زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

الأمّهات اللّاتي قد دخلتم بهنّ ، كنّ في الحجور أو غير الحجور ، والأمّهات مبهمات ، دخل بالبنات أو لم يدخل بهنّ ، فحرّموا ما حرّم الله ، وأبهموا ما أبهم الله» (١).

والباء في قوله : «دخلتم بهنّ» للتعدية ، ومعناه : أدخلتموهنّ الستر. وهو كناية عن الجماع. واللمس بالشهوة في حكم الجماع عندنا وعند أبي حنيفة.

(فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) في نكاح بناتهنّ إذا طلّقتموهن أو متن. وهذا تصريح بعد إشعار ، دفعا للقياس.

(وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) أي : حرّم عليكم نكاح أزواج أبنائكم. سمّيت الزوجة حليلة لحلّها ، أو لحلولها مع الزوج (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) احتراز عن أزواج المتبنّى بهم ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج زينب بنت جحش حين فارقها زيد بن حارثة ، لا عن أزواج أبناء الولد ، لأنّهنّ حرّمن على الأب وإن كنّ أزواج أولاد أولاده ، وأولاد أولاد أولاده ، وهكذا.

(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) في موضع الرفع عطفا على المحرّمات ، أي : حرّم عليكم الجمع بين الأختين في النكاح والوطي بملك اليمين. ويجوز الجمع بينهما في الملك. وكذا الحرمة في المحرّمات المعدودة غير مقصورة على النكاح ، بل في ملك اليمين أيضا محرّمة.

قال عثمان : أحلّتهما آية : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (٢). وقال عليّ عليه‌السلام : حرّمتهما هذه الآية.

والثاني هو الحقّ ، فإنّ آية التحليل مخصوصة في غير ذلك ، ولقوله عليه‌السلام : «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام».

(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) استثناء عن لازم المعنى كما مرّ ، أو منقطع معناه : لكن ما

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٢٣١ ح ٧٧.

(٢) النساء : ٣.

٤١

سلف مغفور ، لقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

قال ابن عبّاس : حرّم الله تعالى من النساء سبعا بالنسب وسبعا بالسبب ، وتلا هذه الآية ، ثم قال : والسابعة : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) الآية.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) أي : وحرّمت عليكم ذوات الأزواج اللّاتي أحصنهنّ التزويج أو الأزواج.

وقرأ الكسائي في جميع القرآن غير هذا الحرف (١) بكسر الصاد ، لأنّهنّ أحصنّ فروجهنّ.

(إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد : ما ملكت أيمانكم من اللّاتي سبين ولهنّ أزواج كفّار ، فهنّ حلال للسابين وإن كنّ محصنات ، فإنّ النكاح يرتفع بالسبي ، لقول أبي سعيد الخدري : أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهنّ أزواج كفّار ، فكرهنا أن نقع عليهنّ ، فسألنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فاستحللناهنّ.

وقال أبو حنيفة : لو سبي الزوجان معا لم يرتفع النكاح ، ولم تحلّ للسابي.

وإطلاق الآية والحديث حجّة عليه.

(كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) مصدر مؤكّد ، أي : كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتابا (وَأُحِلَّ لَكُمْ) عطف على الفعل المضمر الّذي نصب كتاب الله. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول عطفا على «حرّمت». (ما وَراءَ ذلِكُمْ) ما سوى المحرّمات الأربع عشر ، وما في معناها ، كسائر محرّمات الرضاع.

وقوله : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) مفعول له. والمعنى : أحلّ لكم ما وراء ذلكم ، إرادة أن تطلبوا بأموالكم الصرف في مهورهنّ أو أثمانهنّ ، حال كونكم أعفّاء غير زناة. فيكون مفعول «تبتغوا» مقدّرا. ويجوز أن يكون «أن

__________________

(١) أي : غير هذه الآية.

٤٢

تبتغوا» بدلا من «ما وراء ذلكم» بدل الاشتمال. والإحصان العفّة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام. وقيل : محصنين متزوّجين. والسفاح الزنا من السفح ، وهو صبّ المنيّ ، فإنّه الغرض منه لا غير ، بخلاف التزوّج.

(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) فمن تمتّعتم به من المنكوحات ، أو فما استمتعتم به منهنّ من جماع أو عقد عليهنّ. وقال الجوهري : «استمتع بمعنى : تمتّع ، والاسم المتعة» (١) (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : مهورهنّ ، فإنّ المهر في مقابلة الاستمتاع (فَرِيضَةً) حال من الأجور ، بمعنى : مفروضة ، أو صفة مصدر محذوف ، أي : إيتاء مفروضا ، أو مصدر مؤكّد.

والأصحّ أنّ المراد به نكاح المتعة ، وهو النكاح المنعقد بمهر معيّن إلى أجل معلوم. سمّي به إذا الغرض منه مجرّد الاستمتاع بالمرأة ، أو تمتيعها بما تعطى.

وهذا منقول عن ابن عبّاس والسدّي وسعيد بن جبير وجماعة من التابعين.

وهو مذهب أصحابنا الإماميّة.

ولفظ الاستمتاع والتمتّع وإن كان في الأصل واقعا على الانتفاع والالتذاذ ، فقد صار في عرف الشرع هذا العقد المسمّى متعة. ويدلّ عليه دلالة صريحة قراءة ابن عبّاس وأبيّ بن كعب وابن مسعود : «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فآتوهنّ».

وأورد الثعلبي في تفسيره عن حبيب بن أبي ثابت قال : «أعطاني ابن عبّاس مصحفا فقال : هذا قراءة أبيّ ، فرأيت في المصحف : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى».

وبإسناده عن أبي نضرة قال : «سألت ابن عبّاس عن المتعة فقال : أما تقرأ

__________________

(١) الصحاح ٣ : ١٢٨٢.

٤٣

سورة النساء؟ قلت : بلى. قال : فما تقرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى»؟ قلت : لا أقرؤها هكذا. قال ابن عبّاس : والله هكذا أنزلها الله ، ثلاث مرّات».

وكذا نقل الخاصّة والعامّة عن ابن عبّاس أنّه كان يفتي بالمتعة ويعمل.

ومناظرته مع ابن الزبير في ذلك مشهورة. وقول ابن عبّاس في ذلك حجّة ، كما قال عليه‌السلام عنه إنّه كنيف (١) مليء علما.

ودعوى الخصم رجوعه عن ذلك ممنوع.

وبإسناده عن سعيد بن جبير أنّه قرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى».

وبإسناده عن شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، قال : «سألت عن هذه الآية (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) أمنسوخة هي؟ قال : لا.

قال الحكم : قال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : لولا أنّ عمر نهي عن المتعة ما زنى إلا شقيّ».

وعن ابن مسكان أيضا قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : كان عليّ عليه‌السلام يقول : لولا ما سبقني إليه ابن الخطّاب ما زنى إلا شفا».

وفي السرائر (٢) : «الشفا بالشين المعجمة والفاء ، ومعناه : إلّا قليل».

وبإسناده عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله عزوجل ، ولم تنزل آية بعدها تنسخها ، فأمرنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتمتّعنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومات ولم ينهنا عنها ، فقال بعد رجل برأيه ما شاء».

وممّا أورده مسلم بن الحجّاج في الصحيح ، حدّثنا الحسن الحلواني ، قال : حدّثنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : «قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة. فقال : استمتعنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر».

__________________

(١) الكنف : ووعاء يكون فيه متاع التاجر أو الراعي ، والكنيف لعلّه تصغير ذلك.

(٢) السرائر ٢ : ٦٢٦.

٤٤

وممّا يدلّ أيضا على أنّ لفظ الاستمتاع في الآية لا يجوز أن يكون المراد به الانتفاع والجماع ، أنّه لو كان كذلك لوجب أن لا يلزم شيء من المهر من لا ينتفع من المرأة بشيء ، وقد علمنا أنّه لو طلّقها قبل الدخول لزمه نصف المهر. ولو كان المراد به النكاح الدائم لوجب للمرأة بحكم الآية جميع المهر بنفس العقد ، لأنّه قال : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي : مهورهنّ ، ولا خلاف في أنّ ذلك غير واجب ، وإنّما تجب الأجرة بكمالها بنفس العقد في نكاح المتعة.

ودليل آخر على إثبات عقد المتعة الرواية المشهورة عن عمر بن الخطّاب : «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا أنهى عنهما». وفي رواية أخرى : «أنا أحرّمهما وأعاقب عليهما» فأخبر أنّ المتعة كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأضاف النهي أو التحريم عنها إلى نفسه لضرب من الرأي ، فلو كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسخها أو نهى عنها وأباحها في وقت مخصوص دون غيره ـ كما هو رأي العامّة ـ لأضاف التحريم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون نفسه. وأيضا فإنّه قرن بين متعة الحجّ ومتعة النساء في النهي ، ولا خلاف في أنّ متعة الحجّ غير منسوخة ولا محرّمة ، فوجب أن يكون حكم متعة النساء كذلك.

وعلى هذا فمعنى قوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) لا حرج ولا إثم عليكم في استئناف عقد آخر بعد انقضاء مدّة الأجل المضروب في عقد المتعة ، مع زيادة المدّة والأجر على حسب التراضي. وهذا قول الإماميّة ، وتظاهرت به الروايات عن أئمّتهم عليهم‌السلام. ومن قال : إنّ المراد بالاستمتاع الانتفاع والجماع ، قال : المعنى : لا حرج عليكم فيما يزاد على المسمّى أو يحطّ عنه بالتراضي ، أو فيما تراضيا به من نفقة أو مقام أو فراق.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالمصالح (حَكِيماً) فيما شرع لعباده ، من عقد النكاح الّذي به تحفظ الأنساب ، وسائر أحكام أخر.

٤٥

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥))

ثم بيّن سبحانه نكاح الإماء ، فقال : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) الطول : الفضل والزيادة. والخطاب للمؤمنين ، أي : ومن لم يجد غنى وزيادة في المال وسعة يبلغ بها. (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) يعني : الحرائر ، لقوله : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي : فينكح أمة من ما ملكت أيمانكم من إمائكم المؤمنات ، فإنّ مهور الإماء ومؤونتهنّ أخفّ ، لا من فتيات غيركم من المخالفين في الدين.

وفيه دلالة على أنّه لا يجوز نكاح الأمة الكتابيّة ، لأنّه تعالى قيّد جواز العقد عليهنّ بالإيمان.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) فاكتفوا بظاهر الإيمان ، فإنّه العالم بالسرائر ، وبتفاضل ما بينكم وبين أرقّائكم في الإيمان ، ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم ، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرّة ، والمرأة أفضل من الرجل في الإيمان ، فمن حقّكم أن تعتبروا فضل الإيمان ، لا فضل الأحساب والأنساب. والمقصود من هذا القول تأنيسهم بنكاح الإماء ، ومنعهم عن الاستنكاف منه ، كما هو من عادات

٤٦

الجاهليّة. ثم أكّد هذا بقوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي : أنتم وأرقّاؤكم متناسبون ، لأنّ نسبكم من آدم عليه‌السلام ودينكم الإسلام ، فلا تستنكفوا من نكاحهنّ.

(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) الضمير للفتيات ، أي : تزوّجوهنّ بإذن مواليهنّ (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : أدّوا إليهنّ مهورهنّ بإذن أهلهنّ ، فحذف لتقدّم ذكره ، أو إلى مواليهنّ بحذف المضاف ، للعلم بأنّ المهر للسيّد ، لأنّه عوض حقّه ، فيجب أن يؤدّى إليه. وقال مالك : المهر للأمة ، ذهابا إلى الظاهر. (بِالْمَعْرُوفِ) بغير مطل وضرار ونقصان ، وإحواج إلى الاقتضاء (مُحْصَناتٍ) عفائف (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) غير مجاهرات بالسفاح (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أخلّاء في السرّ.

عن ابن عبّاس أنّه قال : كان قوم في الجاهليّة يحرّمون ما ظهر من الزنا ، ويستحلّون ما خفي منه ، فنهى الله تعالى عن الزنا جهرا وسرّا.

(فَإِذا أُحْصِنَ) فإذا زوّجن. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي : «فإذا أحصنّ» بفتح الهمزة والصاد ، أي : أحصنّ أنفسهنّ بالتزوّج. (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) بزنا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) يعني : الحرائر (مِنَ الْعَذابِ) من الحدّ ، لقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١). وهو خمسون جلدة. وفيه دلالة على أنّ حدّ العبد نصف حدّ الحرّ ، وأنّه لا يرجم ، لأنّ الرجم لا ينتصف.

(ذلِكَ) أي : نكاح الإماء عند عدم الطول (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) لمن خاف الوقوع في الزنا عند شدّة الشبق. وهو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر ، مستعار لكلّ مشقّة وضرر ، ولا ضرر أعظم من الوقوع في الزنا ، لأنّه أفحش القبائح ، ومستلزم للحدّ في الدنيا والعذاب في الآخرة. وقيل : المراد به حدّ الأحرار. وهذا شرط آخر لنكاح الإماء.

(وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي : وصبركم عن نكاح الإماء متعفّفين خير لكم.

__________________

(١) النور : ٢.

٤٧

قال عليه‌السلام : «الحرائر صلاح البيت ، والإماء هلاكه». (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن لم يصبر (رَحِيمٌ) بأن رخّص له.

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

ثم بيّن سبحانه بعد التحليل والتحريم أنّه يريد بذلك مصالحنا ومنافعنا ، فقال : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ما تعبّدكم به من الحلال والحرام لصلاح دينكم ودنياكم ، أو ما خفي عنكم من مصالحكم ومحاسن أعمالكم. و «ليبيّن» مفعول «يريد». واللام زيدت لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة ، كما زيدت في : لا أبا لك ، لتأكيد إضافة الأب. وقيل : المفعول محذوف ، و «ليبيّن» مفعول له ، أي : يريد الحقّ لأجله.

(وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) مناهج من تقدّمكم من أهل الرشد من الأنبياء وأتباعهم ، لتقتدوا بهم ، وتسلكوا طريقهم (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) ويغفر لكم ذنوبكم ، أو يرشدكم إلى ما يمنعكم عن المعاصي ، ويحثّكم على التوبة ، أو إلى ما يكون كفّارة لسيّئاتكم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالأحكام المذكورة ، وبمن عمل بها ومن لم يعمل (حَكِيمٌ) في وضعها.

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) بأن يوفّقكم لها ، ويقوّي دواعيكم إليها. كرّره للتأكيد ، ولمقابلة قوله : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) يعني : الفجرة المبطلين ، فإنّ كلّ مبطل متّبع شهوة نفسه ، ومطيع لها في الباطل. وأمّا المتعاطي لما سوّغه

٤٨

الشرع منها دون غيره فهو متّبع للشرع في الحقيقة لا للشهوات. (أَنْ تَمِيلُوا) عن الحقّ ، بموافقتهم على اتّباع الشهوات ، واستحلال المحرّمات (مَيْلاً عَظِيماً) بالإضافة إلى ميل من اقترف خطيئته على ندور غير مستحلّ لها. ولا شبهة أنّه لا ميل أعظم من الموافقة على اتّباع الشهوات المردية.

وقيل : المراد منهم اليهود. وقيل : المجوس ، فإنّهم يحلّون الأخوات من الأب وبنات الأخ والأخت.

(يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) فلذلك شرع لكم الشريعة الحنيفيّة السمحة السهلة ، ورخّص لكم في المضايق ، كإحلال نكاح الأمة (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) لا يصبر عن الشهوات ، ولا يتحمّل مشاقّ الطاعات.

وعن ابن عبّاس : ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت : هذه الثلاث ، و (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (١) (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٢). (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٣) (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) (٤) (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) (٥).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

ولمّا بيّن سبحانه تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة ، عقّبه بتحريم

__________________

(١) النساء : ٣١ ، ٤٨ ، ٤٠ ، ١١٠ ، ١٤٧.

(٢) النساء : ٣١ ، ٤٨ ، ٤٠ ، ١١٠ ، ١٤٧.

(٣) النساء : ٣١ ، ٤٨ ، ٤٠ ، ١١٠ ، ١٤٧.

(٤) النساء : ٣١ ، ٤٨ ، ٤٠ ، ١١٠ ، ١٤٧.

(٥) النساء : ٣١ ، ٤٨ ، ٤٠ ، ١١٠ ، ١٤٧.

٤٩

الأموال في الوجوه الباطلة ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

المراد بالأكل سائر التصرّفات. واختصاصها بالأكل لأنّه معظم المنافع ، ولأنّه في العرف يطلق الأكل على وجوه الإنفاقات ، يقال : أكل ماله بالباطل ، وإن أنفقه في غير الأكل.

والمراد بالباطل ما لم يبحه الشرع ، كالغصب والربا والقمار.

ومعناه : لا ينفق بعضكم أموال بعض بغير سبب مبيح شرعا.

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) استثناء منقطع ، أي : ولكن كون تجارة عن تراض غير منهيّ عنه ، أو اقصدوا كون تجارة. و «عن تراض» صفة لـ «تجارة» ، أي : تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين. وتخصيص التجارة من الوجوه الّتي بها يحلّ تناول مال الغير ، لأنّها أغلب وأوفق لذوي المروءات. ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقا بأحد العقود السائغة.

وقرأ الكوفيّون : تجارة ، بالنصب على «كان» الناقصة وإضمار الاسم ، أي : إلّا أن تكون التجارة أو الجهة تجارة.

(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بأن تقاتلوا الّذين لا تطيقونهم فيقتلوكم. أو بالبخع (١) ، بأن يقتل الرجل نفسه ، كما يفعله بعض الجهّال في حال غضب أو ضجر أو بارتكاب ما يؤدّي إلى قتلها.

وقيل : المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم ، فإنّ المؤمنين كنفس واحدة ، كقوله عليه‌السلام : «سلّموا على أنفسكم».

فالمعنى : لا يقتل بعضكم بعضا ، أو لا تقتلوا أنفسكم ، بأن تهلكوها بارتكاب الآثام ، والعدوان في أكل مال بالباطل ، وغيره من المعاصي الّتي بها تستحقّون العذاب ، فإنّه القتل الحقيقي للنفس.

__________________

(١) بخع نفسه : نهكها ، وكاد يهلكها من غضب أو غمّ.

٥٠

والقول الأوّل مرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وعلى التقادير ؛ جمع الله تعالى في هذه الآية التوصية بين حفظ النفس والمال الّذي هو شقيقها ، من حيث إنّه سبب قوامها ، استبقاء لهم ، ريثما تستكمل النفوس وتستوفي فضائلها ، رأفة ورحمة عليهم ، ولهذا قال بعد ذلك : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي : أمر ما أمر ونهى عمّا نهى لفرط رحمته عليكم. ومعناه : أنّه كان بكم يا أمّة محمّد رحيما ، لأنّه أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ، ونهاكم عنه.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) إشارة إلى القتل ، أو ما سبق من المحرّمات (عُدْواناً وَظُلْماً) إفراطا في التجاوز عن الحقّ ، وأخذا على غير وجه الاستحقاق. وقيل : أراد بالعدوان التعدّي على الغير ، وبالظلم ظلم النفس بتعريضها للعقاب. (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) ندخله نارا مخصوصة شديدة العذاب (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لا عسر فيه ، ولا صارف عنه.

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١))

ولمّا قدّم سبحانه ذكر السيّئات عقّبه بالترغيب في اجتنابها ، فقال : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) كبائر الذنوب الّتي نهاكم الله ورسوله عنها (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) نغفر لكم صغائركم ، ونمحها عنكم (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) الجنّة وما وعد فيها من الثواب ، أو إدخالا مع كرامة.

وقرأ نافع بفتح الميم. وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر.

واختلف في الكبائر ، والأقرب أنّ الكبيرة كلّ ذنب رتّب الشارع عليه حدّا ، وصرّح بالوعيد فيه. وقيل : ما علم حرمته بقاطع.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس الّتي حرّم الله ، وقذف

٥١

المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والربا ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين.

وعن ابن عبّاس : الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنّه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار. رواهما الواحدي (١) في تفسيره بالإسناد مرفوعا.

وقيل : أراد بها ها هنا أنواع الشرك ، لقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) (٢).

وقيل : صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها ، فأكبر الكبائر الشرك ، وأصغر الصغائر حديث النفس ، وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران. ولعلّ هذا ممّا يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال ، ألا ترى أنّه تعالى عاتب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كثير من خطراته الّتي لم تعدّ على غيره خطيئة ، فضلا أن يؤاخذه عليها.

وروى عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ ، عن أبيه عليّ بن موسى الرضا ، عن أبيه موسى بن جعفر عليهم‌السلام ، قال : «دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، فلمّا سلّم وجلس تلا هذه الآية : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) (٣) ثم أمسك.

فقال أبو عبد الله : ما أسكتك؟

قال : أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله عزوجل.

قال : نعم ، يا عمرو أكبر الكبائر : الشرك بالله ، لقول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٤) وقال : (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ

__________________

(١) الوسيط ٢ : ٤٠ ـ ٤١.

(٢) النساء : ٤٨.

(٣) الشورى : ٣٧.

(٤) النساء : ٤٨ و١١٦.

٥٢

النَّارُ) (١).

وبعده اليأس من روح الله ، لأنّ الله يقول : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٢).

ثم الأمن من مكر الله ، لأنّ الله يقول : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٣).

ومنها : عقوق الوالدين ، لأنّ الله عزوجل جعل العاقّ جبّارا شقيّا في قوله : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) (٤).

ومنها : قتل النفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ ، لأنّه سبحانه يقول : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٥) الآية.

وقذف المحصنات ، لأنّ الله عزوجل يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٦).

وأكل مال اليتيم ظلما ، لقوله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) (٧) الآية.

والفرار من الزحف ، لأنّ الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٨).

__________________

(١) المائدة : ٧٢.

(٢) يوسف : ٨٧.

(٣) الأعراف : ٩٩.

(٤) مريم : ٣٢.

(٥) النساء : ٩٣.

(٦) النور : ٢٣.

(٧) النساء : ١٠.

(٨) الأنفال : ١٦.

٥٣

وأكل الربا ، لأنّ الله عزوجل يقول : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) (١). ويقول : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) (٢).

والسحر ، لأنّ الله عزوجل يقول : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٣).

والزنا ، لأنّ الله تعالى يقول : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) (٤).

واليمين الغموس ، لأنّ الله تعالى يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) (٥).

والغلول ، فإنّ الله سبحانه يقول : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٦).

ومنع الزكاة المفروضة ، لأنّ الله تعالى يقول : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) (٧) الآية.

وشهادة الزور وكتمان الشهادة ، لأنّ الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (٨).

وشرب الخمر ، لأنّ الله عزوجل عدل بها عبادة (٩) الأوثان.

وترك الصلاة متعمّدا ، أو شيئا من ما فرض الله عزوجل ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥ ، ٢٧٩ ، ١٠٢.

(٢) البقرة : ٢٧٥ ، ٢٧٩ ، ١٠٢.

(٣) البقرة : ٢٧٥ ، ٢٧٩ ، ١٠٢.

(٤) الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩.

(٥) آل عمران : ٧٧ ، ١٦١.

(٦) آل عمران : ٧٧ ، ١٦١.

(٧) التوبة : ٣٥.

(٨) البقرة : ٢٨٣.

(٩) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) المائدة : ٩٠.

٥٤

«من ترك الصلاة متعمّدا فقد برىء من ذمّة الله وذمّة رسوله».

ونقض العهد وقطيعة الرحم ، لأنّ الله يقول : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (١).

قال : فخرج عمرو وله صراخ من بكائه ، وهو يقول : هلك من قال برأيه ، ونازعكم في الفضل والعلم».

وعن ابن مسعود : كلّما نهى الله عنه من أوّل السورة إلى رأس الثلاثين فهو كبيرة.

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢))

ولمّا بيّن سبحانه حكم المواريث ، وفضّل بعضهم على بعض في ذلك ، وانساق الكلام إلى هاهنا ، عقّبه بتحريم التمنّي الّذي هو سبب التباغض ، فقال : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) من الأمور الدنيويّة ، كالمال والجاه.

والمعنى : لا يقل أحدكم : ليت ما أعطي فلان من المال والجاه كان لي ، فإنّ ذلك يكون حسدا. ولكن يجوز أن يقول : اللهمّ أعطني مثله. وهذا المعنى منقول عن ابن عبّاس ، ومرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

ففي الآية نهي عن التحاسد الّذي يقتضيه تمنّي ما فضّل الله بعض الناس على بعض ، من المال والجاه والجمال. ولمّا كان ذلك التفضّل قسمة من الله العالم بأحوال

__________________

(١) الرعد : ٢٥.

٥٥

العباد ، فواجب على العبد أن يرضى بقسمته الصادرة عن الحكمة والعلم بالمصلحة ، كما بيّنه بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) أي : لكلّ من الرجال والنساء فضل ونصيب بسبب ما اكتسب ، ومن أجله ، من التجارات والزراعات والصناعات ، فاطلبوا الفضل بالعمل لا بالحسد والتمنّي ، فينبغي أن يقنع كلّ منهم ويرضى بما قسّم الله له من كسبه.

وقيل : المراد نصيب الميراث ، وتفضيل الورثة بعضهم على بعض فيه. فجعل سبحانه ما قسّمه لكلّ من الرجال والنساء ـ على حسب ما عرفه من صلاحه ـ كسبا له على سبيل الاتّساع ، فإنّ الاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة والإحراز.

روي أنّ أمّ سلمة قالت : يا رسول الله يغزوا الرجال ولا نغزو ، وإنّما لنا نصف الميراث ، ليتنا كنّا رجالا ، فنزلت : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ).

(وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي : لا تتمنّوا ما للناس ، واسألوا الله مثله من خزائنه الّتي لا تنفد. قال سفيان بن عيينة : لم يأمرنا بالمسألة إلّا ليعطي. وعن ابن مسعود ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «سلوا الله من فضله ، فإنه يحبّ أن يسأل» و «أفضل العبادة انتظار الفرج».

وقرأ ابن كثير والكسائي : «وسلوا الله من فضله» ، «وسلهم» (١) ، «فسل الّذين» (٢) وشبهه ، إذا كان أمرا للمواجه في كلّ القرآن ، وقبل السين واو أو فاء بغير همز. وحمزة في الوقف على الأصل ، والباقون بالهمز. ولم يختلفوا في (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) (٣) أنّه مهموز.

__________________

(١) الأعراف : ١٦٣.

(٢) يونس : ٩٤.

(٣) الممتحنة : ١٠.

٥٦

(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فهو يعلم ما يستحقّه كلّ إنسان ، فيفضّل عن علم وتبيان.

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣))

ثم عاد سبحانه إلى ذكر المواريث ، فقال : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي : ولكلّ تركة جعلنا ورّاثا يلونها ويحرزونها. و «ممّا ترك» بيان «لكلّ» مع الفصل بالعامل. أو المعنى : ولكلّ ميّت جعلنا ورّاثا ممّا ترك ، على أنّ «من» صلة «موالي» ، لأنّه في معنى الوارث الّذي هو أولى بالإرث. وفي ترك ضمير «كلّ» و «الوالدان» و «الأقربون» استئناف مفسّر للموالي ، كأنّه قيل : من هم؟ فيجاب : الوالدان والأقربون. أو : ولكلّ قوم جعلناهم موالي حظّ ممّا ترك الوالدان والأقربون ، على أن «جعلنا موالي» صفة «لكلّ» والراجع إليه محذوف.

(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) المراد بالموصول موالي الموالاة. كان الرجل في الجاهليّة يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وهدمي (١) هدمك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتعقل عنّي وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف. فنسخ بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (٢). أو المراد الأزواج ، على أنّ المراد عقد النكاح.

وعلى التقديرين ؛ الموصول مع صلته مبتدأ ضمّن معنى الشرط ، وخبره (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي : فأعطوهم نصيبهم. أو منصوب بمضمر يفسّره ما بعده ،

__________________

(١) الهدم : المهدر من الدماء. يقال : دمه هدم ، أي : هدر.

(٢) الأنفال : ٧٥.

٥٧

كقولك : زيدا فاضربه. أو معطوف على «الوالدان» ، وقوله «فآتوهم نصيبهم» جملة مسبّبة عن الجملة المتقدّمة ، مؤكّدة لها ، والضمير للموالي.

وقرأ الكوفيّون : عقدت ، بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم ، فحذف العهود وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه ، فصار : عقدوا ، ثمّ حذف كما حذف في القراءة الأولى ، فأسند العقود إلى الأيمان على سبيل التجوّز.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) تهديد على منع نصيبهم.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤))

ولمّا بيّن الله تعالى فضل الرجال على النساء ، ذكر عقيبه فضلهم في القيام بأمر النساء ، فقال : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) يقومون عليهنّ بالأمر والنهي والتدبير والتأديب ، كما تقوم الولاة على رعاياهم.

ثم علّل ذلك بأمرين : موهوبي وكسبي ، فقال : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بسبب تفضيل الله بعضهم ـ وهم الرجال ـ على بعض ـ يعني : النساء ـ بكمال العقل والحزم وحسن التدبير ، ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات ، فلذلك خصّوا بالنبوّة والإمامة والولاية ، ووجوب الأذان والخطبة والجهاد والجمعة ، وزيادة السهم وعدد الأزواج ، والاستبداد بالفراق ، وغير ذلك من شعائر الإسلام (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) في نكاحهنّ ، كالمهر والنفقة.

٥٨

قال مقاتل : نزلت الآية في سعد بن الربيع بن عمرو ، وكان من النقباء ، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، وهما من الأنصار. وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها ، فانطلق أبوها معها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أفرشته كريمتي فلطمها. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتقتصّ من زوجها. فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارجعوا هذا جبرئيل أتاني وأنزل الله هذه الآية. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، والّذي أراد الله خير ، ورفع القصاص.

وقال الكلبي : نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن مسلمة.

وذكر القصّة نحوها.

وقال أبو روق ، نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبيّ وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس. وذكر قريبا منه.

وعلى تقدير صحّة النقل فالآية ناسخة لحكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو أيضا من حكم الله تعالى.

(فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ) مطيعات لله تعالى ، قائمات بحقوق الأزواج (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) لمواجب الغيب ، أي : يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب عليهنّ في النفس والمال.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها (١) ونفسها ، وتلا هذه الآية».

وقيل : حافظات لأسرار أزواجهنّ (بِما حَفِظَ اللهُ) بحفظ الله إيّاهنّ بالأمر على حفظ الغيب ، والحثّ عليه بالوعد والوعيد ، والتوفيق له ، فتكون «ما»

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «أضاف المال إليها وإن كان للزوج ، لملابستها بالتصرّف فيه ، ونحوه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) والمراد أموالهم ، فأضافها إلى الأولياء لتصرّفهم فيها. منه». والآية في سورة النساء : ٥.

٥٩

مصدريّة. أو بالّذي حفظه الله لهنّ عليهم من المهر والنفقة ، والقيام بحفظهنّ والذبّ عنهنّ ، فتكون موصولة.

(وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) عصيانهنّ وترفّعهنّ عن مطاوعة الأزواج ، مأخوذ من النشز ، وهو الانزعاج والترفّع (فَعِظُوهُنَ) أوّلا بالوعظ والنصيحة ، بأن تقولوا لهنّ : اتّقين الله وارجعن إلى طاعتنا.

(وَاهْجُرُوهُنَ) ثانيا إن لم تنجع النصيحة (فِي الْمَضاجِعِ) في المراقد.

وهي كناية عن الجماع. وقيل : معناه : لا تدخلوهنّ تحت اللحف. وقيل : هو أن يولّيها ظهره في المضجع. وهذا القول مرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام.

(وَاضْرِبُوهُنَ) ثالثا إن لم يفد الهجران ، ضربا غير مبرح (١) للجلد ، ولا كاسر للعظم. والأمور الثلاثة مترتّبة ، فينبغي أن يتدرّج فيها.

(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) بترك النشوز ، بأن رجعن إلى طاعتكم في الائتمار لأمركم (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) بالتوبيخ والإيذاء. والمعنى : فأزيلوا عنهنّ التعرّض ، واجعلوا ما كان منهنّ كأن لم يكن ، فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) فاحذروه ، فإنّه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم. أو إنّه على علوّ شأنه يتجاوز عن سيّئاتكم ويتوب عليكم ، فأنتم أحقّ بالعفو عن أزواجكم. أو إنّه يتعالى ويتكبّر أن يظلم أحدا أو ينقص حقّه.

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥))

ولمّا قدّم سبحانه الحكم عند مخالفة أحد الزوجين صاحبه ، عقّبه بذكر

__________________

(١) أي : غير مزيل.

٦٠