زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

وقد خوّفوه أنّ معبوداتهم تصيبه بسوء ، فقال في جوابهم : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي : لا أخاف معبوداتكم في وقت قطّ ، لأنّها لا تقدر بنفسها على نفع وضرّ (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أي : إلّا وقت مشيئة ربّي شيئا ، بأن يصيبني بمكروه من جهتها ، إن أصبت ذنبا أستوجب به إنزال المكروه ، مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقّة من الشمس أو القمر على مضرّة ، بأن يحييها ويقدّرها فتضرّ وتنفع.

(وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) كأنّه علّة الاستثناء ، أي : أحاط به علما ، فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها. (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) فتميّزوا بين الصحيح والفاسد ، والقادر والعاجز.

ثمّ احتجّ عليهم ، وأكّد الحجاج بقوله : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) ولا يتعلّق به ضرر (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) أي : ولا تخافون إشراككم بالله ، وهو حقيق بأن يخاف منه كلّ الخوف ، لأنّه إشراك للمصنوع بالصانع ، وتسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضارّ النافع.

(ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) ما لم ينزّل بإشراكه كتابا ، أو لم ينصب عليه دليلا ، ولا يصحّ أن يكون علمه حجّة ، وكأنّه قال : وما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن ، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف؟! (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) فريق المشركين أو فريق الموحّدين (أَحَقُّ بِالْأَمْنِ). وإنّما لم يقل : أيّنا أنا أم أنتم؟ احترازا من تزكية نفسه. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما يحقّ أن يخاف منه.

ثمّ استأنف الجواب عمّا استفهم عنه بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا) ولم يخلطوا (إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أي : بالشرك (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) محكوم لهم بالاهتداء.

والدليل على أنّ المراد بالظلم هاهنا الشرك قرينة المقام ، ولما روي أنّ الآية

٤٢١

لمّا نزلت شقّ ذلك على الصحابة وقالوا : أيّنا لم يظلم نفسه. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس ما تظنّون ، إنّما هو ما قال لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١).

ولبس الإيمان بالظلم أن يصدّق بوجود الصانع الحكيم ، ويخلط بهذا التصديق الإشراك به. وقيل : المراد بالظلم المعصية.

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣))

(وَتِلْكَ) إشارة إلى ما احتجّ به إبراهيم من قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) إلى قوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ، أو من قوله : (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ). (حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أرشدناه إليها ، ووفّقناه لها ، وأخطرناها بباله (عَلى قَوْمِهِ) متعلّق بـ «حجّتنا» إن جعل خبر «تلك» ، وبمحذوف إن جعل بدله ، أي : آتيناها إبراهيم حجّة على قومه.

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) من المؤمنين في العلم والحكمة. وقرأ الكوفيّون ويعقوب بالتنوين (٢). (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في رفعه وخفضه (عَلِيمٌ) بحال من يرفعه ، واستعداده له.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥)

__________________

(١) لقمان : ١٣.

(٢) وقرأ الباقون : درجات ، بالإضافة.

٤٢٢

وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))

(وَوَهَبْنا لَهُ) لإبراهيم (إِسْحاقَ) ابنه من سارة (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق (كُلًّا) منهما (هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل إبراهيم. عدّ هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنّه أبوه ، وشرف الوالد يتعدّى إلى الولد. والمعنى : كلّا من الثلاثة فضّلناهم بالنبوّة. وقيل : بالكرامات والمعجزات.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) الضمير لإبراهيم ، إذ الكلام فيه. وقيل : لنوح ، لأنّه أقرب ، ولأنّ يونس ولوطا ليسا من ذرّيّة إبراهيم ، فلو كان لإبراهيم اختصّ البيان بالمعدودين في تلك الآية والّتي بعدها. والمذكورون في الآية الثالثة عطف على «نوحا». (داوُدَ) أي : هدينا داود بن إيشا (وَسُلَيْمانَ) ابنه (وَأَيُّوبَ) هو ولد أموص بن رازج بن روم بن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم (وَيُوسُفَ) بن يعقوب بن إسحاق (وَمُوسى وَهارُونَ) أخاه ابني عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. وهارون كان أكبر منه بسنة.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي : نجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا

٤٢٣

إبراهيم ، برفع درجاته ، وكثرة أولاده ، والنبوّة فيهم.

(وَزَكَرِيَّا) بن أذن بن بركيا (وَيَحْيى) ابنه (وَعِيسى) وهو ابن مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا. وفي ذكره دليل على أنّ الذرّيّة تتناول أولاد البنت. ففيه دلالة واضحة وحجّة قاطعة على أنّ الحسن والحسين عليهما‌السلام ذرّيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّهما ابنا رسول الله. وقد صحّ

في الحديث أنّه قال لهما : «ابناي هذان إمامان ، قاما أو قعدا». وقال للحسن : «إنّ ابني هذا سيّد».

وأنّ الصحابة كانوا يقولون لكلّ منهما ومن أولادهما : يا ابن رسول الله ، والأصل في الاستعمال الحقيقة.

(وَإِلْياسَ) قيل : هو إدريس جدّ نوح عليه‌السلام ، كما قيل : ليعقوب إسرائيل ، فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الأولى. وقيل : هو إلياس بن يستر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيّ الله ، فهو من أسباط هارون أخي موسى. وعن كعب : هو الخضر. (كُلٌ) من الأنبياء والمرسلين (مِنَ الصَّالِحِينَ) الكاملين في الصلاح ، وهو الإتيان بما ينبغي ، والتحرّز عمّا لا ينبغي.

(وَإِسْماعِيلَ) بن إبراهيم ، من هاجر (وَالْيَسَعَ) بن أخطوب بن العجوز.

وقرأ حمزة : والليسع. وعلى القراءتين علم أعجميّ أدخل عليه اللام ، كما أدخل على اليزيد في قوله :

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله

(وَيُونُسَ) بن متّى (وَلُوطاً) بن هاران ابن أخي إبراهيم. وقيل : ابن أخته. (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) بالنبوّة. وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من أهل زمانهم.

(وَمِنْ آبائِهِمْ) ومن آباء هؤلاء الأنبياء ، في موضع النصب عطفا على «كلّا» أو «نوحا» ، أي : فضّلنا كلّا منهم ، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم (وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) بعض منهم ، فإنّ منهم من لم يكن نبيّا ولا مهديّا.

٤٢٤

(وَاجْتَبَيْناهُمْ) واصطفيناهم عطف على «فضّلنا» أو «هدينا». واجتبى مأخوذ من : جبيت الماء في الحوض ، إذا جمعته. (وَهَدَيْناهُمْ) أي : أرشدناهم فاهتدوا (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : طريق بيّن لا اعوجاج فيه ، وهو الدين الحقّ.

هذا تكرير لبيان ما هدوا إليه.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم ذكره من التفضيل والاجتباء ، والهداية والاصطفاء (هُدَى اللهِ) هو الإرشاد إلى الثواب للّذين استرشدوا طريق الحقّ (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ممّن سمّاهم ومن لم يسمّهم في هذه الآيات.

(وَلَوْ أَشْرَكُوا) أي : ولو أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم وعلوّ شأنهم وتقدّمهم (لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها ، ونحوه قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١).

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد به الجنس (وَالْحُكْمَ) بين الناس ، أو الحكمة العمليّة الّتي هي الأحكام الشرعيّة (وَالنُّبُوَّةَ) والرسالة (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي : بهذه الثلاثة (هؤُلاءِ) يعني : قريشا (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أي : بمراعاتها (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ). وهم الأنبياء المذكورون ، ومتابعوهم الّذين آمنوا بما أتى به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وقت مبعثه. وقيل : هم الأنصار ، أو أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : كلّ من آمن به ، أو الفرس. وقيل : الملائكة.

ومعنى توكيلهم بها : أنّهم وفّقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها ، كما يوكّل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهّده ويحافظ عليه. والباء في «بها» صلة «يكفرون» ، وفي «بكافرين» لتأكيد النفي.

(أُولئِكَ) يريد الأنبياء المتقدّم ذكرهم (الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فاختصّ طريقهم بالاقتداء ، ولا تقتد إلّا بهم. وهذا معنى تقديم المفعول. والمراد

__________________

(١) الزمر : ٦٥.

٤٢٥

بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين ، دون الفروع المختلف فيها ، فإنّها ليست هدى مضافا إلى الكلّ ، ولا يمكن التأسّي بهم جميعا ، لأنّها يتطرّق إليها النسخ ، فهي هدى ما لم ينسخ ، بخلاف أصول الدين ، فإنّها هدى أبدا على الإطلاق. فليس فيه دليل على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعبّد بشرع من قبله.

والهاء في «اقتده» للوقف. ومن اثبتها في الدرج ساكنة ـ كابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وعاصم ـ أجرى الوصل مجرى الوقف. وأشبعها ابن عامر ، على أنّها كناية المصدر.

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) لا أطلب منكم (عَلَيْهِ) أي : على التبليغ ، أو القرآن (أَجْراً) جعلا من جهتكم ، كما لم يسأل من قبلي من النبيّين. وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه. (إِنْ هُوَ) أي : التبليغ ، أو القرآن ، أو الغرض (إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) إلّا تذكير ، أو عظة لهم. وفيه دليل على أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوث إلى كافّة العالمين ، وأنّ النبوّة مختومة به.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١))

ولمّا تقدّم ذكر الأنبياء والنبوّة ، عقّبه سبحانه بالتهجين لمن أنكر النبوّة ، فقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وما عرفوه حقّ معرفته ، وما عظّموه حقّ عظمته ، وما وصفوه بما يجب أن يوصف به من الرحمة والإنعام على العباد واللطف بهم. (إِذْ

٤٢٦

قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) حين أنكروا الوحي وبعثة الرسل ، وذلك من عظائم رحمته وجلائل نعمته. أو في السخط على الكفّار وشدّة البطش بهم ، حين جسروا على هذه المقالة.

والقائلون هم اليهود. وإنّما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن ، بدليل نقض كلامهم وإلزامهم بقوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً) ليستضاء به في الدين (وَهُدىً لِلنَّاسِ) يهتدون به. وبدليل قراءة الجمهور في قوله :(تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) بالتاء. وإنّما قرأ بالياء ابن كثير وأبو عمرو حملا ، على «قالوا» و (ما قَدَرُوا اللهَ).

والمعنى : جاء به موسى وهو نور (وَهُدىً لِلنَّاسِ) حتى غيّروه وبعّضوه ، وجعلوه ورقات مقطّعة متفرّقة ، ليتمكّنوا ممّا حاولوه من الإبداء والإخفاء. أو تضمّن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة ، وذمّهم على تجزئتها ، بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرّقة ، وإخفاء بعض لا يشتهونه.

روي أنّه جاء رجل من اليهود يقال له : مالك بن الصيف ـ وهو من أحبارهم ـ يخاصم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنشدك بالّذي أنزل التوراة على موسى ، أما تجد في التوراة أنّ الله تعالى يبغض الحبر السمين ، فأنت الحبر السمين ، قد سمنت ممّا يطعمك اليهود؟ وكان سمينا. فضحك القوم ، فغضب وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه : ويحك ولا موسى؟! فقال : إنّه أغضبني.

فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. فنزلت الآية.

وقيل : إنّ اليهود قالت : يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال : نعم. قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا ، فنزلت.

وفي رواية أخرى انّها نزلت في مشركي مكّة أنكروا قدرة الله عليهم ، فألزمهم بإنزال التوراة ، لأنّه من المشهورات الذائعة عندهم ، ولذلك كانوا يقولون :

٤٢٧

(لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) (١).

(وَعُلِّمْتُمْ) على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ) مع أنّكم حملة التوراة (وَلا آباؤُكُمْ) أي : ولم يعلمه آباؤكم الّذين كانوا قبلكم ، وهم أعلم منكم ، وهو ما زاد على ما في التوراة بيانا لما التبس عليكم ، ونحوه قوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢). وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش.

(قُلِ اللهُ) أي : أنزله الله ، أو الله أنزله. فأمر الله تعالى نبيّه بأن يجيب عنهم ، إشعارا بأنّ الجواب متعيّن لا يمكن غيره ، وتنبيها على أنّهم بهتوا بحيث لا يقدرون على الجواب. (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ) في أباطيلهم الّتي يخوضون فيها ، فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجّة (يَلْعَبُونَ) حال من «هم» الأوّل ، والظرف صلة «ذرهم» أو «يلعبون» ، أو حال من المفعول ، أو فاعل «يلعبون» ، أو من «هم» الثاني ، والظرف متّصل بالأوّل.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢))

ولمّا احتجّ سبحانه بإنزال التوراة على موسى ، بيّن أنّ سبيل القرآن سبيلها ، فقال : (وَهذا) أي : القرآن (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) من السماء إلى الأرض ، لأنّ جبرئيل أتى به من السماء (مُبارَكٌ) كثير الفوائد والمنافع ، فإنّ قراءته خير ، والعمل به

__________________

(١) الأنعام : ١٥٧.

(٢) النمل : ٧٦.

٤٢٨

خير ، وفيه علم الأوّلين والآخرين ، وفيه الحلال والحرام ، وهو باق إلى آخر التكليف لا يرد عليه نسخ (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني : التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدّمة قبله.

(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) معطوف على ما دلّ عليه صفة «كتاب» ، كأنّه قيل : للبركات وللتصديق لما تقدّمه من الكتب ، وللإنذار. أو علّة محذوف ، أي : ولتنذر أهل أمّ القرى أنزلناه. وإنّما سمّيت مكّة أمّ القرى. لأنّها مكان أوّل بيت وضع للناس ، ولأنّها قبلة لأهل القرى ومحجّهم ، ولأنّها أعظم القرى شأنا ، ولأنّ الأرض بأسرها دحيت من تحتها ، فكأنّها تولّدت منها. وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء ، أي : لينذر الكتاب. (وَمَنْ حَوْلَها) أهل الشرق والغرب.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) فإنّ من صدّق بالآخرة خاف العاقبة ، ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبّر حتى يؤمن بالكتاب أو النبيّ ، لدلالة الكلام عليه. والضمير يحتملهما ، ويحافظ على الطاعة.

وتخصيص الصلاة لأنّها عماد الدين وعلم الإيمان ، ومن حافظ عليها كانت له لطفا في المحافظة على أخواتها.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣))

ولمّا تقدّم ذكر نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنزال الكتاب عليه ، عقّبه سبحانه بذكر تهجين الكفّار الّذين كذّبوه أو ادّعوا أنّهم يأتون بمثل ما أتى به ، فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ

٤٢٩

مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) الاستفهام في معنى الإنكار ، أي : لا أحد أظلم ممّن كذب على الله فزعم أنّه بعثه نبيّا ، كمسيلمة والأسود العنسي ، أو اختلق عليه أحكاما ، كعمرو بن لحى ومتابعيه.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب ، فكبرا عليّ وأهمّاني ، فأوحى الله إليّ أن أنفخهما ، فنفختهما فطارا عنّي ، فأوّلتهما الكذّابين اللّذين أنا بينهما ، كذّاب اليمامة مسيلمة ، وكذّاب صنعاء الأسود العنسي».

(أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) كعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كان يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان إذا أملى عليه : سميعا عليما ، كتب هو : عليما حكيما. ولمّا نزلت : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) فلمّا بلغ قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (١)

قال عبد الله : تبارك الله أحسن الخالقين ، تعجّبا من تفصيل خلق الإنسان. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتبها ، فكذلك نزلت. فشكّ عبد الله وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. فارتدّ عن الإسلام ولحق مكّة ، ثمّ رجع مسلما قبل فتح مكّة. وقيل : هو النضر بن الحارث ، أو المستهزؤن.

(وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) كالّذين قالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) اللام للعهد. وهم الّذين مرّ ذكرهم من اليهود المتنبّئة. وحذف مفعول «ترى» لدلالة الظرف عليه ، أي : ولو ترى الظالمين (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) شدائده وسكراته. وأصل الغمر ما يغمر الأشياء ، من : غمره الماء إذا؟؟؟ ، فاستعيرت للشدّة الغالبة.

(وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) بقبض أرواحهم ، كالمتقاضي المسلّط ، أو

__________________

(١) المؤمنون : ١٢ ـ ١٤.

٤٣٠

بالعذاب (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي : يقولون : أخرجوها إلينا من أجسادكم ، تغليظا وتعنيفا عليهم ، أو أخرجوها من العذاب وخلّصوها من أيدينا ، أي : لا تقدرون على الخلاص. وجواب «لو» محذوف ، أي : لو ترى هذه الحالة لرأيت أمرا عظيما.

(الْيَوْمَ) يريد به وقت الإماتة ، أو الوقت الممتدّ من الإماتة إلى ما لا نهاية له (تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي : الهوان ، يريد العذاب المتضمّن لشدّة وإهانة.

وإضافته إلى الهون لعراقته (١) وتمكّنه فيه ، كقولك : رجل سوء. فالمراد التمكّن في العراقة وأنّه عريق فيه. (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) كادّعاء الولد والشريك له ، ودعوى النبوّة والوحي كاذبا. (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فلا تتأمّلون فيها ، ولا تؤمنون بها.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤))

ثمّ بيّن سبحانه تمام ما يقال لهم على سبيل التوبيخ ، فقال : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) للحساب والجزاء (فُرادى) منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا ، أو عن الأعوان والأوثان الّتي زعمتم أنّها شفعاؤكم. وهو جمع فرد ، والألف للتأنيث ، ككسالى. قيل : نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة حين قال : سوف تشفع لي اللّات والعزّى.

وقوله : (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بدل من فرادى ، أي : على الهيئة

__________________

(١) أي : لأصالته ، والعرق : أصل كلّ شيء.

٤٣١

الّتي ولدتم عليها في الانفراد. أو حال ثانية إن جوّز التعدّد فيها. أو حال من الضمير في «فرادى» أي : مشبهين ابتداء خلقكم ، أي : تحشرون عراة حفاة غرلا بهما ، كما وقع في الحديث. والغرل (١) : هم القلف. والبهم هم الّذين لا نطق لهم أصلا. أو صفة مصدر «جئتمونا» أي : مجيئا كما خلقناكم أوّل مرّة.

(وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) ما تفضّلنا به عليكم في الدنيا ، فشغلتم به عن الآخرة (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) ما قدّمتم منه شيئا ، ولم تحتملوا نقيرا (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ) في استعبادكم (شُرَكاءُ) أي : شركاء الله في ربوبيّتكم واستحقاق عبادتكم.

(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي : تقطّع وصلكم ، وتشتّت جمعكم. والبين من الأضداد ، ويستعمل للفصل والوصل : وقيل : هو الظرف أسند إليه الفعل على الاتّساع. والمعنى : وقع التقطّع بينكم. ويشهد له قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل ، لدلالة ما قبله عليه. أو أقيم مقام موصوفه ، وأصله : لقد تقطّع ما بينكم. وقد قرئ به. (وَضَلَّ عَنْكُمْ) ضاع وبطل (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنّها شفعاؤكم ، أو أن لا بعث ولا جزاء.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ

__________________

(١) غرل الصبيّ : لم يختن ، فهو أغرل ، وجمعه : غرل. والغرلة : القلفة ، وهي جلدة عضو التناسل.

٤٣٢

لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣))

ثمّ عاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين بعجائب الصنع ولطائف التدبير ، فقال : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) بالنبات والشجر. وقيل : أراد الشقّين اللّذين في

٤٣٣

النواة والحنطة. (يُخْرِجُ الْحَيَ) يريد به ما ينمو من الحيوان والنبات ، ليطابق ما قبله (مِنَ الْمَيِّتِ) ممّا لا ينمو ، كالنطف والبيض والحبّ والنوى (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) ومخرج هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنبات. ذكره بلفظ الاسم حملا على (فالِقُ الْحَبِّ) ، فإنّه معطوف عليه ، فإنّ قوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ) واقع موقع البيان له. (ذلِكُمُ اللهُ) أي : ذلك المحي والمميت هو الّذي يحقّ له العبادة (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تصرفون عنه إلى غيره.

(فالِقُ الْإِصْباحِ) شاقّ عمود الصبح عن الظلمة ، أو عن بياض النهار. أو شاقّ ظلمة الإصباح ، وهو الغبش (١) في آخر الليل. والإصباح في الأصل مصدر : أصبح ، إذا دخل في الصبح ، سمّي به الصبح.

(وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) يسكن إليه التعب بالنهار ، لاستراحته فيه ، من : سكن إليه ، إذا اطمأنّ إليه استئناسا به ، واسترواحا إليه من زوج أو حبيب ، ومنه قيل للمرأة : سكن ، لأنّه يستأنس بها. أو يسكن فيه الخلق ، من قوله تعالى : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) (٢). ونصبه بفعل دلّ عليه «جاعل» ، لابه ، فإنّه في معنى الماضي. ويدلّ عليه قراءة الكوفيّين : وجعل الليل ، حملا على معنى المعطوف عليه ، فإنّ «فالق» بمعنى : فلق ، ولذلك قرئ به. أو به على أن لا يكون المراد منه معنى المضيّ ، بل يكون المراد منه جعلا مستمرّا في الأزمنة المختلفة. وعلى هذا يجوز أن يكون (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عطفا على محلّ «الليل». ويشهد له قراءتهما بالجرّ. والأحسن نصبهما بـ «جعل» مقدّرا.

(حُسْباناً) أي : على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات ، فيكونان علمي الحسبان ، يعلم حساب الأوقات بدورهما ومسيرهما. وهو مصدر : حسب بالفتح ،

__________________

(١) غبش الليل : خالط البياض ظلمته في آخره.

(٢) يونس : ٦٧.

٤٣٤

كما أنّ الحسبان بالكسر مصدر : حسب. وقيل : جمع حساب ، كشهاب وشهبان.

(ذلِكَ) إشارة إلى جعلهما حسبانا ، أي : ذلك التسيير بالحساب المعلوم (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الّذي قهرهما وسيّرهما على الوجه المخصوص (الْعَلِيمِ) بتدبيرهما ، والأنفع من التداوير الممكنة لهما.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ) أي : خلقها لنفعكم (لِتَهْتَدُوا بِها) بضوئها وطلوعها ومواضعها (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) في ظلمات الليل في البرّ والبحر.

وإضافتها إليهما لملابستهما إيّاها. أو في مشتبهات الطرق. وسمّاها ظلمات على الاستعارة. وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعد ما أجملها بقوله : «لكم». (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) بيّنّاها فصلا فصلا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإنّهم منتفعون به.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هو آدم عليه‌السلام. وخلقت أمنّا حوّاء من ضلع من أضلاعه ، ومنّ علينا بهذا ، لأنّ الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التوادّ والتعاطف والتآلف. (فَمُسْتَقَرٌّ) أي : فلكم استقرار في الأصلاب ، أو فوق الأرض (وَمُسْتَوْدَعٌ) واستيداع في الأرحام ، أو تحت الأرض. أو مستقرّ في الرحم ، ومستودع في الصلب. أو المراد منهما : موضع استقرار واستيداع.

وعن الحسن : يا بن آدم أنت وديعة في أهلك ، ويوشك أن تلحق بصاحبك.

وأنشد قول لبيد :

وما المال والأهلون إلّا وديعة

ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع

وقرأ ابن كثير والبصريّان بكسر القاف ، على أنّه فاعل والمستودع مفعول ، أي : فمنكم قارّ ومنكم مستودع ، لأنّ الاستقرار منّا دون الاستيداع.

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) بيّنّا الحجج ، وميّزنا الأدلّة (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) ذكر «يعلمون» مع ذكر النجوم ، لأنّ أمرها ظاهر ، و «يفقهون» مع ذكر خلق بني آدم ، لأنّ إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى

٤٣٥

استعمال فطنة وتدقيق نظر ، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة ذكيّة وتدقيق فكر صائب مطابقا له.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) من السحاب ، أو من جانب السماء ، فإنّ كلّ ما علاك وأظلّك فهو سماء (فَأَخْرَجْنا) على تلوين الخطاب (بِهِ) بالماء (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) نبت كلّ صنف من أصناف النامي من الحيوان والنبات ، يعني : أنّ السبب واحد والمسبّبات صنوف. فالمراد منه إظهار القدرة في إنبات الأنواع المفنّنة بماء واحد ، كما في قوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (١).

(فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) من النبات أو الماء (خَضِراً) شيئا غضّا أخضر ، وهو ما تشعّب من أصل النبات الخارج من الحبّة. يقال : أخضر وخضر ، كأعور وعور.

(نُخْرِجُ مِنْهُ) من الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) قد تركّب بعضه على بعض ، مثل سنبلة الحنطة والشعير وغيرهما (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ) أي : وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان. أو من النخل شيء من طلعها قنوان. ويجوز أن يكون «من النخل» خبر «قنوان» ، و «من طلعها» بدل منه. والمعنى : وحاصلة من طلع النخل قنوان ، وهو الأعذاق ، جمع قنو وعذق ، وهو عنقود التمر. ونظيره صنو (٢) وصنوان.

(دانِيَةٌ) قريبة من المتناول ، أو ملتفّة قريب بعضها من بعض. وإنّما اقتصر على ذكرها عن مقابلها ـ يعني البعيدة ـ لدلالتها عليه ، كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٣) ، لأنّ النعمة فيها أظهر.

__________________

(١) الرعد : ٤.

(٢) الصنو : الأخ الشقيق ، وإذا خرجت نخلتان أو أكثر من أصل واحد فكلّ واحدة منها صنو ، والجمع صنوان.

(٣) النحل : ٨١.

٤٣٦

(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) عطف على (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) ، أي : أخرجنا جنّات من أعناب.

(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أيضا عطف على «نبات». والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص ، لفضل هذين الصنفين عندهم ، كقوله : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) (١) (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) حال من الرمّان أو من الجميع ، أي : بعض ذلك متشابه وبعضه غير متشابه ، في الصورة والقدر واللون والطعم. يقال : اشتبه الشيئان وتشابها ، كقولك : استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيرا.

(انْظُرُوا) نظر اعتبار واستبصار واستدلال على كمال اقتداره وتدبيره (إِلى ثَمَرِهِ) أي : ثمر كلّ واحد من ذلك. وقرأ حمزة والكسائي بضمّ الثاء. وهو جمع ثمرة ، كخشب وخشبة ، أو ثمار ككتاب وكتب. (إِذا أَثْمَرَ) إذا أخرج ثمره ، كيف يثمر ضعيفا صغيرا لا يكاد ينتفع به (وَيَنْعِهِ) وإلى حال نضجه ، أو إلى نضيجه ، كيف يعود ضخما ذا نفع ولذّة. وهو في الأصل مصدر : ينعت الثمرة إذا أدركت.

وقيل : جمع يانع ، كتاجر وتجر. والمعنى : انظروا من ابتداء خروجه إذا أثمر إلى انتهائه إذا أينع وأدرك ، كيف تنتقل عليه الأحوال في الطعم واللون والرائحة والصغر والكبر.

(إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بعلامات على وجود القادر الحكيم وتوحيده ، فإنّ حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المفنّنة من أصل واحد ، ونقلها من حال إلى حال ، لا يكون إلّا بإحداث عالم قادر يعلم تفاصيلها ، ويرجّح ما تقتضيه حكمته ممّا يمكن من أحوالها ، ولا يعوّقه عن فعله ندّ يعارضه أو ضدّ يعانده ، ولذلك عقّبه بتوبيخ من أشرك به والردّ عليه ، فقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) هما مفعولا «جعل». وقوله : (الْجِنَ) بدل من «شركاء». ويجوز أن يكون «شركاء

__________________

(١) الحجّ : ٣٥.

٤٣٧

الجنّ» مفعولين قدّم ثانيهما على الأوّل ، أي : جعلوا الجنّ شركاء ، و «لله» متعلّق بـ «شركاء» أو حال منه. وفائدة تقديم «لله» استعظام أن يتّخذ لله شريكا من كان ملكا أو جنّيّا أو إنسيّا ، فلذلك قدّم اسم الله على الشركاء.

والمراد بالجنّ الملائكة ، فإنّهم عبدوهم وقالوا : الملائكة بنات الله. وسمّاهم جنّا لاجتنانهم ، تحقيرا لشأنهم. أو الشياطين ، لأنّهم أطاعوهم كما يطاع الله. أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم. أو قالوا : الله خالق الخير وكلّ نافع ، والشيطان خالق الشرّ وكلّ ضارّ ، كما هو رأي الثنويّة.

(وَخَلَقَهُمْ) حال بتقدير «قد». والمعنى : وقد علموا أنّ الله خالقهم دون الجنّ ، وليس من يخلق كمن لا يخلق.

(وَخَرَقُوا لَهُ) اختلقوا واقترحوا له. وقال في عين المعاني (١) : الخرق أشنع الكذب ، كأنّه يخرق العقل. وقرأ نافع بتشديد الراء للتكثير. (بَنِينَ وَبَناتٍ) فقالت اليهود : عزير بن الله ، وقالت النصارى : المسيح بن الله ، وقالت العرب : الملائكة بنات الله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ، ويروا عليه دليلا ، بل جهلا منهم. وهو في موضع الحال من الواو أو المصدر ، أي : خرقا بغير علم.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) أنّ له شريكا أو ولدا.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها ، كقولك : فلان بديع الشعر ، أي : بديع شعره. أو إلى الظرف ، كقولهم : ثبت (٢) الغدر ، أي : ثابت فيه ، بمعنى أنّه عديم النظير فيهما. والمعنى : بديع سماواته وأرضه ، أو بديع فيهما.

وقيل : معناه مبدعهما ومنشئهما ابتداء لا من شيء ، ولا على سبق مثال. ورفعه على

__________________

(١) عين المعاني في تفسير السبع المثاني ، لمحمد بن طيفور السجاوندي الغزنوي ، من علماء المائة السادسة ، والظاهر أنه لم يطبع إلى الآن. راجع كشف الظنون ٢ : ١١٨٢.

(٢) في هامش النسخة الخطّية : «رجل ثبت الغدر ، أي : ثابت في القتال. منه».

٤٣٨

الخبر ، والمبتدأ محذوف. أو على الابتداء ، وخبره قوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) أي :من أين وكيف يكون له ولد؟ ولا يستقيم أن يوصف بالولادة ، لأنّ الولادة من صفات الأجسام ، وصانع الأجسام ليس بجسم حتّى يكون والدا ، ولأنّ الولادة لا تكون إلّا بين زوجين.

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) يكون منها الولد (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه خافية. ولم يقل : «به» لتطرّق التخصيص إلى الأوّل.

وفي الآية استدلال على نفي الولد من ثلاثة وجوه :

الأوّل : أنّه من مبدعاته السماوات والأرضون ، وهي مع أنّها من جنس ما يوصف بالولادة مبرّأة عنها ، لاستمرارها وطول مدّتها ، فهو أولى بأن يتعالى عنها.

والثاني : أنّ المعقول من الولد ما يتولّد من ذكر وأنثى متجانسين ، والله تعالى منزّه عن المجانسة.

والثالث : أنّ الولد كفؤ لوالده ، ولا كفؤ له لوجهين : الأوّل : أنّ كلّ ما عداه مخلوقه ، فلا يكافئه. والثاني : أنّه سبحانه لذاته عالم بكلّ المعلومات ، ولا كذلك غيره بالإجماع.

(ذلِكُمُ) إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات. وهو مبتدأ. (اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أخبار مترادفة. ويجوز أن يكون البعض بدلا أو صفة ، والبعض خبرا. (فَاعْبُدُوهُ) حكم مسبّب عن مضمون الجملة ، فإنّ من استجمع هذه الصفات استحقّ العبادة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي : وهو مع تلك الصفات متولّي أموركم ، فكلوها إليه ، وتوسّلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم ، ورقيب على أعمالكم ، فيجازيكم عليها.

(لا تُدْرِكُهُ) لا تحيط به (الْأَبْصارُ) جمع بصر ، وهو الجوهر اللطيف الّذي به تدرك المبصرات. وقد يقال للعين من حيث إنّها محلّها. والمعنى : أنّه متعال أن

٤٣٩

يكون مبصرا في ذاته ، فالأبصار لا تدركه ، لأنّها إنّما تدرك ما كان في جهة أو تابعا ، كالأجسام والألوان.

(وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) محيط علمه بها ، فإنّه للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة الّتي ركّبها الله في حاسّة النظر ، وهي الأبصار ، لا يدركها مدرك سواه. وقيل : تقديره : وهو يدرك ذوي الأبصار.

(وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فيدرك ما لا تدركه الأبصار. ويجوز أن يكون من باب اللفّ ، أي : لا تدركه الأبصار ، لأنّه اللطيف ، فيلطف عن أن تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، ولا تلطف عن إدراكه ، لأنّه خبير بكلّ لطيف.

وروي عن الرضا عليه‌السلام : أنّها الأبصار الّتي في القلوب ، لا تقع عليه الأوهام ، ولا يدرك كيف هو.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥))

ثمّ بيّن سبحانه أنّه بعد هذه الآيات قد أزاح العلّة للمكلّفين ، فقال : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) البصائر جمع بصيرة ، وهي نور القلب ، كما أنّ البصر نور العين. وسمّيت بها الدلالة ، لأنّها تجلّي للنفس الحقّ وتبصّرها به.

(فَمَنْ أَبْصَرَ) أي : أبصر الحقّ وآمن به (فَلِنَفْسِهِ) أبصر ، لأنّ نفعه لها (وَمَنْ عَمِيَ) عن الحقّ وضلّ (فَعَلَيْها) وباله. وهذا وارد على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لقوله تعالى : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها ، وإنّما أنا منذر ، والله تعالى هو الحفيظ عليكم ، يحفظ أعمالكم ويجازيكم

٤٤٠