زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

واستقامت طريقتهم.

روى أبو بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال : «يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه ، ثم تلا هذه الآية ، وقال : فالنبيّ رسول الله ، ونحن الصدّيقون والشهداء ، وأنتم الصالحون ، فتسمّوا بالصلاح كما سمّاكم الله تعالى».

(وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) فيه معنى التعجّب ، كأنّه قيل : وما أحسن أولئك رفيقا. ونصب «رفيقا» على التمييز أو الحال. ولم يجمع ، لأنّه يقال للواحد والجمع كالصديق ، أو لأنّه أريد : وحسن كلّ واحد منهم رفيقا.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ، ومزيد الهداية ، ومرافقة المنعم عليهم. أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيّتهم (الْفَضْلُ) صفة ذلك (مِنَ اللهِ) خبره ، أو «الفضل» خبره و «من الله» حال ، والعامل فيه معنى الإشارة (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بجزاء من أطاعه ، أو بمقادير الفضل واستحقاق أهله.

روي أنّ ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شديد الحبّ لرسول الله ، قليل الصبر عنه ، فأتاه ذات يوم وقد تغيّر لونه ونحل جسمه. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ثوبان ما غيّر لونك؟ فقال : يا رسول الله ما بي من مرض ولا وجع ، غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة ، فأخاف أنّي لا أراك هناك ، لأنّي عرفت أنّك ترفع مع النبيّين ، وأنّي إن أدخلت الجنّة كنت في منزل أدنى من منزلك ، وإن لم أدخل الجنّة فذاك حين لا أراك أبدا. فنزلت هذه الآية. ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١))

ثم أمر سبحانه المؤمنين بمجاهدة الكفّار ، والتأهّب لقتالهم ، ليصعدوا

١٠١

درجات النبيّين والصدّيقين والشهداء ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) الحذر والحذر بمعنى ، كالإثر والأثر ، يقال : أخذ حذره إذا تيقّظ وتحفّظ من المخوف ، كأنّه جعل الحذر آلته الّتي يحفظ بها نفسه. والمعنى : تيقّظوا واستعدّوا للأعداء.

وقيل : الحذر ما يحذر به ، كالحزم والسلاح. ويؤيّده قول الباقر عليه‌السلام في معناه : «خذوا أسلحتكم».

فسمّى الأسلحة حذرا ، لأنّه بها يتّقى المحذور.

وهذا القول أصلح ، لأنّه أوفق بمقائيس كلام العرب ، ويكون من باب حذف المضاف ، تقديره : خذوا آلات حذركم.

(فَانْفِرُوا) فاخرجوا إلى الجهاد (ثُباتٍ) جماعات متفرّقة. جمع ثبة ، من : ثبيت على فلان تثبية ، إذا ذكرت متفرّق محاسنه. ويجمع أيضا على ثبين ، جبرا لما حذف من عجزه. والمعنى : اخرجوا فرقة بعد فرقة ، فرقة في جهة ، وفرقة في أخرى. (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) مجتمعين كوكبة (١) واحدة في جهة واحدة ، إذا أوجب الرأي ذلك.

وروي عن الباقر عليه‌السلام أنّ المراد بالثبات السرايا ، وبالجميع العسكر.

والآية وإن نزلت في الحرب ، لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلّها كيف ما أمكن قبل الفوات.

(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣))

ولمّا حثّ الله تعالى على الجهاد بيّن حال المتخلّفين عنه بقوله :

__________________

(١) في هامش النسخة الخطية : «الكوكب جماعة من الناس ، واسم النجم. منه».

١٠٢

(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) ليتثاقلنّ وليتخلّفنّ عن الجهاد. الخطاب لعسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، المؤمنين منهم والمنافقين ، أو للمؤمنين خاصّة. والمعنى : من عدادكم ودخلائكم ، والمبطّئون منافقوهم تثاقلوا وتخلّفوا عن الجهاد ، من : بطّأ بمعنى : أبطأ ، وهو لازم ، أو ثبّطوا غيرهم كما ثبّط ابن أبيّ ناسا يوم أحد ، من : بطّأ ، منقولا من بطؤ ، كثقّل من ثقل.

واللام الأولى للابتداء ، دخلت اسم «إنّ» للفصل بالخبر. والثانية جواب قسم محذوف ، والقسم بجوابه صلة «من» ، والراجع إليه ما استكن في «ليبطّئنّ».

والتقدير : وإنّ منكم لمن اقسم بالله ليبطّئنّ.

(فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) كقتل وهزيمة (قالَ) أي : المبطّئ قول الشامت المسرور بتخلّفه (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) حاضرا في القتال ، فيصيبني ما أصابهم.

(وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) كفتح أو غنيمة (لَيَقُولَنَ) أكّده تنبيها على فرط تحسّرهم (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض بين الفعل ـ وهو «ليقولنّ» ـ ومفعوله ، أعني : قوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) أي : أصيب غنيمة وآخذ حظّا وافرا منها. وفائدة الاعتراض التنبيه على ضعف عقيدتهم ، وأنّ قولهم هذا قول من لا مواصلة بينه وبين المؤمنين ، وإنّما يريد أن يكون معكم لمجرّد المال.

قال الصادق عليه‌السلام : «لو أنّ أهل السماء والأرض قالوا : قد أنعم الله علينا إذ لم نكن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكانوا بذلك مشركين».

ويحتمل أن يكون قوله : «كأن لم تكن» حالا من الضمير في «ليقولنّ» أو داخلا في المقول ، أي : يقول المبطّئ لمن يبطّئه من المنافقين وضعفة المسلمين تضريبا وحسدا : كأن لم تكن بينكم وبين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مودّة حيث لم يستعن بكم

١٠٣

فتفوزوا بما فاز ، يا ليتني كنت معهم. و «كأن» مخفّفة من الثقيلة ، اسمه ضمير الشأن المحذوف.

وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب : تكن بالتاء ، لتأنيث لفظ المودّة.

والمنادى في «يا ليتني» محذوف ، أي : يا قوم. وقيل : «يا» أطلق للتنبيه على الاتّساع. ونصب «فأفوز» على جواب التمنّي.

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤))

ولمّا أخبر تعالى في الآية أنّ قوما يتأخّرون عن القتال ، ويثبّطون المؤمنين عنه ، حثّ بعدها على القتال ، فقال : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي : يبيعون الدنيا بالآخرة ، ويستبدلونها بها. والمعنى : إن بطّأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة. أو الّذين يشترونها ويختارونها على الآخرة ، وهم المبطّؤن. والمعنى : حثّهم على ترك ما حكي عنهم.

(وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ومن يجاهد في طريق دين الله ، بأن يبذل ماله ونفسه ابتغاء مرضاته (فَيُقْتَلْ) أي : يستشهد (أَوْ يَغْلِبْ) أي : يظفر بالعدوّ (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي : وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب ، ترغيبا في القتال ، وتكذيبا لقولهم : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا.

وهذا تنبيه على أنّ المجاهد يجب أن يثبت في المعركة حتى يعزّ نفسه بالشهادة ، أو الدين بالظفر والغلبة ، وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل ، بل إلى إعلاء الحقّ وإعزاز الدين ، فإنّ للمقاتل في سبيل الله ظافرا أو مظفورا به إيتاء الأجر

١٠٤

العظيم الّذي هو جنّات النعيم.

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))

ثم حثّ الله سبحانه على تخليص المستضعفين بالجهاد ، فقال : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) جملة حاليّة ، والعامل فيها ما في الظرف من معنى الفعل.

والمعنى : أيّ عذر لكم حال كونكم لا تجاهدون في طاعة الله ونصرة دينه وإعزازه وإعلاء كلمته ، مع اجتماع الأسباب الموجبة للقتال.

(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) عطف على «الله» ، أي : وفي سبيل المستضعفين ، وهو تخليصهم عن الأسر ، وصونهم عن أذيّة العدوّ. أو على «سبيل» بحذف المضاف ، أي : وفي خلاص المستضعفين. ويجوز نصبه على الاختصاص ، فإنّ سبيل الله يعمّ أبواب الخير ، وتخليص ضعفة المسلمين من أيدي الكفّار أعظمها وأخصّها.

(مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) بيان للمستضعفين ، وهم الّذين أسلموا بمكّة فبقوا فيها ، لصدّ المشركين إيّاهم عن الهجرة ، أو لضعفهم عنها مستذلّين يلقون منهم الأذى ، فكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيها. وكانوا قد أشركوا صبيانهم

١٠٥

في دعائهم ، مبالغة في الحثّ على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان ، واستنزالا لرحمة الله ، واستدفاعا للبليّة بسبب مشاركة دعاء صغارهم الّذين لم يذنبوا ، كما فعل قوم يونس عليه‌السلام ، وكما وردت السنّة بإخراجهم في الاستسقاء. وعن ابن عبّاس : أنا وأمّي من المستضعفين من النساء والولدان.

وقيل : المراد بالولدان العبيد والإماء. وهو جمع وليد ، بمعنى الولد والرقّ.

(الَّذِينَ يَقُولُونَ) في دعائهم (رَبَّنا أَخْرِجْنا) سهّل لنا الخروج (مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) تذكير الظالم وإن كان وصفا للقرية لأنّه مسند إلى أهلها ، فأعطي إعراب القرية. (وَاجْعَلْ لَنا) بألطافك وتوفيقك (مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يلي أمرنا بالكفاية ، حتّى ينقذنا من أيدي الظلمة (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا على من ظلمنا. فاستجاب الله دعاءهم ، بأن يسّر لبعضهم الخروج إلى المدينة ، وجعل لمن بقي منهم خير وليّ وناصر ـ هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حين فتح مكّة على نبيّه ، فتولّاهم أحسن التولّي ، ونصرهم أعزّ النصر. ثم استعمل عليهم عتّاب بن أسيد ، فحملهم ونصرهم ، حتى صاروا أعزّ أهلها.

ثم شجّع المجاهدين ورغّبهم في الجهاد ، فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) في نصرة دين الله وإعلاء كلمته فيما يصلون به إلى الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) في طاعة الشيطان ، وفيما يبلغ بهم إليه.

ولمّا ذكر مقصد الفريقين أمر أولياءه بمقاتلة أولياء الشيطان ، فقال : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) المراد جميع الكفّار. ثم شجّعهم بقوله : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أي : كيده للمؤمنين بالإضافة إلى كيد الله تعالى للكافرين ضعيف لا يعتدّ به ، فلا تخافوا أولياءه ، فإنّ اعتمادهم على أضعف شيء وأوهنه. وفي ذكر «كان» دلالة على أنّ الضعف لازم لكيد الشيطان في جميع الأحوال والأوقات ، ما مضى منها وما يستقبل ، وليس هو عارضا في حال دون حال.

١٠٦

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨))

روي أن عبد الرحمان بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة ابن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقّاص كانوا يلقون من المشركين أذى شديدا ، وهم بمكّة قبل أن يهاجروا إلى المدينة ، فيشكون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : يا رسول الله ائذن لنا في قتال هؤلاء ، فإنّهم قد آذونا. فقال لهم رسول الله : التزموا الصبر وتحمّل الأذيّة حتى يأذن الله لي في القتال. فلمّا أمروا بالقتال والمسير إلى بدر شقّ على بعضهم ، فنزلت : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أي : عن القتال (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) واشتغلوا بالصلاة وأداء الزكاة وسائر الطاعات (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) يخشون الكفّار أن يقتلوهم (كَخَشْيَةِ اللهِ) كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأسه.

و «إذا» للمفاجأة جواب «لمّا» ، و «فريق» مبتدأ ، «منهم» صفته ، «يخشون»

١٠٧

خبره ، «كخشية الله» من إضافة المصدر إلى المفعول ، وقع موقع المصدر أو موقع الحال من فاعل «يخشون» على معنى : يخشون الناس مثل أهل خشية الله منه ، أي : مشبّهين أهل خشية الله.

(أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) من أهل خشية الله. عطف على «كخشية الله» إن جعلته حالا ، وإن جعلته مصدرا فلا ، لأنّ أفعل التفضيل إنّما يكون من جنسه إذا كان ما بعده مجرورا ، وأمّا إذا نصب لم يكن من جنسه ، فلا تقول : خشي فلان أشدّ خشية ، بنصب خشية ، وأنت تريد المصدر ، بل تقول : أشدّ خشية بالجرّ ، بل هو معطوف على اسم الله تعالى ، أي : كخشية الله أو كخشية أشدّ خشية منه على الفرض.

ولفظ «أو» هنا لإبهام الأمر على المخاطب. وقيل : بمعنى الواو. ونظير ذلك قوله تعالى : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (١).

(وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا) هلّا (أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) استزادة في مدّة الكفّ عن القتال إلى وقت آخر ، حذرا من الموت. ويحتمل أنّهم ما تفوّهوا به ، ولكن قالوه في أنفسهم ، فحكى الله تعالى عنهم.

ثم أعلمهم أنّ ما يستمتع به من منافع الدنيا قليل ، فقال : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) سريع التقضّي (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاقّ المقاتلة ، فلا ترغبوا عنها ، أو من آجالكم المقدّرة.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : ولا يظلمون ، لتقدّم الغيبة.

(أَيْنَما تَكُونُوا) من الأماكن (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) يلحقكم الموت وينزل بكم (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ) في قصور أو حصون (مُشَيَّدَةٍ) مرتفعة ، أو مطوّلة في ارتفاع. وقيل : في بروج السماء. والبروج في الأصل بيوت على طرف القصر ، من : تبرّجت المرأة ، إذا ظهرت.

__________________

(١) البقرة : ٧٤.

١٠٨

روي أنّ اليهود قالوا : منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها ، فحكى الله تعالى عنهم بقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) كما تقع الحسنة والسيّئة على الطاعة والمعصية ، تقعان على النعمة والبليّة ، قال الله تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١). وهما المراد في الآية.

والمعنى : إن تصبهم نعمة ـ كخصب ـ نسبها اليهود إلى الله ، وإن تصبهم بليّة ـ كقحط ـ نسبوها إليك ، وقالوا : هي من عندك وبشؤمك ، كما حكى عن قوم موسى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) (٢). وعن قوم صالح : (اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) (٣). فردّ الله تعالى عليهم بقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يبسطها ويقبضها حسب إرادته ، ليبتلي بذلك عباده ليعرضهم لثوابه ، بالشكر عند العطيّة والصبر على البليّة.

(فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) يوعظون به ، وهو القرآن ، فإنّهم لو فهموه وتدبّروا معانيه لعلموا أنّ الله هو الباسط القابض ، وأفعاله كلّها صادرة عن حكمة وصواب. أو لا يفقهون حديثا مّا ، كبهائم لا أفهام لها. أو لا يفقهون أمرا حادثا من صروف الزمان فيتفكّروا فيها ، فيعلموا أنّ القابض والباسط هو الله.

وقيل : هؤلاء هم المنافقون ، مثل عبد الله بن أبيّ وأصحابه الّذين تخلّفوا عن القتال يوم أحد ، وقالوا للّذين قتلوا في الجهاد : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.

فعلى هذا معناه : إن يصبهم ظفر وغنيمة قالوا : هذا من عند الله ، وإن يصبهم مكروه وهزيمة قالوا : هذا من عندك وبسوء تدبيرك.

__________________

(١) الأعراف : ١٦٨.

(٢) الأعراف : ١٣١.

(٣) النمل : ٤٧.

١٠٩

وهذا القول هو المرويّ عن ابن عبّاس وقتادة. والأوّل ذكره البلخي والجبائي ، وروي عن الحسن وابن زيد. وقيل : هو عامّ في اليهود والمنافقين. وهو الأصحّ.

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩))

ثم قال تعالى خطابا عامّا : (ما أَصابَكَ) يا إنسان (مِنْ حَسَنَةٍ) من نعمة وإحسان (فَمِنَ اللهِ) تفضّلا منه وامتنانا ، فإنّ كلّ ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود ، فكيف يقتضي غيره. ولذلك قال عليه‌السلام : «ما يدخل أحد الجنّة إلّا برحمة الله. قيل : ولا أنت. قال : ولا أنا».

(وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) من بليّة ومصيبة (فَمِنْ نَفْسِكَ) لأنّك السبب فيها بما اكتسبت من الذنوب. ومثله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (١). وهو لا ينافي قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فإنّ الكلّ منه إيجادا وإيصالا ، غير أنّ الحسنة إحسان وامتنان ، والسيّئة مجازاة وانتقام ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من خدش بعود ، ولا اختلاج عر؟؟ ، ولا عثرة قدم ، إلّا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر».

وكما قالت عائشة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من مسلم يصيبه وصب (٢) ولا نصب ، حتى الشوكة يشاكها ، وحتى انقطاع شسع نعله ، إلّا بذنب ، وما يعفو الله أكثر».

(وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ) جميعا (رَسُولاً) لست برسول للعرب وحدهم كما

__________________

(١) الشورى : ٣٠.

(٢) الوصب : المرض والوجع الدائم ، وقد يطلق على التعب والفتور في البدن. والنصب : العناء والمشقّة.

١١٠

زعم بعضهم. و «رسولا» حال قصد بها التأكيد إن علّق الجارّ بالفعل ، والتعميم إن علّق بالحال ، أي : رسولا للناس من العرب والعجم جميعا ، كقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ). ويجوز نصبه على المصدر بغير باب فعله.

ووجه اتّصاله بما تقدّم : أنّ المراد منه أنّ ما أصابهم فبشؤم ذنوبهم ، وإنّما أنت رسول طاعتك طاعة الله ومعصيتك معصية الله ، فلا يتطيّر بك ، لأنّ الخير كلّه فيك ، لعموم رسالتك على الخلق.

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) وحسبك الله شاهدا لك على رسالتك بنصب المعجزات. وقيل : معناه شهيدا على عباده بما يعملون ويقولون من خير وشرّ. فعلى هذا يكون متضمّنا للترغيب في الخير والتحذير عن الشرّ.

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١))

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أحبّني فقد أحبّ الله ، ومن أطاعني فقد أطاع الله».

فقال المنافقون : لقد قارف (١) الشرك وهو ينهى عنه ، ما يريد إلّا أن نتّخذه ربّا ، كما اتّخذت النصارى عيسى ، فنزلت : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) لأنّه إنّما يأمر بما أمر الله ، وينهى عمّا نهى الله عنه ، فهو يبلّغ عن أوامر الله ونواهيه ، فكانت طاعته في امتثال ما أمر به والانتهاء عمّا نهى عنه طاعة لله (وَمَنْ تَوَلَّى) عن الله وأعرض

__________________

(١) قارف مقارفة ، أي : قارب.

١١١

عنه (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) عن التولّي حتّى يسلّموا وينقادوا ، أو تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها ، إنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب. وهو حال من الكاف.

(وَيَقُولُونَ) يعني : يقول المنافقون إذا أمرتهم بأمر : (طاعَةٌ) أي : أمرنا طاعة ، أو منّا طاعة. وأصلها النصب على المصدر ، ورفعها للدلالة على الثبات (فَإِذا بَرَزُوا) خرجوا (مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ) دبّرت وقرّرت ليلا (طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي : زوّرت خلاف ما قلت لهم وأمرت به ، أو خلاف ما قالت لك من القبول ولزوم الطاعة ، لأنّهم نافقوا بما قالوا : وأبطنوا خلاف ما أظهروا.

والتبييت إمّا من البيتوتة ، لأنّ الأمور تدبّر بالليل ، يقال : هذا أمر بيّت بليل.

أو من أبيات الشعر ، لأنّ الشاعر يدبّرها ويسوّيها. أو من البيت المبنيّ ، لأنّه بالتدبير يدبّر فيسوّى.

وقرأ حمزة وأبو عمرو : بيّت طائفة بالإدغام ، لقربهما في المخرج.

ثمّ وعدهم سبحانه بقوله : (وَاللهُ يَكْتُبُ) يثبت في صحائفهم (ما يُبَيِّتُونَ) للمجازاة ، أو في جملة ما يوحى إليك لتطّلع على أسرارهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) قلّل المبالاة بهم ، أو تجاف عنهم إلى أن يستقرّ أمر الإسلام (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وفوّض أمرك إليه ، وثق به في جميع الأمور ، سيّما في شأنهم (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) يكفيك مضرّتهم ، وينتقم لك منهم.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)) ولمّا بيّن إرسال النبيّ أمر بالتدبّر في معجزته وهو القرآن ، ليعلموا أنّه مبعوث من عنده ، فقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يتأمّلون في معانيه ، ويتبصّرون ما فيه ،

١١٢

لينزجروا عن النفاق والكفر ، ويطيعوا أمر الرسول. وأصل التدبّر النظر في أدبار الأمور ، والتأمّل فيها ، ثم استعمل في كلّ تأمّل.

(وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) أي : ولو كان من كلام البشر كما زعم البشر (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) لكان الكثير منه مختلفا متناقضا متفاوتا نظمه ومعانيه ، وكان بعضه فصيحا ، وبعضه ركيكا ، وبعضه معجزا يصعب معارضته ، وبعضه غير معجز يسهل معارضته ، وبعضه أخبارا مستقبلة أو ماضية لا يوافق المخبر عنه ، وبعضه موافقا للعقل في بعض أحكامه دون بعض ، على ما دلّ عليه الاستقراء في تصانيفهم ، لنقصان القوّة البشريّة. فلمّا تناسب كلّه من حيث توافق النظم ، وصحّة المعاني ، وصدق الأخبار ، واشتماله على أنواع الحكم من أمر بحسن ونهي عن قبيح ، وعلى الدعاء إلى مكارم الأخلاق ، والحثّ على الخير والزهد ، مع فصاحة اللفظ على وجه فاق على جميع قوى الفصحاء والبلغاء ، علم أنّه ليس إلّا من جهة الله تعالى القادر على ما لا يقدر عليه غيره ، والعالم بما لا يعلمه أحد سواه.

واعلم أنّ الاختلاف في الكلام يكون على ثلاثة اضرب : اختلاف تناقض ، واختلاف تفاوت ، واختلاف تلاوة. واختلاف التفاوت يكون في الحسن والقبح ، والخطأ والصواب ، ونحو ذلك ممّا تدعو إليه الحكمة وتصرف عنه. وهذا القسم لا يوجد في القرآن البتّة ، كما لا يوجد اختلاف التناقض ، كما قال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (١). وأمّا اختلاف التلاوة فهو ما يتلاوم في الجنس ، كاختلاف وجوه القرآن ، واختلاف مقادير الآيات والسور ، واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ ، وذلك موجود في القرآن ، وكلّه حقّ وصواب.

وهذه الآية تضمّنت الدلالة على معان كثيرة :

منها : بطلان التقليد ، وصحّة الاستدلال في أصول الدين ، لأنّه سبحانه دعا

__________________

(١) فصّلت : ٤٢.

١١٣

العباد إلى التفكّر والتدبّر ، وحثّ على ذلك.

ومنها : فساد قول من زعم من الحشويّة وغيرهم أنّ القرآن كلّه لا يفهم معناه إلّا بتفسير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه حثّ على تدبّره ليعرفوه.

ومنها : أنّه لو كان من غيره لكان على وزان كلام عباده ، ولوجدوا الاختلاف المذكور فيه.

ومنها : أنّ تناقض كلام المخلوق لا يكون من فعل الله تعالى ، لأنّه لو كان من فعله لكان فاعلا للقبيح ، وهو منزّه عن ذلك.

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣))

روي أنّ قوما من ضعفة الإسلام أو أهل النفاق إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أخبرهم الرسول بما أوحي إليه من أمن وسلامة ، ووعد بالظفر ، أو تخويف من الكفر وضرر ، أفشوه لعدم حزمهم ، وكان إفشاؤهم مفسدة ، فنزلت : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) أي : أمر ممّا يوجب الأمن أو الخوف (أَذاعُوا بِهِ) أفشوه من غير أن يعلموا صحّته أو صلاح إذاعته. والباء مزيدة ، أو لتضمّن الإذاعة معنى التحدّث.

(وَلَوْ رَدُّوهُ) ولو سكتوا عنه وردّوا ذلك الخبر (إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) أي : إلى رأيه ورأي أهل العلم والعفّة الّذين هم ملازمون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بصراء بالأمور أو أمراء السرايا والولاة. وعن الباقر عليه‌السلام هم الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام.

١١٤

وأنكر أبو علي الجبائي الوجه الأوّل ، وقال : إنّما يطلق أولوا الأمر على من له الأمر على الناس (لَعَلِمَهُ) أي : لعلم صحّته (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) يستخرجون تدابيره بتجاربهم وأنظارهم. وضمير «منهم» راجع إلى أولي الأمر.

وقيل : كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها ، فتعود هذه الإذاعة وبالا على المسلمين.

وعلى هذا معناه : لو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم حتّى يسمعوه منهم ، وتعرّفوا أنّه هل هو ممّا يذاع ، لعلم ذلك من هؤلاء الّذين يستنبطونه من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولي الأمر ، أي : يستخرجون علمه من جهتهم.

وأصل الاستنباط إخراج النبط ، وهو الماء يخرج من البئر أوّل ما يحفر ، وإنباط الماء واستنباطه إخراجه واستخراجه ، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) ولو لا وصول موادّ الألطاف من جهة الله (عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بإرسال الرسل وإنزال الكتاب.

قيل : فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن. وقيل : فضل الله النبيّ ، ورحمته القرآن. وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : فضل الله ورحمته النبيّ وعليّ عليهما‌السلام.

(لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) بما يلقي إليكم من الوساوس الموجبة لضعف اليقين والبصيرة ، أو بالكفر والضلال (إِلَّا قَلِيلاً) منكم ، وهم أهل البصائر النافذة ، وذوو الصدق واليقين ، الّذين تفضّل الله تعالى عليهم بعقل راجح اهتدوا به إلى الحقّ والصواب ، وعصمهم عن متابعة الشيطان بغير رسول وكتاب ، مثل قسّ بن ساعدة ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، والبراء الشني ، وأبي ذرّ الغفاري ، ونظرائهم من طلّاب الدين أسلموا بالله ووحّدوه قبل بعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أو إلّا اتّباعا قليلا على الندور.

١١٥

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤))

ولمّا تقدّم في الآي تثبيطهم عن القتال حثّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال خطابا له : إن تثبّطوا وتركوك وحدك (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) إلّا فعل نفسك ، لا يضرّك مخالفتهم وتقاعدهم ، فتقدّم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد ، فإنّ الله سبحانه هو ناصرك البتّة ، سواء كنت منفردا أو مع من حولك من الجنود.

روي أنّ أبا سفيان يوم أحد لمّا رجع واعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موسم بدر الصغرى ، فكرهه بعضهم ، وتثاقلوا حين بلغ الميعاد ، فنزلت هذه الآية. فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما معه إلّا سبعون ، ولم يلتفت إلى أحد ، ولو لم يتّبعه أحد لخرج وحده.

(وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : على القتال ، إذ ما عليك في شأنهم إلّا التحريض (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : قريشا ، وقد كفّ بأسهم ، بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجع أبو سفيان مع أصحابه ، وقال : هذا عام مجدب ، وانصرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمن معه سالمين (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) من قريش (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) تعذيبا منهم. وهو تقريع وتهديد لمن لم يتّبعه.

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥)) ولمّا أمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتحريض المؤمنين على القتال الّذي يتضمّن جلب النفع إليهم ودفع الضرر عنهم عاجلا وآجلا ، ويوجب مزيّة الثواب لمحرّضه ،

١١٦

فقال بعد ذلك تأكيدا للأمر بالتحريض : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) راعى بها حقّ مسلم ، ودفع بها عنه ضرّا ، أو جلب إليه نفعا ، ابتغاء لوجه الله تعالى ، ومنها الدعاء لمسلم ، كما قال عليه‌السلام : «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له ، وقال له الملك : ولك مثل ذلك».

(يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) وهو ثواب الشفاعة والتسبّب إلى الخير الواقع بها. وقال عليه‌السلام : «اشفعوا تؤجروا».

وأصل الشفاعة من الشفع الّذي هو ضدّ الوتر ، فإنّ الرجل إذا شفع لصاحبه فقد شفّعه ، أي : صار ثانيه.

ثم قال في بيان ضدّه ومقابله : (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) يريد بها محرّما منهيّا ، ومنه الشفاعة في إسقاط حقّ واجب ، كترك الجهاد ، وترك حدّ من حدود الله الواجبة ، كما قال عليه‌السلام : «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله تعالى فقد ضادّ الله في ملكه».

(يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) أي : نصيب من وزرها مساو لها في القدر ، فإنّ الكفل بمعنى النصيب عند اللغويّين (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) مقتدرا ، من : أقات الشيء ، إذا قدر. أو شهيدا حافظا يعطي الشيء قدر الحاجة ، اشتقاقه من القوت ، فإنّه يقوّي البدن ويحفظه.

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦)) ولمّا أمر سبحانه المؤمنين بقتال المشركين وتشدّدهم وغلّظ عليهم ، أوجب عليهم جواب السلام على وجه يكون أحسن من تسليم المسلّم المسلم أو مثله ، ليحصل به مزيّة المودّة والرأفة والمحبّة والصداقة والاتّحاد بينهم ، عكس المشركين ، فقال : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) فأمر سبحانه بردّ السلام على المسلّم بأحسن ما سلّم ، وهو أن يقول : عليكم السلام ورحمة الله ،

١١٧

إذا قال المسلّم : السلام عليكم. وإن يزد : ورحمة الله ، فيزيد في جوابه : وبركاته ، وهي النهاية ، أو يردّه بمثله.

روي أنّ رجلا دخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : السلام عليك. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وعليك السلام ورحمة الله. فجاء آخر فقال : السلام عليك ورحمة الله. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فجاء آخر فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فقيل : يا رسول الله زدت للأوّل والثاني في التحيّة ، ولم تزد للثالث. فقال : إنّه لم يبق لي من التحيّة شيئا ، فرددت عليه بمثله.

وذلك لاستجماعه أقسام المطالب : السلامة عن المضارّ ، وحصول المنافع.

وجواب التسليم على الطريق المذكور واجب على الكفاية بالإجماع ، والتخيير إنّما وقع بين الزيادة وتركها. وهذا إذا كان المسلّم مسلما. أمّا إذا كان كافرا فجوابه : عليك حسب ، كما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : عليكم» أي : عليكم ما قلتم ، لأنّهم كانوا يقولون : السام عليكم ، والسام الموت.

والتحيّة في الأصل مصدر : حيّاك الله على الإخبار من الحياة ، ثم استعمل للدعاء بذلك ، ثم قيل لكلّ دعاء فغلب في السلام.

روى الواحدي بإسناده عن أبي أمامة ، عن مالك بن التيهان ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال : السلام عليكم كتب له عشر حسنات ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله كتب له عشرون حسنة ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة».

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) يحاسبكم ويجازيكم على التحيّة وغيرها. وعن ابن عبّاس : الحسيب بمعنى الحفيظ والكافي.

١١٨

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧)) ولمّا أمر الله سبحانه ونهى فيما قبل بيّن بعده أنّه الإله الّذي لا يستحقّ العبادة سواه ، ليمتثلوا أوامره ونواهيه ، فقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر ، أو «الله» مبتدأ ، و «لا إله إلّا هو» معترض ، وخبره (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : الله والله ليحشرنّكم بعد مماتكم من قبوركم إلى يوم القيامة. أو ليجمعنّكم مفضين إلى يوم القيامة. أو «إلى» بمعنى «في» أي : ليجمعنّكم في يوم القيامة. وقال الزجّاج : معناه : ليجمعنّكم في الموت أو في قبوركم إلى يوم القيامة. والقيام والقيامة كالطلاب والطلابة ، وهي قيام الناس من القبور ، أو قيامهم للحساب.

(لا رَيْبَ فِيهِ) في اليوم ، أو الجمع ، فهو حال من اليوم أو صفة للمصدر ، أي : جمعا لا ريب فيه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) إنكار أن يكون أحد ، أكثر صدقا منه ، فإنّه لا يتطرّق الكذب إلى خبره بوجه ، لأنّه نقص وهو على الله تعالى محال.

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ

١١٩

جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠))

ثم عاد الكلام إلى ذكر المنافقين فقال : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) فما لكم تفرّقتم في أمر المنافقين فئتين ، أي : فرقتين ، فمنكم من يكفّرهم ومنكم من لم يكفّرهم. ونصبه على الحال ، وعاملها «ما لكم» ، كقولك : مالك قائما ، و «في المنافقين» حال من «فئتين» أي : متفرّقين حال كون تفرّقكم فيهم. ومعنى الافتراق مستفاد من الفئتين.

والمراد منهم قوم استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخروج إلى البدو ، لرداءة هواء المدينة ، فلمّا خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون في إسلامهم ، فنزلت هذه الآية.

وقيل : نزلت في المتخلّفين يوم أحد ، الذين قالوا : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) (١). أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلّين برداءة هواء المدينة والاشتياق إلى الوطن. وهذا القول مرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وقيل : في قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة.

(وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) ردّهم إلى حكم الكفرة ، أو نكّسهم إلى النار (بِما كَسَبُوا) بما فعلوا من الرجوع إلى المشركين ، أو بالتقاعد عن القتال. وأصل الإركاس والنكس ردّ الشيء مقلوبا بحيث يصير أعلاه أسفله وأسفله أعلاه. (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا) أي : تجعلوه من جملة المهتدين (مَنْ أَضَلَّ اللهُ) من جعله الله من جملة

__________________

(١) آل عمران : ١٦٧.

١٢٠