الإضاءة : كلّما ، ومع الإظلام : إذا ، لأنهم حراص على المشي ، فكلّما صادفوا منه فرصة اغتنموها ، ولا كذلك التوقّف. ومعنى قاموا : وقفوا وثبتوا ، ومنه : قامت السوق إذا ركدت ، وقام الماء : إذا جمد.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) أي : ولو شاء أن يذهب بسمعهم بقصيف الرّعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب بهما ، فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه. ولقد كثر حذفه في «شاء» و «أراد» حتى لا يكاد يذكر إلّا في الشيء المستغرب ، كقوله :

فلو شئت أن ابكي دما لبكيته

وكقوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) (١).

__________________

(١) الأنبياء : ١٧.

٧٦

و «لو» من حروف الشرط دالّة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني ، ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه. وفائدة هذه الشرطيّة إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه من البرق والرعد. وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقرير لهذه الشرطيّة ودليل عليها ، فإنّ المشيئة فرع القدرة.

ولمّا كان إسناد مشيئة الله تعالى بالأمور (١) القبيحة ، ونسبة إرادته إلى الأفعال السيّئة ـ كإيجاد الكفر والمعاصي في العباد ، على ما هو مذهب الأشاعرة ـ ضروريّ البطلان ، لاستلزامه رفع الاختيار الّذي هو مناط التكليف الشرعي ، وعموم قدرة الله تعالى على الأشياء لا يستلزم أن يكون كلّها في تحت مشيئته وإرادته كما لا يخفى ، فما قال البيضاوي : «إنّ فائدة هذه الشرطيّة التنبيه على أنّ تأثير الأسباب في مسبّباتها مشروطة بمشيئة الله تعالى ، وأنّ وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته ، وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كالتصريح به والتقرير له» (٢) أمر غير معقول.

و «الشيء» ما يصحّ أن يوجد ، وهو يعمّ الواجب والممكن ، أو ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه ، فيعمّ الممتنع. ولمّا كان مشروطا (٣) في حدّ القادر أن لا يكون الفعل مستحيلا فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلّها ، فكأنّه قيل : إنّ الله على كلّ شيء مستقيم ـ أي : قابل لتأثيره فيه ـ قدير. ونظيره : فلان أمير على الناس ، أي : على من وراءه منهم ، ولم يدخل فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس. ويختصّ هاهنا بالممكن ، بدليل أنّ القدرة لا يمكن أن يتعلّق إلّا بشيء ممكن ، كما قال سيبويه في كتابه : «إنّ الشيء يقع على كلّ ما أخبر عنه من

__________________

(١) كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح : إلى الأمور.

(٢) أنوار التنزيل ١ : ١٠٢.

(٣) في الخطّية : مشروط ، والصحيح ما أثبتناه.

٧٧

قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى» (١). وهو مذكّر أعمّ العامّ ـ كما أنّ الله أخصّ الخاصّ ـ يجري على الجسم والعرض والقديم ، تقول : شيء لا كالأشياء أي : معلوم لا كسائر المعلومات ، وعلى المعدوم والمحال.

والقدرة : هو التمكّن من إيجاد الشيء. وقيل : صفة تقتضي التمكّن ، وقيل : قدرة الإنسان هيئة بها يتمكّن من الفعل ، وقدرة الله تعالى عبارة عن نفي العجز عن الأشياء الممكنة. والقادر : هو الّذي إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل. والقدير : الفعّال لما يشاء على ما يشاء ، ولذلك قلّما يوصف به غير الباري تعالى. واشتقاق القدرة من القدر ، لأنّ القادر يوقع الفعل على مقدار قوّته ، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته.

وفي الكشّاف والأنوار : «الظاهر أنّ التمثيلين المذكورين من جملة التمثيلات المؤلّفة ، وهو أن تشبّه كيفيّة منتزعة من مجموع تضامّت أجزاؤه وتلاصقت حتى صارت شيئا واحدا ، بأخرى مثلها ، كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) (٢) الآية ، فإنّه تشبيه حال اليهود في جهلهم بما معهم من التوراة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة. والغرض منهما تمثيل حال المنافقين من الحيرة والشدّة بما يكابد من انطفأت ناره بعد إيقادها في ظلمة ، أو بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف وخوف من الصواعق.

ويمكن جعلهما من قبيل تمثيل المفرد ، وهو أن تأخذ أشياء فرادى فتشبّهها بأمثالها ، كقوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (٣). فيشبّه في الأوّل ذوات المنافقين بالمستوقدين ، وإظهارهم الايمان

__________________

(١) كتاب سيبويه ١ : ١٤.

(٢) الجمعة : ٥.

(٣) فاطر : ١٩ ـ ٢١.

٧٨

باستيقاد النار ، وما انتفعوا به من حقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك بإضاءة النار ما حول المستوقدين ، وزوال ذلك عنهم على القرب بإهلاكهم وإفشاء حالهم ، وإبقاؤهم في الخسار الدائم والعذاب السرمد بإطفاء نارهم والذهاب بنورهم.

ويشبّه في الثاني أنفسهم بأصحاب الصيّب ، وإيمانهم المخالط بالكفر والخداع بصيّب فيه ظلمات ورعد وبرق ، من حيث إنّه وإن كان نافعا في نفسه لكنّه لمّا وجد في هذه الصورة عاد نفعه ضرّا ، ونفاقهم حذرا عن نكايات المؤمنين بجعل الأصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت ، وتحيّرهم لشدّة الأمر وجهلهم بما يأتون ويذرون ، بأنّهم كلّما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن تخطف أبصارهم ، فخطوا خطى يسيرة ، ثم إذا خفي وفتر لمعانه بقوا متقيّدين لا حراك بهم» (١).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

ولمّا عدّد فرق المكلّفين وذكر خواصّهم ومصارف أمورهم أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات ، هزّا للسّامع وتنشيطا له ، واهتماما بأمر العبادة وتفخيما لشأنها ، وجبرا لكلفة العبادة بلذّة المخاطبة ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٨٠ ، أنوار التنزيل ١ : ١٠٣ ـ ١٠٤ ، والنصّ للثاني.

٧٩

رَبَّكُمُ). «يا» حرف وضع لنداء البعيد ، وأمّا نداء القريب فوضع له «أي» و «الهمزة» ، ثم استعمل «يا» في مناداة من سها وغفل وإن قرب ، تنزيلا له منزلة من بعد ، فإذا نودي به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأنّ الخطاب الّذي يتلوه معنيّ به جدّا. وقد ينادى به القريب تنزيلا له منزلة البعيد ، لجلال عظمة المنادى ونهاية حقارة المنادي ، كقول الداعي : يا الله يا ربّ ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد. وهو مع المنادى جملة مفيدة ، لأنّه نائب مناب الفعل.

و «أيّ» اسم مبهم جعل وصلة إلى نداء المعرّف باللام ، فإنّ إدخال «يا» عليه متعذّر ، لتعذّر الجمع بين حرفي التعريف. واعطي حكم المنادى ، واجري عليه المقصود بالنداء وصفا موضحا ليزيل إبهامه. والتزم رفعه إشعارا بأنّه المقصود. وأقحمت هاء التنبيه بين الصفة وموصوفها تأكيدا ، وتعويضا عمّا يستحقّه «أيّ» من المضاف إليه ، فإنّه لازم الإضافة. وقد كثر في كتاب الله النداء على هذه الطريقة ، لاستقلاله بأبلغ تأكيد ، وهو التدرّج من الإبهام إلى التوضيح. والإتيان بكلمة التنبيه المقحمة بين «أيّ» وصفته لتعاضد حرف النداء بتأكيد معناه. وكلّ ما نادى الله تعالى له عباده ـ من حيث إنّها امور عظام ، من الأمر والنهي والوعد والوعيد وغير ذلك ، من حقّها أن يتفطّنوا إليها ويقبلوا بقلوبهم عليها ، وأكثرهم عنها غافلون ـ حقيق بأن ينادى له بالآكد الأبلغ.

والجموع واسماؤها المحلّاة للعموم حيث لا عهد. ويدلّ عليه صحّة الاستثناء منها ، والتوكيد بما يفيد العموم ، كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (١). فالناس يعمّ الموجودين وقت النزول لفظا ومن سيوجد ، لما تواتر من دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ، ثابت إلى قيام الساعة معنى ، إلّا ما خصّه الدليل.

__________________

(١) الحجر : ٣٠.

٨٠