زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

أَمْرِي) (١). فأنزلت عليه قرآنا ناطقا : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) (٢). اللهمّ وأنا محمّد صفيّك ونبيّك ، اللهمّ فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا اشدد به ظهري.

قال أبو ذرّ : فو الله ما استتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام حتّى نزل جبرئيل من عند الله فقال : يا محمّد اقرأ. قال : وما أقرأ؟ قال : اقرأ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ ...) الآية».

وروى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بهذا الإسناد بعينه.

وروى أبو بكر الرازي في كتاب أحكام (٣) القرآن ، على ما حكاه المغربي عنه ، والطبري (٤) ، والرمّاني ، أنّها نزلت في عليّ عليه‌السلام حين تصدّق بخاتمه وهو راكع.

وهو قول مجاهد والسدّي ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، وجميع علماء أهل البيت.

وفي رواية عطاء ، قال عبد الله بن سلام : «يا رسول الله أنا رأيت عليّا تصدّق بخاتمه وهو راكع ، فنحن نتولّاه».

وقد رواه لنا (٥) السيّد أبو الحمد ، عن أبي القاسم الحسكاني (٦) بالإسناد المتّصل المرفوع إلى أبي صالح ، عن ابن عبّاس ، قال : «أقبل عبد الله بن سلام ومعه نفر من قومه ممّن قد آمنوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله إنّ منازلنا بعيدة ، وليس لنا مجلس ولا متحدّث دون هذا المجلس ، وإنّ قومنا لمّا رأونا آمنّا بالله وبرسوله

__________________

(١) طه : ٢٥ ـ ٣٢.

(٢) القصص : ٣٥.

(٣) أحكام القرآن ٢ : ٤٤٦.

(٤) تفسير الطبري ٦ : ١٨٦.

(٥) من كلام صاحب المجمع «قدس‌سره» ، راجع مجمع البيان ٣ : ٢١٠.

(٦) شواهد التنزيل ١ : ٢٣٤ ح ٢٣٧.

٢٨١

وصدّقناه رفضونا ، وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلّمونا ، فشقّ ذلك علينا. فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين ...» الآية.

ثمّ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إلى المسجد ، والناس بين قائم وراكع ، فبصر بسائل ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل أعطاك أحد شيئا؟

فقال : نعم ، خاتم من فضّة.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أعطاك؟

قال : ذلك القائم ، وأومأ إلى عليّ عليه‌السلام.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على أيّ حال أعطاك؟

فقال : أعطاني وهو راكع.

فكبّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ قرأ : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

وضع الظاهر موضع الضمير ، وهو : فإنّهم هم الغالبون ، تنبيها على البرهان عليه ، فكأنّه قيل : ومن يتولّ هؤلاء فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون ، وتنويها بذكرهم ، وتعظيما لشأنهم ، وتشريفا لهم بهذا الاسم ، وتعريضا لمن يوالي غير هؤلاء بأنّه حزب الشيطان. وأصل الحزب قوم يجتمعون لأمر حزبهم ، أي : جمعهم.

وفي حديث إبراهيم بن الحكم بن ظهير : «أنّ عبد الله بن سلام أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع رهط من قومه ، فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لقوا من قومهم. فبينا هم يشكون إذ نزلت هذه الآية ، وأذّن بلال فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسجد ، وإذا مسكين يسأل. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ماذا أعطيت؟

قال : خاتم من فضّة.

قال : من أعطاك؟

قال : ذلك القائم. فإذا هو عليّ عليه‌السلام.

٢٨٢

قال : على أيّ حال أعطاكه؟

قال : أعطاني وهو راكع.

فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ... الآية».

والآية من أوضح الدلائل على صحّة إمامة عليّ عليه‌السلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل. وتنقيح المبحث : أنّ الوليّ هو الّذي يلي تدبير الأمر ، فيقال : فلان وليّ المرأة إذا كان يملك تدبير نكاحها ، ووليّ الدم من كان إليه المطالبة بالقود ، والسلطان ، وليّ أمر الرعيّة. ويقال لمن كان خليفة النبيّ : وليّ عهد المسلمين. قال الكميت (١) يمدح عليّا عليه‌السلام :

ونعم ولي الأمر بعد نبيّه

ومنتجع التقوى ونعم المؤدّب

وقال المبرّد في كتاب العبارة عن صفات الله تعالى : أصل الوليّ الذي هو أولى ، أي : أحقّ ، ومثله المولى. وأنّ لفظة «إنّما» تقتضي التخصيص ونفي الحكم عمّن عدا المذكور ، كما يقولون : إنّما الفصاحة للجاهليّة ، يعنون نفي الفصاحة عن غيرهم. وأنّ الروايات المأثورة عنّا وعنهم دالّة على أنّ المراد بـ (الَّذِينَ آمَنُوا) في الآية عليّ عليه‌السلام.

وإذا تقرّر هذا ، لم يجز حمل لفظة «وليّ» على الموالاة في الدين والمحبّة ، لأنّه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون آخر ، لأنّ المؤمنين كلّهم مشتركون في هذا المعنى ، كما قال سبحانه : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢).

وإذا لم يجز حمله على ذلك لم يبق إلّا الوجه الآخر ، وهو صاحب التدبير والأولى بالتصرّف في الأمور ، لأنّه لا محتمل للفظه إلّا الوجهان ، فإذا بطل أحدهما ثبت الآخر.

__________________

(١) الروضة المختارة شرح قصائد الكميت : ٤١.

(٢) التوبة : ٧١.

٢٨٣

والّذي يدلّ على أنّ المعنيّ بـ (الَّذِينَ آمَنُوا) هو عليّ عليه‌السلام ، الرواية الواردة من طريق العامّة والخاصّة بنزول الآية فيه لمّا تصدّق بخاتمه في حال الركوع. وقد تقدّم ذكرها. وأيضا كلّ من قال : إنّ المراد بلفظة «وليّ» ما يرجع إلى فرض الطاعة والإمامة ، ذهب إلى أنّه عليه‌السلام هو المقصود بالآية.

وقال جار الله في الكشّاف (١) : «إنّما جيء بلفظ الجمع ، وإن كان السبب فيه رجلا واحدا ، ليرغب الناس في مثل فعله ، ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان».

وقال صاحب الجامع (٢) : «وأنا أقول قد اشتهر في اللغة إيراد العبارة عن الواحد بلفظة الجمع على سبيل التعظيم ، فلا يحتاج إلى ما قال جار الله».

ووجه آخر على أنّ الولاية في الآية مختصّة أنّه سبحانه قال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) فخاطب جميع المؤمنين ، ودخل في الخطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره. ثمّ قال :«ورسوله» فأخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جملتهم ، لكونهم مضافين إلى ولايته. ثمّ قال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) فوجب أن يكون الّذي خوطب بالآية غير الّذي جعلت له الولاية ، وإلّا أدّى المعنى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه ، وإلى أن يكون كلّ واحد من المؤمنين وليّ نفسه ، وذلك محال. ولمّا تحقّق أنّ المعنيّ بالآية هو أمير المؤمنين ، تحقّقت إمامته بالنصّ الصريح ، وهو المطلوب.

وقال صاحب كنز العرفان (٣) : ويستدلّ بهذه الآية على أمور :

الأوّل : أنّ الفعل القليل لا يبطل الصلاة ، لأنّ قوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) إشارة إلى فعل عليّ عليه‌السلام لمّا تصدّق على السائل بخاتمه في حال ركوعه ،

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٦٤٩.

(٢) جوامع الجامع ١ : ٣٨٦ ـ ٣٨٧.

(٣) كنز العرفان ١ : ١٥٨ ـ ١٥٩.

٢٨٤

وذلك فعل قليل لا يؤثّر في بطلان الصلاة.

الثاني : أنّ النيّة فعل قلبيّ لا لساني ، لأنّ فعله ذلك في الصلاة يستلزم النيّة ، لأنّه عمل وكلّ عمل لا بدّله من النيّة ، واللفظ في الصلاة بغير القرآن والدعاء مبطل ، فلم يقع منه حينئذ ، وإلّا لبطلت صلاته ، واللازم كالملزوم في البطلان.

الثالث : أنّ استحضار النيّة فعلا واستمرارها عينا غير شرط في العبادة ، لأنّه على حال نيّة الزكاة لم يكن مستحضرا لنيّة الصلاة ، فلو كان شرطا لأثّر البطلان المستلزم للذمّ المنافي لهذا المدح العظيم. ويتفرّع على ذلك الاكتفاء باستمرار النيّة حكما.

الرابع : تسمية الصدقة المندوبة زكاة ، إذ لا يجوز كون ذلك الخاتم من الزكاة الواجبة ، لأنّ إخراجها واجب مضيّق لا يجوز الاشتغال عنه بواجب موسّع أو مندوب ، وحينئذ يكون ذلك من الصدقات المندوبة ، وهو المطلوب. انتهى كلامه.

أقول : في الأمر الرابع نظر ، كما لا يخفى على أهل النظر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧))

روي عن ابن عبّاس : أنّ رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثمّ نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) بأن أظهروا الإيمان باللسان واستبطنوا الكفر ، فذلك معنى تلاعبهم بالدين (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ

٢٨٥

وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ).

رتّب النهي عن موالاتهم على اتّخاذهم دينهم هزوا ولعبا ، إيماء إلى العلّة ، وتنبيها على أنّ من هذا شأنه بعيد عن الموالاة جدير بالمعاداة.

وفصّل المستهزئين بأهل الكتاب والكفّار على قراءة من جرّه ، وهم أبو عمرو والكسائي ويعقوب. وعلى هذا الكفّار وإن عمّ أهل الكتاب يطلق على المشركين خاصّة ، لتضاعف كفرهم. ومن نصبه عطفه على (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) على أنّ النهي عن موالاة من ليس على الحقّ رأسا ، سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرّفه عن الصواب كأهل الكتاب ، ومن لم يكن كالمشركين.

(وَاتَّقُوا اللهَ) بترك المناهي (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأنّ الإيمان حقّا يقتضي ذلك. أو إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده.

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨))

ثمّ أخبر سبحانه عن صفة الكفّار الّذين نهى المؤمنين عن موالاتهم ، فقال : (وَإِذا نادَيْتُمْ) أيّها المؤمنون (إِلَى الصَّلاةِ) أي : إذا دعوتم إليها (اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) أي : اتّخذوا الصلاة أو المناداة ، فإنّهم كانوا إذا أذّن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم ، تجهيلا لأهلها ، وتنفيرا للناس عنها وعن الداعي إليها.

وفيه دليل على أنّ الأذان مشروع للصلاة. وثبوته بنصّ الكتاب ، لا بالمنام وحده.

روي : أنّ نصرانيّا بالمدينة كان إذا سمع المؤذّن يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، قال : أحرق الله الكاذب. فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام ، فتطاير شررها في البيت ، فأحرقه وأهله.

٢٨٦

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) فإنّ السفه يؤدّي إلى الجهل بالحقّ والهزء به ، والعقل يمنع منه ، فكان لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة ، فكأنّه لا عقل لهم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩))

وروي أنّ نفرا من اليهود أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه عمّن يؤمن به من الرسل. فقال : أومن بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ـ إلى قوله ـ ونحن له مسلمون ، فلمّا ذكر عيسى عليه‌السلام جحدوا نبوّته ، وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقلّ حظّا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرّا من دينكم ، فنزلت : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا)

ما تعيبون وتنكرون. يقال : نقم منه إذا أنكره ، وانتقم إذا كافأه (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) فوحّدناه ووصفناه بما يليق به من الصفات العلى ، ونزّهناه عمّا لا يجوز عليه في ذاته وصفاته (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) على الأنبياء من الكتب المنزلة عليهم.

(وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) عطف على «أن آمنّا» ، وكأنّ المستثنى لازم الأمرين ، أعني : الإيمان وكون أكثركم فاسقين ، أي : وما تنقمون منّا إلّا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم وخروجكم عن الإيمان ، كأنّه قيل : وما تنكرون منّا إلّا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون منه. أو كان أصل الكلام : واعتقاد أنّ أكثركم فاسقون ، فحذف المضاف. أو عطف على «ما» ، أي : وما تنقمون منّا إلّا الإيمان بالله وبما أنزل وبأنّ أكثركم. أو على علّة محذوفة ، والتقدير : هل تنقمون منّا إلّا أن آمنّا لقلّة إنصافكم وفسقكم. أو نصب بإضمار فعل يدلّ عليه «هل تنقمون» ، أي : ولا تنقمون أنّ أكثركم فاسقون. أو رفع على الابتداء والخبر

٢٨٧

محذوف ، أي : وفسقكم ثابت معلوم عندكم ، ولكن حبّ الرئاسة والمال يمنعكم عن الإنصاف.

والمراد من الأكثر من لم يؤمن منهم ، فإنّ قليلا من أهل الكتاب آمن.

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠))

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطبهم ، فقال : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) من ذلك المنقوم (مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) جزاء ثابتا عند الله. والمثوبة وإن كانت مختصّة بالخير ، كالعقوبة بالشرّ ، لكن وضعت هاهنا موضعها على التهكّم ، ومنه قوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) ، وقوله : تحيّة بينهم ضرب وجيع (٢).

ونصبها على التمييز عن «بشرّ». وإنّما قال (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) وإن لم يكن في المؤمنين شرّ ، على الإنصاف في المخاطبة والمظاهرة في الحجاج ، كقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣).

(مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) بدل من «بشرّ» على حذف مضاف ، أي : بشرّ من أهل ذلك من لعنه الله. أو : بشرّ من ذلك دين من لعنه الله. أو خبر محذوف ، أي :

__________________

(١) آل عمران : ٢١.

(٢) من قصيدة لعمرو بن معد يكرب ، وصدره : وخيل قد دلفت لها بخيل. أي : وأصحاب خيل قد تقدّمت لها بمثلها ، التحيّة بينهم هو الضرب الوجيع ، فأخبر عنها بالضرب الوجيع على سبيل التهكّم.

(٣) سبأ : ٢٤.

٢٨٨

هو من لعنه الله. وهم اليهود أبعدهم الله من رحمته ، وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات.

(وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) أي : ومسخ بعضهم قردة ، وهم أصحاب السبت (وَالْخَنازِيرَ) وبعضهم جعل خنازير ، وهم كفّار أهل مائدة عيسى. وقيل : كلا المسخين في أصحاب السبت ، مسخت شبّانهم قردة ، ومشايخهم خنازير.

(وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) عطف على صلة «من». وقرأ حمزة : عبد الطاغوت بضمّ الباء والإضافة ، عطفا على القردة ، أي : جعل منهم عبد الطاغوت ، وهي للمبالغة في العبوديّة ، نحو حذر ويقظ. والمعنى : أنّه خذلهم حتّى عبدوه. والمراد من الطاغوت العجل. وقيل : الكهنة ، وكلّ من أطاعوه في معصية الله تعالى.

(أُولئِكَ) الملعونون الممسوخون (شَرٌّ مَكاناً) جعل مكانهم شرّا ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم. وقيل : مكانا منصرفا. (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) قصد الطريق المتوسّط بين غلوّ النصارى وقدح اليهود. والمراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا ، لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة والضلالة. أو يكون من باب المماشاة والإنصاف في الخطاب.

قال المفسّرون : فلمّا نزلت هذه الآية عيّر المسلمون أهل الكتاب ، وقالوا : يا إخوان القردة والخنازير ، فنكسوا رؤوسهم وافتضحوا.

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)) ثمّ قال في شأن جماعة من اليهود نافقوا رسول الله ، أو في عامّة المنافقين : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أي : يخرجون من عندك كما دخلوا ، لم يؤثّر فيهم ما سمعوا منك. والجملتان حالان من فاعل «قالوا».

٢٨٩

و «بالكفر» و «به» حالان من فاعلي «دخلوا» و «خرجوا» ، أي : دخلوا وخرجوا ملتبسين بالكفر. و «قد» وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصحّ أن يقع حالا ، أفادت أيضا ـ لما فيها من التوقّع ـ أنّ أمارة النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان الرسول يظنّه ، ولذلك قال : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) أي : من الكفر. وفيه وعيد لهم.

(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦))

ثم بيّن سبحانه أنّه يضمّون إلى نفاقهم خصلة أخرى ذميمة ، فقال : (وَتَرى

٢٩٠

كَثِيراً مِنْهُمْ) أي : من اليهود أو المنافقين (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ) أي : الحرام. وقيل : الكذب ، لقوله : (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ). وقيل : كلمة الشرك ، نحو قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (١). (وَالْعُدْوانِ) الظلم ، أو مجاوزة الحدّ في المعاصي. وقيل : الإثم ما يختصّ بهم ، والعدوان ما يتعدّى إلى غيرهم. (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي : الحرام الّذي هو الرشوة في الحكم. خصّه بالذكر للمبالغة. (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لبئس شيئا عملوه.

قال أهل المعاني : إنّ أكثر ما تستعمل المسارعة في الخير ، كقوله تعالى : (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) (٢). وفائدة إيثار لفظ المسارعة هاهنا ـ وإن كان لفظ العجلة أدلّ على الذمّ ـ أنّهم يعملونه كأنّهم محقّون فيه ، ولذلك قال ابن عبّاس في تفسيره : أنّهم يجترءون على الخطأ.

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ) العلماء بالدين الذين من قبل الربّ (وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) الإثم : الكذب أو كلمة الشرك (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك ، فإنّ «لولا» إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ ، وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض.

(لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) أبلغ من قوله : لبئس ما كانوا يعملون ، من حيث إنّ الصنع عمل الإنسان بعد تدرّب فيه وتروّ وتحرّي إجادة ، ولذلك ذمّ به خواصّهم ، ولأنّ ترك الحسبة أقبح من مواقعة المعصية ، لأنّ النفس تلتذّ بها وتميل إليها ، ولا كذلك ترك الإنكار عليها ، فكان جديرا بأبلغ الذمّ ، فترك النهي عن الكبيرة أعظم من ارتكابها.

وعن ابن عبّاس : هي أشدّ آية في القرآن. وعن الضحّاك : ما في القرآن آية

__________________

(١) التوبة : ٣٠.

(٢) آل عمران : ١١٤.

٢٩١

أخوف عندي منها.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي : مقبوضة عن العطاء ، ممسكة عن الرزق.

يعني : هو ممسك يقتر الرزق. وغلّ اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، ومنه قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (١). ولا قصد فيه إلى إثبات يد وغلّ وبسط ، ولذلك يستعمل حيث لا يتصوّر ذلك ، كقوله :

جاد الحمى بسط اليدين بوابل

شكرت نداه تلاعه ووهاده (٢)

وقيل : معناه أنّه فقير ، كقوله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) (٣).

(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) دعاء عليهم بالبخل والنكد ، أو بالفقر والمسكنة ، ولذلك كانوا أبخل خلق الله وأرذلهم. ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة ، يغلّون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة في النار ، فتكون المطابقة من حيث اللفظ والأصل ، كقولهم : سبّني سبّ الله دابره ، أي : قطعه ، لأنّ السبّ أصله القطع. ويجوز أن يكون إخبارا بأنّهم ألزموا البخل وجعلوا بخلاء.

(وَلُعِنُوا بِما قالُوا) وأبعدوا عن رحمة الله ، وعذّبوا بهذه المقالة ، وليس الأمر على ما وصفوه (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) بل هو الجواد. وليس لذكر اليد هنا معنى غير إفادة معنى الجود. وثنّى اليد مبالغة في الردّ ونفي البخل عنه ، وإثباتا لغاية الجود ، فإنّ غاية ما يبذله السخيّ من ماله أن يعطيه بيديه ، وتنبيها على منح الدنيا

__________________

(١) الإسراء : ٢٩.

(٢) أي : أمطر السحاب أرض الحمى بمطر كثير فأنبتت وأزهرت ، فشكرته الأراضي المرتفعة والمنخفضة. فشبّه السحاب بإنسان كريم على سبيل المكنية ، وإثبات اليدين وبسطها تخييل. والوابل : المطر الشديد. والندى : الجود والفضل والخير. والتلعة : الأرض المرتفعة ، وجمعه : تلاع. والوهدة : الأرض المنخفضة ، وجمعه وهاد ولم نعلم قائل الشعر.

(٣) آل عمران : ١٨١.

٢٩٢

والآخرة ، وعلى ما يعطى للاستدراج وما يعطى للإكرام.

(يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) تأكيد لذلك ، أي : هو مختار في إنفاقه ، يوسّع تارة ويضيّق أخرى على حسب حكمته ووفق مصلحته. ولا يجوز جعله حالا من الهاء ، للفصل بينهما بالخبر ، ولأنّها مضاف إليها ، ولا من اليدين ، إذ لا ضمير لهما فيه ، ولا من ضميرهما لذلك.

والآية نزلت في فنحاص بن عازوراء ، فإنّه قال ذلك لمّا كفّ الله تعالى عن اليهود ما بسط عليهم من السعة ، بشؤم تكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأشرك فيه الآخرون ، لأنّهم رضوا بقوله.

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي : هم طاغون كافرون ، ويزدادون طغيانا وكفرا بما يسمعون من القرآن ، تماديا في الجحود ، وحسدا وكفرا بآيات الله تعالى ، فيضمّون كفرا إلى كفرهم ، كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصالح للأصحّاء.

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فلا تتوافق قلوبهم ، ولا تتطابق أقوالهم ، يعني : كلماتهم مختلفة وقلوبهم شتّى ، فلا تقع بينهم موافقة. (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ) هذا صلة «أوقدوا» ، أو صفة «نارا» (أَطْفَأَهَا اللهُ) يعني : كلّما أرادوا محاربة الرسول وأثاروا شرّا عليه ردّهم الله ، بأن أوقع بينهم منازعة كفّ بها عنه شرّهم.

وفي هذا دلالة على صحّة نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ اليهود كانوا في أشدّ باس وأمنع دار ، حتّى إنّ قريشا كانت تعتضد بهم ، وكان الأوس والخزرج تتكثّر بمظاهرتهم ، فذلّوا وقهروا ، وقتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني قريظة ، وأجلى بني النضير ، وغلب على خيبر وفدك ، فاستأصل الله شأفتهم ، حتّى إنّ اليوم تجد اليهود في كلّ بلدة أذلّ الناس.

٢٩٣

أو المعنى : كلّما أرادوا حرب أحد غلبوا ، فإنّهم لمّا خالفوا حكم التوراة سلّط الله عليهم بختنصّر ، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم فطرس الرومي ، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المجوس ، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين.

(وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي : للفساد. وهو اجتهادهم في محو ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتبهم ، وتكذيب رسالته ، ومخالفة أمره ونهيه ، وكيدهم في إثارة الفتن وتهييج الحرب وهتك المحارم (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فلا يجازيهم إلّا شرّا.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبما جاء به (وَاتَّقَوْا) ما عددنا من معاصيهم ونحوه (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الّتي فعلوها ، ولم نؤاخذهم بها (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ولجعلناهم من الداخلين فيها.

وفيه تنبيه على عظم معاصيهم ، وكثرة ذنوبهم ، وأنّ الإسلام يجبّ ما قبله وإن جلّ ، وأنّ الكتابي لا يدخل الجنّة ما لم يسلم.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي : أقاموا أحكام التوراة والإنجيل ، وأذاعوا كلّ ما فيهما من حدودهما ، وما فيهما من نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني : سائر الكتب المنزلة ، لأنّهم كلّفوا الإيمان بجميعها ، فإنّها من حيث إنّهم مكلّفون بالإيمان بها كالمنزّل إليهم. وقيل : هو القرآن. وهو المأثور عن ابن عبّاس ، واختاره الجبائي.

(لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي : لوسّع الله عليهم أرزاقهم ، بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض ، أو يكثر ثمرة الأشجار ، وغلّة الزروع ، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار ، فيجتنونها من رأس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط على الأرض. فبيّن الله تعالى بذلك أنّ ما كفّ عنهم بشؤم كفرهم ومعاصيهم لا لقصور الفيض ، ولو أنّهم آمنوا وأقاموا ما أمروا به لوسّع عليهم ، وجعل لهم خير الدارين.

٢٩٤

ونظير ذلك قوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) (١). (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (٢). فجعل الله تعالى التقوى من أسباب التوسعة في الرزق.

(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) مسلمة عادلة ، آمنت بالنبيّ وبما جاء به ، غير غالية ولا مقصّرة. وقيل : مقتصدة في عداوته. والأوّل قول مجاهد والسدّي وابن زيد ، ومأثور عن أهل البيت عليهم‌السلام. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي : بئس ما يعملونه.

وفيه معنى التعجّب ، أي : ما أسوأ عملهم. وهو المعاندة ، وتحريف الحقّ ، والإعراض عنه ، والإفراط في العداوة.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧))

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ ، ووعده العصمة والنصرة ، ليأمن من مكر المكرة من أهل الكفر والنفاق ، فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) هذا نداء تشريف وتعظيم (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) جميع ما أنزل إليك غير مراقب أحدا ولا خائف مكروها ، أي : ممّا أمرت بتبليغه من مصالح العباد ، لا جميع ما أنزل كائنا ما كان ، فإنّ من الأسرار الإلهيّة ما يحرم إفشاؤه.

(وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) وإن لم تبلّغ جميع ما أمرت بتبليغه (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) فما أدّيت شيئا منها ، لأنّ كتمان بعضها يضيّع ما أدّى منها ، كترك أركان الصلاة ، فإنّ غرض الدعوة ينتقض به. أو : فكأنّك ما بلّغت شيئا منها ، كقوله :

__________________

(١) الجن : ١٦.

(٢) الطلاق : ٢ ـ ٣.

٢٩٥

(فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (١) من حيث إنّ كتمان البعض والكلّ سواء في الشناعة واستجلاب العقاب.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : رسالاته.

(وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) عدة وضمان من الله بعصمته من تعرّض الأعادي ، وإزاحة لمعاذيره. والمعنى : والله يضمن لك العصمة من أن ينالوك بسوء ، فما عذرك في مراقبتهم؟

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) يريد أن لا يمكّنهم ممّا يريدون بك من مكروه. الآية نزلت بعد وقعة أحد وحنين.

وروى العيّاشي في تفسيره بإسناده عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله قالا : «إنّ الله تعالى أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينصب عليّا عليه‌السلام علما للناس ليخبرهم بولايته. فتخوّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقولوا حامى ابن عمّه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، وأن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه ، فنزلت هذه الآية. فأخذ بيده يوم الغدير وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه» (٢).

وعلى هذا ، من قرأ : «فما بلغت رسالاته» معناه : إن لم تبلّغ هذه الرسالة فما بلّغت إذن ما كلّفت به من الرسالات ، وكنت كأنّك لم تؤدّ منها شيئا قطّ ، لأنّك إذا لم تؤدّها فكأنّك أغفلت أداءها جميعا.

وهذا الخبر بعينه قد حدّث به السيّد أبو الحمد ، عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني ، بإسناده عن ابن أبي عمير إلى آخره ، في كتاب شواهد التنزيل (٣) لقواعد التفضيل.

__________________

(١) المائدة : ٣٢.

(٢) تفسير العيّاشي ١ : ٣٣١ ح ١٥٢.

(٣) شواهد التنزيل ١ : ٢٥٥ ح ٢٤٩.

٢٩٦

وفيه أيضا بالإسناد المرفوع إلى حيّان بن علي العنزي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس قال : «نزلت هذه الآية في عليّ عليه‌السلام ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه» (١).

وقد أورد هذا الخبر أبو إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثعلبي في تفسيره ، بإسناده مرفوعا إلى ابن عبّاس قال : «نزلت هذه الآية في عليّ عليه‌السلام ، أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلّغ فيه ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد عليّ فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه».

وقد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، أنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستخلف عليّا ، فكان يخاف أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه ، فأنزل الله هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره بأدائه.

والمعنى : إن تركت تبليغ ما أنزل إليك وكتمته ، كنت كأنّك لم تبلّغ من رسالات ربّك في استحقاق العقوبة.

وعن أنس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرس حتّى نزلت هذه الآية ، فأخرج رأسه من قبّة أدم فقال لحرّاس من أصحابه ـ منهم سعد وحذيفة ـ : الحقوا بملاحقكم ، فإنّ الله تعالى عصمني من الناس.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١))

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ : ٢٥١ ح ٢٤٥.

٢٩٧

عن ابن عبّاس : جاء جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا له : ألست تقرّ بأنّ التوراة من عند الله؟ قال : بلى. قالوا : فإنّا نؤمن بها ، ولا نؤمن بما عداها ، فنزلت : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ)

أي : على دين يعتدّ به ، ويصحّ أن يسمّى شيئا ، لأنّه باطل ، كما تقول : هذا ليس بشيء ، تريد تحقيره وتصغير شأنه (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) بالتصديق بما فيهما من البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعمل بما فيهما (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من سائر الكتب الإلهيّة ومن القرآن ، ومن جملة إقامتها الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإذعان لحكمه ، فإنّ الكتب الإلهيّة بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدّقه المعجزة ، ناطقة بوجوب الطاعة له. والمراد إقامة أصولها ، وما لم ينسخ من فروعها.

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فلا تتأسّف ولا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلّغه إليهم ، فإنّ ضرر ذلك يرجع إليهم ، لا يتخطّاهم ، وفي المؤمنين مندوحة وغناء لك عنهم. وفيه تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي : فلا تحزن ، فإنّ تكذيب الأنبياء عادتهم ودأبهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا ظاهرا ، يعني : المنافقين (وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ

٢٩٨

وَالنَّصارى) سبق تفسيره في سورة البقرة (١). وقال سيبويه والخليل وجميع البصريّين : إنّ قوله : «والصابئون» محمول على التأخير ، ومرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف ، والنيّة به التأخير عمّا في حيّز «إن» ، من اسم «إنّ» وخبرها. والتقدير : إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنصارى حكمهم كذا ، والصابئون كذلك ، كقوله : فإنّي وقيّار بها لغريب (٢) ، أي : وإنّي لغريب وقيّار بها لغريب.

وهو كاعتراض دلّ به على أنّه لمّا كان الصابئون الّذين صبأوا ـ أي : خرجوا عن الأديان كلّها ـ مع ظهور ضلالهم ، وميلهم عن جميع الأديان ، يتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان والعمل الصالح ، كان غيرهم أولى بذلك.

و «النصارى» يجوز عطفه أن يكون معطوفا على «الصابئون» ، و «من آمن» خبر هما ، وخبر «إنّ» مقدّر دلّ عليه ما بعده ، كقوله :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

ولا يجوز عطفه على محلّ «إنّ» واسمها ، فإنّه مشروط بالفراغ من الخبر ، ولهذا لا يقال : إنّ زيدا وعمرو منطلقان ، إذ لو عطفت عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ وخبر إنّ معا ، فيجتمع عليه عاملان. ولا على الضمير في «هادوا» ، لعدم التأكيد ، والفصل ، ولأنّه يوجب كون الصابئين هودا. وقيل : «إنّ» بمعنى «نعم» ، وما بعدها في موضع الرفع بالابتداء.

(مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا ظاهرا وباطنا (وَعَمِلَ صالِحاً) المعطوف والمعطوف عليه في محلّ الرفع بالابتداء ، وخبره (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). والجملة خبر «إنّ» ، والفاء لتضمّن المبتدأ معنى الشرط. أو خبر المبتدأ كما مرّ ، والراجع محذوف ، أي : من آمن منهم. أو في محلّ النصب على أنّه بدل من

__________________

(١) راجع ج ١ ص ١٦٠.

(٢) لضابئ بن الحرث البرجمي ، وصدره : فمن يك أمسى بالمدينة رحله.

٢٩٩

اسم «إنّ» وما عطف عليه.

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) بالتوحيد والبشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) ليذكّروهم ، وليبيّنوا لهم أمر دينهم من الأوامر والنواهي (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) بما يخالف هواهم ، ولا يوافق مرادهم من الشرائع ومشاقّ التكاليف (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) جواب الشرط. والجملة صفة «رسلا» ، والراجع محذوف ، أي : رسول منهم. وقيل : الجواب محذوف دلّ عليه قوله : «فريقا» إلى آخره. وهو استئناف ، كأنّه جواب سائل يسأل عنهم كيف فعلوا برسلهم؟ وإنّما جيء بـ «يقتلون» موضع «قتلوا» على حكاية الحال الماضية ، استحضارا لتلك الحال الشنيعة ليتعجّب بها ، واستفظاعا للقتل ، وتنبيها على أنّ ذلك عادتهم ماضيا ومستقبلا ، ومحافظة على رؤوس الآي.

(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : وحسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم بلاء وعذاب بسبب قتلهم الأنبياء وتكذيبهم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب : «لا تكون» بالرفع ، على أنّ «أن» هي المخفّفة من الثقيلة ، وأصله : أنّه لا تكون. وإدخال فعل الحسبان عليها ـ وهي لتحقيق ـ تنزيل له منزلة العلم ، لتمكّنه في قلوبهم ، و «أن» أو «أنّ» بما في حيّزها سادّ مسدّ مفعوليه.

(فَعَمُوا) عن الدين ، أو عن الدليل والهدى (وَصَمُّوا) عن استماع الحقّ ، كما فعلوا حين عبدوا العجل (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي : ثمّ تابوا فتاب الله عليهم (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) كرّة أخرى بطلبهم المحال غير المعقول في صفات الله تعالى ، وهو الرؤية (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير أو فاعل ، والواو علامة الجمع ، كقولهم : أكلوني البراغيث. أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : العمي والصمّ كثير منهم. قيل : أراد

٣٠٠