زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨))

ثمّ عطف سبحانه على الآيات الّتي احتجّ بها على مشركي العرب وغيرهم ، فقال : (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك التفصيل الواضح (نُفَصِّلُ الْآياتِ) آيات القرآن في صفة المطيعين والمجرمين ، المصرّين منهم والأوّابين. (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ).

قرأ نافع بالتاء ونصب السبيل ، على معنى : ولتستوضح يا محمد سبيلهم ، فتعامل كلّا منهم بما يحقّ له ، فصّلنا هذا التفصيل. وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم برفعه ، على معنى : ولتبين سبيلهم. والباقون بالياء والرفع ، على تذكير السبيل ، فإنّه يذكّر ويؤنّث. ويجوز أن يعطف على علّة مقدّرة ، أي : نفصّل الآيات ليظهر الحقّ ، ولتستبين سبيل المجرمين.

ثمّ أمر الله تعالى نبيّه بأن يظهر البراءة ممّا يعبدونه ، فقال : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) زجرت بما ركّب فيّ من أدلّة العقل ، وبما أوتيت من الآيات من أدلّة السمع في أمر

٤٠١

التوحيد (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) عن عبادة ما تعبدون من دون الله ، أو ما تدعونها آلهة ، أي : تسمّونها.

ثمّ أكّد قطعا لأطماعهم ، وإشارة إلى الموجب للنهي وعلّة الامتناع عن متابعتهم ، واستجهالا لهم ، وبيانا لمبدأ ضلالهم ، وأنّ ما هم عليه هوى وليس بهدى ، وتنبيها لمن تحرّى الحقّ على أن يتّبع الحجّة ولا يقلّد ، فقال : (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) أي : لا أجري على طريقتكم الّتي سلكتموها في دينكم ، من اتّباع الهوى دون اتّباع الدليل. (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي : إن اتّبعت أهواءكم فأنا ضالّ. (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) السالكين طريق الهدى حتى أكون من عدادهم. وفيه تعريض بأنّهم كذلك.

ثمّ نبّه على ما يجب اتّباعه بعد ما بيّن ما لا يجوز اتّباعه ، فقال : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ) البيّنة الدلالة الواضحة الّتي تفصل الحقّ من الباطل. وقيل : المراد بها القرآن والوحي ، أو الحجج العقليّة ، أو ما يعمّها. والمعنى : إنّي على حجّة واضحة وشاهد صدق (مِنْ رَبِّي) من معرفته وأنّه لا معبود سواه. وإذا كان الشيء ثابتا عندك ببرهان قاطع قلت : أنا على يقين منه وعلى بيّنة منه. ويجوز أن يكون صفة لـ «بيّنة» ، إذ المراد بالبيّنة الدليل ، أي : على حجّة من جهة ربّي ، وهو القرآن.

(وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) الضمير لـ «ربّي» ، أي : وكذّبتم بالله حيث أشركتم به غيره. أو للبيّنة باعتبار المعنى ، وهو القرآن.

ثمّ عقّبه بما دلّ على استعظام تكذيبهم بالله ، وشدّة غضبه عليهم لذلك ، وأنّهم أحقّاء بأن يغافصوا (١) بالعذاب المستأصل ، فقال : (ما عِنْدِي) ليس عندي (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) يعني : العذاب الّذي استعجلوه بقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢). (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) في تعجيل عذابكم وتأخيره

__________________

(١) غافصه : فاجأه وأخذه على غرّة منه.

(٢) الأنفال : ٣٢.

٤٠٢

(يَقُصُّ الْحَقَ) أي : يفصّل الحقّ من الباطل. أو يصنع الحقّ ويدبّره في كلّ ما يقضي من التأخير والتعجيل ، من قولهم : قضى الدّرع إذا صنعها. أو يقضي القضاء الحقّ ، على أنّه صفة المصدر المحذوف. وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر. وأصل الحكم المنع ، فكأنّه منع الباطل. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم : يقصّ ، أي : يتبع ، من : قصّ الأثر ، أو من : قصّ الخبر (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) القاضين بين الحقّ والباطل.

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي) في قدرتي ومكنتي (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي : لأهلكتكم عاجلا غضبا لربّي ، وانقطع ما بيني وبينكم ، فتخلّصت منكم سريعا. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) في معنى الاستدراك ، كأنّه قال : ولكنّ الأمر إلى الله ، وهو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ ، وبمن ينبغي أن يمهل منهم.

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩))

ولمّا ذكر سبحانه أنّه أعلم بالظالمين ، بيّن عقيبه أنّه لا يخفى عليه شيء من الغيب ، ويعلم أسرار العالمين ، فقال : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) خزائنه. جمع مفتح بفتح الميم ، وهو المخزن ، أو جميع ما يتوصّل به إلى المغيّبات. مستعار من المفاتح الّذي هو جمع مفتح بالكسر ، وهو المفتاح ، لأنّ بالمفاتح يتوصّل إلى ما في المخازن المغلقة ، وهو المتوصّل إلى المغيّبات بذاته وحده المحيط علمه بها ، لا يتوصّل إليها سواه ، كما يتوصّل إلى ما في المخازن من عنده مفاتح أقفاله.

٤٠٣

(لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم ، فيظهرها على ما اقتضته حكمته ، وتعلّقت به مشيئته. وفيه دليل على أنّه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها.

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) عطف للإخبار عن تعلّق علمه بالمشاهدات على الإخبار عن اختصاص العلم بالمغيّبات به.

(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) يعلم ما سقط من ورق الأشجار وما بقي ، ويعلم أنّها كم انقلبت ظهرا لبطنها عند سقوطها ، مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيّات.

(وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) بواطنها إلى تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) معطوف على «ورقة» وداخل في حكمها ، كأنّه قيل : وما تسقط من ورقة ولا شيء من هذه الأشياء إلّا يعلمه.

وقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) بدل من الاستثناء الأوّل بدل الكلّ ، على أنّ الكتاب المبين علم الله. أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح. أو كالتكرير لقوله : (إِلَّا يَعْلَمُها) لأنّ معنى (إِلَّا يَعْلَمُها) و (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) واحد. وقيل : المراد بالكتاب المبين القرآن.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))

ولمّا نبّه سبحانه بهذه الآية على أنّه عالم بالذات ، أشار بعد ذلك إلى أنّه قادر

٤٠٤

بالذات ، من حيث إنّه قادر على الإحياء والإماتة ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي : يقبض أرواحكم عن التصرّف بالنوم كما يقبضها بالموت. استعير التوفّي من الموت للنوم ، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز ، فإنّ أصله قبض الشيء بتمامه.

(وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) كسبتم فيه من الأعمال. خصّ الليل بالنوم والنهار بالكسب جريا على المعتاد.

(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) يوقظكم. أطلق البعث ترشيحا للتوفّي (فِيهِ) في النهار (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) ليبلغ المتيقّظ آخر أجله المسمّى له في الدنيا (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بالموت. وهو المرجع إلى موقف الحساب. (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في ليلكم ونهاركم بالمجازاة عليه.

وقيل : الآية خطاب للكفرة. والمعنى : أنّكم ملقون كالجيف بالليل ، وكاسبون للآثام بالنهار ، وأنّه مطّلع على أعمالكم ، يبعثكم من القبور في شأن ذلك الّذي قطعتم به أعماركم ، من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ، ليقضي الأجل الّذي سمّاه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ، ثمّ إليه مرجعكم بالحساب ، ثمّ ينبّئكم بما كنتم تعملون بالجزاء.

ثمّ بيّن كمال قدرته بقوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ) المقتدر المستعلي (فَوْقَ عِبادِهِ) أي : هو أعلى أمرا ، وأنفذ حكما. لا بمعنى أنّه في مكان مرتفع فوقهم وفوق مكانهم ، لأنّ ذلك من صفة الأجسام ، والله تعالى منزّه عن ذلك.

(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) ملائكة تحفظ أعمالكم ، وهم الكرام الكاتبون.

وهذا عطف على صلة الألف واللام في القاهر ، تقديره : وهو الّذي يقهر عباده ويرسل عليكم حفظة. والحكمة فيه ـ وإن كان الله تعالى غنيّا بعلمه عن كتبة الملائكة ـ : أنّ المكلّف إذا علم أنّ أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس

٤٠٥

الأشهاد كان أزجر عن المعاصي ، وأنّ العبد إذا وثق بلطف سيّده واعتمد على عفوه وستره لم يستح منه استحياءه من خدمه المطّلعين عليه.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) استوفى روحه ملك الموت وأعوانه. وقرأ حمزة : توفّاه ، بالألف ممالة. ويجوز أن يكون ماضيا ، وأن يكون مضارعا ، بمعنى : تتوفّاه. (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) بالتواني والتأخير ، فإن التفريط التقصير والتأخير عن الحدّ ، والإفراط مجاوزته. وعن مجاهد : جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله ، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كلّ يوم مرّتين.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) إلى حكمه وجزائه (مَوْلاهُمُ) مالكهم الّذي يتولّى أمرهم (الْحَقِ) العدل الّذي لا يحكم إلّا بالحقّ (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يومئذ ، لا حكم لغيره فيه. (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة ، ولا يشغله حساب من حساب.

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل : «كيف يحاسب الخلق ولا يرونه؟

قال : كما يرزقهم ولا يرونه».

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤))

ثمّ عاد سبحانه إلى حجاج الكفّار ، فقال : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ

٤٠٦

وَالْبَحْرِ) من شدائدهما ومخاوفهما. استعيرت الظلمة للشدّة والحاجة ، لمشاركتهما في الهول وإبطال الأبصار ، فقيل لليوم الشديد : يوم مظلم ويوم ذو كواكب ، أي : اشتدّت ظلمته حتّى صار كالليل. أو من الخسف في البرّ والغرق في البحر بذنوبهم.

وقرأ يعقوب : ينجيكم بالتخفيف. والمعنى واحد.

(تَدْعُونَهُ) عند معاينة هذه الأهوال (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) معلنين ومسرّين ، أو إعلانا وإسرارا. وقرأ أبو بكر عن عاصم : خفية بالكسر (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ) أي : هذه الظلم الشديدة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على إرادة القول ، أي : تقولون : لئن أنجيتنا من هذه.

وقرأ الكوفيّون : لئن أنجانا ، ليوافق قوله : «تدعونه» ، إلّا أنّ حمزة والكسائي أمالاه.

(قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) من هذه الشدّة. وشدّده الكوفيّون وهشام عن ابن عامر ، وخفّفه الباقون. (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) غمّ سواها (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) تعودون إلى الشرك ، ولا توفون بالعهد بعد قيام الحجّة عليكم. وإنّما وضع «تشركون» موضع : لا تشكرون ، تنبيها على أنّ من أشرك في عبادة الله تعالى فكأنّه لم يعبده رأسا.

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥))

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من الحجج الّتي حاجّ بها الكافرين ، ونبّه على

٤٠٧

الإعذار والإنذار ، فقال إيعادا وتهديدا : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ) ذكر حرف التعريف يشعر بكمال قدرته ، لأنّه أمارة تخصيص القدرة به ، كأنّه يقول : أيّها المخاطب الساكت تعرف قادرا فذلك هو هو لا غير (عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) كما أرسل على قوم نوح الطوفان ، وأمطر على قوم لوط وأصحاب الفيل الحجارة (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كما أغرق فرعون ، وخسف بقارون.

وقيل : «من فوقكم» : من قبل أكابركم الظلمة وحكّامكم الجائرة ، و «تحت أرجلكم» : من قبل سفلتكم وعبيدكم. وهذا منقول عن ابن عبّاس. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وقيل : هو حبس المطر والنبات.

(أَوْ يَلْبِسَكُمْ) يخلطكم (شِيَعاً) فرقا مختلفي الأهواء ، كلّ فرقة منهم شائعة لإمام. ومعنى خلطهم : أن يختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال ، من قوله :

وكتيبة لبّستها بكتيبة

حتّى إذا التبست نفضت لها يدي

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «معناه : يضرب بعضكم ببعض ممّا يلقيه بينكم من العداوة والعصبيّة».

(وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) يقاتل بعضكم بعضا (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) بالوعد والوعيد (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) يعلمون الحقّ بها.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سألت الله أن لا يبعث على أمّتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني».

وكذا عن الحسن قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سألت الله ربّي أن لا يظهر على أمّتي أهل دين فأعطاني ، وسألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني ، وسألته أن لا يجمعهم على ضلالة فأعطاني ، وسألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني».

وفي تفسير الكلبي : «أنّه لمّا نزلت هذه الآية قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتوضّأ وأسبغ وضوءه ، ثمّ قام وصلّى فأحسن صلاته ، ثمّ سأل الله سبحانه أن لا يبعث على أمّته

٤٠٨

عذابا من فوقهم ، ولا من تحت أرجلهم ، ولا يلبسهم شيعا ، ولا يذيق بعضهم بأس بعض.

فنزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد إنّ الله تعالى سمع مقالتك ، وإنّه قد أجارهم من خصلتين ، ولم يجرهم من خصلتين ، أجارهم من أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ، ولم يجرهم الخصلتين الأخريين.

فقام وعاد إلى الدعاء ، فنزل : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (١) الآيتين. فقال : لا بدّ من فتنة تبتلي بها الأمّة بعد نبيّها ، ليتبيّن الصادق من الكاذب ، لأنّ الوحي انقطع ، وبقي السّيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة».

وفي الخبر أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا وضع السيف في أمّتي لم يدفع عنها إلى يوم القيامة ، فأخبرني جبرئيل أنّ فناء أمّتي بالسيف.

وعن جابر بن عبد الله : لمّا نزل «من فوقكم» قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعوذ بوجهك. فلمّا نزل (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) قال : هاتان أهون.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨))

ولمّا ذكر سبحانه تصريف الآيات قال عقيب ذلك : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) أي :

__________________

(١) العنكبوت : ١ ـ ٢.

٤٠٩

بالعذاب أو بالقرآن (وَهُوَ الْحَقُ) الواقع لا محالة ، أو الصدق (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بحفيظ وكلّ إليّ أمركم ، فأمنعكم من التكذيب إجبارا أو أجازيكم ، إنّما أنا منذر والله الحفيظ.

ثمّ قال تهديدا وإيعادا : (لِكُلِّ نَبَإٍ) لكلّ شيء ينبأ ويخبر به ، إمّا العذاب أو الإيعاد به (مُسْتَقَرٌّ) وقت استقرار ووقوع لا بدّ من حصوله (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند وقوعه في الدنيا أو في الآخرة.

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فلا تجالسهم ، وقم عنهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) فلا بأس بأن تجالسهم حينئذ. والضمير عائد إلى معنى الآيات ، لأنّها القرآن.

(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) بأن يشغلك بوسوسته حتّى تنسى النهي عن مجالستهم. وقرأ ابن عامر : ينسّينّك بالتشديد. (فَلا تَقْعُدْ) معهم (بَعْدَ الذِّكْرى) بعد أن تذكر النهي (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : معهم. فوضع الظاهر موضعه ، دلالة على أنّهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام. ويجوز أن يراد : إن أنساك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين ، لأنّها ممّا تنكره العقول ، فلا تقعد معهم بعد أن ذكّرناك قبحها ونبّهناك عليه.

واعلم أنّ النسيان المنفيّ عن الأنبياء وكذا السهو هو الّذي فيما يؤدّونه عن الله ، وأمّا ما سواه فقد جوّز أصحابنا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالأدلّة العقليّة وخطأ فيها ، وكيف لا يكون كذلك! وقد جوّزوا عليهم النوم والإغماء ، وهما من قبيل السهو. كذا قال الطبرسي في تفسيره الجامع (١).

__________________

(١) لم نجده في جوامع الجامع ، وذكره في مجمع البيان ٤ : ٣١٧.

٤١٠

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))

روي : أنّ المسلمين قالوا : لئن كنّا نقوم كلّما استهزؤا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد ونطوف ، فنزلت : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) ما يلزم المتّقين الّذين يجالسونهم (مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ممّا يحاسبون عليه من قبائح أعمالهم

٤١١

وأقوالهم (وَلكِنْ ذِكْرى) ولكن عليهم أن يذكّروهم ذكرى وموعظة ، ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح ، ويظهروا كراهتها.

ويحتمل رفع «ذكرى» على تقدير : ولكن عليهم ذكرى. ولا يجوز عطفه على محلّ «من شيء» ، كقولك : ما في الدار من أحد ولكن زيد ، لأنّ «من حسابهم» يأباه. ولا على «شيء» لذلك ، ولأنّ «من» لا تزاد في الإثبات.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يجتنبون ذلك حياء ، أو كراهة لمساءتهم. ويحتمل أن يكون الضمير للّذين يتّقون. والمعنى : لعلّهم يثبتون على تقواهم ، ولا تنثلم بمجالستهم.

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي : بنوا أمر دينهم على التشهّي ، وتديّنوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلا وآجلا ، كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب. أو اتّخذوا دينهم الّذي كلّفوه لعبا ولهوا حيث سخروا به. أو جعلوا عيدهم الّذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو ولعب. والمعنى : أعرض عنهم ، ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم. ويجوز أن يكون تهديدا لهم ، كقوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١). والمعنى : أعرض عنهم ، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ، ولا تشغل قلبك بهم. وعند من جعله منسوخا بآية السيف (٢) معناه : كفّ عنهم ، واترك التعرّض لهم.

(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) يعني : اغترّوا بحياتهم حتى أنكروا البعث (وَذَكِّرْ بِهِ) أي : بالقرآن (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أي : مخافة أن تسلم نفس إلى الهلاك والعذاب ، وترتهن بسوء كسبها. وأصل الإبسال المنع ، لأنّ المسلّم إليه يمنع المسلّم. ومنه أسد باسل ، لأنّ فريسته لا تفلت منه. والباسل : الشجاع ، لامتناعه من

__________________

(١) المدّثر : ١١.

(٢) التوبة : ٥ و٢٩.

٤١٢

قرنه. وهذا بسل عليك ، أي : حرام.

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌ) ناصر ينجيها من العذاب (وَلا شَفِيعٌ) يشفع لها ويدفع عنها العقاب.

(وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) وإن تفد كلّ فداء. والعدل : الفدية ، لأنّها تعادل المفدى.

وهاهنا الفداء. ونصب «كلّ» على المصدر. (لا يُؤْخَذْ مِنْها) الفعل مسند إلى «منها» لا إلى ضمير العدل ، لأنّه هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ ، بخلاف قوله : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) (١) ، فإنّه بمعنى المفدى به ، فصحّ إسناده إليه.

(أُولئِكَ) إشارة إلى الّذين اتّخذوا دينهم لعبا (الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) أي : سلّموا إلى العذاب بسبب كسبهم الأعمال القبيحة والعقائد الزائغة.

ثمّ أكّد وفصّل ذلك بقوله : (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي : هم بين ماء مغليّ يتجرجر (٢) في بطونهم ، ونار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم.

(قُلْ أَنَدْعُوا) أنعبد (مِنْ دُونِ اللهِ) النافع الضارّ (ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) ما لا يقدر على نفعنا ولا ضرّنا ، أي : إن تركنا عبادته (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) ونرجع إلى الشرك (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) فأنقذنا منه ، ورزقنا الإسلام.

(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) كالّذي ذهبت به مردة الجنّ والغيلان في المهامه (٣). استفعال من : هوى في الأرض يهوي ، إذا ذهب ، كأنّ المعنى : طلبت الشياطين هواه. وقرأ حمزة : استهواه بألف ممالة.

ومحلّ الكاف النصب على الحال من فاعل «نردّ» ، أي : مشبّهين الّذي

__________________

(١) البقرة : ٤٨.

(٢) جرجر الماء في حلقه : صوّت.

(٣) المهامه جمع المهمه ، وهو الصحراء.

٤١٣

استهوته. أو على المصدر ، أي : ردّا مثل ردّ الّذي استهوته.

(فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) متحيّرا ضالّا عن الطريق (لَهُ) أي : لهذا المستهوى (أَصْحابٌ) رفقة (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) إلى أن يهدوه الطريق المستقيم. أو سمّي الطريق المستقيم بالهدى ، أي : يدعونه إلى الطريق المستقيم. وسمّاه هدى تسمية للمفعول بالمصدر. (ائْتِنا) يقولون له : ائتنا. وقد اعتسف المهمه تابعا للجنّ ، لا يجيبهم ولا يأتيهم. وهذا مبنيّ على ما تزعمه العرب أنّ الجنّ تستهوي الإنسان ، والغيلان كذلك ، فشبّه به الضالّ عن الإسلام الّذي لا يلتفت إلى دعاء المسلمين إيّاه.

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) الّذي هو الإسلام (هُوَ الْهُدى) وحده ، وما عداه ضلال.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (١). (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) (٢).

(وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) من جملة المقول ، عطف على (إِنَّ هُدَى اللهِ).

واللام لتعليل الأمر ، أي : أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم. وقيل : هي زائدة.

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) عطف على «لنسلم» ، أي : للإسلام ولإقامة الصلاة. أو على موقعه ، كأنّه قيل : وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا ، بمعنى : للإسلام ولإقامة الصلاة (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ) إلى جزائه (تُحْشَرُونَ) يوم القيامة ، فيجازي كلّ عامل منكم بعمله.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) قائما بالحقّ والحكمة (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) جملة اسميّة قدّم فيها الخبر ، وهو «يوم» ، أي : قوله الحقّ يوم يقول ، كقولك : القتال يوم الجمعة. والمعنى : أنّه خالق السماوات والأرضين ، وقوله الحقّ نافذ في الكائنات.

وقيل : «يوم» منصوب بالعطف على السماوات ، أو على الهاء في «واتّقوه».

__________________

(١) آل عمران : ٨٥.

(٢) يونس : ٣٢.

٤١٤

والمراد : حين يكوّن الأشياء ويحدثها ، أو حين تقوم القيامة ، فيكون التكوين حشر الأموات وإحياءها.

(وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) كقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١). و «الصور» قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين ، فيفنى الخلق بالنفخة الأولى ، ويحيون بالثانية. (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : هو عالم الغيب (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أفعاله (الْخَبِيرُ) العالم بعباده وأعمالهم.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥))

ولمّا عاب الله سبحانه دين المشركين وذمّ آلهتهم ، واحتجّ عليهم بما سلف من بيان حقّية دين الإسلام ، بيّن أنّه دين أبيهم الّذي كان ذا قدر عظيم ، وهو إبراهيم عليه‌السلام ، فقال : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ). قال العامّة : إنّه اسم أب إبراهيم ، كما أنّ تارخ اسمه ، فهما علمان ، كإسرائيل ويعقوب. ولا خلاف بين النسّابين أنّ اسم أب إبراهيم تارخ.

وقال أصحابنا : إنّ آزر كان اسم جدّ إبراهيم لأمّه. وروي أيضا أنّه كان عمّه. وقالوا : إنّ آباء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى آدم كانوا موحّدين. ورووا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لم يزل ينقلني الله تعالى من صلب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات ، لم يدنّسني بدنس

__________________

(١) غافر : ١٦.

٤١٥

الجاهليّة».

ولو كان في آبائه عليه‌السلام كافر لم يصف جميعهم بالطهارة ، لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (١). وفي ذلك أدلّة وبراهين ليس هاهنا موضع ذكرها.

وقيل : إنّ آزر اسم صنم يعبده ، فلقّب به للزومه عبادته. وعند بعض أنّ آزر وصف معناه : الشيخ أو المعوجّ. ولعلّ منع صرفه لأنّه أعجميّ حمل على موازنه (٢) ، أو نعت مشتقّ من الأزر أو الوزر. والأقرب أنّه علم أعجميّ على فاعل ، كعابر وشالخ : وقرأ يعقوب : آزر بالضمّ على النداء. وهو يدلّ على أنّه علم.

وقوله : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) الهمزة للإنكار ، أي : لا تفعل ذلك (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ) عن الحقّ (مُبِينٍ) ظاهر الضلالة.

وفي الآية حثّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على محاجّة قومه الّذين دعوه إلى عبادة الأصنام ، والاقتداء بأبيه إبراهيم عليه‌السلام فيه ، وتسلية له بذلك.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) ومثل هذا التبصير نبصّره. وهو حكاية حال ماضية (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ربوبيّتها وملكها ، ونوفّقه لمعرفتها ، ونهديه لطريق النظر والاستدلال. وقيل : عجائبها اللطيفة وبدائعها المحكمة. والملكوت أعظم الملك. والتاء فيه للمبالغة.

(وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي : ليستدلّ وليكون من المتيقّنين. أو وفعلنا ذلك ليكون من المتيقّنين بأنّ الله سبحانه هو خالق للملك والمالك له.

عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «كشط الله لإبراهيم عن الأرضين حتّى رآهنّ وما تحتهنّ ، وعن السماوات حتى رآهنّ وما فيهنّ من الملائكة وحملة العرش».

وروى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لمّا رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات ، ثمّ رأى آخر فدعا عليه

__________________

(١) التوبة : ٢٨.

(٢) أي : حمل على ما هو على وزنه ، كشالح ، الذي هو غير منصرف للعجمة والعلميّة.

٤١٦

فمات ، ثمّ رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا. فأوحى الله تعالى إليه : يا إبراهيم إنّ دعوتك مستجابة ، فلا تدع على عبادي ، فإنّي لو شئت أن أميتهم بدعائك ما خلقتهم. إنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف : صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا ، فأثيبه. وصنف يعبد غيري ، فليس يفوتني. وصنف يعبد غيري ، فأخرج من صلبه من يعبدني».

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩))

ولمّا تقدّم ذكر الآيات الّتي أراه الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام ، بيّن سبحانه وفصّل كيف استدلّ بها؟ وكيف عرف الحقّ من جهتها؟ فقال : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) ستره بظلامه (رَأى كَوْكَباً) وهو الزهرة أو المشتري. والشرطيّة معطوفة على (قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ). وقوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.

(قالَ هذا رَبِّي) على سبيل الفرض والوضع ، فإنّ المستدلّ على فساد قول

٤١٧

يحكيه على ما يقوله الخصم ، ثمّ يكرّ عليه بالإفساد ، فإنّ قومه كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبّههم على خطئهم ، ويرشدهم ويبصّرهم طريق النظر والاستدلال ، ليعرفوا أنّ شيئا منها لا يصحّ أن يكون إلها ، لو وضح دلالة الحدوث فيها ، فقال : هذا ربّي ، قول من ينصف خصمه ، ويماشي قوله ، مع علمه بأنّه مبطل ، فيحكي قوله كما هو غير متعصّب لمذهبه ، ليكون ذلك أدعى إلى الحقّ ، وأدفع لتهيّج الشرّ والشغب (١).

(فَلَمَّا أَفَلَ) أي : غاب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي : لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيّرين من حال إلى حال ، المنتقلين من مكان إلى مكان ، فإنّ ذلك من صفات الأجسام ، ودليل الحدوث والإمكان ، فضلا عن عبادتهم. فلمّا كان الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الإمكان والحدوث فيكون منافيا للألوهيّة.

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) مبتدئا في الطلوع (قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) استعجز نفسه ، واستعان بربّه في درك الحقّ ، فإنّه لا يهتدي إليه إلّا بتوفيقه ولطفه ، إرشادا لقومه ، وتنبيها لهم على أنّ القمر ايضا لتغيّر حاله لا يصلح للألوهيّة ، وأنّ من اتّخذه إلها فهو ضالّ.

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) تذكير اسم الإشارة لتذكير الخبر ، وإن كان إشارة إلى الشمس ، وصيانة للربّ عن شبهة التأنيث ، الا تراهم لم يقولوا : الله سبحانه علّامة ، وإن كان علّامة أبلغ من علّام ، احترازا عن علامة التأنيث. (هذا أَكْبَرُ) كبّره استدلالا ، أو إظهارا لشبهة الخصم ، من باب استعمال الإنصاف مع الخصوم.

(فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها ، الّتي تجعلونها شركاء لخالقها.

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «الشغب ـ بتسكين الغين ـ تهييج الفتن. منه».

٤١٨

وإنّما احتجّ بالأفول دون البزوغ مع أنّه أيضا انتقال ، لأنّ الاحتجاج بالأفول أظهر ، فإنّه انتقال مع خفاء واحتجاب ، ولأنّه رأى الكوكب الّذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال.

قيل : إنّه كان استدلاله في نفسه في زمان مهلة النظر الّذي هو أوّل زمان التكليف ، فحكاه الله سبحانه. والقول الأوّل أظهر ، لقوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) ، ولقوله : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

ولمّا تبرّأ منها توجّه إلى موجدها ومبدعها الّذي دلّت هذه الممكنات عليه ، فقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : للّذي دلّت هذه المحدثات على أنّه صانعها ، ومبدعها الّذي دبّر أحوالها ، ومسيرها وانتقالها ، وطلوعها وأفولها. (حَنِيفاً) مائلا عن الشرك إلى التوحيد (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢))

روى المفسّرون أنّ إبراهيم عليه‌السلام ولد في زمان نمرود بن كنعان. وزعم بعضهم

٤١٩

أنّ نمرود كان من ولاة كيكاوس. وبعضهم قال : كان ملكا برأسه. وقيل لنمرود : إنّه يولد في بلده هذه السنة مولود يكون هلاكه وزوال ملكه على يده. ثمّ اختلفوا فقال بعضهم : إنّما قالوا ذلك من طريق التنجيم والتكّهن.

وقال أبو عبد الله والباقر عليهما‌السلام ومحمّد بن إسحاق : إنّ نمرود رأى كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر ، فسأل عنه فعبّر بأنّه يولد غلام يذهب ملكه على يده ، فعند ذلك أمر بقتل كلّ غلام يولد تلك السنة. وأمر بأن يعزل الرجال عن النساء ، وبأن يتفحّص عن أحوال النساء ، فمن وجدت حبلى تحبس حتّى تلد ، فإن كان غلاما قتل ، وإن كان جارية خلّيت ، حتّى حملت أمّ إبراهيم ، فلمّا دنت ولادة إبراهيم خرجت أمّه هاربة ، فذهبت به إلى غار ولفّته في خرقة ، ثمّ جعلت على باب الغار صخرة ، ثمّ انصرفت عنه.

فجعل الله تعالى رزقه في إبهامه ، فجعل يمصّها فتشخب لبنا ، وجعل يشبّ في اليوم كما يشبّ غيره في الجمعة ، ويشبّ في الجمعة كما يشبّ غيره في الشهر ، ويشبّ في الشهر كما يشبّ غيره في السنة ، فمكث ما شاء الله أن يمكث.

وقيل : كانت تختلف أمّه إليه ، فكان يمصّ أصابعه ، فوجدته يمصّ من إصبع ماء ، ومن إصبع لبنا ومن إصبع عسلا ، ومن إصبع تمرا ، ومن إصبع سمنا. ولمّا بلغ سنّ التمييز خرج من الغار ونظر إلى النجم وكان آخر الشهر ، فرأى الكوكب قبل القمر ، ثمّ رأى القمر ، ثمّ رأى الشمس ، فقال ما قال. ولمّا رأى قومه يعبدون الأصنام خالفهم. وكان يعيب آلهتهم ، حتّى فشا أمره ، وجرت المناظرات والمحاجّات ، كما قال الله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي : خاصموه في التوحيد ، وبترك عبادة آلهتهم منكرين (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) في وحدانيّته. وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف النون. (وَقَدْ هَدانِ) إلى توحيده.

٤٢٠