زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

عليها. وهذا كلام ورد على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) ومثل ذلك التصريف نصرّف. وهو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة من التصرّف ، وهو نقل الشيء من حال إلى حال.

(وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) أي : وليقولوا : وتعلّمت من اليهود صرفنا. واللام لام العاقبة. والدرس القراءة والتعلّم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : دارست ، أي : دارست أهل الكتاب وذاكرتهم. وابن عامر ويعقوب : درست ، من الدروس ، أي : قدّمت هذه الآيات وعفت ، كقولهم : أساطير الأوّلين.

(وَلِنُبَيِّنَهُ) هذا اللام على أصله وحقيقته ، لأنّ التبيين مقصود التصريف ، بخلاف لام «ليقولوا» فإنّه على المجاز. والضمير للآيات باعتبار المعنى ، لأنّها في معنى القرآن. أو للقرآن وإن لم يذكر ، لكونه معلوما. أو للتبيين الّذي هو مصدر الفعل. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإنّهم المنتفعون به.

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))

ثمّ أمر سبحانه نبيّه باتّباع الوحي فقال : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) بالتديّن به (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اعتراض أكّد به إيجاب الاتّباع. أو حال مؤكّدة من «ربّك» ، بمعنى : منفردا في الألوهيّة (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) لا تبال بأقوالهم ، ولا تلتفت إلى آرائهم وأهوائهم ، ولا تلاطفهم. ومن جعله منسوخا بآية السيف (١) ،

__________________

(١) التوبة : ٥ و٢٩.

٤٤١

حمل الإعراض على ما يعمّ الكفّ عنهم.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ) توحيدهم وعدم إشراكهم جبرا وقسرا (ما أَشْرَكُوا) أي :لاضطرّهم إلى الإيمان بالقسر والجبر ، ولكنّ الجبر مناف للتكليف الذي هو مناط استحقاق الثواب والعقاب ، فلم يشأ ذلك. ولا يجوز أن يكون المعنى : أنّه تعالى لا يريد إيمان الكافر ، فلذلك لم يؤمن ، لأنّ مراده واجب الوقوع كما قالت الأشعريّة ، لأنّ إرادة الكفر قبيح ، والقبح على الله محال.

وفي تفسير أهل البيت عليهم‌السلام : لو شاء الله أن يجعلهم كلّهم مؤمنين معصومين حتّى كان لا يعصيه أحد ، لما كان يحتاج إلى جنّة ولا إلى نار ، ولكنّه أمرهم ونهاهم وامتحنهم ، وأعطاهم ماله به عليهم الحجّة من الآلة والاستطاعة ، ليستحقّوا الثواب والعقاب.

(وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) رقيبا لأعمالهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) بموكّل عليهم بذلك ، وإنّما أنت رسول عليك البلاغ وعلينا الحساب. وجمع بين حفيظ ووكيل لاختلاف معنى اللفظين ، فإنّ الحافظ للشيء هو الّذي يصونه عمّا يضرّه ، والوكيل على الشيء هو الّذي يجلب الخير إليه.

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨))

ثمّ نهى الله تعالى المؤمنين أن يسبّوا الأصنام ، لما في ذلك من المفسدة ، فقال : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : ولا تذكروا آلهتهم الّتي يعبدونها بما فيها من القبائح (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) تجاوزا عن الحقّ إلى الباطل (بِغَيْرِ عِلْمٍ)

٤٤٢

على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به. وقرأ يعقوب : عدوّا بضمّ العين وتشديد الواو. ويقال : عدا فلان عدوا وعدوّا وعداء وعدوانا.

قال ابن عبّاس : لمّا نزلت : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١).

قال المشركون : لتنتهي عن سبّ آلهتنا أو لنهجونّ إلهك ، فنزلت.

وقيل : كان المسلمون يسبّونها فنهوا ، لئلّا يكون سبّهم سببا لسبّ الله.

وفيه دليل على أنّ النهى عن المنكر الّذي هو من أجلّ الطاعات إذا علم أنّه يؤدّي إلى زيادة الشرّ ينقلب معصية ، فصار النهي عن ذلك النهي من جملة الواجبات.

وسئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوانة (٢) سوداء في ليلة ظلماء ، فقال : كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون الله ، وكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون ، فنهى الله عن سبّ آلهتهم لكيلا يسبّ الكفّار إله المؤمنين ، فيكون المؤمنون قد أشركوا من حيث لا يعلمون.

(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك التزيين (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ) من أمم الكفّار (عَمَلَهُمْ) أي : خلّيناهم وسوء ما عملوا ، ولم نمنعهم حتّى حسن عندهم عملهم السيّء ، أي : أمهلنا الشيطان حتّى زيّن لهم. أو زيّنّاه في زعمهم وقولهم : إنّ الله أمرنا بهذا وزيّنه لنا. ولا يجوز التزيين على المعنى الحقيقي لقبحه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فيوبّخهم عليه ويعاتبهم ويعاقبهم عليه.

__________________

(١) الأنبياء : ٩٨.

(٢) الصفوان : الصخر الأملس.

٤٤٣

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠))

ثمّ بيّن سبحانه حال الكفّار الّذين سألوه الآيات المقترحة ، فقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) مصدر في موقع الحال ، أي : حلفوا بالله مجدّين مجتهدين.

والداعي لهم إلى هذا القسم والتأكيد فيه التحكّم على الرسول في طلب الآيات ، واستحقار ما رأوا منها. (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) من مقترحاتهم (لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) هو قادر عليها ، يظهر منها ما يشاء ، وليس شيء منها بقدرتي ومشيئتي (وَما يُشْعِرُكُمْ) وما يدريكم (أَنَّها) أنّ الآيات المقترحة (إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ).

يعني : أنا أعلم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون ، وأنتم لا تدرون. وذلك أنّ المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم عند مجيء تلك الآيات ، فيتمنّون مجيئها ، فأخبرهم الله تعالى أنّهم لا يدرون ما سبق علمه به من أنّهم لا يؤمنون. والاستفهام للإنكار ، أنكر السبب ـ وهو مجيء الآية ـ مبالغة في نفي المسبّب ، وهو الايمان. ففيه تنبيه على أنّه تعالى إنّما لم ينزلها لعلمه بأنّها لا يؤمنون بها إذا جاءت.

وقيل : «لا» مزيدة. وعلى قراءة الفتح قيل : «أن» بمعنى : لعلّ ، إذ قرأ أبيّ : لعلّها ، من قولهم : ائت السوق أنّك تشتري لحما.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب : «إنّها» بالكسر ، على أنّ الكلام قد تمّ قبله ، كأنّه قال : وما يشعركم ما يكون منهم ، ثمّ أخبرهم بما علم.

٤٤٤

وقيل : الخطاب للمشركين. وقرأ ابن عامر وحمزة : لا تؤمنون بالتاء.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) عطف على (لا يُؤْمِنُونَ) داخل في حكم (وَما يُشْعِرُكُمْ). يعني : وما يشعركم أنّهم لا يؤمنون ، وما يشعركم أنّا نقلّب أفئدتهم وأبصارهم ، أي : نطبع على قلوبهم وأبصارهم ، فلا يفقهون ولا يبصرون الحقّ (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) كما كانوا عند نزول آياتنا أوّلا لا يؤمنون بها ، لكونهم مطبوعا على قلوبهم. (وَنَذَرُهُمْ) وما يشعركم أنّا ندعهم (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يتحيّرون ، أي : نخلّيهم وشأنهم ، لا نكفّهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه.

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١))

ثمّ بيّن سبحانه حالهم في عنادهم ، وتردّدهم في طغيانهم وكفرهم ، وتمرّدهم ولجاجهم ، فقال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) يشهدون لنبيّنا بالرسالة ، كما قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) (١) (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) وأحيينا الموتى حتّى شهدوا له ، كما قالوا : (فَأْتُوا بِآبائِنا) (٢) (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) كما قالوا : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (٣). وقبلا جمع قبيل ، بمعنى : كفيلا ، أو جمع القبيل الّذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات ، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا. وهو قراءة نافع وابن عامر. وهو على الوجوه حال من «كلّ». وإنّما جاز ذلك لعمومه.

(ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لما سبق عليهم علمه تعالى بكفرهم وعنادهم

__________________

(١) الفرقان : ٢١.

(٢) الدخان : ٣٦.

(٣) الإسراء : ٩٢.

٤٤٥

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء من أعمّ الأحوال ، أي : لا يؤمنون في حال من الأحوال إلّا حال أن يشاء الله تعالى إيمانهم ، مشيئة إكراه وقسر واضطرار. يعني : أنّهم لا يؤمنون مختارين قطّ إلّا أن يكرهوا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أنّهم لو أوتوا بكلّ آية لم يؤمنوا طوعا ، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم ، مع أنّ مطلق الجهل يعمّهم. أو لكنّ أكثر المسلمين يجهلون أنّهم لا يؤمنون ، فيتمنّون نزول الآية المقترحة طمعا في إيمانهم.

وفي الآية دلالة على أنّ الله تعالى لو علم أنّه إذا فعل ما اقترحوه من الآيات آمنوا لفعل ذلك ، ولكان من الواجب في حكمته ، لأنّه لو لم يجب ذلك ، لم يكن لتعليله بأنّه لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنّه لو فعلها لم يؤمنوا ، معنى.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣))

ثمّ بيّن سبحانه ما كان عليه حال الأنبياء عليهم‌السلام مع أعدائهم ، تسلية لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) أي : وكما خلّينا بينك وبين أعدائك ، ولم نمنعهم عنك قسرا وكرها ، كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، لم نمنعهم عن العداوة ، لما فيه من الامتحان الّذي هو سبب ظهور الثبات والصبر ، وكثرة الثواب والأجر.

٤٤٦

(شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) مردة الفريقين. وهو بدل من «عدوّا» ، أو أوّل مفعولي «جعلنا» ، و «عدوّا» مفعوله الثاني ، و «لكلّ» متعلّق به أو حال منه.

(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) يوسوس ويلقي خفية شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس ، أو بعض الجنّ إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) ما يزيّنه ويموّهه من القول والإغراء على المعاصي. يقال : زخرف القول إذا زيّنه ، أي : الذي يستحسن ظاهره ، ولا حقيقة له ولا أصل.

(غُرُوراً) خدعا وأخذا على غرّة. وهو مفعول له ، أو مصدر في موقع الحال.

وعن مالك بن دينار : أنّ شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجنّ ، لأنّي إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجنّ عنّي ، وبعض الإنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عيانا.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) أي : ما عادوك ، أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ، بأن يكفّهم عنه اضطرارا وإلجاء ، ولا يخلّيهم وشأنهم (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) أي : دعهم وافتراءهم الكذب ، فإنّي أجازيهم وأعقابهم. أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يخلّي بينهم وبين ما اختاروه ، ولا يمنعهم منه بالقهر تهديدا لهم ، كما قال : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١) ، دون أن يكون أمرا واجبا أو ندبا.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) عطف على «غرورا» إن جعل علّة ، وإلّا يتعلّق بمحذوف ، أي : وليكون ذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا. ولا يجوز أن يكون اللام للعلّة ، لأنّه تعالى لا يجوز أن يريد إصغاء القلوب في الكفر ووحي الشياطين ، بل اللام لام الصيرورة والعاقبة ، كما في قوله :

__________________

(١) فصلت : ٤٠.

٤٤٧

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١). والصغو : الميل. والضمير في «إليه» يرجع إلى ما يرجع إليه ضمير «فعلوه» ، أي : ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين قلوب الكفّار ، والّذين لا يعتقدون بالآخرة والحشر والنشر والحساب.

(وَلِيَرْضَوْهُ) وليحبّوه لأنفسهم (وَلِيَقْتَرِفُوا) ليكتسبوا (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) من الآثام.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤))

ثمّ أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهؤلاء الكفّار الّذين مضى ذكرهم هذا القول : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) على إرادة القول ، أي : قل لهم يا محمد : أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ، ويميّز المحقّ منّا من المبطل؟! و «غير» مفعول «أبتغي» ، و «حكما» حال منه. ويحتمل عكسه. وحكما أبلغ من حاكم ، ولذلك لا يوصف به غير العادل.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) القرآن المعجز (مُفَصَّلاً) مبيّنا فيه الحلال والحرام ، والكفر والإيمان ، والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء ، وسائر الحقّ والباطل بحيث ينفي الالتباس. وفيه تنبيه على أنّ القرآن بإعجازه وتقريره مغن عن سائر الآيات.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني : التوراة والإنجيل (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أنّ القرآن

__________________

(١) القصص : ٨.

٤٤٨

(مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ). هذا تأييد لدلالة الإعجاز على أنّ القرآن حقّ منزل من عند الله ، يعلم أهل الكتاب به ، لتصديقه ما عندهم ، مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يمارس كتبهم ، ولم يخالط علماءهم ، وإنّما وصف جميعهم بالعلم ، لأنّ أكثرهم يعلمون ، ومن لم يعلم فهو متمكّن منه بأدنى تأمّل. وقيل : المراد مؤمنوا أهل الكتاب. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم : منزّل بالتشديد.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) من الشاكّين في أنّهم يعلمون ذلك ، أو في أنّه منزل ، لجحود أكثرهم وكفرهم به ، فيكون من باب التهييج ، كقوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١). أو (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) في أن أهل الكتاب يعلمون أنّه منزل بالحقّ ، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم به. وقيل : الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهرا ، والمراد خطاب أمّته. ويجوز أن يكون خطابا لكلّ أحد ، على معنى أنّه : إذا تظاهرت الحجج على صحّته فلا ينبغي أن يمتري أحد فيه.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥))

ثمّ بيّن سبحانه صفة الكتاب المنزل ، فقال : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي : بلغت الغاية حججه وأمره ونهيه ووعده ووعيده (صِدْقاً) في الأخبار والمواعيد (وَعَدْلاً) في الأقضية والأحكام. ونصبهما يحتمل التمييز والحال والمفعول له (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لا أحد يبدّل شيئا من ذلك بما هو أصدق وأعدل. أو لا أحد يقدر أن يحرّفها شائعا ذائعا كما فعل بالتوراة ، على أنّ المراد بها القرآن ، فيكون ضمانا لها من الله تعالى بأن يحفظه ، كقوله : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٢). أو لا نبيّ ولا كتاب

__________________

(١) القصص : ٨٧.

(٢) الحجر : ٩.

٤٤٩

بعدها ينسخها أو يبدّل أحكامها.

وقرأ الكوفيّون ويعقوب : كلمة ربّك ، أي : ما تكلّم به ، أو القرآن.

(وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يقولون (الْعَلِيمُ) بما يضمرون ، فلا يهملهم.

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧))

ولمّا تقدّم ذكر الكتاب بيّن سبحانه أنّ من تبع غير هذا الكتاب ضلّ وأضلّ ، فقال : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي : أكثر الناس ، يريد الكفّار ، أو الجهّال ، أو أتباع الهوى. وقيل : أهل مكّة. (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الطريق الموصل إليه ، فإنّ الضالّ في غالب الأمر لا يأمر إلّا بما فيه ضلال.

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) وهو ظنّهم أنّ آباءهم كانوا محقّين ، فهم يقلّدونهم. أو جهالاتهم وآراؤهم الفاسدة ، فإنّ الظنّ يطلق على ما يقابل العلم. وفيه : أنّه لا عبرة في معرفة الحقّ بالكثرة ، وإنّما الاعتبار بالحجّة. (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يقدّرون أنّهم على شيء. أو يكذبون على الله فيما ينسبون إليه ، كاتّخاذ الولد ، وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه ، وتحليل الميتة ، وتحريم البحائر. وحقيقة الخرص ما يقال عن ظنّ وتخمين.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي : أعلم بالفريقين. و «من» موصولة أو موصوفة في محلّ النصب بفعل دلّ عليه «أعلم» ، وهو : يعلم ، لا به ، فإنّ أفعل لا ينصب الظاهر في مثل ذلك. أو استفهاميّة مرفوعة بالابتداء ، والخبر «يضلّ». والجملة معلّق عنها الفعل المقدّر.

وفي هذا دلالة على أنّ الضلال والإضلال من فعل العبيد ، خلاف ما يقول

٤٥٠

أهل الجبر ، وعلى أنّه لا يجوز التقليد واتّباع الظنّ في الدين والاغترار بالكثرة.

وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال للحارث الهمداني : «يا حار الحقّ لا يعرف بالرجال ، اعرف الحقّ تعرف أهله».

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣))

وعن ابن عبّاس أنّهم كانوا يدعون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين إلى أكل الميتة ، ويقولون : تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربّكم! فهذا ضلالهم ، فقال : سبحانه

٤٥١

ردّا عليهم : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) هذا مسبّب عن إنكار اتّباع المضلّين الّذين يحرّمون الحلال ويحلّون الحرام. والمعنى : كلوا ممّا ذكر اسم الله على ذبحه ، وهو المذكّى ببسم الله ، لا ممّا ذكر عليه اسم غيره ، أو مات حتف أنفه. (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) فإنّ الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحلّه الله تعالى ، واجتناب ما حرّمه.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي : وأيّ غرض لكم في أن تتحرّجوا عن أكله؟ وما يمنعكم عنه؟ (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) ممّا لم يحرّم بقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (١). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : فصّل على البناء للمفعول ، ونافع ويعقوب وحفص : حرّم على البناء للفاعل ، وهو الله تعالى.

(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) إلى ما حرّم عليكم ، فإنّه ايضا حلال حال الضرورة ، حفظا للنفس.

(وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ) بتحليل الحرام وتحريم الحلال. وقرأ الكوفيّون بضمّ الياء ، وأرادوا : يضلّون أشياعهم ، والباقون بالفتح. (بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) بتشهّيهم من غير تعلّق بدليل يفيد العلم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين الحقّ إلى الباطل ، والحلال إلى الحرام.

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) ما أعلنتم منه ، وما أسررتم. وقيل : ما عملتم بجوارحكم ، وما نويتم بقلوبكم. وقيل : الزنا في الحوانيت ، واتّخاذ الأخدان في السرّ.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) يرتكبون القبيح (سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) يكتسبون.

ثمّ أكّد سبحانه ما قدّم بقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) على ذبحه. وهذا تصريح في وجوب التسمية على الذبيحة. وظاهره دالّ على تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا. وإليه ذهب داود وأحمد. وقال مالك والشافعي بخلافه ، لقوله عليه‌السلام : «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه». وفرّق أبو

__________________

(١) المائدة : ٣.

٤٥٢

حنيفة بين العمد والنسيان. ومن ذهب إلى جواز أكل ما لم يذكر عليه اسم الله بنسيان أو عمد ، أوّله بالميتة ، أو بما ذكر غير اسم الله عليه.

وعند أصحابنا الإماميّة أنّ المسلم إذا لم يسمّ الله متعمّدا لم تحلّ ذبيحته ، وإذا كان ناسيا حلّ أكلها بعد أن يكون معتقدا لوجوب التسمية ، وأنّ ذبائح الكفّار كلّهم محرّم ، أهل الكتاب وغيرهم ، من سمّى منهم ومن لم يسمّ ، لأنّهم لا يعرفون الله تعالى على الوجه الصحيح والطريق الحقّ.

(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) الضمير لـ «ما». ويجوز أن يكون للأكل الّذي دلّ عليه «لا تأكلوا».

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ) ليوسوسون (إِلى أَوْلِيائِهِمْ) من الكفّار (لِيُجادِلُوكُمْ) بقولهم : تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم ، كالصقر والبازي والكلب وغيرها ، وتدعون ما قتله الله تعالى. وهو يؤيّد التأويل بالميتة. (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) في استحلال ما حرّم (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) فإنّ من ترك طاعة الله إلى طاعة غيره وأتبعه فيه أشرك به. وإنّما حسن حذف الفاء فيه ، لأنّ الشرط بلفظ الماضي.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) يستضيء به بين الناس. مثّل به من هداه الله تعالى وأنقذه من الضلال ، وجعل له نور الحجج والآيات ، يتأمّل بها في الأشياء ، فيميّز بين الحقّ والباطل ، والمحقّ والمبطل. وقرأ نافع ويعقوب : ميّتا على الأصل.

(كَمَنْ مَثَلُهُ) صفته. وهو مبتدأ ، وخبره : (فِي الظُّلُماتِ) أي : كمن صفته هذه ، وهي قوله : (فِي الظُّلُماتِ) أي : خابط فيها ، كقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) (١). (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) لا ينفكّ منها ولا يتخلّص. حال من المستكن في الظرف ، لا من الهاء في «مثله» ، للفصل. وهو مثل لمن بقي على الضلالة ، لا يفارقها بحال.

وإنّما سمّى الله تعالى الكافر ميّتا ، لأنّه لا ينتفع بحياته ، ولا ينتفع غيره بحياته ،

__________________

(١) محمد : ١٥.

٤٥٣

فهو أسوأ حالا من الميّت ، إذ لا يوجد من الميّت ما يعاقب عليه ، ولا يتضرّر غيره به. وسمّى المؤمن حيّا ، لأنّ له ولغيره المصلحة والمنفعة في حياته.

(كَذلِكَ) كما زيّن للمؤمنين إيمانهم (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي :زيّنه الشيطان ، أو الله عزّ وعلا ، على قوله : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) (١). عن الحسن : زيّنه والله لهم الشيطان وأنفسهم. والآية نزلت في حمزة وأبي جهل. وقيل : في عمّار وأبي جهل.

(وَكَذلِكَ) أي : وكما جعلنا في مكّة صناديدها ليمكروا فيها ، كذلك (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) اللام للعاقبة. والمعنى : خلّيناهم وشأنهم ، ولم نكفّهم عن المنكر. وخصّ الأكابر لأنّهم أقوى في حملهم على الضلال والمكر بالناس ، وهو كقوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) (٢). (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لأنّ وباله يحيق بهم (وَما يَشْعُرُونَ) ذلك.

وهذه الآية تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقديم موعد بالنصرة عليهم.

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))

روي أنّ الوليد بن المغيرة قال : لو كانت النبوّة حقّا لكنت أولى بها منك ، لأنّي أكبر منك سنّا ، وأكثر منك مالا.

__________________

(١) النمل : ٤.

(٢) الإسراء : ١٦.

٤٥٤

وروي أنّ أبا جهل قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منّا نبيّ يوحى إليه. والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبدا ، إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت : (وَإِذا جاءَتْهُمْ) يعني : كفّار قريش (آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ). ونحوها قوله : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (١).

(اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) استئناف للردّ عليهم ، بأنّ النبوّة ليست بالنسب والمال ، وإنّما هي بفضائل نفسانيّة يخصّ الله تعالى بها من يشاء من عباده ، فيجتبي لرسالته من علم أنّه يصلح لها ، وهو أعلم بالمكان الّذي يضعها فيه. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم : رسالته.

(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) من أكابرها (صَغارٌ) ذلّ وحقارة بعد كبرهم وعظمهم (عِنْدَ اللهِ) يوم القيامة. وقيل : من عند الله. (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) في الدارين من الأسر والقتل وعذاب النار (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) بسبب مكرهم ، أو جزاء على مكرهم.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧))

ولمّا تقدّم ذكر المؤمنين والكافرين ، بيّن عقيبه ما يفعله سبحانه بكلّ من

__________________

(١) المدّثّر : ٥٢.

٤٥٥

القبيلتين ، فقال : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) أن يلطف به ويوفّقه للإيمان. ولا يفعل ذلك إلّا بمن يعلم أنّ له لطفا. (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) فيتّسع له ويفسح فيه مجاله ، ويثبت عزمه عليه ، ويقوّي دواعيه على التمسّك به ، لطفا له بذلك ومنّا عليه ، حتى تسكن نفسه إليه وتنشرح ، حيث تكون النفس طالبة للرشاد والاهتداء ، عائقة عن العناد والمكابرة. وإليه أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سئل عنه فقال : «نور يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن ، فينشرح له وينفسح. فقالوا : هل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال : نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله».

(وَمَنْ يُرِدْ) الله (أَنْ يُضِلَّهُ) أي : يخذله ويخلّيه وشأنه ، وهو الّذي لا يلطف له (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) بأن يمنعه ألطافه حتّى يقسو قلبه ، وينبو عن قبول الحقّ وينسدّ ، فلا يدخله الإيمان. وقرأ ابن كثير : ضيقا بالتخفيف ، ونافع وأبو بكر عن عاصم : حرجا بالكسر ، أي : شديد الضيق ، والباقون بالفتح وصفا بالمصدر.

(كَأَنَّما يَصَّعَّدُ) يتصعّد (فِي السَّماءِ) أي : إذا دعي إلى الإسلام كأنّما يزاول أمرا غير ممكن ، لأنّ صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة ، ويضيق عنه القدرة. وقيل : معناه : كأنّما يتصاعد إلى السماء نبوّا عن الحقّ ، وتباعدا في الهرب منه. وقرأ ابن كثير : يصعد ، وأبو بكر عن عاصم : يصّاعد ، بمعنى : يتصاعد.

(كَذلِكَ) أي : كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الحقّ بالخذلان والتخلية (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي : الخذلان ومنع التوفيق عليهم.

فوضع الظاهر موضع الضمير للتعليل. وصفه تعالى بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب ، أو أراد الفعل الّذي يؤدّي إلى الرجس ، وهو العذاب ، من الارتجاس ، وهو الاضطراب.

٤٥٦

(وَهذا) إشارة إلى البيان الّذي جاء به القرآن أو الإسلام ، أو إلى ما سبق من التوفيق والخذلان (صِراطُ رَبِّكَ) طريقه الّذي اقتضته الحكمة ، وعادته في التوفيق والخذلان (مُسْتَقِيماً) عادلا لا اعوجاج فيه. وانتصابه على أنّه حال مؤكّدة ، كقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) (١). (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فيعلمون أنّ القادر هو الله تعالى ، وأنّه عالم بأحوال العباد ، حكيم عادل فيما يفعل بهم.

(لَهُمْ) أي : للّذين تذكّروا وعرفوا الحقّ (دارُ السَّلامِ) دار الله ، يعني : الجنّة. أضافها إلى نفسه تعظيما لها. أو دار السلامة من كلّ آفة وكدر. أو دار تحيّتهم فيها سلام. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : هي مضمونة لهم عند ربّهم ، يوصلهم إليها لا محالة ، كما تقول : لفلان عندي حقّ لا ينسى. أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها ، كقوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (٢).

(وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) مولاهم ومحبّهم وناصرهم على أعدائهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بسبب أعمالهم ، أو متولّيهم بجزاء ما كانوا يعملون.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ

__________________

(١) البقرة : ٩١.

(٢) السجدة : ١٧.

٤٥٧

وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) منصوب بمحذوف ، تقديره : واذكر يوم نحشرهم ، أو تقديره : ويوم نحشرهم جميعا نقول. والضمير لمن يحشر من الثقلين. وقرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب بالياء.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِ) يعني : الشياطين (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي : من إغوائهم وإضلالهم. أو منهم ، بأن جعلتموهم أتباعكم ، فحشروا معكم ، كقولهم : استكثر الأمير من الجنود ، أي : طلب كثرتهم.

(وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) الّذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي : انتفع الإنس بالشياطين حيث دلّوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصّل إليها ، وانتفع الجنّ بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم ، وحصّلوا مرادهم.

وقيل : استمتاع الإنس بهم أنّهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز وعند

٤٥٨

المخاوف ، كقوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) (١).

واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنّهم يقدرون على تخليصهم وإجارتهم.

(وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي : يوم البعث. وهو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان ، واتّباع الهوى ، وتكذيب البعث ، وتحسّر على حالهم.

(قالَ) أي : قال الله تعالى لهم (النَّارُ مَثْواكُمْ) مقامكم ومنزلكم ، أو ذات مثواكم (خالِدِينَ فِيها) مؤبّدين. وهو حال ، والعامل فيها «مثواكم» إن جعل مصدرا ، ومعنى الإضافة إن جعل مكانا. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من الأوقات الّتي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير ، فقد روي أنّهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميّز بعض أوصالهم من بعض ، فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم. أو إلّا ما شاء الله قبل الدخول ، كأنّه قيل : النار مثواكم أبدا ، إلّا ما أمهلكم من أوقات حشركم من قبوركم ، ومقدار مدّتكم ومحاسبتكم.

(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في أفعاله ، لا يفعلها إلّا بموجب الحكمة (عَلِيمٌ) بأعمال الثقلين وأحوالهم.

(وَكَذلِكَ) أي : ومثل ذلك المهل بتخلية بعضهم مع بعض (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) نخلّيهم حتّى يتولّى بعضهم بعضا ، كما فعل الشياطين وغواة الناس. أو نجعل بعضهم أولياء بعض وقرناءهم في العذاب ، كما كانوا في الدنيا.

(بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي.

ويقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) الرسل من الإنس خاصّة ، لكن لمّا جمع الثقلان في الخطاب صحّ ذلك وإن كان من أحدهما. ونظيره : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢) ، وإن كان اللؤلؤ

__________________

(١) الجنّ : ٦.

(٢) الرحمن : ٢٢.

٤٥٩

يخرج من الملح دون العذب. وتعلّق قوم بظاهره وقالوا : بعث إلى كلّ من الثقلين رسل من جنسهم. وقيل : الرسل من الجنّ رسل الرسل إليهم ، لقوله : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (١).

وعن الكلبي : كانت الرسل قبل أن يبعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبعثون إلى النّاس ، ثمّ بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإنس والجنّ.

(يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) يتلون عليكم حججي ودلائلي (وَيُنْذِرُونَكُمْ) ويخوّفونكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) يعني : يوم القيامة.

(قالُوا) جوابا (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) بالجرم والعصيان. وهو اعتراف منهم بأنّ حجّة الله لازمة لهم ، وبكفرهم واستيجاب العذاب لهم. (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) ذمّ لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم ، فإنّهم اغترّوا بالحياة الدنيويّة واللذّات الخسيسة ، وأعرضوا عن الآخرة بالكلّية ، حتّى كان عاقبة أمرهم أن اضطرّوا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر ، والاستسلام للعذاب المخلّد ، تحذيرا للسامعين من مثل حالهم.

ولا ينافي الآية قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢) ، لتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول ، فيقرّون في بعضها ، ويجحدون في البعض. أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم.

ولمّا كانت الشهادة الأولى حكاية لقولهم كيف يعترفون على أنفسهم ، والثانية ذمّ لهم وتخطئة لرأيهم ، ووصف لقلّة نظرهم لأنفسهم ، وأنّهم قوم غرّتهم الحياة الدنيا واللذّات الحاضرة ، وعاقبة حالهم اضطرارهم إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر ، فلا يلزم تكرار الشهادة.

__________________

(١) الأحقاف : ٢٩.

(٢) الأنعام : ٢٣.

٤٦٠