زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

(وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) لاشتغالهم بالحراسة ، وهم الّذين كانوا بإزاء العدوّ (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ).

واختلف في الطائفة الأولى إذا رفعت رؤوسهم من السجود وفرغت من الركعة كيف يصنعون؟ فعندنا أنهم إذا سجدوا في الأولى يصلّون ركعة أخرى ويتشهّدون ويسلّمون ، والامام قائم في الثانية ، ثم ينصرفون إلى مواقف أصحابهم ، ويجيء الآخرون فيستفتحون الصلاة ، ويصلّي بهم الامام الركعة الثانية ، ويطيل التشهّد حتى يقوموا فيصلّوا بقيّة صلاتهم ، ثم يسلّم بهم ، كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذات (١) الرقاع. فيكون للطائفة الأولى تكبيرة افتتاح الامام ، وللثانية تسليمه. وهو مذهب الشافعي أيضا.

وقيل : إنّ الامام يصلّي مرّتين ، بكلّ طائفة مرّة ، كما فعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببطن نخل (٢). وهذه الصلاة تصحّ أيضا مع الأمن.

وقيل : إنّ الطائفة الأولى إذا فرغت من ركعة يسلّمون ويمضون إلى وجه العدوّ ، وتأتي الطائفة الأخرى ويصلّي بهم ركعة. وهذا مذهب جابر ومجاهد ، ومن يرى أنّ صلاة الخوف ركعة واحدة.

وقيل : إنّه إذا صلّى بالطائفة الأولى ركعة مضوا إلى وجه العدوّ ، وتأتي الطائفة الأخرى فيكبّرون ويصلّي الامام بهم الثانية ، ويسلّم الإمام ويعودون إلى وجه العدوّ ، وتأتي الطائفة الأولى فيؤدّون الركعة الثانية بغير قراءة ، فيتمّون صلاتهم ويرجعون إلى وجه العدوّ ، وتأتي الطائفة الثانية فيؤدّون الركعة بقراءة ، ويتمّون

__________________

(١) قال الواقدي : ذات الرقاع قريبة من النخيل بين السعد والشقرة وبئر أرما ، على ثلاثة أيّام من المدينة. وفي تعيين موضع غزاة ذات الرقاع التي غزاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقوال ، انظر معجم البلدان ٣ : ٥٦.

(٢) بطن نخل : قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة. معجم البلدان ١ : ٤٤٩.

١٤١

صلاتهم. وهو مرويّ عن عبد الله بن مسعود. وهو مذهب أبي حنيفة.

(وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) يعني : وليكونوا حذرين من عدوّهم ، متأهّبين لقتالهم بأخذ الأسلحة ، أي : آلات الحرب. وهذا يدلّ على أنّ الفرقة المأمورة بأخذ السلاح في الأوّل هم المصلّون دون غيرهم.

ثم بيّن ما لأجله أوجب أخذ السلاح عليهم بقوله : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ) في القتال حين اشتغالكم بالصلاة (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) تمنّوا أن ينالوا منكم غرّة في صلاتكم فيشدّون عليكم شدّة واحدة.

ثم رخّص لهم في وضع الأسلحة فقال : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً) أي : نالكم (مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) أعلّاء أو جرحى ، فثقل بسبب المطر أو المرض أخذ الأسلحة ، وضعفتم عن حملها (أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) وهذا ممّا يدلّ على أنّ الأمر بأخذ الأسلحة للوجوب دون الندب (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر ما دام ممكنا لهم وإن كان مع مشقّة ، لئلّا يغفلوا فيحمل عليهم العدوّ.

(إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) هذا وعد للمؤمنين بأنّه سبحانه يهين عدوّهم ، وينصرهم عليهم بعد الأمر بالحزم ، لتقوى قلوبهم ، وليعلموا أنّ الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوّهم ، بل لأنّ الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقّظ والتدبّر ، فيتوكّلوا على الله تعالى.

وفي الآية دلالة على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحّة نبوّته ، وذلك أنّها نزلت والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعسفان (١) والمشركون بضجنان (٢) ، فتواقفوا فصلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصحابه

__________________

(١) عسفان قرية جامعة بها منبر ونخيل ومزارع على ستّة وثلاثين ميلا من مكّة. معجم البلدان ٤ : ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) ضجنان : بالتحريك ، قيل : جبيل على بريد من مكّة ... وقال الواقدي : بين ضجنان ومكّة خمسة وعشرون ميلا. معجم البلدان ٣ : ٤٥٣.

١٤٢

صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود ، فهمّ المشركون بأن يغيروا عليهم ، فقال بعضهم : إنّ لهم صلاة اخرى أحبّ إليهم من هذه ـ يعنون صلاة العصر ـ فأنزل الله عليه هذه الآية ، فصلّى بهم العصر صلاة الخوف ، وكان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد.

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) أدّيتم الصلاة حال الخوف والقتال ، وفرغتم منها (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) فدوموا على الذكر مهلّلين مكبّرين مسبّحين حامدين في جميع الأحوال ، لعلّه سبحانه لأجل كثرة ذكركم ينصركم على عدوّكم ، ويظفركم بهم. وهذا مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١).

وهذا التفسير منقول عن ابن عبّاس وكثير من المفسّرين. وعن ابن مسعود أنّه قال عقيب تفسير الآية : «لم يعذر الله أحدا في ترك ذكره إلّا المغلوب على عقله».

وقيل : معناه إذا أردتم أداء الصلاة واشتدّ الخوف فصلّوها كيف ما أمكن ، قياما مسايفين ومقارعين ، وقعودا جاثين (٢) على الرّكب مرامين ، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح.

(فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) سكنت قلوبكم من الخوف في أوطانكم وأمصاركم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فعدّلوا واحفظوا أركانها وشرائطها ، وأتوا بها تامّة (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) فرضا محدود الأوقات ، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال. وهذا دليل على أنّ المراد بالذكر الصلاة ، فإنّها واجبة الأداء حال المسايفة والاضطراب في المعركة ، وتعليل للأمر بالإتيان بها كيف ما

__________________

(١) الأنفال : ٤٥.

(٢) جثا يجثو جثوّا : جلس على ركبتيه ، فهو جاث.

١٤٣

أمكن. فهو ردّ على قول أبي حنيفة حيث قال : لا يصلّي المحارب حتى يطمئنّ.

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤))

ثم عاد الكلام إلى الحثّ على الجهاد ، فقال : (وَلا تَهِنُوا) ولا تضعفوا (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) في طلب الكفّار بالقتال. ثم ألزمهم الحجّة عليه بقوله : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) ممّا ينالكم من الجراح منهم (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ) أيضا ممّا ينالهم منكم من الجراح والأذى (كَما تَأْلَمُونَ) مثل ما تألمون أنتم من جراحهم وأذاهم (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ) من الظفر عاجلا والثواب آجلا على ما ينالكم منهم (ما لا يَرْجُونَ) على ما ينالهم منكم. هذا إلزام لهم وتقريع على التواني في القتال ، بأنّ ضرر القتال دائر بين الفريقين غير مختصّ بهم ، وهم يرجون من الله تعالى بسببه من إظهار الدين واستحقاق الثواب ما لا يرجو عدوّهم ، فينبغي أن يكونوا أرغب منهم في الحرب ، وأصبر عليها.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بأعمالكم وضمائركم (حَكِيماً) فيما يأمر وينهى ، فلا يأمركم ولا ينهاكم إلّا بما يعلم أنّ فيه صلاحكم.

قال ابن عبّاس وعكرمة : لمّا أصاب المسلمين ما أصابهم من الجروح والآلام يوم أحد ، وصعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجبل ، قال أبو سفيان : يا محمد لنا يوم ولكم يوم.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أجيبوه.

فقال المسلمون : لا سواء ، قتلانا في الجنّة ، وقتلاكم في النار.

فقال أبو سفيان : لنا عزّى ولا عزّى لكم.

فقال النبيّ : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم.

١٤٤

قال أبو سفيان : اعل هبل.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قولوا : الله أعلى وأجلّ.

فقال أبو سفيان : موعدنا وموعدكم بدر الصغرى. فنزلت هذه الآية في شأنهم.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦))

ولمّا تقدّم ذكر المنافقين والكافرين ، والأمر بمجانبتهم ومحاربتهم ، وترك المداهنة معهم ، عقّب ذلك بذكر الخائنين ، والأمر باجتناب الدفع عنهم ، والنهي عن المداهنة معهم ، فقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) والصدق (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) بما عرّفك الله وأوحى به إليك. وليس الرؤية بمعنى العلم ، وإلّا لاستدعى ثلاثة مفاعيل. (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) أي : لأجلهم والذبّ عنهم (خَصِيماً) مخاصما للبرآء.

روي أنّ أبا طعمة بن أبيرق من بني ظفر سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جراب دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه ، وخبّأها عند زيد بن السمين اليهودي ، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد ، وحلف ما أخذها وما له بها علم ، فتركوه واتّبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها. فقال : دفعها إليّ طعمة ، وشهد له ناس من اليهود. فقال بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فلمّا جاءوا إليه قالوا : إن لم تجادل عن صاحبنا هلك وافتضح وبرىء اليهودي ، وهو موجب لهوان المسلمين وعزّة اليهود. فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعاقب اليهودي ، لحسن ظنّه بالمسلم الظاهر العدالة ، فنبّه الله رسوله بذلك ، وأعلمه خيانة طعمة بقوله : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً).

١٤٥

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) ممّا هممت به من عقاب اليهودي بناء على حسن الظاهر (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لمن يستغفره. وإنّما ذكر ذلك على وجه التأديب له ، في أن لا يبادر بالخصام والدفاع عمّن لا يتبيّن وجه الحقّ فيه ، ولا يعتمد على ظاهر الإيمان ، فالاستغفار يكون عن ترك الندب.

(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨))

ثم نهى سبحانه عن المجادلة والدفع عن أهل الخيانة ، مؤكّدا لما تقدّم ، فقال مخاطبا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين همّ أن يبرّئ أبا طعمة لمّا أتاه قومه ينفون عنه السرقة : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) يخونونها ، فإنّ وبال خيانتهم يعود عليها.

أو جعل المعصية خيانة لها كما جعلت ظلما عليها ، لاشتراكهما في جلب الضرر إليها. والضمير لطعمة وأمثاله ، أو له ولقومه ، فإنّهم شاركوه في الإثم حين شهدوا على براءته وخاصموا عنه.

وقيل : ظاهر الخطاب وإن توجّه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن المراد بذلك أمّته.

ولمّا كان سبحانه عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المآثم ، قال : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) مبالغا في الخيانة مصرّا عليها (أَثِيماً) منهمكا في الإثم.

روي أنّ طعمة لمّا أنزل الله تعالى في تقريعه وتقريع قومه الآيات ارتدّ وهرب ولحق بالمشركين من أهل مكّة ، ونقب حائطا بها ليسرق أموال أهله ، فسقط

١٤٦

الحائط عليه فقتله.

وقيل : إنّه خرج من مكّة نحو الشام ، فنزل منزلا وسرق بعض المتاع وهرب ، فأخذ ورمي بالحجارة حتى قتل.

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) يستترون منهم حياء وخوفا من ضررهم (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) ولا يستترون من الله ، ولا يستحيون منه ، وهو أحقّ بأن يستحيا ويخاف منه (وَهُوَ مَعَهُمْ) لا يخفي عليه سرّهم ، فلا طريق معه إلّا ترك ما يستقبحه ويؤاخذ عليه (إِذْ يُبَيِّتُونَ) يدبّرون ويزوّرون بالليل (ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) من رمي البريء ، والحلف الكاذب ، وشهادة الزور (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) حفيظا بأعمالهم ، لا يفوت عنه شيء.

وفي هذه الآية تقريع بليغ لمن يمنعه حياء الناس وحشمتهم عن ارتكاب القبائح ، ولا تمنعه خشية الله تعالى عن ارتكابها ، وهو سبحانه أحقّ أن يراقب ، وأجدر أن يحذر ويخاف. وفيها أيضا توبيخ لمن يفعل قبيحا ثم يقرف غيره به ، سواء كان ذلك الغير مسلما أو كافرا.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩))

ثم خاطب الذابّين عن السارق فقال : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) «ها» للتنبيه ، أنتم وأولاء مبتدأ وخبر ، و «جادلتم» جملة مستأنفة مبيّنة لوقوع «أولاء» خبرا ، أو صلة عند من يجعله موصولا. والمعنى : هبوا أنّكم خاصمتم ودافعتم عن بني أبيرق في الدنيا (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا عذّبهم الله (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) محاميا يحميهم من عذاب الله تعالى. والاستفهام في معنى النفي ، لأنّه

١٤٧

في معنى التقريع والتوبيخ ، أي : لا مجادل عنهم ولا شاهد على براءتهم بين يدي الله تعالى.

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢))

ثم بيّن سبحانه طريق التلافي والتوبة ممّا سبق منهم من المعصية ، فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) قبيحا متعدّيا يسوء به غيره ، كما فعل أبو طعمة بقتادة واليهودي (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بما يختصّ به ولا يتعدّاه. وقيل : المراد بالسوء ما دون الشرك ، وبالظلم الشرك. وقيل : الصغيرة والكبيرة (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) بالتوبة (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً) لذنوبه (رَحِيماً) متفضّلا عليه. وفيه أنّ كلّ ذنب وإن عظم فإنّه غير مانع من المغفرة إذا استغفروا منه.

(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) فلا يتعدّاه وباله ، كقوله : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (١) (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بفعله (حَكِيماً) في مجازاته.

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) صغيرة أو ما لا عمد فيه (أَوْ إِثْماً) كبيرة أو ما كان عن عمد (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) كما رمى طعمة زيدا. ووحّد الضمير لمكان «أو» (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) بسبب رمي البريء وتبرئة النفس الخاطئة ، فإنّه بكسب الإثم آثم ، وبرمي البريء باهت ، ولذلك سوّى بينهما ، وإن كان مقترف أحدهما دون مقترف الآخر.

__________________

(١) الإسراء : ٧.

١٤٨

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣))

ثم بيّن سبحانه لطفه برسوله وفضله عليه ، إذ صرف كيدهم عنه وعصمه من الميل إليهم ، فقال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) بإعلام ما هم عليه بالوحي. قيل : الفضل هو النبوّة ، والرحمة العصمة أو الوحي. أو الفضل تأييده بألطافه ، والرحمة النعمة. (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي : من بني ظفر (أَنْ يُضِلُّوكَ) عن القضاء بالحقّ وسلوك طريق العدل ، مع علمهم بالحال.

والجملة جواب «لولا». وليس القصد فيه إلى نفي همّهم ، بل إلى نفي تأثيره فيه.

(وَما يُضِلُّونَ) وما يزيلون عن الحقّ (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأنّه ما أضلّك عن الحقّ ، وعاد وباله عليهم (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) فإنّ الله عاصمك وحافظك ومسدّدك ومؤيّدك. وما خطر ببالك كان اعتمادا منك على حسن الظاهر ، لا ميلا إلى الحكم. و «من شيء» في موضع النصب على المصدر ، أي : شيئا من الضرر.

(وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) والسنّة. وهي أحكام الشريعة ، والآداب السنيّة المرضيّة. والمعنى : كيف يضلّونك وهو ينزّل عليك الكتاب ، ويوحي إليك بالأحكام؟! (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من خفيّات الأمور ، أو من أمور الدين وأحكام الشرع ، وأنباء الرسل وقصصهم ، وغير ذلك (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) قيل : معناه فضله عليك منذ خلقك إلى أن بعثك وعلّمك عظيم ، إذ جعلك خاتم النبيّين وسيّد المرسلين ، وأعطاك الخلق العظيم والشفاعة وغيرهما.

١٤٩

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤))

ثم بيّن سبحانه أنّ تناجي أكثر الناس لا يكون خيرا ، مثل تناجي بني ظفر في استخلاص طعمة ، فقال : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) لمّا كان معنى النجوى لا يتمّ إلّا بين اثنين فصاعدا كالدعوى ، فالمعنى : لا خير في كثير من متناجيهم ، كقوله تعالى : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) (١) أو من تناجيهم. وعلى هذا فقوله : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) واجبة أو مطلقا (أَوْ مَعْرُوفٍ) على حذف المضاف ، أي : إلّا نجوى من أمر ، أو على الانقطاع ، بمعنى : لكن من أمر بصدقة ، فإنّ في نجواه الخير. والمعروف كلّ ما يستحسنه الشرع ، ولا ينكره العقل. وفسّر هاهنا بالقرض ، وإغاثة المضطرّ ، وصدقة التطوّع. والأولى أنّه عامّ في كلّ جميل من أبواب البرّ. (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) تأليف بينهم بالمودّة. وتخصيص الصدقة والإصلاح لمزيّة فضلهما.

وتسميته بالمعروف لاعتراف العقول بها ، أو لأنّ أهل الخير يعرفونها.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلام ابن آدم كلّه عليه ، إلّا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله».

وسمع سفيان رجلا يقول : ما أشدّ هذا الحديث؟! فقال : ألم تسمع الله يقول : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ)؟ فهذا هو بعينه. أو ما سمعته يقول : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢)؟ فهو هذا بعينه.

__________________

(١) الإسراء : ٤٧.

(٢) العصر : ١ ـ ٢.

١٥٠

وقال عليّ بن إبراهيم في تفسيره : «حدّثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ الله فرض التجمّل في القرآن. فقال : قلت : وما التجمّل جعلت فداك؟ قال : أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتجمل له ، وهو قوله : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) الآية».

قال : «وحدّثني أبي رفعه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم ، كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيمانكم» (١).

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) لطلب رضا الله تعالى (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي : مثوبة عظيمة في الكثرة والمنزلة والصفة. أمّا الكثرة فلأنّه دائم.

وأمّا المنزلة فلأنّه مقارن للتعظيم والإجلال. وأمّا الصفة فلأنّه غير مشوب بما ينغّصه. وقرأ حمزة : يؤتيه بالياء.

واعلم أنّ الله تعالى بنى الكلام في هذه الآية على الأمر ، ورتّب الجزاء على الفعل ، ليدلّ على أنّه لمّا دخل الآمر في زمرة الخيّرين كان الفاعل أدخل فيهم ، وأنّ العمدة والغرض هو الفعل ، واعتبار الأمر من حيث إنّه وصلة إليه. وقيّد الفعل بأن يكون لطلب مرضاة الله تعالى ، لأنّ الأعمال بالنيّات ، وأنّ من فعل خيرا رياء وسمعة لم يستحقّ بها من الله أجرا. ووصف الأجر بالعظيم تنبيها على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا.

وفي الآية أيضا دلالة على أنّ فاعل المعصية هو الذي يضرّ بنفسه ، لما يعود عليه من وبال فعله ، وأنّ الّذي يدعو إلى الضلال هو المضلّ ، وأنّ فاعل الضلال مضلّ لنفسه ، وأن الدعاء إلى الضلال يسمّى إضلالا.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٥٢.

١٥١

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦))

وبعد ذكر حال أهل الكفر والنفاق بيّن مآلهم ، فقال : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) يخالفه ، من الشقّ وهو الجانب ، فإنّ كلّا من المتخالفين في شقّ غير شقّ الآخر (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) ما ظهر له الحقّ ، وقامت له الحجّة ، وصحّت الأدلّة بثبوت نبوّته ورسالته ، بالوقوف على المعجزات (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) غير ما هم عليه من اعتقاد أو عمل (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) نجعله واليا لما تولّى من الضلال ، ونكله إليه. والمراد نخلّي بينه وبين ما اختاره لنفسه (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) وندخله فيها بطريق اللزوم والدوام ، عقوبة له على ما اختاره من الضلالة بعد وضوح الهدى عنده (وَساءَتْ مَصِيراً) جهنّم.

قيل : هي في طعمة وارتداده وخروجه إلى مكّة ، كما مرّ.

قال في المجمع : «وقد استدلّ بهذه الآية على أنّ إجماع الأمّة حجّة ، لأنّه سبحانه توعّد على مخالفة سبيل المؤمنين ، كما توعّد على مشاقّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والصحيح أنّه لا يدلّ على ذلك ، لأنّ ظاهر الآية يقتضي إيجاب متابعة من هو مؤمن على الحقيقة ظاهرا وباطنا ، لأنّ من أظهر الإيمان لا يوصف بأنّه مؤمن إلّا مجازا ، فكيف يحمل ذلك على إيجاب متابعة من أظهر الإيمان؟ وليس كلّ من أظهر الإيمان مؤمنا.

١٥٢

ومتى حملوا الآية على بعض الأمّة حملها غيرهم على من هو مقطوع على عصمته عنده من المؤمنين ، وهم الأئمّة من آل محمّد عليهم‌السلام.

على أنّ ظاهر الآية يقتضي أنّ الوعيد إنّما يتناول من جمع بين مشاقّة الرسول واتّباع غير سبيل المؤمنين ، فمن أين لهم أنّ من فعل أحدهما يتناوله الوعيد. ونحن إنّما علمنا يقينا أنّ الوعيد يتناول بمشاقّة الرسول بانفرادها بدليل غير الآية ، فيجب أن يسندوا تناول الوعيد باتّباع غير سبيل المؤمنين إلى دليل آخر» (١).

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) كرّره للتأكيد ، أو لقصّة طعمة.

وقيل : جاء شيخ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إنّي شيخ منهمك في الذنوب ، إلّا أنّي لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ، ولم أتّخذ من دونه وليّا ، ولم أوقع المعاصي جرأة ، وما توهّمت طرفة عين أنّي أعجز الله هربا ، وإنّي لنادم تائب ، فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت هذه الآية فيه.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) عن الحقّ ، فإنّ الشرك أعظم أنواع الضلالة ، وأبعدها عن الصواب والاستقامة. وإنّما ذكر في الآية الأولى : (فَقَدِ افْتَرى) (٢) لأنّها متّصلة بقصّة أهل الكتاب ، ومنشأ شركهم كان نوع افتراء ، وهو دعوى التبنّي على الله تعالى.

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١))

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ١١٠ ـ ١١١.

(٢) النساء : ٤٨.

١٥٣

ولمّا ذكر في الآية المتقدّمة أهل الشرك وضلالهم ، ذكر في هذه الآية حالهم وفعالهم ، فقال : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) يعني : اللات والعزّى ومناة ونائلة ونحوها. وهي جمع أنثى ، كرباب وربّى (١). عن الحسن لم يكن حيّ من أحياء العرب إلّا ولهم صنم يعبدونه ، ويسمّونه أنثى بني فلان ، وذلك إمّا لتأنيث أسمائها ، وإمّا لأنّها كانت جمادات ، والجمادات تؤنّث من حيث إنّها ضاهت الإناث لانفعالها.

ولعلّه تعالى ذكر هذه الأصنام بهذا الاسم تنبيها على أنّهم يعبدون ما يسمّونه إناثا ، لأنه ينفعل ولا يفعل ، ومن حقّ المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل ، ليكون دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم.

وقيل : كانوا يقولون في أصنامهم : هنّ بنات الله. وقيل : المراد الملائكة ، لقولهم : الملائكة بنات الله.

وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره قال : كان في كلّ واحدة منهنّ شيطانة أنثى تتراءى للسّدنة وتكلّمهم ، وذلك من صنع الشيطان الّذي ذكره سبحانه بعد ذلك.

(وَإِنْ يَدْعُونَ) وما يعبدون بعبادتها (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) عاريا عن الخير ، لأنّه الّذي أغراهم بعبادتها فأطاعوه ، فجعل طاعتهم له في ذلك عبادة له. والمارد

__________________

(١) الربّى : الشاة التي وضعت حديثا ، وجمعها : رباب. الصحاح ١ : ١٣١.

١٥٤

والمريد الّذي لا يعلق بخير. وأصله الملاسة ، ومنه : (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) (١) ، وغلام أمرد ، وشجرة مرداء للّتي تناثر ورقها.

(لَعَنَهُ اللهُ) صفة ثانية للشيطان ، أي : أبعده الله عن الخير ، بإيجاب الخلود في نار جهنّم (وَقالَ) بعد أن لعنه الله (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) عطف عليه ، أي : شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع الدالّ على فرط عداوته للناس. والمفروض بمعنى المقطوع ، أي : نصيبا قدّر لي وفرض ، من قولهم : فرض له في العطاء. وأصل الاتّخاذ أخذ الشيء على وجه الاختصاص ، فكلّ من أطاعه فإنّه من نصيبه وحزبه ، كما قال سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) (٢).

وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في هذه الآية : «من بني آدم تسعة وتسعون في النار ، وواحد في الجنّة».

وفي رواية أخرى : «من كلّ ألف واحد لله ، وسائرهم للنار ولإبليس».

أوردها أبو حمزة الثمالي في تفسيره.

وقد برهن سبحانه وتعالى أوّلا على أنّ الشرك ضلال في الغاية ، على سبيل التعليل بأن ما يشركون به ينفعل ولا يفعل فعلا اختياريا ، وذلك ينافي الالوهيّة غاية المنافاة ، فإنّ الإله ينبغي أن يكون فاعلا غير منفعل.

ثم استدلّ عليه بأنّه عبادة الشيطان ، وهي أفظع الضلال لثلاثة أوجه :

الأوّل : أنّه مريد منهمك في الضلال ، لا يعلّق بشيء من الخير والهدى ، فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الهدى.

والثاني : أنّه ملعون لضلاله ، فلا تستجلب مطاوعته سوى الضلال واللعن.

__________________

(١) النمل : ٤٤.

(٢) الحجّ : ٤.

١٥٥

والثالث : أنّه في غاية العداوة والسعي في إهلاكهم ، وموالاة من هذا شأنه غاية الضلال ، فضلا عن عبادته.

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الحقّ. وإضلاله دعاؤه إلى الضلالة ، وتسبيبه له بحبائله وغروره ووسوسته. (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأماني الباطلة ، كطول البقاء في الدنيا ، وطول الأمل فيها ، وتزيينها في نظرهم ، وأن لا بعث ولا عقاب (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) يشقّونها ، لتحريم ما أحلّه الله.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام معناه : «وليقطّعنّ الآذان من أصولها».

وهو عبارة عمّا كانت العرب تفعل بالبحائر (١) ، فإنّهم كانوا يشقّون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا ، وحرّموا على أنفسهم الانتفاع بها. وسنذكر تفصيل ذلك في سورة المائدة (٢) إن شاء الله تعالى.

(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) عن وجهه صورة أو صفة. ويندرج فيه ما قيل : من فقء عين الحامي (٣) وإعفائه عن الركوب ، وخصاء العبيد ، والوشم (٤) والوشر ، واللواط والسحق ونحوهما ، وعبادة الشمس والقمر ، وتغيير فطرة الله الّتي هي الإسلام ، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ، ولا يوجب لها من الله زلفى. وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا ، لكن الفقهاء رخّصوا في خصاء البهائم للحاجة. والجمل الأربع حكاية عمّا ذكره الشيطان نطقا أو أتاه فعلا.

عن ابن عبّاس ومجاهد والحسن وقتادة : معنى خلق الله : دين الله وأمره.

__________________

(١) جمع بحيرة ، وبحر الناقة : شقّ أذنها.

(٢) راجع ص : ٣٣٢.

(٣) الحامي : الفحل من الإبل الذي طال مكثه عندهم.

(٤) وشم اليد : غرزها بإبرة ثم ذرّ عليها النيلج ، فصار فيها رسوم وخطوط. والوشر : أن تحدّد المرأة أسنانها وترقّقها.

١٥٦

وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

ويؤيّده قوله سبحانه : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (١). والمراد تحريم الحلال وتحليل الحرام.

(وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا) ناصرا (مِنْ دُونِ اللهِ) بإيثاره ما يدعو إليه على ما أمر الله به ، ومجاوزته عن طاعة الله إلى طاعته (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) ظاهرا ، إذ ضيّع رأس ماله ، وبدّل مكانه من الجنّة بمكان من النار ، وأيّ خسران أعظم من استبدال النار الجنّة؟! (يَعِدُهُمْ) مالا ينجزه (وَيُمَنِّيهِمْ) مالا ينالون. وقيل : يعدهم الفقر إن أنفقوا مالهم في أبواب البرّ ، ويمنّيهم طول البقاء في الدنيا ونعيمها ليؤثروها على الآخرة (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر. وهذا الوعد إمّا بالخواطر الفاسدة ، أو بلسان أوليائه.

(أُولئِكَ) الّذين اتّخذوا الشيطان وليّا من دون الله ، فاغترّوا بغروره ، وتابعوه فيما دعاهم (مَأْواهُمْ) مستقرّهم (جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) معدلا ومهربا ، من : حاص يحيص ، إذا عدل. و «عنها» حال منه ، وليس صلة له ، لأنّه اسم مكان ، وإن جعل مصدرا فلا يعمل أيضا فيما قبله.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢))

ولمّا أوعد الكفّار بالعذاب الأليم ، وعد المؤمنين بجنّات النعيم ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي : وعده وعدا ، وحقّ ذلك حقّا. فالأوّل مؤكّد لنفسه ، لأنّ

__________________

(١) الروم : ٣٠.

١٥٧

مضمون الاسميّة الّتي قبله وعد. والثاني مؤكّد لغيره. ويجوز أن ينتصب الموصول بفعل يفسّره ما بعده. ووعد الله تعالى بقوله : «سندخلهم» لأنّه بمعنى : نعدهم إدخالهم. وينتصب «حقّا» على أنّه حال من المصدر.

(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) جملة مؤكّدة بليغة. والاستفهام فيه معنى النفي ، أي : لا أحد أصدق من الله قولا فيما أخبر وأوعد ، وفيما وعد. والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانيّة الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه ، أو المبالغة في توكيده ترغيبا للعباد في تحصيله.

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤))

وبعد ذكر الوعد والوعيد قال : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) أي : ليس ما وعد الله تعالى من الثواب ينال بأمانيّكم أيّها المسلمون (وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) ولا بأمانيّ اليهود والنصارى ، وإنّما ينال بالإيمان والعمل الصالح.

وعن الحسن : ليس الإيمان بالتمنّي ، ولكن ما وقر في القلب ، وصدّقه العمل.

روي أنّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب : نبيّنا قبل نبيّكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون : نحن أولى منكم ، لأنّ نبيّنا خاتم النبيّين ، وكتابنا يقضي على الكتب المتقدّمة ، فنزلت هذه الآية.

وقيل : الخطاب مع المشركين. ويدلّ عليه تقدّم ذكرهم ، أي : ليس الأمر بأمانيّ المشركين ، وهو قولهم : لا جنّة ولا نار ، وقولهم : إن كان الأمر كما يزعم

١٥٨

هؤلاء لنكوننّ خيرا منهم وأحسن حالا ، ولا أمانيّ أهل الكتاب ، وهو قولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (١) وقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (٢).

ثمّ قرّر ذلك وقال : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) عاجلا وآجلا ، لما روي عن أبي هريرة قال : لمّا نزلت هذه الآية بكينا وحزنّا وقلنا : يا رسول الله ما أبقت هذه الآية من شيء. فقال : أما والّذي نفسي بيده إنّها فيكم أنزلت ، ولكن أبشروا وقاربوا وسدّدوا ، إنّه لا تصيب أحدا منكم مصيبة إلّا كفّر الله بها خطيئة ، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه. رواه الواحدي (٣) في تفسيره مرفوعا.

وروي أيضا لمّا نزل قال أبو بكر : فمن ينجو مع هذا يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما تحزن؟ أما تمرض؟ أما يصيبك الأذى؟ قال : بلى يا رسول الله. قال : هو ذاك.

(وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ولا يجد لنفسه إذا جاوز موالاة الله تعالى ونصرته من يواليه وينصره في دفع العذاب عنه.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) بعضها أو شيئا منها ، فإنّ كلّ أحد لا يتمكّن من كلّها ، وليس مكلّفا بها (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) في موضع الحال من المستكن في «يعمل» و «من» للبيان ، أو من الصالحات ، أي : كائنة من ذكر أو أنثى. و «من» للابتداء. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور ، تنبيها على أنّه لا اعتداد بالعمل دون الإيمان في استدعاء الثواب (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) بنقص شيء من الثواب ، وإذا لم ينقص ثواب المطيع

__________________

(١) البقرة : ١١١.

(٢) البقرة : ٨٠.

(٣) الوسيط ٢ : ١١٩.

١٥٩

فبالحريّ أن لا يزاد عقاب العاصي ، لأنّ المجازي أرحم الراحمين ، ولذلك اقتصر على ذكره عقيب الثواب.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم : يدخلون ، على البناء للمفعول.

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

ثم بيّن سبحانه من يستحقّ الوعد الّذي ذكره قبل ، فقال : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً) الاستفهام للتقرير ، أي : لا أحد أحسن اعتقادا (مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أخلص نفسه لله لا يعرف لها ربّا سواه. وقيل : بذل وجهه له في السجود. وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنّ ذلك منتهى ما تبلغه القوّة البشريّة (وَهُوَ مُحْسِنٌ) آت بالحسنات ، تارك للسيّئات.

وفي الحديث : «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».

(وَاتَّبَعَ) واقتدى (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الموافقة لدين الإسلام المتّفق على صحّتها ، كالإقرار بالتوحيد وعدله ، وتنزيهه عمّا لا يليق به ، وفعل الصلاة إلى الكعبة ، والطواف حولها ، وسائر المناسك (حَنِيفاً) مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحقّ ، من : تحنّف بمعنى : مال. وهو حال من المتّبع ، أو الملّة ، أو إبراهيم (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) أي : اصطفاه ، وخصّصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند

١٦٠