زبدة التّفاسير - ج ١

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ١

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-03-7
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٨

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه ثقتي واعتمادي ، وعليه توكّلي

الحمد لله الّذي نزّل (١) القرآن هدى للناس وبيّنات ، وتبيانا لكلّ شيء وكشّافا للمعضلات ، ومجمعا لبيان الأصول الدينيّة وجامعا لفروع الشرعيّات ، ووسيلة إلى الفوز بأرفع الدرجات في روضات الجنّات ، ونجاة عن المهالك في نيران الدركات.

والصلاة والسلام على رسله الهادين وأنبيائه المرسلين أفضل الصلوات وأكمل التسليمات ، خصوصا على من ختم به النبوّة والرسالة أعني الرسول الهاشمي التهامي والنبيّ المكّي الأمّيّ محمد سيّد الأنام وخير البريّات ، وآله الّذين هم كشّاف المجملات والمتشابهات بصوائب التأويلات ، بعد أن نصّوا بالإمامة بالبراهين المحكمات.

أمّا بعد ، فيقول أصغر العباد جرما وأعظمهم جرما ابن شكر الله فتح الله الشريف غفر الله تعالى ذنوبهما ، وستر عيوبهما ، بنبيّه النبيه المنيف ، ووليّه الوليه العريف : إنّ أعظم العلوم قدرا ، وأسناها شرفا ، وأجلّها نفعا ، علم تفسير القرآن ، إذ هو إمام العلوم الدينيّة ، ومأخذ القواعد الشرعيّة ، ومبنى الأحكام الإلهيّة ، من تصدّى للتكلّم فيه وتعاطى معانيه فاز بالسعادات السرمديّة ، والمراتب الأبديّة.

وقد روي عن قتادة في قوله عزوجل : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٢) قال : هو علم القرآن.

__________________

(١) في هامش الخطّية : «اعلم أن التنزيل هو نزول الآي آنا فآنا ، والإنزال نزولها دفعة واحدة ، ولهذا لم يقل : أنزل ، مقام : نزّل. منه».

(٢) البقرة : ٢٦٩.

٥

وعن ابن مسعود أنّه قال : إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن ، فإنّ فيه علم الأوّلين والآخرين.

وعن رجاء بن حيوة قال : كنّا يوما أنا وأبي عند معاذ بن جبل ، فقال : من هذا يا حيوة؟ فقال : هذا ابني رجاء. فقال معاذ : هل علّمته القرآن؟ قال : لا. قال : فعلّمه القرآن ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ما من رجل علّم ولده القرآن إلّا توّج أبواه يوم القيامة بتاج الملك ، وكسيا حلّتين لم ير الناس مثلهما ، ثمّ ضرب بيده على كتفي فقال : يا بنيّ ، إن استطعت أن تكسو أبويك يوم القيامة حلّتين فافعل.

وصحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رواية العامّ والخاصّ أنّه قال : إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

وروي عن ابن عبّاس رضى الله عنه أنّه قال : من قال في القرآن بغير علم فليتبوّء مقعده من النار.

وغير ذلك من الأخبار الّتي دلّت على فضائله ، ولعلّي أن أرقم بعضها في ضمن مقدّمة هذا التفسير.

وأنا بعد أن وفّقت لإتمام تفسير «منهج الصادقين» وتفسير «خلاصة المنهج» باللسان الأعجميّ على أحسن البيان ، وأتمّ النظام ، طالما أحدّث نفسي أن أثلّثهما بتفسير وسيط بالعربيّة الّتي هي أفصح اللغات ، ليستفيد العرب أيضا من معاني القرآن من غير ملال وكلال ، ويكون ذلك سببا للغفران ، ووسيلة إلى الفوز بالرضوان ، إلّا أنّ قلّة بضاعتي يقعدني عن الإقدام ، ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام ، فبعد الاستخارة صممت عزمي على الشروع فيما قصدته ، والإتيان بما أردته ، بعون الله وحسن توفيقه ، وسمّيته «زبدة التفاسير» ، والتقطت أكثره من «الكشّاف» و «أنوار التنزيل» و «مجمع البيان» و «جامع الجوامع».

٦

والتزمت أن أكشف فيه عن وجوه اللغات والنكات والتركيبات قناعها ، وأبيّن فيه أسباب نزول الآيات وارتباطها ، وذكر فضائل السور وخواصّ الآي اللّاتي لها مزيّة شرف على الأخرى ، وأذكر فيه من القراءات العشر المتواترة ، وأوضح معانيه على نهج مذهب الأئمّة الهادين صلوات الله عليهم أجمعين ، وأشير إلى بطلان مذاهب مخالفيهم الضالّين ، وأدرج فيه مختصرا من القصص ، وشرذمة من الأحاديث النبويّة ، والروايات المأثورة عن الأئمّة عليهم الصلوات والتحيّة ، وما توفيقي إلّا بالله ، عليه توكّلت وإليه أنيب.

ولنذكر قبل الشروع في التفسير والبيان مقدّمات لا بدّ من معرفتها لمن أراد الخوض في علم القرآن.

المقدّمة الاولى

في عدد آي القرآن ، والفائدة في معرفتها

اعلم وفّقك الله تعالى أنّ عدد أهل الكوفة أصحّ الأعداد ، وأعلاها اسنادا ، لأنّه مأخوذ عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، فنقتصر في هذا التفسير عليه. وعدد أهل المدينة منسوب إلى أبي جعفر يزيد بن القعقاع القارئ ، وشيبة بن نصاح ، وإسماعيل بن جعفر. وأهل البصرة منسوب إلى عاصم بن أبي الصباح الجحدري ، وأيّوب بن المتوكّل. وهما لا يختلفان إلّا في آية واحدة في «ص» : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) (١) ، عدّها الجحدري ، وتركها أيّوب. وأهل مكّة منسوب إلى مجاهد بن جبر ، وإلى إسماعيل المكّي. وقيل : لا ينسب عددهم إلى أحد ، ووجد

__________________

(١) ص : ٨٤.

٧

في مصاحفهم على رأس كلّ آية ثلاث نقط : ... وأهل الشام منسوب إلى عبد الله بن عامر.

والفائدة في معرفة آي القرآن أنّ القارئ إذا عدّها بأصابعه كان أكثر ثوابا ، لأنّه قد شغل يده بالقرآن مع قلبه ولسانه ، وبالحريّ أن يشهد له يوم القيامة ، فإنّها مسئولة.

وقد ورد في الأسانيد الصحيحة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لبعض النساء حين التلاوة : اعقدن بالأنامل ، فإنّهنّ مسئولات ومستنطقات. وكان أقرب إلى التحفّظ ، فإنّ القارئ لا يأمن السهو.

وقد روي عن عبد الله بن مسعود ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : تعاهدوا القرآن ، فإنّه وحشيّ.

وقال حمزة بن حبيب ـ وهو أحد القرّاء السبعة ـ : العدد مسامير القرآن.

المقدّمة الثانية

في ذكر أسامي القرّاء المشهورين في الأمصار

أمّا المدنيّ :

فأبو جعفر يزيد بن القعقاع ، وليس من السبعة. وذكر أنّه قرأ على عبد الله بن عبّاس ، وعلى مولاه عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي ، وهما قرءا على أبيّ بن كعب ، وقرأ أبيّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وله رواية واحدة.

ونافع بن عبد الرحمن ، وقرأ على أبي جعفر ، ومنه تعلّم القرآن ، وعلى شيبة ابن نصاح وعلى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، وهما قرءا على ابن عبّاس. وله ثلاث روايات ؛ رواية ورش عثمان بن سعيد ، ورواية قالون عيسى بن مينا ، ورواية

٨

إسماعيل بن جعفر.

وأمّا المكّي : فهو عبد الله بن كثير لا غير ، وهو قرأ على مجاهد ، وقرأ مجاهد على ابن عبّاس. وله ثلاث روايات ؛ رواية البزّي ، ورواية ابن فليح ، ورواية أبي الحسين القوّاس.

وإذا اجتمع أهل مكّة والمدينة قيل : حجازي.

وأمّا الكوفي :

فأوّلهم عاصم بن أبي النجود بهدلة ، فإنّه قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي ، وهو قرأ على عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. وله روايتان ؛ رواية حفص بن سليمان البزّاز ، ورواية أبي بكر بن عيّاش.

ثمّ حمزة بن حبيب الزيّات ، فقرأ على جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام. وله سبع روايات ؛ رواية العجلي عبد الله بن صالح ، ورواية رجاء بن عيسى ، ورواية حمّاد ابن أحمد ، ورواية خلّاد بن خالد ، ورواية أبي عمرو الدوري ، ورواية محمد بن سعدان النحوي ، ورواية خلف بن هشام.

ثمّ أبو الحسن عليّ بن حمزة الكسائي ، فقرأ على حمزة. وله ستّ روايات ؛ رواية قتيبة بن مهران ، ورواية نصير بن يوسف النحوي ، ورواية أبي الحارث ، ورواية أبي حمدون الزاهد ، ورواية حمدون بن ميمون الزجّاج ، ورواية أبي عمرو الدوري.

ثمّ خلف بن هشام البزّاز ، وليس من السبعة.

وأمّا البصري : فأبو عمرو بن علاء. وله ثلاث روايات ؛ رواية شجاع بن أبي نصير ، ورواية العبّاس بن الفضل ، ورواية اليزيدي يحيى بن المبارك.

ومن البصرة : يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، وليس من السبعة. وله ثلاث روايات ؛ رواية روح وزيد ورويس.

٩

وإذا اجتمع أهل الكوفة والبصرة قيل : عراقي.

وأمّا الشامي : فهو عبد الله بن عامر اليحصبي لا غير (١) ، وهو قرأ على عثمان بن عفّان. وله روايتان ؛ رواية ابن ذكوان ، ورواية هشام بن عمّار.

المقدّمة الثالثة

في أنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجموعا

مؤلّفا مرتّبا على ما هو عليه الآن

استدلّ على ذلك السيّد الأجلّ المرتضى علم الهدى أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي قدس‌سره في كتابه «الموضح عن وجه إعجاز القرآن» (٢) بأنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتى عيّن جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنّه كان يعرض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتلى عليه ، وأنّ جماعة من الصحابة مثل : عبد الله بن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وغيرهما ، ختموا القرآن على النبيّ عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعا مرتّبا غير مبتور ولا مبثوث.

ثمّ قال قدس‌سره : فمن خالف ذلك من الحشويّة وغيرهم لا يعتدّ بخلافهم ، لإسناد قولهم إلى أخبار ضعيفة ظنّوا صحّتها ، فلا يرجع إلى مثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته.

__________________

(١) في مجمع البيان (١ : ١٢) ... لا غير وقرأ على المغيرة بن أبي شهاب المخزومي ، وقرأ المغيرة على عثمان بن عفّان ...

(٢) لم يطبع هذا الكتاب إلى الآن ، ولم نجده ضمن مجموعة رسائل السيّد المرتضى «قدس‌سره».

١٠

المقدّمة الرابعة

في أنّ القرآن مصون عن الزيادة والنقصان

أمّا الزيادة فمجمع على بطلانه ، وأمّا النقصان فيه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشويّة العامّة أنّ في القرآن تغييرا ونقصانا ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الّذي نصره المرتضى علم الهدى قدس‌سره ، واستوفى فيه الكلام غاية الاستيفاء.

المقدّمة الخامسة

في ذكر بعض ما جاء من الأخبار المشهورة في فضل القرآن وأهله

أنس بن مالك ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته.

وعنه أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفضل العبادة قراءة القرآن.

وعنه أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القرآن لا غنى دونه ، ولا فقر بعده.

عبد الله بن عبّاس ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أشراف امّتي حملة القرآن وأصحاب الليل.

عبد الله بن مسعود ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم قال : إنّ هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلّموا من مأدبته ما استطعتم. إنّ هذا القرآن حبل الله ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، عصمة لمن تمسّك به ، ونجاة لمن تبعه ، لا يعوجّ فيقوّم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق عن كثرة الردّ ، فاتلوه فإنّ الله يأجركم على تلاوته بكلّ حرف عشر حسنات ، أما إنّي لا أقول : (الم) ، ولكن «ألف» عشر ، و «لام» عشر ،

١١

و «ميم» عشر.

الحارث بن الأعور ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال في حديث طويل : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّها ستكون فتن. قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله ، فيه خبر ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة ردّ ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الّذي من تركه من جبّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ، هو الحبل المتين ، وهو الصراط المستقيم ، هو الّذي من عمل به اجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه دعا إلى صراط مستقيم.

عاصم بن ضمرة ، عن عليّ عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ القرآن حتى يستظهره ويحفظه أدخله الله الجنّة ، وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت لهم النار.

عبد الله بن عمر ، عنه عليه‌السلام قال : يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارق ، ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا ، فإنّ منزلك عند آخر آية تقرؤها.

وعنه أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ القرآن فرأى أنّ أحدا اعطي أفضل ممّا اعطي فقد حقّر ما عظّمه الله ، وعظّم ما حقّره الله.

وعنه أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ القرآن فكأنّما أدرجت النبوّة بين جنبيه إلّا أنّه لا يوحى إليه.

أبو سعيد الخدري ، عنه عليه‌السلام قال : حملة القرآن في الدنيا عرفاء أهل الجنّة يوم القيامة.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : من دخل في الإسلام طائعا ، وقرأ القرآن ظاهرا ، فله في كلّ سنة مائتا دينار من بيت مال المسلمين ، إن منع في الدنيا أخذها يوم القيامة وافية أحوج ما يكون إليها.

١٢

وعن البراء بن عازب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : زيّنوا القرآن بأصواتكم.

قال حذيفة بن اليمان : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اقرؤا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين ، وسيجيء قوم من بعدي يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانيّة والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم وقلوب الّذين يعجبهم شأنهم.

علقمة بن قيس ، قال : كنت حسن الصوت بالقرآن ، فكان عبد الله بن مسعود يرسل إليّ فأقرأ عليه ، فإذا فرغت من قراءتي قال : زدنا من هذا فداك أبي وأمّي ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ حسن الصوت زينة للقرآن.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ لكلّ شيء حلية ، وحلية القرآن الصوت الحسن.

عبد الرحمن بن السائب ، قال : قدم علينا سعد بن أبي وقّاص ، فأتيته مسلّما عليه ، فقال : مرحبا يا ابن أخي ، بلغني أنّك حسن الصوت بالقرآن. قلت : نعم ، والحمد لله. قال : فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ القرآن نزل بالحزن ، فإذا قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، وتغنّوا به ، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا.

وتأوّل بعضهم «تغنّوا به» بمعنى استغنوا به. وأكثر العلماء على أنّه تزيين الصوت وتحزينه.

إلى غير ذلك من الروايات المأثورة والأحاديث المنقولة.

فالآن وقت الشروع بحمد الله وحسن توفيقه في إتمامه.

١٣
١٤

(١)

فاتحة الكتاب

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)) (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)) (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

مكّيّة عند عبد الله بن عبّاس وقتادة ، ومدنيّة عند مجاهد. وقيل : أنزلت مرّتين : مرّة بمكّة ، ومرّة بالمدينة.

سبع آيات بلا خلاف ، إلّا أنّ قرّاء أهل مكّة والكوفة وفقهاءهما وابن مالك والشافعي عدّوا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) آية من فاتحة الكتاب. وخالفهم قرّاء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي. ولم ينصّ أبو حنيفة فيه بشيء ، فظنّ أنّها ليست من السورة عنده ، فعدّوا (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية. وسئل محمد ابن الحسن عنها ، فقال : ما بين الدفّتين كلام الله.

ولنا أحاديث كثيرة من العامّة والخاصّة أنّها من السورة.

ومنها : ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال : من ترك (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

١٥

فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله.

وروى أبو هريرة أنّه قال : فاتحة الكتاب سبع آيات ، أولاهنّ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن قوله تعالى : (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) (١) قال : هي سورة الحمد ، وهي سبع آيات ، منها : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وعن أمّ سلمة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ الفاتحة وعدّ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) آية ، ومن أجلهما اختلف في أنّها آية برأسها أو بما بعدها.

واتّفق أصحابنا كلّهم على أنّها آية من سورة الحمد ومن كلّ سورة ، وأنّ من تركها في الصلاة بطلت صلاته ، سواء كانت فرضا أو نفلا ، وأنّه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة ، ويستحبّ الجهر بها فيما يخافت فيه بالقراءة.

وفي جميع ما ذكرناه خلاف بين فقهاء الامّة. ولا خلاف في أنّها بعض آية من سورة النمل (٢). وكلّ من عدّها آية جعل من قوله : (صِراطَ الَّذِينَ) إلى آخر السورة آية ، ومن لم يعدّها آية جعل (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية ، وقال : إنّها افتتاح للتيمّن والتبرّك. كذا في المجمع (٣).

وأيضا يؤيّد قولنا أنّ الوفاق ثبت بين جميع المسلمين على إثباتها في المصاحف ، مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم يكتب : آمين.

وتسمّى : «فاتحة الكتاب» ، لافتتاح المصحف بكتابتها.

و «امّ القرآن» ، لأنّها مفتتحه ومبدؤه ، فكأنّها أصله ومنشؤه ، والعرب تسمّي كلّ متقدّم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه : امّا ، ولذلك تسمّى أساسا. أو لأنّها تشتمل

__________________

(١) الحجر : ٨٧.

(٢) النمل : ٣٠.

(٣) مجمع البيان ١ : ١٨.

١٦

على ما فيه من الثناء على الله ، والتعبّد بأمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، أو على جملة المعاني من الحكم النظريّة والأحكام العمليّة الّتي هي سلوك الطريق المستقيم والاطّلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء. ولما روي عن ابن عبّاس أنّ لكلّ شيء أساسا ـ وساق الحديث إلى أن قال : ـ وأساس القرآن الفاتحة ، وأساس الفاتحة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

و «السبع المثاني» ، لأنّها سبع آيات بلا خلاف ، وتثنّى بقراءتها في كلّ صلاة فرض ونفل ، وقيل : لأنّها نزلت مرّتين.

و «الوافية» ، لأنّها لا تنصّف في الصلاة.

و «الكافية» ، لأنّها تكفي عمّا سواها ، ولا يكفي ما سواها عنها. ويؤيّد ذلك

رواية عبادة بن الصامت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : امّ القرآن عوض عن غيرها ، وليس غيرها عوضا عنها.

و «الشفاء» ، لما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فاتحة الكتاب شفاء من كلّ داء.

و «الصلاة» ، لوجوب قراءتها في الصلاة المفروضة ، واستحبابها في المندوبة. ولما

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قال الله عزوجل : قسّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ، فإذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) يقول الله : حمدني عبدي. فإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يقول الله : أثنى عليّ عبدي.

فإذا قال العبد : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يقول الله عزوجل : مجّدني عبدي. فإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل. فإذا قال :

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ...) إلخ ، قال : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل. أورده مسلم ابن الحجّاج في الصحيح (١).

وسورة «الحمد والشكر» ، لاشتمالها عليهما.

__________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٩٦ ح ٣٨.

١٧

و «تعليم المسألة» ، لأنّ الله تعالى علّم فيها عباده آداب السؤال ، فبدأ بالثناء ، ثمّ بالإخلاص ، ثمّ بالدعاء.

عن أبي امامة ، عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب اعطي من الأجر كأنّما قرأ ثلثي القرآن ، واعطي من الأجر كأنّما تصدّق على كلّ مؤمن ومؤمنة.

وفي طريق آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : كأنّما قرأ القرآن.

وروى غيره ، عن أبيّ بن كعب أنّه قال : قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاتحة الكتاب ، فقال : والّذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في القرآن مثلها ، هي امّ الكتاب ، وهي السبع المثاني ، وهي مقسومة بين الله وبين عبده ، ولعبده ما سأل.

وبإسناد محمد بن مسعود العيّاشي : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لجابر بن عبد الله الأنصاري : يا جابر ، ألا اعلّمك أفضل سورة أنزلها الله تعالى في كتابه؟ قال : فقال له جابر : بلى ، بأبي أنت وامّي يا رسول الله علّمنيها. قال : فعلّمه الحمد أمّ الكتاب ، ثمّ قال : يا جابر ، ألا أخبرك عنها؟ قال : بلى ، بأبي أنت وامّي فأخبرني. قال : هي شفاء من كلّ داء إلّا السام. والسام : الموت (١).

وعن سلمة بن محرز ، عن جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام قال : من لم يبرأه الحمد لم يبرأه شيء.

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله عزوجل قال لي : يا محمد : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٢). فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الكتاب ، وجعلها بإزاء القرآن ، وأنّ فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٢٠ ح ٩.

(٢) الحجر : ٨٧.

١٨

العرش ، وأنّ الله خصّ محمدا ، وشرّفه بها ، ولم يشرك فيها أحدا من أنبيائه ما خلا سليمان عليه‌السلام ، فإنّه أعطاه منها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). ألا تراه يحكي عن بلقيس حين قالت : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١). ألا فمن قرأها معتقدا لموالاة محمد وآله ، منقادا لأمرها ، مؤمنا بظاهرها وباطنها ، أعطاه الله عزوجل بكلّ حرف منها حسنة ، كلّ واحدة منها أفضل من الدنيا بما فيها من أصناف أموالها وخيراتها. ومن استمع إلى قارئ يقرؤها كان له قدر ثلث ما للقارىء ، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرّض له ، فإنّه غنيمة لا يذهبنّ أوانه ، فتبقى في قلوبكم الحسرة.

وعن ابن عبّاس : بينا نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أتاه ملك فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلّا أعطيته. وفي رواية أخرى : لن يقرأ أحد حرفا منهما إلّا اعطي ثواب شهيد.

وعن حذيفة بن اليمان أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيّا ، فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فيسمعه الله تعالى ، فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة.

ولمّا كان من آداب تلاوة القرآن ، ووظائف قراءة الفرقان ، أنّ القارئ إذا أراد أن يشرع في القراءة يستعيذ بالله من الشيطان ليأمن من وسوسته أثناء القراءة ، كما قال الله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٢). فينبغي أن يشار أوّلا إلى تبيين معنى الاستعاذة قبل الشروع في تفسير فاتحة الكتاب.

فاعلم أنّ القرّاء اتّفقوا على التلفّظ بالتعوّذ قبل التسمية ، واختلفوا في كيفيّته.

__________________

(١) النمل : ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) النحل : ٩٨.

١٩

فيقول ابن كثير وأبو عمرو : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ونافع وابن عامر والكسائي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، إنّ الله هو السميع العليم. وحمزة : نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. وأبو حاتم : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

فمعنى الاستعاذة : الاستجارة. والعوذ والعياذ : اللجأ. فمعنى أستعيذ : أستجير ، ومعنى أعوذ : ألجأ.

والشيطان في اللغة : هو كلّ متمرّد من الجنّ والإنس والدوابّ ، ولذلك جاء في القرآن : شياطين الإنس والجنّ. ووزنه فيعال من : شطنت الدار ، أي : بعدت. وقيل : هو فعلان من : شاط يشيط ، إذا بطل. والأوّل أصحّ ، لأنّه جاء في الشعر شاطن بمعناه ، ولقولهم : تشيطن.

والرجيم : فعيل بمعنى مفعول ، من الرجم وهو الرمي.

وملخّص معناها : أنّي أستجير بالله ، أو ألجأ إلى الله من شرّ الشيطان ، أي : البعيد من الخير ، المفارق أخلاقه أخلاق جميع جنسه. وقيل : المبعد من رحمة الله. والرجيم أي : المطرود من السماء ، المرميّ بالشهب الثاقبة. وقيل : المرجوم باللعنة.

(إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ) لجميع المسموعات (الْعَلِيمُ) بجميع المعلومات.

وروي عن ابن عبّاس أنّ الله سبحانه أمر رسوله بالاستعاذة أوّلا ، ثمّ أمره أن يفتتح الكلام باسمه السامي على هذا الوجه.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الباء متعلّق بمحذوف تقديره : بسم الله أقرأ ، لأنّ الّذي يتلوه مقروء ، وكذلك يضمر كلّ فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له ، وذلك أولى من أن يضمر «أبدأ» ، لصريح دلالته على ما يشرع فيه. والباء للاستعانة. وقيل : للمصاحبة ، والمعنى : متبرّكا باسم الله أقرأ ، كالباء في قوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (١)

__________________

(١) المؤمنون : ٢٠.

٢٠