زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

وثلاثين فرسا ، إن كان باليمن كيد. فصالحوا على ذلك ، وكتب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم بذلك كتابا».

وروي أنّ الأسقف قال لهم : «إنّي لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ».

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو لا عنوني لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم الوادي عليهم نارا ، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلّهم ، حتى الطير على الشجر».

فلمّا رجع وفد نجران لم يلبث السيّد والعاقب إلّا يسيرا حتى رجعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهدى العاقب له حلّة وعصا وقدحا ونعلين ، وأسلما.

وعن عائشة : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج وعليه مرط (١) مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن عليه‌السلام فأدخله ، ثمّ جاء الحسين عليه‌السلام فأدخله ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء عليّ فأدخله ، ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٢).

وفي هذه الآية أوضح دلالة على فضل أصحاب الكساء عليهم‌السلام وعلوّ درجتهم ، وبلوغ مرتبتهم في الكمال إلى حدّ لا يدانيهم أحد من الخلق ، وعلى أنّهم علموا أنّ الحقّ مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّهم امتنعوا من المباهلة ، وأقرّوا بالذلّ والخزي ، وانقادوا لقبول الجزية ، فلو لم يعلموا ذلك لباهلوه ، وكان يظهر ما زعموا من بطلان قوله في الحال ، ولو لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متيقّنا بنزول العقوبة بعدوّه دونه لو باهلوا ، لما أدخل أولاده وخواصّ أهله في ذلك ، مع شدّة إشفاقه عليهم.

(إِنَّ هذا) أي : ما قصّ عليك من نبأ عيسى وغيره (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ)

__________________

(١) المرط : كلّ ثوب غير مخيط ، أو كساء من صوف ونحوه يؤتزر به ، وجمعه : مروط.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

٥٠١

والحديث الصدق ، فمن خالفك فيه مع وضوح الأمر فهو معاند. هذه بجملتها خبر «إنّ» ، أو هو فصل يفيد أنّ ما ذكره في شأن عيسى ومريم حقّ. واللام دخلت فيه لأنّه أقرب إلى المبتدأ من الخبر ، وأصلها أن تدخل على المبتدأ ، فإذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل الذي هو أقرب إلى المبتدأ أجوز.

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) صرّح فيه بـ «من» الزائدة للاستغراق ، تأكيدا للردّ على النصارى في تثليثهم. فالمعنى : وما لكم أحد يستحقّ إطلاق اسم الإلهيّة إلّا الله ، وانّ عيسى ليس بإله كما زعموا ، وإنّما هو عبد الله ورسوله. ولو قال : ما إله إلّا الله بغير «من» لم يفد هذا المعنى. (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لا أحد يساويه في القدرة التامّة والحكمة البالغة ليشاركه في الألوهيّة.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) فإن أعرضوا عن اتّباعك وتصديقك ، وعمّا أتيت به من الدلالات والبيّنات (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) وعيد لهم. ووضع المظهر موضع المضمر ليدلّ على أنّ التولّي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين والاعتقاد المؤدّي إلى فساد النفس ، بل وإلى فساد العالم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤))

ولمّا تمّ الحجاج على القوم دعاهم سبحانه إلى التوحيد ، فقال : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) يعمّ أهل الكتابين. وقيل : يريد به وفد نجران أو يهود المدينة. (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) أي : عدل (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) لا يختلف فيها الرسل والقرآن والتوراة والإنجيل وغيرها من الكتب الإلهيّة. ويفسّر الكلمة قوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) أن

٥٠٢

نوحّده بالعبادة ، ونخلص فيها (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) ولا نجعل له شريكا في استحقاق العبادة ، ولا نراه أهلا لأن يعبد (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) فلا نقول : عزير ابن الله ، ولا المسيح ابن الله ، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل ، لأنّ كلّا منهم بعضنا بشر مثلنا.

روي : «أنّه لمّا نزلت (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (١) قال عديّ بن حاتم : ما كنّا نعبدهم يا رسول الله! قال : أليس كانوا يحلّون لكم ويحرّمون ، فتأخذون بقولهم؟ قال : نعم ، قال : هو ذاك».

يعني : الأخذ بقولهم هو اتّخاذكم إيّاهم أربابا.

وروي أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «ما عبدوهم من دون الله ، ولكن حرّموا لهم حلالا وأحلّوا لهم حراما ، فكان ذلك اتّخاذهم أربابا من دون الله».

وعن الفضيل قال : لا أبالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق ، أو صلّيت لغير القبلة.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التوحيد (فَقُولُوا) مقابلة لإعراضهم عن الحقّ (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي : لزمتكم الحجّة ، فوجب عليكم أن تعترفوا بأنّا مخلصون مقرّون بالتوحيد ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما : اعترف بأنّي أنا الغالب ، وسلّم لي الغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا بأنّكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل ، حيث تولّيتم عن الحقّ بعد ظهوره.

وأحسن بما راعى الله سبحانه في هذه القصّة من المبالغات في الإرشاد وحسن التدرّج في الحجاج ، فإنّه سبحانه بيّن أوّلا أحوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للألوهيّة. ثمّ ذكر ما يحلّ عقدتهم ويزيح شبهتهم ، فلمّا رأى

__________________

(١) التوبة : ٣١.

٥٠٣

عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز. ثمّ لمّا أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد ، وسلك طريقا أسهل وألزم ، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى عليه‌السلام والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب. ثمّ لمّا لم يجد ذلك أيضا عليهم ، وعلم أنّ الآيات والنذر لا تغني عنهم ، أعرض عن ذلك وقال : (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨))

قال ابن عبّاس والحسن وقتادة : إنّ أحبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتنازعوا في إبراهيم عليه‌السلام. فقالت اليهود : ما كان إبراهيم إلّا يهوديّا. وقالت النصارى : ما كان إلّا نصرانيّا. فنزلت : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) يعني : أنّ اليهوديّة والنصرانيّة حدثنا بنزول التوراة والإنجيل على موسى وعيسى عليهما‌السلام ، وكان إبراهيم عليه‌السلام قبل موسى عليه‌السلام بألف سنة ، وعيسى بألفين ، فكيف يكون على اليهوديّة والنصرانيّة اللّتين

٥٠٤

لم تحدثا إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة؟! (أَفَلا تَعْقِلُونَ) حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال.

(ها) حرف تنبيه نبّهوا بها على حالهم التي غفلوا عنها (أَنْتُمْ) مبتدأ (هؤُلاءِ) خبره (حاجَجْتُمْ) جملة أخرى مستأنفة مبيّنة للأولى ، أي : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى الجهّال. وبيان حماقتكم وجهالتكم أنّكم جادلتم (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ممّا وجدتموه في التوراة والإنجيل عنادا (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ولا ذكر في كتابيكم من دين إبراهيم.

وقيل : «هؤلاء» بمعنى الّذين ، و «حاججتم» صلته. وقيل : «ها أنتم» أصله أأنتم على الاستفهام ، للتعجّب من حماقتهم ، فقلبت الهمزة هاء.

(وَاللهُ يَعْلَمُ) شأن إبراهيم عليه‌السلام ودينه وما حاججتم فيه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وأنتم جاهلون به ، فلا تتكلّموا فيه.

ثمّ كذّب اليهود والنصارى ، وأعلمهم بأنّ إبراهيم بريء من دينهم ، فقال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) فهو تصريح بمقتضى ما قرّره من البرهان (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) مائلا عن العقائد الزائغة (مُسْلِماً) كائنا على دين الإسلام ، أو منقادا لله تعالى (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أراد بالمشركين اليهود والنصارى ، لإشراكهم بالله عزيرا والمسيح. فهذا ردّ لادّعاء المشركين أنّهم على ملّة إبراهيم ، وتعريض بأنّهم مشركون.

وهذه الآية تدلّ على أنّ موسى أيضا لم يكن يهوديّا ، ولم يكن عيسى نصرانيّا ، فإنّ الدين عند الله الإسلام ، واليهوديّة ملّة محرّفة عن شرع موسى عليه‌السلام ، والنصرانيّة ملّة محرّفة عن شرع عيسى عليه‌السلام ، فهما صفتا ذمّ جرتا على الفرقتين الضالّتين.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) إنّ أخصّهم وأقربهم منه ، من الولي ، وهو القرب. أو أحقّهم بنصرته بالحجّة (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) من أمّته في زمانه وبعده (وَهذَا النَّبِيُ)

٥٠٥

يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) من أمّته المرحومة ، لموافقتهم له في أصول ملّة الإسلام وأكثر فروعاته. وإفراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالذّكر تعظيما لأمره ، وإجلالا لقدره ، كما أفرد جبرئيل وميكائيل. (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ينصرهم ويجازيهم بالمثوبة الحسنى لإيمانهم.

وروي عمر بن يزيد قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أنتم والله من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قلت : من أنفسهم جعلت فداك؟ قال : نعم ، والله من أنفسهم. قالها ثلاثا. ثمّ نظر إليّ ونظرت إليه ، فقال : يا عمر إنّ الله يقول في كتابه : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) الآية.

رواه عليّ بن إبراهيم (١) ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن منصور بن يونس ، عن عمر بن يزيد ، عنه عليه‌السلام.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ الولاية تثبت بالدين لا بالنسب. ويعضد ذلك قول أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «إنّ أولى النّاس بالأنبياء أعملهم بما جاؤا به ، ثمّ تلا هذه الآية وقال : إنّ وليّ محمّد من أطاع الله وإن بعدت لحمته ، وإنّ عدوّ محمّد من عصى الله وإن قربت قرابته».

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١))

ثمّ بيّن الله سبحانه أنّ هؤلاء كما ضلّوا دعوا إلى الضلال ، فقال : (وَدَّتْ طائِفَةٌ

__________________

(١) تفسير القمي : ١٠٥.

٥٠٦

مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) تمنّت جماعة من اليهود (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) نزلت في اليهود لمّا دعوا حذيفة وعمّارا ومعاذا إلى اليهوديّة. و «لو» بمعنى أن. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وما يتخطّاهم الإضلال ولا يعود وباله إلّا عليهم ، لأنّ العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم ، أو ما يقدرون على إضلال المسلمين ، وإنّما يضلّون أمثالهم (وَما يَشْعُرُونَ) وما يعلمون أنّ وبال ذلك يعود عليهم ، واختصاص ضرره بهم.

ثمّ خاطب الله سبحانه الفريقين فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) لم لا تؤمنون بما نطقت به التوراة والإنجيل ، ودلّت على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونعته؟ (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) تعترفون بأنّها آيات الله. أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوّة الرسول ، وأنتم تشهدون نعته في الكتابين ، أو تعلمون بالمعجزات أنّه حقّ في نبوّته.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَ) تخلطونه (بِالْباطِلِ) بما حرّفتموه من التوراة بالتحريف ، وأبرزتم الباطل في صورة الحقّ ، أو بما قصّرتم في التمييز بينهما (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونعته (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) عالمين بما تكتمونه.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤))

قيل : تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر وقرى عرينة ، وقال بعضهم

٥٠٧

لبعض : ادخلوا في دين محمد أوّل النهار باللسان دون الاعتقاد ، واكفروا به آخر النهار ، وقولوا : إنّا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فلم نجد محمّدا بالنعت الذي ورد في التوراة ، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه ، فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينه وقالوا : إنّهم أهل الكتاب وهم أعلم به منّا ، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ، فنزلت : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) أي : أظهروا الإيمان بالقرآن أوّل النهار (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) واكفروا به آخر النّهار ، لعلّهم يشكّون في دينهم ظنّا بأنّكم رجعتم لخلل ظهر لكم.

وقيل : المراد بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ، قالا لأصحابهما لمّا حوّلت القبلة : آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة ، وصلّوا إليها أوّل النهار ، ثمّ صلّوا إلى الصخرة آخره ، لعلّهم يقولون هم أعلم منّا ، أي : لا تظهروا إيمانكم وجه النهار إلّا لمن كان على دينكم ممّن أسلموا منكم ، فإنّ رجوعهم أرجى وأهمّ ، وقد رجعوا فيرجعون.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ولا تقرّوا عن تصديق قلب إلّا لأهل دينكم (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) يهدي من يشاء إلى الإيمان ويثبّته عليه ، أي : يوفّق الهداية لمن طلبها ، ولم ينفع حيلتكم ومكركم.

وقوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) متعلّق بمحذوف ، أي : دبّرتم ذلك وقلتم : لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من النبوّة. والمعنى : أنّ الحسد حملكم على ذلك. أو متعلّق بـ «لا تؤمنوا» وما بينهما اعتراض يدلّ على أن كيدهم لا ينفعهم ، أي : لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أو كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلّا لأهل دينكم دون غيركم ، ولا تفشوه إلى المسلمين لئلّا يزيد ثباتهم ، ولا إلى المشركين لئلّا يدعوهم إلى الإسلام. أو خبر «إنّ» على أنّ «هدى الله» بدل من الهدى. وقراءة ابن كثير «أأن يؤتى» على الاستفهام للتقريع ، تؤيّد الوجه الأوّل ، أي : ألأن يؤتى أحد دبّرتم.

٥٠٨

وقوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) عطف على «أن يؤتى» ، والواو ضمير «أحد» ، لأنّه في معنى الجمع ، إذ المراد به غير أتباعهم ، وهم الرسول والمؤمنون.

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ) أي : النبوّة ، أو الحجج التي أوتيها محمد ، أو نعم الدّين والدنيا «بيد الله» في ملكه ، وهو القادر عليه العالم بمحلّه (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) على وفق المصلحة (وَاللهُ واسِعٌ) أي : واسع الرحمة والجود (عَلِيمٌ) بمصالح الخلق ، ومن جملتها يعلم حيث يجعل رسالته.

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) وتفسيرها في سورة (١) البقرة.

وفي هذه الآيات معجزة باهرة لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ فيها إخبار عن سرائر القوم التي لا يعلمها إلّا علّام الغيوب ، وفيها دفع لمكائدهم ، ولطف للمؤمنين في الثبات على عقائدهم ، وردّ وإبطال لما زعموه بالحجّة الواضحة.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦))

قيل : إن عبد الله بن سلام استودعه قرشيّ ألفا ومائتي أوقيّة (٢) فأدّاه إليه ،

__________________

(١) راجع ص : ٢٠٧ ذيل آية : ١٠٥ من سورة البقرة.

(٢) في هامش النسخة الخطّية : «أوقيّة بالتشديد : أربعون درهما. وهي أفعولّة من الوقاية ، لأنها تقي صاحبها من الصير. وقيل : فعليّة من الأوق ، وهو الثقل. والجمع الأواقي ، بالتخفيف والتشديد. منه». والصير : منتهى الأمر وعاقبته.

٥٠٩

وفنحاص بن عازوراء استودعه قرشيّ آخر دينارا فجحده ، فنزلت فيهما : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) أي : تجعله أمينا على مال كثير (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) يردّه إليك عند المطالبة ، ولا يخون فيه ، كعبد الله بن سلام (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) أي : بمال قليل حقير (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) عند المطالبة. كفنحاص. وفي بعض التفاسير (١) : المأمونون على الكثير النصارى ، والغالب فيهم الأمانة ، والخائنون في القليل اليهود ، إذ الغالب عليهم الخيانة. (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) إلّا مدّة دوامك قائما على رأسه ، مبالغا في مطالبته بالتقاضي والترافع إلى الحاكم وإقامة البيّنة.

(ذلِكَ) إشارة إلى ترك أداء الحقوق المدلول عليه بقوله : «لا يؤدّه» (بِأَنَّهُمْ قالُوا) بسبب قولهم : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي : ليس علينا في شأن من ليسوا من أهل الكتاب ، ولم يكونوا على ديننا ، عتاب وذمّ في ترك أداء الحقوق إليهم (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بادّعائهم ذلك (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنّهم كاذبون ، وذلك لأنّهم استحلّوا ظلم من خالفهم وقالوا : لم يجعل لهم في التوراة حرمة.

وقيل : عامل اليهود رجالا من قريش ، فلمّا أسلموا تقاضوهم ، فقالوا : سقط حقّكم حيث تركتم دينكم ، وزعموا أنّه كذلك في كتابهم.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال عند نزولها : «كذب أعداء الله ، ما من شيء في الجاهليّة إلّا وهو تحت قدميّ ـ يعني : جميع ما في أديان الجاهليّة منسوخة ـ إلّا الأمانة ، فإنّها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر».

(بَلى) إثبات لما نفوه ، أي : بلى عليهم سبيل في الأميّين. وقوله : (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) في ترك الخيانة والغدر (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) جملة مستأنفة ، أي : مقرّرة للجملة التي سدّت «بلى» مسدّها ، والضمير المجرور لـ «من» ومعناه : من أوفى بعهد نفسه أو لله. وعهد الله إلى عباده عبارة عن أمره ونهيه.

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٣٧٥ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٢٦.

٥١٠

وعموم «للمتّقين» ناب عن الراجع من الجزاء إلى «من» أعني : ضمير «يحبّه» ، إشعارا بأن التقوى أصل الأمر. وهو يعمّ الوفاء وغيره ، من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨))

روي : أنّ جماعة من أحبار اليهود ، مثل أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحيّي بن الأخطب وكعب بن الأشرف ، كتموا في التوراة نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكم الأمانات ، وكتبوا بأيديهم غيره ، وحلفوا أنّه من الله لئلّا تفوتهم الرئاسة ، وما كان لهم على أتباعهم من الوظائف المقرّرة ، فنزلت في شأنهم : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) يستبدلون (بِعَهْدِ اللهِ) بما عاهدوا عليه من الإيمان بالرّسول والوفاء بالأمانات (وَأَيْمانِهِمْ) الكاذبة ، وبما حلفوا به من قولهم : والله لنؤمننّ به ولننصرنّه (ثَمَناً قَلِيلاً) متاع الدّنيا من الرئاسة وأخذ الرشا والوظائف ، فإنّه قليل في جنب ما يفوتهم من الثواب الأبدي (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ) لا نصيب وافر لهم (فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) بما يسرّهم ، أوبشيء أصلا ، وإنّ الملائكة يسألونهم يوم القيامة. أو لا

٥١١

ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته. والظاهر أنّه كناية عن غضبه عليهم ، لقوله : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) مجاز عن الاستهانة ، فإنّ من سخط على غيره واستهان به أعرض عنه وعن التكلّم معه والالتفات نحوه ، كما أنّ من أعتدّ بغيره يقاوله ويكثر النظر إليه (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ولا يثني عليهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) على ما فعلوه.

قيل : نزلت هذه الآية في ترافع كان بين الأشعث بن قيس ويهوديّ في بئر أو أرض قام ليحلف عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا نزلت هذه الآية نكل الأشعث واعترف بالحقّ وردّ الأرض.

وعن ابن مسعود قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أخيه المسلّم ، لقي الله وهو عليه غضبان ، وتلا هذه الآية».

وروي مسلّم بن الحجّاج في الصحيح بإسناده من عدّة طرق عن أبي ذرّ الغفاري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكّيهم ، ولهم عذاب أليم : المنّان الّذي لا يعطي شيئا إلّا منّة ، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر ، والمسبل إزاره» (١).

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً) يعني : المحرّفين ، ككعب ومالك وحييّ (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) يفتلونها بقراءته ، فيميلونها عن المنزل إلى المحرّف ، أو يعطفونها بشبه الكتاب (لِتَحْسَبُوهُ) لتظنّوه أيّها المسلمون (مِنَ الْكِتابِ) من كتاب الله المنزل على موسى عليه‌السلام (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) الضمير للمحرّف المدلول عليه بقوله : «يلوون» أي : لا يكون ذلك المحرّف من التوراة ، ولكنّهم يخترعونه.

(وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : ليس هذا نازلا من عند الله. وهذا تأكيد لقوله : (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) وزيادة تشنيع عليهم وتسجيل بالكذب ، ودلالة على أنّهم لا يعرّضون ولا يورون ، وإنّما يصرّحون بأنّه في التوراة

__________________

(١) صحيح مسلّم ١ : ١٠٢ ح ١٧١.

٥١٢

هكذا ، وقد أنزل الله تعالى على موسى كذلك ، لفرط جرأتهم على الله ، وقساوة قلوبهم ، ويأسهم من الآخرة. (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تأكيد وتسجيل عليهم بالكذب على الله والتعمّد فيه.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

قيل : إنّ أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران قالا : يا محمّد أتريد أن نعبدك ونتّخذك إلها؟ فقال : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غير الله ، ما بذلك بعثني ، ولا بذلك أمرني ، فنزلت : (ما كانَ) أي : ما ينبغي ، أو لا يحلّ (لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) أي : علم الشريعة (وَالنُّبُوَّةَ) أي : الرسالة إلى الخلق (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) أي : اعبدوني من دون الله. وقيل : ذلك تكذيب وردّ على عبدة عيسى.

وقيل : قال رجل : يا رسول الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك؟ قال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيّكم ، واعرفوا الحقّ لأهله.

(وَلكِنْ) يقول (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) الربّاني منسوب إلى الربّ بزيادة «الألف والنون ، كاللحياني والرقباني. وهو الذي يكون شديد التمسّك بدين الله وطاعته ، يعني : الكامل في العلم والعمل. (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)

٥١٣

بسبب كونكم معلّمين الكتاب ، وبسبب كونكم دارسين له ، فإنّ فائدة التعليم والتعلّم معرفة الحقّ والخير للاعتقاد والعمل. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب : تعلمون بمعنى عالمين.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) نصبه ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب عطفا على «ثم يقول» ، وتكون «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله : «ما كان» ، أي : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثمّ يأمر الناس بعبادة نفسه ، ويأمر باتّخاذ الملائكة والنبيّين أربابا. أو غير مزيدة ، على معنى أنّه ليس له أن يأمر بعبادته ، ولا يأمر باتّخاذ أكفائه أربابا ، بل ينهى عنه.

ويؤيّد ما روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة ، وينهى اليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح ، فلمّا قالوا له : أنتّخذك ربّا؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ، ثمّ يأمر الناس بعبادته ، وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء.

ورفعه الباقون على الاستئناف ، ويحتمل الحال.

(أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ) إنكار ، والضمير فيه للبشر. وقيل : لله. (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) معتقدون التوحيد. والمعنى : أنّ الله إنما يبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليدعو النّاس إلى الإيمان ، فكيف يدعو المسلمين إلى الكفر؟ وهذا دليل على أنّ الخطاب للمسلمين ، وهم المستأذنون لأن يسجدوا له.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ

٥١٤

إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)) (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩))

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) قيل : إنّه على ظاهره. وإذا كان هذا حكم الأنبياء كان الأمم به أولى.

وعن الصادق عليه‌السلام : أنّ المعنى : وإذ أخذ الله ميثاق أمم النبيّين كلّ أمّة بتصديق

٥١٥

نبيّها والعمل بما جاءهم به ، فما وفوا به ، وتركوا كثيرا من شرائعهم.

وقيل : معناه : أنّه تعالى أخذ الميثاق من النبيّين وأممهم ، واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم.

وقيل : إضافة الميثاق إلى النبيّين إضافة إلى الفاعل. والمعنى : وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثّقه الأنبياء على أممهم.

وقيل : المراد أولاد النبيّين ، على حذف المضاف ، وهم بنو إسرائيل. أو سمّاهم نبيّين تهكّما ، لأنّهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوّة من محمّد ، لأنّا أهل الكتاب ، والنبيّون كانوا منّا.

(لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) اللام في «لما آتيتكم» توطئة للقسم. لأنّ أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف. و «ما» تحتمل الشرطيّة. و «لتؤمننّ» سادّ مسدّ جواب القسم والشرط.

وقرأ حمزة لما بالكسر ، على أنّ «ما» مصدريّة ، أي : لأجل إيتائي إيّاكم بعض الكتاب ، ثمّ لمجيء رسول مصدّق ، أو موصولة ، والمعنى : أخذه للّذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدّق له.

(قالَ) أي : قال الله تعالى لأنبيائه (أَأَقْرَرْتُمْ) وصدّقتموه (وَأَخَذْتُمْ) أي : قبلتم (عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) أي : عهدي ، سمّي به لأنّه ممّا يؤصر ، أي : يشدّ. ونظيره : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) (١).

(قالُوا) أي : الأنبياء وأممهم (أَقْرَرْنا) بما أمرتنا بالإقرار به (قالَ فَاشْهَدُوا) أي : فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار. وقيل : الخطاب فيه للملائكة. (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) وأنا أيضا على إقراركم وتشاهدكم شاهد. وهو توكيد

__________________

(١) المائدة : ٤١.

٥١٦

بليغ وتحذير عظيم من الرجوع.

روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لم يبعث الله نبيّا إلّا أخذ عليه العهد لئن بعث الله محمّدا ليؤمننّ به ولينصرنّه ، وأمره بأن يأخذ العهد بذلك على أمّته».

(فَمَنْ تَوَلَّى) أي : فمن أعرض عن الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بَعْدَ ذلِكَ) بعد الميثاق والتوكيد بالإقرار والشهادة (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) المتمرّدون من الكفّار. ولم يقل : الكافرون ، لأنّ المراد الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتب الكفر بتمرّدهم ، وذلك لأنّ أصل الفسق الخروج عن أمر الله إلى حال توبقه (١) ، وفي الكفر ما هو أكبر.

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) عطف على الجملة المتقدّمة ، والهمزة متوسّطة بينهما للإنكار ، أو على محذوف ، تقديره : أيتولّون فغير دين الله يبغون. وتقديم المفعول لأنّه المقصود بالإنكار ، من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجّه إلى المعبود بالباطل. والفعل بلفظ الغيبة عند أبي عمرو وعاصم في رواية حفص ويعقوب ، وبالتاء عند الباقين على تقدير : وقل لهم.

(وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً) أي : طائعين بالنظر واتّباع الحجّة (وَكَرْهاً) أي : كارهين بالسّيف ومعاينة ما يلجئ إلى الإسلام ، كنتق (٢) الجبل ، وإدراك الغرق (٣) ، والإشراف على الموت. وقيل : طوعا لأهل السّموات خاصّة ، وأمّا أهل الأرض فمنهم من أسلم طوعا بالنظر في الأدلّة ، ومنهم من أسلّم كرها بالسيف أو غيره من الأسباب الملجئة إلى الإسلام. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ). وقرأ حفص ويعقوب بالياء على أنّ الضمير لـ «من».

__________________

(١) أي : تهلكه.

(٢) الأعراف : ١٧١.

(٣) يونس : ٩٠.

٥١٧

(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ) خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمر له بأن يخبر عن نفسه وعن متابعيه بالإيمان بالله ، فلذلك وحدّ الضمير في «قل» وجمع في «آمنّا».

(وَما أُنْزِلَ) أي : وبما أنزل (عَلَيْنا) وهو القرآن ، فإنّه كما أنزل عليه أنزل عليهم بتوسّط تبليغه إليهم. وأيضا المنسوب إلى واحد من الجمع ينسب إليهم. أو بأن يتكلّم عن نفسه على طريقة الملوك ، إجلالا من الله لقدر نبيّه. والنزول كما يعدّى بـ «إلى» لأنّه ينتهي إلى الرسل ، يعدّى بـ «على» لأنّه من فوق ، فجاء تارة بأحد المعنيين والاخرى بالآخر. وإنّما قدّم المنزل عليه على المنزل على سائر الرسل لأنّه المعرّف له.

(وَما أُنْزِلَ) وبما أنزل (عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بالتصديق والتكذيب (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) منقادون ، أو مخلصون أنفسنا في عبادته ، لا نجعل له شريكا فيها.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) أي : غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) بل يعاقب عليه (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواقعين في الخسران مطلقا من غير تقييد للشياع. والمعنى : أنّ المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع ، واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها.

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) استبعاد لأن يهديهم الله ، فإنّ المائل عن الحقّ بعد ما وضح له منهمك في الضلال ، بعيد عن الرشاد ، فيبعد تأثير التوفيق واللطف فيه. و «شهدوا» عطف على ما في «إيمانهم» من معنى الفعل ، تقديره : بعد أن آمنوا وشهدوا. ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار «قد» ، أي : كفروا وقد شهدوا أنّ الرسول حقّ.

٥١٨

ومعنى الآية : كيف يهديهم الله إلى طريق الإيمان ، وقد تركوا هذا الطريق؟! وقيل : معناه : كيف يلطف بهم الله وليسوا من أهل اللطف ، لما علم من تصميمهم على الكفر؟! ودلّ على تصميمهم أنّهم كفروا بعد ما شهدوا بأنّ الرسول حقّ ، وبعد ما جاءتهم المعجزات التي تثبت النبوّة.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ، ووضع الكفر موضع الإيمان ، فكيف من جاءهم الحقّ وعرفه ثم أعرض عنه ، أي : الله لا يسلك بالقوم الظالمين مسلك المهتدين ، ولا يثيبهم ولا يهديهم إلى طريق الجنّة ، بل (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ) على أعمالهم وعقيدتهم (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هي إبعاده إيّاهم من رحمته ومغفرته ، وهي دعاؤهم عليهم باللعنة ، وبأن يبعّدهم الله من رحمته.

(خالِدِينَ فِيها) أي : في اللعنة ، لخلودهم فيما استحقّوا باللعنة ، وهو العذاب (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لا يسهّل عليهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ولا يمهلون للتوبة ، ولا يؤخّر عنهم العذاب من وقت إلى وقت.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد الارتداد (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا. ويجوز أن لا يقدّر له مفعول ، بمعنى : ودخلوا في الصلاح (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يقبل توبته (رَحِيمٌ) يتفضّل عليه.

قيل : إنّها نزلت في الحارث بن سويد بن الصامت ، وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدرا ، وهرب وارتدّ عن الإسلام ، ولحق بمكّة ، ثمّ حين ندم على ردّته ، فأرسل إلى قومه أن يسألوا هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه الجلاس بهذه الآية ، فرجع إلى المدينة فتاب.

وقيل : نزلت في أهل الكتاب الّذين كانوا يؤمنون بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مبعثه ، ثمّ كفروا بعد البعثة حسدا وبغيا. والقول الأوّل مرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

٥١٩

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))

ولمّا تقدّم ذكر التوبة المقبولة عقّبه سبحانه بما لا يقبل منها ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) كاليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد الإيمان بموسى عليه‌السلام والتوراة ، ثمّ ازدادوا كفرا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن. أو كفروا بمحمد بعد ما آمنوا به قبل مبعثه ، ثمّ ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والطعن فيه ، والصدّ عن الإيمان ، ونقض الميثاق. أو كقوم ارتدّوا ولحقوا بمكّة ، ثمّ ازدادوا كفرا بقولهم : نتربّص بمحمد ريب المنون ، أو نرجع إليه وننافقه بإظهار التوبة. (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لأنّها لم تقع على وجه الإخلاص. ويدلّ عليه قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) عن الحقّ ، الثابتون على الضلال.

وقيل : لن تقبل توبتهم عند رؤية اليأس. والمعنى : أنّهم لا يتوبون إلّا عند معاينة الموت ، أو لا يتوبون إلّا نفاقا ، لا لارتدادهم وزيادة كفرهم ، ولذلك لم تدخل الفاء فيه ، لأنّ الكفر والزيادة لا يكون سبب عدم قبول التوبة ، بل عدم التوبة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) لمّا كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية أدخل الفاء هنا للإشعار به. وملء

٥٢٠