زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ولا تنقصوهم حقوقهم. وإنّما قال : «أشياءهم» للتعميم ، تنبيها على أنّهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير. وقيل : كانوا مكّاسين (١) ، لا يدعون شيئا إلّا مكسوه.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالكفر والبخس وغيرهما (بَعْدَ إِصْلاحِها) بعد ما أصلح الصالحون أمرها. أو أهلها من الأنبياء وأتباعهم العاملين بالشرائع. أو أصلحوا فيها. والإضافة إليها كالإضافة في (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (٢) أي : مكركم في الليل والنهار.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض. أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه. ومعنى الخيريّة إمّا الزيادة مطلقا ، أو في الإنسانيّة وحسن الأحدوثة ، وما تطلبونه من الربح ، لأنّ الناس إن عرفوا منكم النصفة والأمانة رغبوا في متاجرتكم.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدّقين لي في قولي.

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) بكلّ منهاج من مناهج الدين ، مشبّهين بالشيطان في قوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (٣). (تُوعِدُونَ) تخوّفون بالقتل والضرب والحبس. وصراط الحقّ وإن كان واحدا ، كقوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٤) ، لكنّه يتشعّب إلى معارف وحدود وأحكام ، فلهذا قال : بكلّ صراط. وكانوا إذا رأوا أحدا يسعى في شيء منها منعوه.

__________________

(١) مكسه : ظلمه ، وفي البيع : انتقص الثمن. والمكّاس : من يأخذ المكس ، أي : الدراهم التي كانت تؤخذ من بائعي السلع في الجاهليّة.

(٢) سبأ : ٣٣.

(٣) الأعراف : ١٦.

(٤) الأنعام : ١٥٣.

٥٦١

وقيل : كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيبا : إنّه كذّاب فلا يفتننّك عن دينك ، ويوعدون لمن آمن به.

وقيل : كانوا يقطعون الطريق. وقيل : كانوا عشّارين.

ويؤيّد الأوّل قوله : (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يعني : الّذي قعدوا عليه.

فوضع الظاهر موضع المضمر ، بيانا لكلّ صراط ، ودلالة على عظم ما يصدّون عنه ، وتقبيحا لما كانوا عليه. أو الإيمان بالله تعالى. ومحلّ «توعدون» و «تصدّون» النصب على الحال من الضمير في «تقعدوا» أي : ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله ، وباغيها عوجا.

(مَنْ آمَنَ بِهِ) أي : بالله ، أو بكلّ صراط على الأوّل. و «من» مفعول «تصدّون» على إعمال الأقرب. ولو كان مفعول «توعدون» لقال : وتصدّونهم.

(وَتَبْغُونَها عِوَجاً) وتطلبون لسبيل الله تعالى عوجا ، بإلقاء الشبه ، أو بوصفها للناس بأنّها معوجّة غير مستقيمة ، لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها.

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) عددكم (فَكَثَّرَكُمْ) بالبركة في النسل. و «إذ» مفعول به غير ظرف ، أي : واذكروا على وجه الشكر وقت كونكم قليلا عددكم.

قيل : إنّ مدين بن إبراهيم الخليل عليه‌السلام تزوّج بنت لوط فولدت له ، فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء ، فكثروا. ويجوز أن يكون معناه : إذ كنتم فقراء مقلّين فجعلكم أغنياء مكثرين.

(وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم ، واعتبروا بهم ، كقوم نوح وهود وصالح ولوط ، كانوا قريبي العهد ممّا أصاب المؤتفكة.

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) وقبلوا قولي (وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) لم يصدّقوني (فَاصْبِرُوا) فتربّصوا وانتظروا (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) أي : بين الفريقين بنصر المحقّين على المبطلين. فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ،

٥٦٢

كقوله : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (١). (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا معقّب لحكمه ، ولا حيف فيه.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي : قال الّذين رفعوا أنفسهم فوق مقدارها (مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي : ليكوننّ أحد الأمرين : إمّا إخراجكم من بلدتنا ، أو عودكم في الكفر. وشعيب لم يكن في ملّتهم قطّ ، لأنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر لا قبل البعث ولا بعدها ، لكن غلّبوا الجماعة على الواحد ، فخوطب هو وقومه بخطابهم. وعلى التغليب أجري الجواب في قوله : (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) الواو للحال ، والهمزة للاستفهام ، أي : وكيف نعود فيها في حال كوننا كارهين للدخول فيها؟

وقيل : المعنى : إنّكم لا تقدرون على ردّنا إلى دينكم على كره منّا. فيكون على هذا «كارهين» بمعنى : مكرهين. أو يكون ذكر العود لظنّهم أنّه كان قبل ذلك على دينهم ، وقد كان عليه‌السلام يخفي دينه فيهم.

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ) اختلقنا عليه (كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) شرط جوابه محذوف ، دليله «قد افترينا». وهو بمعنى المستقبل ، لأنّه لم يقع ، لكنّه جعل كالواقع للمبالغة. وأدخل عليه «قد» لتقريبه من الحال ، أي : قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها ، حيث نزعم أنّ لله تعالى ندّا ، وأنّه قد تبيّن لنا أنّ ما كنّا عليه باطل ، وما أنتم عليه حقّ. وقيل : إنّه جواب قسم ، وتقديره : والله لقد افترينا.

(وَما يَكُونُ لَنا) وما يصحّ وما ينبغي لنا (أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) خذلاننا ومنعنا الألطاف ، لعلمه أنّها لا تنفع فينا ، فيكون فعلها بنا عبثا ، والله تعالى متعال عن فعل العبث.

__________________

(١) التوبة : ٥٢.

٥٦٣

وقيل : أراد به قطع طمعهم في العود بسبب التعليق على ما لا يكون ، فإنّ مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة. فهذا من قبيل قوله : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (١). وكما قيل :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

(وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي : أحاط علمه بكلّ شيء ممّا كان وما يكون ، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل ، وقلوبهم كيف تنقلب ، وكيف تقسو بعد الرقّة ، وتمرض بعد الصحّة ، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان. أو علمه أحاط بكلّ ما هو من الحكمة ، وما هو خارج عنها.

(عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) في أن يثبّتنا على الإيمان ، ويخلّصنا من الأشرار ، ويوفّقنا لازدياد الإيقان. (رَبَّنَا افْتَحْ) أي : احكم (بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) فإنّ الفتاحة الحكومة. أو أظهر أمرنا ، بأن تنزل عليهم عذابا يتبيّن معه أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل ، ويتميّز المحقّ من المبطل ، من : فتح المشكل إذا بيّنه. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) على المعنيين.

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي : اشرافهم ، للّذين دونهم يثبّطونهم عن الإيمان (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) وتركتم دينكم (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) لاستبدالكم ضلالته بهداكم. أو لفوات ما يحصل بالبخس والتطفيف ، لأنّه ينهاكم عنهما ، ويحملكم على الإيفاء والتسوية. وهو سادّ مسدّ جواب الشرط والقسم الموطّأ باللام.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة. وفي سورة الحجر : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) (٢).

ولعلّها كانت من مباديها. (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي : في مدينتهم (جاثِمِينَ) ميّتين لا حراك لهم.

__________________

(١) الأعراف : ٤٠.

(٢) الحجر : ٧٣.

٥٦٤

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) مبتدأ خبره : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أي : استؤصلوا ، كأن لم يقيموا بها. والمغنى : المنزل.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) أي : هم المخصوصون بالخسران العظيم دينا ودنيا ، لا الّذين صدّقوه واتّبعوه كما زعموا : فإنّهم الرابحون في الدارين.

وللتنبيه على هذا والمبالغة فيه كرّر الموصول ، واستأنف بالجملتين ، وأتى بهما اسميّتين. ففي هذا الاستئناف والتكرار تسفيه لرأي الملأ ، وردّ لمقالتهم.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) لمّا رأى إقبال العذاب عليهم (وَقالَ) تاسّفا بهم ، لشدّة حزنه عليهم : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) لقد أعذرت إليكم في النصيحة ، وإبلاغ الرسالة ، والتحذير ممّا حلّ بكم ، فلم تصدّقوني.

ثم أنكر على نفسه فقال : (فَكَيْفَ آسى) أحزن جدّا ، فإنّ الأسى شدّة الحزن (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) الّذين ليسوا أهل حزن ، لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم. أو قال هذا اعتذارا عن عدم شدّة حزنه عليهم. والمعنى : لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار ، وبذلت وسعي في النصح والإشفاق ، فلم تصدّقوا قولي ، فكيف أحزن عليكم وأنتم لستم أحقّاء بالأسى؟!

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥))

ثمّ ذكر سبحانه بعد ما اقتصّ من قصص الأنبياء ، وتكذيب أممهم إيّاهم ، وما نزل بهم من العذاب ، سنّته في أمثالهم ، تسلية لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ) بالبؤس ، وهو الفقر (وَالضَّرَّاءِ) وهو

٥٦٥

المرض (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) كي يتضرّعوا ويتذلّلوا ويتوبوا.

(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) رفعنا ما كانوا فيه من البلاء والشدّة ، وأعطيناهم بدله السعة والسلامة ، ابتلاء لهم بهذين الأمرين ، كقوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) (١). (حَتَّى عَفَوْا) كثروا عددا وعددا. يقال : عفا النبات والشحم والوبر ، إذا كثر. ومنه

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «واعفوا اللحى».

فأبطرتهم النعمة والصحّة وأشروا (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) كفرانا لنعمة الله ، ونسيانا لذكره ، واعتقادا بأنّ هذه عادة الدهر ، يعاقب في الناس بين الضّرّاء والسّرّاء ، وقد مسّ آباءنا نحو ذلك ، فلم ينتقلوا عمّا كانوا عليه.

(فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) فجأة عبرة لمن بعدهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بنزول العذاب إلّا بعد حلوله ، وهو أشدّ الأخذ وأفظعه.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩))

ثمّ بيّن سبحانه أنّ كلّ من أهلكه من الأمم المتقدّم ذكرهم إنّما أتوا في ذلك

__________________

(١) الأعراف : ١٦٨.

٥٦٦

من قبل نفوسهم ، فقال : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) يعني : القرى المدلول عليها بقوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ) (١). فكأنّه قال : ولو أنّ أهل تلك القرى الّذين كذّبوا.

وقيل : مكّة وما حولها. وقيل : اللام للجنس. (آمَنُوا) بدل أن كفروا (وَاتَّقَوْا) مكان أن أشركوا وعصوا (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ) خيرات نامية (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : لوسّعنا عليهم الخير ، ويسّرناه لهم من كلّ جانب. ومنه قولهم :فتحت على القارئ ، إذا تعذّرت عليه القراءة فيسّرتها عليه بالتلقين. وقيل : المراد المطر والنبات. وقرأ ابن عامر : لفتّحنا بالتشديد.

(وَلكِنْ كَذَّبُوا) الرسل (فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بسوء كسبهم ، من الكفر والمعاصي.

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) عطف على قوله : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

وما بينهما اعتراض ، والهمزة للإنكار. والمعنى : أبعد ذلك أمن أهل القرى الّذين يكذّبون نبيّنا (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً)؟ أي : وقت بيات ، أو مبيّتا ، أو مبيّنين ، أو بمعنى : تبييتا ، كالسلام بمعنى التسليم ، فكأنّه قيل : أن يبيّتهم بأسنا تبييتا. وهو في الأصل مصدر بمعنى : البيتوتة. (وَهُمْ نائِمُونَ) حال من ضمير «هم» البارز ، أو المستتر في «بياتا».

(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : أو بالسكون ، على الترديد. (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) ضحوة النهار. وهو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت. ونصبه على الظرف. (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يلهون من فرط الغفلة ، أو يشتغلون بما لا ينفعهم ، فكأنّهم يلعبون. وتخصيص هذين الوقتين لغفلتهم فيهما غالبا.

(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) تكرير لقوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى). ومكر الله تعالى استعارة لاستدراج العبد ، وأخذه من حيث لا يحتسب. فعلى العاقل أن يكون خائفا

__________________

(١) الأعراف : ٩٤.

٥٦٧

من مكر الله ، كالمحارب الّذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة.

وعن ربيع بن خثيم أنّ ابنته قالت له : مالي أري الناس ينامون ، ولا أراك تنام؟ قال : يا بنتاه إنّ أباك يخاف البيات. أراد قوله : (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً).

(فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الّذين خسروا بالكفر وترك النظر والاعتبار.

قيل : إنّ الأنبياء وسائر المعصومين أمنوا مكر الله ، وليسوا بخاسرين.

وأجيب أنّ تقدير الآية : لا يأمن مكر الله من المذنبين إلّا القوم الخاسرون ، بدلالة قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (١). أو لا يؤمّن عذاب الله للعصاة إلّا الخاسرون ، والمعصومون لا يؤمّنون عذاب الله للعصاة. أو لا يأمن عقاب الله جهلا بحكمته إلّا الخاسرون.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

ثمّ أنكر سبحانه عليهم تركهم الاعتبار بمن تقدّمهم من الأمم ، فقال : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أي : يخلفون من خلا قبلهم ، ويرثون

__________________

(١) الدخان : ٥١.

٥٦٨

أرضهم. وإنّما عدّي باللام لأنّه بمعنى : يبيّن. (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أنّ الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم ، وأهلكناهم كما أهلكنا أولئك (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) معطوف على ما دلّ عليه (أَوَلَمْ يَهْدِ) ، فكأنّه قيل : يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم. أو على (يَرِثُونَ الْأَرْضَ). أو منقطع عنه ، بمعنى : ونحن نطبع. ولا يجوز عطفه على «أصبناهم» على أنّه بمعنى : وطبعنا ، لأنّه في سياقة جواب «لو» ، وهو يدلّ على نفي الطبع عنهم ، وهذا باطل ، لأنّ القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم من فرط الكفر واقتراف الذنب ، والرسوخ عليه عنادا ولجاجا ، مع ظهور الحقّ عليهم. وقد ذكرنا معنى الطبع (١) غير مرّة. (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع تفهّم واعتبار.

(تِلْكَ الْقُرى) يعني : قرى الأمم المارّ ذكرهم (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) لتخبر قومك بها ، فيعتبروا ويحذروا عن الإصرار على مثل حالهم. والجملة الفعليّة حاليّة إن جعل القرى خبرا لـ «تلك» ، فيكون كلاما مفيدا بالتقييد بالقرى ، كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك : هو الرجل الكريم. وخبر إن جعلت صفة لـ «تلك».

ويجوز أن يكونا خبرين ، و «من» للتبعيض ، أي : نقصّ بعض أنبائها ، ولها أنباء غيرها لا نقصّها.

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) عند مجيئهم بها (بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) ومن قبل مجيء الرسل ، بل كانوا مستمرّين على التكذيب. أو فما كانوا ليؤمنوا مدّة عمرهم بما كذّبوا به أوّلا حين جاءتهم الرسل ، ولم تؤثّر فيهم قطّ دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة. واللام لتأكيد النفي ، والدلالة على أنّ الإيمان كان منافيا لحالهم ، لفرط عنادهم ولجاجهم ، وتصميمهم على الكفر ، وانهماكهم في المعصية ، مع تكرار المواعظ عليهم وتتابع الآيات.

__________________

(١) راجع ص ١٨٧ ذيل الآية ١٥٥ من سورة النساء.

٥٦٩

(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الطبع الشديد (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) فلا تلين شكيمتهم (١) بالآيات والنذر.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) لأكثر الناس ، والآية اعتراض. أو لأكثر الأمم المذكورين (مِنْ عَهْدٍ) من وفاء عهد ، فإنّ أكثرهم نقضوا ما عهد الله إليهم في الإيمان والتقوى ، بإنزال الآيات ونصب الحجج. أو ما عهدوا إليه حين كانوا في ضرّ ومخافة ، مثل : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٢).

(وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ) أي : وإن الشأن علمناهم (لَفاسِقِينَ) خارجين عن الطاعة ، من : وجدت زيدا ذا الحفاظ ، لدخول «إن» المخفّفة واللام الفارقة ، وذلك لا يجوز إلّا في المبتدأ والخبر ، والأفعال الداخلة عليهما. وعند الكوفيّين «إن» للنفي ، واللام بمعنى «إلّا». وذكر الأكثر مع أنّ كلّهم كافرون ، لأنّ أكثرهم مع كفرهم فاسق في دينه ، غير لازم لمذهبه ، ناقض للعهد ، قليل الوفاء به.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ

__________________

(١) الشكيمة : الأنفة والإباء وعدم الانقياد.

(٢) يونس : ٢٢.

٥٧٠

فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

٥٧١

ثمّ عطف سبحانه قصّة موسى عليه‌السلام على ما تقدّم من قصص الأنبياء عليهم‌السلام ، فقال : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) الضمير للرسل في قوله : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ). أو للأمم. (بِآياتِنا) يعني : المعجزات (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها) بأن كفروا بها مكان الإيمان الّذي هو من حقّها ، لوضوحها. ولهذا المعنى وضع «ظلموا» موضع : كفروا. وفرعون لقب لمن ملك مصر ، ككسرى لمن ملك فارس.

وكان اسمه قابوس. وقيل : الوليد بن مصعب بن الريّان. (فَانْظُرْ) نظر الاعتبار (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الإغراق.

(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) إليك وإلى قومك.

وقوله : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) يجوز أن يكون هذا جوابا لتكذيبه إيّاه في دعوى الرسالة. وإنّما لم يذكره لدلالة قوله : «فظلموا بها» عليه.

وكأنّ أصله : حقيق عليّ أن لا أقول ، كما قرأ نافع ، أي : واجب عليّ ، فقلب لأمن الالتباس. أو لأنّ ما لزمك فقد لزمته ، فلمّا كان قول الحقّ حقيقا عليه كان هو حقيقا على قول الحقّ ، أي : لازما له. أو لأنّ حقيقا يتضمّن معنى : حريص.

والتوجيه الرابع ـ وهو الأوجه الأدخل في نكت القرآن ـ : أن يغرق موسى عليه‌السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام ، لا سيّما وقد روي أنّ عدوّ الله فرعون قال له ـ لمّا قال : (رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ : كذبت. فيقول : أنا حقيق عليّ قول الحقّ ، أي : واجب عليّ قول الحقّ أن أكون أنا قائله والقائم به ، ولا يرضى إلّا بمثلي ناطقا به. ويحتمل أن يكون «على» بمعنى الباء ، لإفادة التمكّن ، كقولهم : رميت السهم على القوس ، وجئت على حال حسنة.

(قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ) بمعجزة ظاهرة الدلالة على صدقي (مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) فخلّهم من عقال التسخير حتّى يرجعوا معي إلى الأرض المقدّسة الّتي هي وطن آبائهم. وكان قد استعبد فرعون والقبط بني إسرائيل ، واستخدموهم في الأعمال الشاقّة ، فأنقذهم الله بموسى. وكان بين اليوم الّذي دخل

٥٧٢

يوسف مصر واليوم الّذي دخله موسى أربعمائة عام.

(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) بحجّة من عند من أرسلك (فَأْتِ بِها) فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك ، ويصحّ بها دعواك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في الدعوى.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ظاهر أمره ، لا يشكّ في أنّه ثعبان ، وهو الحيّة العظيمة.

وروي أنّه لمّا ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغرا (١) فاه ، بين لحييه ثمانون ذراعا ، وضع لحيه الأسفل على الأرض ، ولحيه الأعلى على سور القصر. ثمّ توجّه نحو فرعون ، فوثب فرعون من سريره وهرب وأحدث ، وصاح : يا موسى أنشدك بالّذي أرسلك أن تأخذه وأنا أومن بك ، وأرسل معك بني إسرائيل. وانهزم الناس مزدحمين ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، ويصيح فرعون : خذه يا موسى.

فأخذه موسى ، فعاد عصا.

واعلم أنّ عصا موسى كانت بصفة الجانّ في ابتداء النبوّة ، كما حكاه الله تعالى في قوله : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) (٢). أمّا عند فرعون فصارت بصفة الثعبان. وقيل : إنّه سبحانه شبّهها بالجانّ لسرعة حركتها ونشاطها وخفّتها ، مع أنّها في جسم الثعبان ، فلا منافاة.

وروي أنّ هذه العصا كانت لآدم عليه‌السلام من آس الجنّة حين أهبط ، وكانت تدور بين أولاده ، حتّى انتهت النوبة إلى شعيب ، فكانت ميراثا له مع أربعين عصا كانت لآبائه. فلمّا استأجر شعيب موسى أمره بدخول بيت فيه العصيّ ، وقال له : خذ عصا من تلك العصيّ. فوقعت تلك العصا بيد موسى ، فاستردّها شعيب ، وقال : خذ غيرها ، حتّى فعل ذلك سبع مرّات ، وقيل : ثلاث مرّات ، في كلّ مرّة تقع يده عليها دون غيرها ، فتركها في يده في المرّة الأخيرة.

__________________

(١) أي : فاتحا.

(٢) النمل : ١٠ ، القصص : ٣١.

٥٧٣

فلمّا خرج من عنده متوجّها إلى مصر ورأى نارا وأتى الشجرة ، فناداه الله تعالى : أن يا موسى إنّي أنا الله ، وأمره بإلقائها ، فألقاها فصارت حيّة ، فولّى هاربا.

فناداه الله : خذها ولا تخف. فأدخل يده بين لحييها فعادت عصا. فلمّا أتى فرعون ألقاها بين يديه ، على ما تقدّم بيانه.

وقيل : كان الأنبياء عليهم‌السلام يأخذون العصا تجنّبا من الخيلاء. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خرج في سفر ومعه عصا لوز مرّ ، وتلا هذه الآية : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) إلى قوله : (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (١) آمنه الله من كلّ سبع ضارّ ، ومن كلّ لصّ ، ومن كلّ ذات حمة (٢) ، حتى رجع إلى أهله ومنزله ، وكان معه سبعة وسبعون من المعقّبات ، يستغفرون له حتّى يرجع ويضعها».

وقيل : أوّل من أخذ من أخذ العصا عند الخطبة في العرب قسّ بن ساعدة.

رويّ أنّ فرعون قال له : هل معك آية اخرى؟ قال : نعم. فأدخل يده في جيبه ثمّ أخرجها ، كما قال عزوجل : (وَنَزَعَ يَدَهُ) أي : أخرجها من جيبه ، أو من تحت إبطه (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي : بيضاء بياضا خارجا عن العادة ، بحيث تجتمع عليها النظّارة. وقيل : بيضاء للنظّار ، لا أنّها كانت بيضاء في جبلّتها.

وروي أنّه عليه‌السلام كان آدم شديد الأدمة ، فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ثمّ نزعها فإذا هي بيضاء نورانيّة ، غلب شعاعها شعاع الشمس.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) بالسحر ، ماهر فيه.

واعلم أنّه تعالى قال في سورة الشعراء : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) (٣). وقال هاهنا : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ). ويمكن أن يكون قاله هو وقالوه أيضا ، فحكى قوله هناك وقولهم هنا. أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ ، كما يفعله الملوك ، يبلّغ

__________________

(١) القصص : ٢٢ ـ ٢٨.

(٢) الحمة : السمّ.

(٣) الشعراء : ٣٤.

٥٧٤

خواصّهم ما يرونه من الرأي إلى العامّة. والمعنى : قال الأشراف من قومه لمن دونهم في الرتبة ، أصالة أو نيابة : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ).

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) بسحره (فَما ذا تَأْمُرُونَ) تشيرون في أن نفعل ، من : أمرته فأمرني بكذا ، إذا شاورته فأشار عليك برأي. وقيل : هذا قول الأشراف بعضهم لبعض على سبيل المشورة. ويحتمل أن يكون خطابهم إلى فرعون ، وإنّما قالوا : «تأمرون» بلفظ الجمع على خطاب الملوك.

(قالُوا) لفرعون (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي : أخّر أمرهما حتّى ترى رأيك فيهما وتدبير أمرهما.

وأصله : أرجئه ، كما قرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب ، من : أرجأت. وكذلك : أرجئهو ، على قراءة ابن كثير وهشام عن ابن عامر على الأصل في الضمير. أو : أرجهي ، من : أرجيت ، كما قرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي. وأمّا قراءة نافع في رواية قالون : أرجه بحذف الياء ، فللاكتفاء بالكسرة عنها. وأمّا قراءة عاصم وحمزة : أرجه بسكون الهاء ، فلتشبيه المنفصل بالمتّصل ، وجعل «جه» كـ «إبل» في إسكان وسطه. وأمّا قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر : أرجئه بالهمزة وكسر الهاء ، فلا يرتضيه النحاة ، فإنّ الهاء لا تكسر إلّا إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة.

ووجهه أنّ الهمزة لمّا كانت تقلب ياء أجريت مجراها.

(وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ) التي حولك (حاشِرِينَ) جامعين للسحرة ، يحشرون من يعلمونه منهم. وعن ابن عبّاس : هم أصحاب الشرط ، أرسلهم في حشر السحرة ، وكانوا اثنين وسبعين رجلا.

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) ليجتمعوا ويعارضوا موسى فيغلبوه. وقرأ حمزة والكسائي : بكلّ سحّار ، فيه وفي يونس (١). ويؤيّده اتّفاقهم عليه في الشعراء (٢).

__________________

(١) يونس : ٧٩.

(٢) الشعراء : ٣٧.

٥٧٥

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) بعد ما أرسل الشرط في طلبهم (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) كلام مستأنف ، كأنّه جواب سائل قال ما قالوا إذ جاؤا.

وقرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم : إن لنا ، على الإخبار وإيجاب الأجر ، كأنّهم قالوا : لا بدّ لنا من أجر. والتنكير للتعظيم.

(قالَ نَعَمْ) أي : إنّ لكم لأجرا (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عطف على ما سدّ مسدّه «نعم» ، أي : إنّ لكم لأجرا وإنّكم لمن المقرّبين ، زيادة على الجواب ، أي : لا أقتصر على الأجر وحده ، بل لكم مع الأجر ما يقلّ عنده الأجر ، وهو التبجيل والتقريب. وقيل : إنّه قال لهم : تكونون أوّل من يدخل بي وآخر من يخرج.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) تخيير السحرة موسى مراعاة منهم لأدب حسن معه ، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا ، أو إظهارا للجلادة ، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله ، فنبّهوا عليها بتغيير النظم ، إذ مقتضى النظم : إمّا أن نلقي وإمّا أن تلقي ، فيغيّروه إلى ما هو أبلغ ، وهو إتيانهم بالجملة الاسميّة ، وتعريف الخبر ، وتوسيط الفصل ، وتأكيد ضميرهم المتّصل بالمنفصل ، فلذلك (قالَ) بل (أَلْقُوا) كرما وتسامحا ، أو تحقيرا بهم ، وقلّة مبالاة بهم ، ووثوقا على شأنه ، وثقة بما كان بصدده من المعجز الإلهي والتأييد السماوي.

(فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) بما أروهم ممّا لا حقيقة له في الخارج من الحيل والشعبذة ، كقوله : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (١) ، بخلاف موسى (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) وأرهبوهم إرهابا شديدا ، كأنّهم طلبوا رهبتهم (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) في فنّه.

روي أنّهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا ، بعد أن لوّنوها بلون الحيّات ، وجعلوا فيها الزئبق ، فإذا هي أمثال الحيّات قد ملأت الأرض ، وركب بعضها بعضا.

__________________

(١) طه : ٦٦.

٥٧٦

وروي أنّ فرعون قبل صدور السحر من السحرة دعا رؤساءهم ومعلّميهم فقال لهم : ما صنعتم؟ قالوا : قد عملنا سحرا عظيما لا يطيقه سحرة أهل الأرض ، إلّا أن يكون أمرا من السماء ، فإنّه لا طاقة لنا به. وهم كانوا ثمانين ألفا.

وقيل : سبعين ألفا. وقيل : بضعة وثلاثين ألفا. وقيل : كان يعلّمهم مجوسيّان من أهل نينوى. وقال فرعون : لا يغالب موسى إلّا بما هو منه ، يعني : السحر.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) فألقاها فصارت حيّة عظيمة (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) تبتلع (ما يَأْفِكُونَ) أي : ما يزوّرونه ويقلبونه عن الحقّ إلى الباطل ، من : الإفك ، وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه. ويجوز أن تكون «ما» مصدريّة ، وهي مع الفعل بمعنى المفعول ، أي : تلقف مأفوكهم. وقرأ حفص عن عاصم : تلقف بالتخفيف حيث كان.

وقيل : إنّها لمّا تلقّفت حبالهم وعصيّهم بأسرها أقبلت على الحاضرين ، فهربوا وازدحموا حتّى هلك جمع عظيم ، ثمّ أخذها موسى فصارت عصا كما كانت ، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة ، إذ فرّقها أجزاء لطيفة. فقالت السحرة : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصيّنا.

(فَوَقَعَ الْحَقُ) فثبت ، لظهور أمر موسى بهذه المعجزة البيّنة (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من السحر والمعارضة.

(فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أي : صاروا أذلّاء منهزمين. أو رجعوا إلى المدينة أذلّاء مقهورين. والضمير لفرعون وقومه.

(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي : جعلهم الله ملقين على وجوههم ، تنبيها على أنّ الحقّ بهرهم (١) واضطرّهم إلى السجود ، بحيث لم يبق لهم تمالك. أو أنّ الله تعالى ألهمهم ذلك حتّى ينكسر فرعون بالّذين أراد بهم كسر موسى ، وينقلب الأمر

__________________

(١) بهره ، أي : غلبه وفاق عليه.

٥٧٧

عليه. أو مبالغة في سرعة خرورهم وشدّته ، كأنّما ألقاهم ملق. أو أنّهم لم يتمالكوا ممّا رأوا ، فكأنّهم ألقوا.

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أبدلوا الثاني من الأوّل ، لئلّا يتوهّم أنّهم أرادوا به فرعون.

وعن قتادة : كانت السحرة أوّل النهار كفّارا سحرة ، وفي آخره شهداء بررة.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ) بالله ، أو بموسى. والاستفهام فيه للإنكار. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، وروح عن يعقوب ، بتحقيق الهمزتين على الأصل. وقرأ حفص : آمنتم به على الإخبار. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : ءامنتم ، بهمزة ومدّة طويلة في تقدير ألفين. (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) قبل أن أرخّص لكم بالإيمان.

(إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) أي : إنّ هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى (فِي الْمَدِينَةِ) في مصر قبل أن تخرجوا للميعاد (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) يعني : القبط ، وتخلص لكم ولبني إسرائيل (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة ما فعلتم.

وهو تهديد مجمل ، تفصيله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي : من كلّ شقّ طرفا. وعن الحسن : هو أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى. (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) تفضيحا لكم ، وتنكيلا لأمثالكم.

قيل : إنّه أوّل من سنّ ذلك ، فشرعه الله تعالى للقطّاع ، تعظيما لجرمهم.

(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) بالموت لا محالة ، فلا نبالي بوعيدك. أو إنّا لمنقلبون إلى ربّنا وثوابه إن فعلت بنا ذلك ، كأنّهم استطابوه شغفا على لقاء الله تعالى. أو مصيرنا ومصيرك إلى ربّنا ، فيحكم بيننا.

(وَما تَنْقِمُ مِنَّا) وما تعيب وتنكر منّا (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) أي : إلّا الايمان بآيات الله ، وهو خير الأعمال ، وأصل كلّ منفعة وخير. ومثله قول الشاعر :

٥٧٨

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

ثمّ فزعوا إلى الله فقالوا : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أي : أفض علينا صبرا كثيرا حتّى يغمرنا ، كما يفرغ الماء. أو صبّ علينا ما يطهّرنا من الآثام ، وهو الصبر على وعيد فرعون. (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) ثابتين على الإسلام.

قيل : إنّه فعل بهم ما أوعدهم به. وقيل : إنه لم يقدر عليهم ، لقوله : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (١).

روي عن ابن عبّاس : أنّه لمّا آمن السحرة أسلم من بني إسرائيل ستّمائة ألف نفس ، فأرادوا الفساد في الأرض ، فخاف القبط منهم.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩))

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) تحريضا له على قتل موسى بعد أن أسلم السحرة وغيرهم (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بتغيير الناس عليك ،

__________________

(١) القصص : ٣٥.

٥٧٩

ودعوتهم إلى مخالفتك (وَيَذَرَكَ) عطف على «يفسدوا» ، لأنّه إذا تركهم ولم يمنعهم فكان ذلك مؤدّيا إلى ترك آلهته. أو جواب الاستفهام بالواو ، كقول الحطيئة :

ألم أك جاركم ويكون بيني

وبينكم المودّة والإخاء

على معنى : أيكون منك ترك موسى ، ويكون منه تركه إيّاك؟

(وَآلِهَتَكَ) معبوداتك. قيل : كان يعبد الكواكب. وقيل : صنع لقومه أصناما ، وأمرهم أن يعبدوها تقرّبا إليه ، ولذلك قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (١).

(قالَ) فرعون (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي : سنعيد عليهم كما كنّا نفعل من قتل الأبناء واستعباد النساء ، ليعلم موسى أنّا على ما كنّا عليه من القهر والغلبة ، ولا يتوهّم أنّه المولود الّذي حكم المنجّمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده ، ويعلم أنّ غلبته لا أثر لها في ملكنا. (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) غالبون ، وهم مقهورون تحت أيدينا.

ولمّا سمع بنو إسرائيل قول فرعون وتضجّروا منه (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) تسكينا لهم وتسلية لقلوبهم : (اسْتَعِينُوا) في دفع الأعادي عنكم (بِاللهِ وَاصْبِرُوا) على أذيّتهم.

ثم قال تقريرا للأمر بالاستعانة بالله ، والتثبّت بالأمر بالصبر : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي : ينقلها إلى من يشاء نقل المواريث ، فيورّثكم بعد هلاك فرعون كما أورثها فرعون (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). فهذا وعد لهم بالنصرة ، وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم ، وتحقيق له ، وبشارة بأنّ الخاتمة المحمودة للمتمسّكين بالتقوى ، وأنّ المشيئة متناولة لهم. واللام في الأرض تحتمل العهد ، وهو أرض مصر ، أو للجنس.

(قالُوا) أي : بنو إسرائيل (أُوذِينا) بقتل الأبناء واستعباد النساء (مِنْ قَبْلِ

__________________

(١) النازعات : ٢٤.

٥٨٠