زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

عليها ، ووصفها بزيادة الطاعة والزلفى عند الله.

وقوله : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) إيذان بأنّ تزكية الله هي الّتي يعتدّ بها ، دون تزكية المرء نفسه ، لأنّه سبحانه هو العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح ، وقد ذمّهم وزكّى المرتضين من عباده المؤمنين (وَلا يُظْلَمُونَ) لا يظلم الّذين يزكّون أنفسهم بالذمّ أو العقاب على تزكيتهم أنفسهم بغير حقّ (فَتِيلاً) أدنى ظلم وأصغره. وهو الخيط الذي في شقّ النواة ، يضرب به المثل في الحقارة.

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في زعمهم أنّهم أبناء الله وأزكياء عنده (وَكَفى بِهِ) بزعمهم هذا ، أو بالافتراء (إِثْماً مُبِيناً) بيّنا ظاهرا ، لا يخفى كونه مأثما من بين سائر آثامهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢))

روي أنّ حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف خرجا مع جماعة من اليهود إلى مكّة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على محاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وينقضوا العهد الّذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فنزل كعب على أبي سفيان ، فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش. فقال أهل مكّة : إنّكم أهل الكتاب ومحمّد صاحب الكتاب ، فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم ، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين ـ أعني : الجبت والطاغوت ـ وآمنوا بهما حتى نطمئنّ إليكم ، ففعلوا ذلك.

٨١

ثم قال كعب : يا أهل مكّة ليجيء منكم ثلاثون ، ومنّا ثلاثون ، فنلزق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنّ على قتال محمد ، ففعلوا ذلك.

فلمّا فرغوا قال أبو سفيان لكعب : إنّك امرئ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أمّيّون لا نعلم ، فأيّنا أهدى طريقا وأقرب إلى الحقّ ، نحن أم محمد؟

قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم.

فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء (١) ، ونسقيهم الماء ، ونقري الضيف ، ونفكّ العاني (٢) ، ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربّنا ، ونطوف به ، ونحن أهل الحرم. ومحمد فارق دين آبائه ، وقطع الرحم ، وفارق الحرم. وديننا القديم ، ودين محمد الحديث.

فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا ممّا عليه محمّد.

فقال الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) يعني : كعب وأصحابه (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) بالصنمين اللّذين كانا لقريش ، وسجد لهما كعب. والجبت في الأصل اسم صنم ، فاستعمل في كلّ ما عبد من دون الله تعالى. وقيل : أصله الجبس ، وهو الّذي لا خير فيه ، فقلبت سينه تاء. والطاغوت يطلق لكلّ باطل من معبود أو غيره. (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لأجلهم وفيهم. وهم أبو سفيان وأحزابه. (هؤُلاءِ) إشارة إليهم (أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) محمد وأصحابه (سَبِيلاً) أي : أقواهم دينا وأشدّهم طريقا.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم الله من رحمته وخذلهم (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ) يلعنه الله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) في الدنيا والآخرة يمنع العذاب عنه بشفاعة وغيرها.

__________________

(١) الكوماء : البعير الضخم السنام ، والمذكّر : الأكوم ، وجمعه : كوم.

(٢) العاني : الأسير.

٨٢

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥))

ولمّا حكى عن اليهود بأنّ المشركين أهدى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، بيّن أنّ الحكم ليس لهم ، إذ الملك ليس لهم ، فقال : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) «أم» منقطعة. ومعنى الهمزة إنكار أن يكون لهم حظّ من الملك ، وجحد لما زعمت اليهود من أنّ الملك سيصير إليهم (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) أي : لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحدا ما يوازي نقيرا ، وهو النقرة في ظهر النواة. وهذا هو الإغراق في بيان شحّهم ، فإنّهم إذا كانوا يبخلون بالنقير وهم ملوك فما ظنّك بهم إذا كانوا فقراء أذلّاء متفاقرين؟! و «إذا» إذا وقع بعد الواو والفاء جاز فيه الإلغاء والإعمال ، ولذلك قرئ في الشواذّ : فإذا لا يؤتوا ، على النصب.

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) بل أيحسدون الرسول وأصحابه على ما آتاهم الله من النبوّة والنصرة وزيادة العزّ كلّ يوم ، أو العرب أو الناس جميعا ، لأنّ من حسد النبوّة فكأنّما حسد الناس كلّهم ، كمالهم ورشدهم. وبّخهم الله وأنكر عليهم الحسد كما ذمّهم على البخل ، وهما شرّ الرذائل ، وكأنّ بينهما تلازما وتجاذبا (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني : النبوّة والكتاب ، والنصرة

٨٣

والإعزاز ، وجعل النبيّ الموعود منهم (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) الّذين هم أسلاف محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبناء عمّه (الْكِتابَ) وهو التوراة والإنجيل والزبور (وَالْحِكْمَةَ) النبوّة والعلم (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) وهو ملك يوسف وداود وسليمان ، فلا يبعد أن يؤتيه الله مثل ما آتاهم. وعن مجاهد والحسن : المراد بالملك العظيم النبوّة.

(فَمِنْهُمْ) أي : من اليهود (مَنْ آمَنَ بِهِ) بمحمّد ، أو بما ذكر من حديث آل إبراهيم عليه‌السلام (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) أعرض عنه وأنكر ولم يؤمن به مع علمه بصحّته.

وقيل : معناه : فمن آل إبراهيم من آمن به ، ومنهم من كفر ، كقوله : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (١) ، ولم يكن في ذلك توهين أمر إبراهيم عليه‌السلام ، فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك.

(وَكَفى) هؤلاء المعرضين عنه (بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) نارا مسعورة موقدة يعذّبون بها ، أي : إن لم يعجلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعدّ لهم من سعير جهنّم.

وفي تفسير العيّاشي بإسناده عن أبي الصبّاح الكناني قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا الصبّاح نحن قوم فرض الله طاعتنا ، لنا الأنفال ، ولنا صفو المال ، ونحن الراسخون في العلم ، ونحن المحسودون الّذين قال الله تعالى في كتابه : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) (٢) الآيتان. فقال : المراد بالكتاب النبوّة ، وبالحكمة الفهم والقضاء ، وبالملك العظيم افتراض الطاعات.

__________________

(١) الحديد : ٢٦.

(٢) تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٧ ح ١٥٥.

٨٤

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧))

ولمّا تقدّم ذكر المؤمن والكافر عقّبه بذكر الوعد والوعيد على الإيمان والكفر ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) جحدوا حججنا ، وكذّبوا أنبياءنا ، ودفعوا الآيات الدالّة على توحيدنا وصدق نبيّنا (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) نلقيهم فيها ، نلزمهم إيّاها ونحرقهم بها. هذا كالبيان والتقرير للآية المتقدّمة. (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة اخرى ، كقولك : بدّلت الخاتم قرطا (١) ، أو بأن يزال عنه أثر الإحراق ليعود إحساسه للعذاب ، كما قال : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أي : ليدوم لهم ذوقه.

وقيل : يخلق لهم مكانه جلد آخر ، والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدركة لا لآلة إدراكها ، فلا يقال : كيف يعذّب مكان الجلود العاصية جلودا لم تعص.

روى الكلبي عن الحسن قال : بلغنا أنّ جلودهم تنضج كلّ يوم سبعين ألف مرّة.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) لا يمتنع عليه إنجاز ما وعده به ، ولا يمنع ما يريده

__________________

(١) القرط : ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة ونحوها.

٨٥

(حَكِيماً) لا يعاقب إلا من يستحقّ العذاب على وفق حكمته.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) بكلّ ما يجب الايمان به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الخالصة (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت أشجارها وقصورها (الْأَنْهارُ) ماء الأنهار (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) قدّم ذكر الكفّار ووعيدهم على ذكر المؤمنين ووعدهم ، لأنّ الكلام فيهم وذكر المؤمنين بالعرض.

(لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) طهرت من الحيض والنفاس ، ومن سائر المعائب والأدناس ، والأخلاق الذميمة والطباع الرديئة ، ولا يفعلن ما يوحش أزواجهنّ ، ولا يوجد فيهنّ ما ينفّر عنهنّ. (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) هو صفة مشتقّة من الظلّ لتأكيده ، كقولهم : شمس شامس ، ويوم أيوم ، وليل أليل ، وداهية دهياء. والمعنى : ندخلهم فينانا (١) لا جوب فيه ، أي : كثير الأفنان منبسطا متّصلا لا فرج فيه ، لشدّة التفاف الأشجار دائما لا تنسخه الشمس. وهو إشارة إلى النعمة التامّة الدائمة.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨))

ثم أمر الله سبحانه عباده بردّ الأمانة إلى أهلها ، وبالحكومة على طريق العدالة ، فإنّهما من معظم الأمور الّتي بها تنتظم أمور المعاش ، وبها يحصل الفوز يوم المعاد ، فلذا خصّصه بين الأعمال الصالحة الّتي تثمر الوصول إلى جنّات قد مرّ نعتها آنفا ، فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) خطاب عامّ لكلّ أحد من المكلّفين في كلّ أمانة من أمانات الله الّتي هي أوامره ونواهيه ، وأمانات عباده فيما

__________________

(١) أي : ظلّا طويلا ممتدّا. والجوب : جمع جوبة ، وهي الفرجة. والفنن : الغصن المستقيم ، جمعه : أفنان.

٨٦

يأتمن بعضهم بعضا فيه من المال وغيره.

قال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّ أداء الصلاة والزكاة والصوم والحجّ من الأمانة».

ويكون من جملتها الأمر لولاة الأمر بأن يقسّموا الصدقات والغنائم ، وغير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة.

وهذا القول مرويّ عن ابن عبّاس وأبيّ بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة ، ومأثور عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

وقيل : الخطاب لولاة الأمر ، أمرهم الله أن يقوموا برعاية الرعيّة ، وحملهم على اتّخاذ أحكام الشريعة والحكم بالعدل ، ثم أمر الرعيّة في الآية المتأخّرة بأن يسمعوا لهم ويطيعوا ، ثم أكّد ذلك بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (١).

وروي ذلك عن زيد بن أسلم ومكحول وشهر بن حوشب. وهو اختيار الجبائي. ورواه أصحابنا عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق عليهما‌السلام ، قالا : «أمر الله سبحانه كلّ واحد من الأئمّة أن يسلّم الأمر إلى من بعده. ثم قالا : إنّ الآية الأولى لنا ، والأخرى لكم».

وعن ابن جريج أنّه خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بردّ مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة بن عبد الدار ، لمّا أغلق باب الكعبة يوم الفتح ، وأبى أن يدفع المفتاح ليدخل فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : لو علمت أنّه رسول الله لم أمنعه ، فلوى عليّ عليه‌السلام يده وأخذه منه وفتح ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلّى ركعتين. فلمّا خرج سأله العبّاس رضى الله عنه أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة ، فأمره الله تعالى أن يردّه إليه ، فأمر عليّا عليه‌السلام أن يردّه ، وصار ذلك سببا لإسلامه ، ونزل الوحي بأنّ السدانة في أولاده أبدا.

والمعوّل على ما تقدّم ، وإن صحّ القول الأخير والرواية فيه ، فقد دلّ الدليل على أنّ الأمر إذا ورد على سبب لا يجب قصره عليه ، بل يكون على عمومه. وفي ذكر الأمانات بصيغة الجمع المحلّى باللام الّتي تفيد العموم ، كما قرّر في علم

__________________

(١) النساء : ٥٩.

٨٧

الأصول ، دلالة صريحة على العموم ، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة.

(وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أي : يأمركم أن تحكموا بالإنصاف والسويّة إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم. ولمّا كان الحكم وظيفة الولاة فالخطاب لهم ، كما بيّنّاه بالروايات الصحيحة المأثورة عن أئمّتنا صلوات الله عليهم. ونظيره قوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) (١).

وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ عليه‌السلام : «سوّ بين الخصمين في لحظك ولفظك».

وورد في الآثار أن صبيّين ارتفعا إلى الحسن بن عليّ عليه‌السلام في خطّ كتباه ، وحكّماه في ذلك ليحكم أيّ الخطّين أجود ، فبصر به عليّ عليه‌السلام فقال : «يا بنيّ انظر كيف تحكم ، فإنّ هذا حكم ، والله سائلك عنه يوم القيامة».

(إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) أي : نعم شيئا يعظكم به. فتكون «ما» نكرة منصوبة موصوفة بـ «يعظكم به». أو : نعم الشيء الّذي يعظكم به. فتكون «ما» مرفوعة موصولة به. والمخصوص بالمدح محذوف على كلا التقديرين ، أي : نعم ما يعظكم به ذاك ، أي : المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكومات.

(إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) بأقوالكم وأحكامكم وما تفعلون في الأمانات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

ولمّا بدأ سبحانه في الآية المتقدّمة بحثّ الولاة على تأدية حقوق الرعيّة ،

__________________

(١) ص : ٢٦.

٨٨

والنصفة والسويّة بين البريّة ، عقّبها بحثّ الرعيّة على طاعتهم ، والاقتداء بهم ، والردّ إليهم في ترافعهم وتخاصمهم ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) الزموا طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) والزموا طاعة رسوله في الأمر والنهي. وإنّما أفرد الأمر بطاعة الرسول ، وإن كانت طاعته طاعة الله سبحانه ، مبالغة في البيان ، وقطعا لتوهّم من توهّم أنّه لا يجب لزوم ما ليس في القرآن من الأوامر.

ونظيره قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١). (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٢). (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٣).

وقيل : معناه : أطيعوا الله في الفرائض ، والرسول في السنن. والأوّل أصحّ ، لأنّ طاعة الرسول طاعة الله ، وامتثال أوامره امتثال أوامر الله ، كما دلّت عليه الآيات المذكورة.

(وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) للمفسّرين (٤) فيه قولان :

أحدهما : أنّ المراد منهم الأمراء. وهو مرويّ عن ابن عبّاس وأبي هريرة وميمون بن مهران والسدّي. واختاره الجبائي والبلخي.

وثانيهما : أنّهم العلماء ، لأنّهم الّذين يرجع إليهم في الأحكام ، ويجب الرجوع إليهم عند التنازع ، دون الولاة. وهو منقول عن جابر بن عبد الله وابن عبّاس في رواية اخرى.

وأمّا أصحابنا رضوان الله عليهم فإنّهم رووا عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أنّ أولي الأمر هم الأئمّة من آل محمّد عليهم‌السلام ،أوجب الله طاعتهم بالإطلاق ، كما أوجب

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) الحشر : ٧.

(٣) النجم : ٣ ـ ٤.

(٤) انظر الكشّاف ١ : ٥٢٤ ، مجمع البيان ٢ : ٦٤ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٩٤ ـ ٩٥.

٨٩

طاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولا يجوز أن يوجب الله سبحانه طاعة أحد على الإطلاق إلّا من ثبتت عصمته ، وعلم أنّ باطنه كظاهره ، وأمن منه الغلط والأمر بالقبيح ، وليس ذلك بحاصل في الأمراء والعلماء سواهم. وجلّ سبحانه عن أن يأمر بطاعة من يعصيه ، أو بالانقياد للمختلفين في القول والفعل ، لأنّه محال أن يطاع المختلفون ، كما أنّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه.

وممّا يدلّ على ذلك أيضا أنّ الله سبحانه لم يقرن طاعة أولي الأمر بطاعة رسوله ، كما قرن طاعة رسوله بطاعته ، إلّا وأولوا الأمر فوق الخلق جميعا ، كما أنّ الرسول فوق أولي الأمر وفوق سائر الخلق ، معصومون مأمونون عن الخطأ والقبح ، كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فهذه صفة أئمّة الهدى من آل محمّد صلّى الله عليهم ، الّذين ثبتت إمامتهم وعصمتهم ، واتّفقت الأمّة على علوّ رتبتهم وعدالتهم ، وكيف يأمرنا الله مطلقا بطاعة من كان مثلنا في جواز صدور الخطأ والعصيان والسهو والنسيان منه؟! (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) أي : فإن اختلفتم في شيء من أمور دينكم (فَرُدُّوهُ) فردّوا التنازع (إِلَى اللهِ) إلى كتاب الله (وَالرَّسُولِ) وإلى سنّة رسوله في حياته ، وإلى من أمر بالرجوع إليه بعد وفاته في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي تارك فيكم الثقلين ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».

فقد صرّح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ في التمسّك بهما الأمان من الضلال ، فالردّ إلى أهل بيته ـ الّذين هم معادلو كتاب الله بعد وفاته ـ مثل الردّ إليه في حياته ، فإنّهم الحافظون لشريعته ، القائمون مقامه ، وخلفاؤه لأمّته. فثبت أنّ أولي الأمر هم الأئمّة المعصومون صلوات الله عليهم من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فكأنّه قال سبحانه : فردّوه إلى الله وإلى الرسول في حياته ، وأهل بيته بعد وفاته. (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإنّ الإيمان يوجب ذلك.

٩٠

(ذلِكَ) إشارة إلى الردّ إلى الله والرسول وأهل بيته (خَيْرٌ) لكم (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي : أحمد عاقبة. وتسمية العاقبة تأويلا لأنّها مآل الأمر ، من : آل يؤول ، إذا رجع ، والمآل المرجع.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))

ولمّا أمر الله سبحانه أولي الأمر بالحكم ، وأمر المسلمين بطاعتهم ، وصل ذلك بذكر المنافقين الّذين لا يرضون بحكم الله ورسوله ، فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من التوراة والإنجيل (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) إلى من يحكم بالباطل ، ويؤثر لأجله. سمّي بذلك لفرط طغيانه ، أو لتشبّهه بالشيطان ، أو لأنّ التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنّه الحامل.

٩١

وأكثر المفسّرين (١) قالوا : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة ، فقال له اليهودي : أحاكم إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة ، ولا يجور في الحكم. فقال المنافق : لا بل بيني وبينك كعب بن الأشرف ، لأنّه علم أنّه يأخذ الرشوة ، فنزلت. فالمراد بالطاغوت كعب بن الأشرف ، لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ونقل عن العامّة (٢) أنّ منافقا خاصم يهوديّا ، فدعاه اليهوديّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف. ثم إنّهما احتكما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحكم لليهوديّ ، فلم يرض المنافق ، وقال : نتحاكم إلى عمر. فقال اليهودي لعمر : قضى لي رسول الله فلم يرض بقضائه ، وخاصم إليك. فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ فقال : نعم.

فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل فأخذ سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضي لمن لم يؤمن بقضاء الله ورسوله ، فنزلت.

وقال جبرئيل : إنّ عمر فرّق بين الحقّ والباطل ، فسمّي الفاروق.

أقول : وا عجباه من قوله : هكذا أقضي لمن لم يؤمن بقضاء الله ، ومن مخالفته حكم الله وحكم رسوله يوم الغدير ، وعدم إيمانه به بعد أن قال مخاطبا لعليّ عليه‌السلام : بخ بخ لك يا أبا الحسن ، صرت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وروى أصحابنا عن السيّدين الباقر والصادق عليهما‌السلام أنّ المعنيّ به كلّ من يتحاكم إليه ممّن يحكم بغير الحقّ. وهذا هو الحقّ.

(وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) يعني به قوله سبحانه : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) (٣). (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ)

__________________

(١) انظر مجمع البيان ٢ : ٦٦.

(٢) انظر الكشّاف ١ : ٥٢٥ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٩٥.

(٣) البقرة : ٢٥٦.

٩٢

بتزيين الباطل وتسويله إيّاه صورة الحقّ (أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) عن الحقّ.

نسب إضلالهم إلى الشيطان ، فلو كان سبحانه قد أضلّهم بخلق الضلال فيهم ـ على ما يقوله المجبّرة ـ لنسب إضلالهم إلى نفسه دون الشيطان ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) في القرآن من الأحكام (وَإِلَى الرَّسُولِ) في حكمه (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ) في موقع الحال ، أي : حال كونهم يعرضون (عَنْكَ) عن حكمك (صُدُوداً) إعراضا. هو مصدر أو اسم للمصدر الّذي هو الصّدّ. والفرق بينه وبين السّدّ أنّه غير محسوس ، والسّدّ محسوس.

(فَكَيْفَ) يكون حالهم (إِذا أَصابَتْهُمْ) نالتهم من الله (مُصِيبَةٌ) عقوبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من التحاكم إلى غيرك ، وعدم الرضا بحكمك ، وإظهار السخط به (ثُمَّ جاؤُكَ) فيعتذرون إليك. عطف على «أصابتهم». وقيل : على «يصدّون» وما بينهما اعتراض. (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) حال من فاعل «جاءوك» (إِنْ أَرَدْنا) ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك (إِلَّا إِحْساناً) وهو التخفيف عنك ، فإنّا نحتشمك برفع الصوت في مجلسك ، ونقتصر على من يتوسّط لنا برضا الخصمين (وَتَوْفِيقاً) وتأليفا وجمعا بينهما من دون أن يحكم بينهما ، ولم نرد المخالفة لذلك ، والتسخّط لحكمك.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الشرك والنفاق ، فلا يغني عنهم الكتمان والحلف الكاذب من العقاب (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي : عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم ، أو عن قبول معذرتهم (وَعِظْهُمْ) بلسانك ، وكفّهم عمّا هم عليه (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي : في معنى أنفسهم من النفاق (قَوْلاً بَلِيغاً) يبلغ من نفوسهم كلّ مبلغ ، ويؤثّر فيهم على وجه لم يعيدوا بمثل ما فعلوا من التحاكم إلى الطاغوت ، وغيره من آثار النفاق ، بأن تخوّفهم بالقتل والاستئصال إن ظهر منهم

٩٣

النفاق.

ويجوز أن يكون المعنى : وقل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم قولا بليغا أثره فيهم ، فإنّ النصح في السرّ أنجع.

أمر الله تعالى نبيّه بالصفح عن ذنوبهم ، والنصح لهم ، والمبالغة فيه بالترغيب والترهيب ، وذلك مقتضى شفقة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

وتعليق الظرف بـ «بليغا» على معنى : بليغا في أنفسهم مؤثّرا فيها ، ضعيف ، لأنّ معمول الصفة لا يتقدّم على الموصوف. والقول البليغ في الأصل هو الّذي يطابق مدلوله المقصود به.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤))

ثم لامهم سبحانه على ردّهم أمره ، وذكر أنّ غرضه من البعثة الطاعة ، فقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ) أي : لم نرسل رسولا من رسلنا قطّ (إِلَّا لِيُطاعَ) أي : الغرض من الإرسال أن يطاع الرسول ، ويمتثل ما يأمر به (بِإِذْنِ اللهِ) أي : بسبب إذن الله في طاعته ، وأمره المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتّبعوه ، لأنّه مؤدّ عن الله ، فطاعته طاعة الله ، ومعصيته معصية الله. وكأنّه سبحانه احتجّ بذلك على أنّ الّذي لم يرض بحكمه وإن أظهر الإسلام كان كافرا مستحقّ القتل ، فإنّ تقديره : أنّ إرسال الرسول لمّا لم يكن إلّا ليطاع كان من لم يطعه ولم يرض بحكمه لم يقبل رسالته ، ومن كان كذلك كان كافرا مستوجب القتل.

وفيه دلالة على بطلان مذهب المجبّرة القائلين بأنّ الله تعالى يريد أن يعصي أنبياءه قوم ويطيعهم آخرون.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بإدخال الضرر عليها من استحقاق العقاب

٩٤

بالنفاق أو التحاكم إلى الطاغوت (جاؤُكَ) تائبين من ذلك ، مقبلين عليك ، مؤمنين بك. وهو خبر «أنّ» ، و «إذ» متعلّق به. (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) من ذلك بالتوبة والإخلاص (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) أي : واعتذروا إليك حتّى انتصبت لهم شفيعا.

وإنّما عدل عن الخطاب ولم يقل : واستغفرت لهم ، على طريقة الالتفات ، تفخيما لشأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتعظيما لاستغفاره ، وتنبيها على أنّ شفاعة من اسمه رسول الله من الله بمكان ، وسريع الاجابة البتّة ، وأنّ حقّ الرسول أن يقبل اعتذار التائب وإن عظم جرمه ويشفع له ، ومن منصبه أن يشفع في كبائر الذنوب.

(لَوَجَدُوا اللهَ) أي : لعلموه (تَوَّاباً رَحِيماً) قابلا لتوبتهم ، متفضّلا عليهم بالرحمة. وإن فسّر «وجد» بـ «صادف» كان «توّابا» حالا ، و «رحيما» بدلا منه ، أو حالا من الضمير فيه.

وفي الآية دلالة على أنّ مرتكب الكبيرة إذا استغفر وتاب يقبل الله توبته ، ولا يعذّبه بها.

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

ثم بيّن سبحانه أنّ الإيمان به إنّما هو بالتزام حكم رسوله والرضا به ، فقال : (فَلا وَرَبِّكَ) أي : فو ربّك. و «لا» مزيدة لتأكيد القسم ، لا لتظاهر «لا» في جوابه ، أعني : قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) ، لأنّها تزاد أيضا في الإثبات ، كقوله : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (١). (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي : فيما اختلف بينهم واختلط ، ومنه الشجر ، لتداخل أغصانه وأجزائه (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً) ضيقا

__________________

(١) البلد : ١.

٩٥

(مِمَّا قَضَيْتَ) ممّا حكمت به ، أو من حكمك ، أو شكّا من أجله ، فإنّ الشاكّ في ضيق من أمره (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وينقادوا لك ، ويذعنوا لقضائك. و «تسليما» تأكيد للفعل ، أي : انقيادا بظاهرهم وباطنهم.

قيل : نزلت في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة ، فإنّهما اختصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شراج من الحرّة كانا يسقيان بها النخل ـ والشرج : المسيل الواسع ، والجمع الشراج والشروج ، والحرّة (١) بضمّ الحاء : السحاب الكثير المطر ـ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب حاطب وقال : أن كان ابن عمّتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ـ وهو المسنّاة ـ واستوف حقّك ، ثم أرسله إلى جارك.

كان قد أشار اوّلا على الزبير برأي فيه السعة له ولخصمه ، فلمّا أغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استوعب للزبير حقّه في صريح الحكم.

قال الراوي : ثم خرجا فمرّا على المقداد ، فقال : لمن كان القضاء يا أبا بلتعة؟ قال : قضى لابن عمّته ، ولوى شدقه. ففطن لذلك يهوديّ كان مع المقداد فقال : قاتل الله هؤلاء يشهدون أنّه رسول الله ثم يتّهمونه في قضاء يقضي بينهم ، وايم الله لقد أذنبنا مرّة واحدة في حياة موسى عليه‌السلام فدعانا موسى إلى التوبة فقال : اقتلوا أنفسكم ، ففعلنا ، فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربّنا حتّى رضي عنّا.

فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إنّ الله ليعلم منّي الصدق ، ولو أمرني أن أقتل نفسي لفعلت. فأنزل الله تعالى في شأن حاطب بن أبي بلتعة وليّه شدقه

__________________

(١) ما ذكره المفسّر «قدس‌سره» في معنى الحرّة لم نجده في مصادر اللغة ، ولعلّه من سهو قلمه الشريف ، والحرّة ـ بفتح الحاء ـ أرض ذات حجارة سود كأنّها أحرقت بالنار ، وجمعها : الحرّات. والشرج : مسيل الماء من الحرّة إلى السهل ، وجمعه : الشراج.

انظر لسان العرب ٤ : ١٧٩ ـ ١٨٠ ، وج ٢ : ٣٠٦.

٩٦

هذه الآية والّتي بعدها. وقيل : هي أيضا في شأن المنافق واليهوديّ.

روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لو أنّ قوما عبدوا الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجّوا البيت ، ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألّا صنع خلاف ما صنع؟ أو وجدوا من ذلك حرجا في أنفسهم ، لكانوا مشركين ، ثمّ تلا هذه الآية».

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨))

ولمّا بيّن الله أنّ إيمانهم لا يتمّ إلّا بأن يسلّموا تسليما ، نبّه على قصور أكثرهم ، ووهن إسلامهم ، وضعف عقيدتهم ، فقال توبيخا لهم : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) أوجبنا على هؤلاء الّذين تقدّم ذكرهم (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) تعرّضوا بها للقتل بالجهاد ، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل. و «أن» مصدريّة ، أو مفسّرة لـ «أنّا كتبنا» فإنّه في معنى : أمرنا. (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) مثل خروج بني إسرائيل إلى التّيه حين استتيبوا من عبادة العجل.

وقرأ أبو عمرو ويعقوب : أن اقتلوا بكسر النون على أصل التحريك ، أو اخرجوا بضمّ الواو ، للإتباع ، والتشبيه بواو الجمع في نحو : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ) (١).

__________________

(١) البقرة : ٢٣٧.

٩٧

وقرأ عاصم وحمزة بكسرهما على الأصل. والباقون بضمّهما ، إجراء لهما مجرى الهمزة المتّصلة بالفعل.

(ما فَعَلُوهُ) الضمير للمكتوب ، ودلّ عليه «كتبنا» ، أو لأحد مصدري الفعلين ، وهما القتل والخروج ، أي : ما فعلوا ما كتب عليهم أو القتل أو الخروج (إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) إلّا ناس قليل ، وهم المخلصون ، مثل ثابت بن قيس ، ونظائره من المؤمنين الّذين رسخ الإيمان في قلوبهم. وقال النبيّ في شأنهم : «إنّ من أمّتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي».

و «قليل» بدل من ضمير «فعلوه».

وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء ، أو على : فعلا قليلا.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) أي : ما يؤمرون به من متابعة الرسول ومطاوعته طوعا ورغبة والرضا بحكمه (لَكانَ) ذلك (خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) في دينهم ، لأنّه أشدّ لتحصيل العلم ونفي الشكّ. أو تثبيتا لثواب أعمالهم ، ونصبه على التمييز. أو أشدّ بصيرة في أمر الدين ، كنّي به عن البصيرة بهذا اللفظ ، لأنّ من كان على بصيرة من أمر دينه كان أدعى له إلى الثبات عليه ، وكان هو أقوى في اعتقاد الحقّ وأدوم عليه ممّن لم يكن على بصيرة منه.

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) لا يبلغ أحد مبدأه ، ولا يعرف منتهاه ، ولا يدرك قصواه. وإنّما قال : «من لدنّا» تأكيدا بأنه لا يقدر عليه غيره ، وليدلّ على الاختصاص. وهذا جواب لسؤال مقدّر ، كأنّه قيل : وما يكون لهم بعد التثبيت؟ فقال : وإذا لو تثبّتوا لآتيناهم ، لأنّ «إذا» جواب وجزاء.

(وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي : وفّقناهم ليزدادوا الخيرات ، ويثبتوا معها

٩٨

على الطاعات ، أي : هديناهم صراطا يصلون بسلوكه جناب القدس ، ويفتح عليهم أبواب الغيب.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم».

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))

ثم بيّن سبحانه حال المطيعين ، فقال ترغيبا لهم في طاعته وطاعة رسوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) بالانقياد لأمره ونهيه (وَالرَّسُولَ) باتّباع شريعته ، والرضا بحكمه (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي : رفقاء أكرم الخلائق وأعظمهم قدرا عند الله في أعلى علّيّين (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) بيان للّذين ، أو حال منه ، أو من ضميره.

قسّمهم أربعة أقسام بحسب منازلهم في العلم والعمل ، وحثّ كافّة الناس على أن لا يتأخّروا عنهم.

وهم : الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل ، المتجاوزون حدّ الكمال إلى درجة التكميل.

ثم الصدّيقون الّذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات ، وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان ، حتى اطّلعوا على الأشياء ، وأخبروا عنها على ما هي عليها.

ثم الشهداء الّذين أدّى بهم الحرص على الطاعة والجدّ في إظهار الحقّ ، حتى

٩٩

بذلوا مهجهم في إعلاء كلمة الله تعالى.

ثم الصالحون الّذين صرفوا أعمارهم في طاعته ، وأموالهم في مرضاته.

ويمكن أن يقال هاهنا : إنّ المنعم عليهم هم العارفون بالله. وهؤلاء إمّا أن يكونوا بالغين درجة العيان ، أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان. والأوّلون إمّا أن ينالوا مع العيان القرب بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريبا ، وهم الأنبياء ، أو لا ، فيكونون كمن يرى الشيء من بعيد ، وهم الصدّيقون. والآخرون إمّا أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة ، وهم العلماء الراسخون في العلم ، الّذين هم شهداء الله تعالى في أرضه. وإمّا أن يكون بأمارات وإقناعات تطمئنّ إليها نفوسهم ، وهم الصالحون.

ووجه تسمية النبيّين بهذا الاسم أنّهم أخبروا عن الله ، ورفع قدرهم ، مشتقّ من : نبّأ ، بمعنى : أخبر ، أو نبا ينبو ، بمعنى : ارتفع.

وتسمية الصدّيقين به أنّهم المصدّقون بكلّ ما أمر الله به وبأنبيائه ، لا يدخلهم في ذلك شكّ. ويؤيّده قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) (١). أو أنّهم صدقوا في أقوالهم وأفعالهم.

وتسمية الشهداء به أنّهم شاهدون الحقّ على جهة الإخلاص ، ومقرّون به ، وداعون إليه ، وباذلون جهدهم في إظهاره حتى قتلوا. أو أنّهم شهداء الآخرة على الناس ، وإنّما يستشهدهم الله لفضلهم وشرفهم ، فهم عدول الآخرة. أو أنّ الحور العين يحضرن عندهم وقت القتل ، كما ورد في الرواية (٢). أو أن الملائكة يحضرون عندهم ، ويبشّرونهم بمراتبهم العليّة في الجنّة.

وتسمية الصالحين به أنّهم التزموا الصلاح والرشاد ، فصلحت حالهم ،

__________________

(١) الحديد : ١٩.

(٢) ورد بلفظ آخر يشبه ما ذكره في المتن ، راجع بحار الأنوار ٢٧ : ١٨٨.

١٠٠