زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

حقيقته. وقيل : «ما» استفهاميّة ، كأنّه قيل : بأيّ شيء أغويتني؟

ثمّ ابتدأ فقال : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) لأولاد آدم ترصّدا بهم ، كما يقعد القطّاع على الطريق ليقطعه على المارّة (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) طريق الإسلام. ونصبه على الظرف. وقيل : تقديره : على صراطك ، كقولهم : ضرب زيد الظهر والبطن. والمعنى : لأجتهدنّ في إغوائهم حتّى يفسدوا بسببي ، كما فسدت بسببهم.

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي : من جميع الجهات الأربع ، مثل قصده إيّاهم بالتسويل والإضلال من أيّ وجه يمكنه ، بإتيان العدوّ من الجهات الأربع في الغالب ، ولذلك لم يقل : من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

وقيل : لم يقل : من فوقهم ، لأنّ الرحمة تنزل منه. ولم يقل : من تحتهم ، لأنّ الإتيان منه يوحش الناس.

وعن ابن عبّاس : من بين أيديهم من قبل الآخرة ، ومن خلفهم من قبل الدنيا ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيّئاتهم.

والمعنى : أنّي أزيّن لهم الدنيا ، وأخوّفهم بالفقر ، وأقول لهم : لا جنّة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب ، وأثبّطهم عن الحسنات ، وأشغلهم عنها ، وأحبّب إليهم السيّئات ، وأحثّهم عليها.

وقيل : من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرّز عنه ، ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسّر لهم أن يعلموا ويتحرّزوا ، ولكن لم يفعلوا لعدم تيقّظهم واحتياطهم.

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) معناه : أهوّن عليهم أمر الآخرة.

(وَمِنْ خَلْفِهِمْ) آمرهم بجمع الأموال ، والبخل بها عن الحقوق ، لتبقى لورثتهم. (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة.

(وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بتحبيب اللذّات إليهم ، وتغليب الشهوات على قلوبهم». وهذا قريب من قول ابن عبّاس.

٥٠١

وإنّما عدّي الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء لأنّه منهما متوجّه إليهم ، وإلى الآخرين بحرف المجاوزة ، لأنّ الآتي منهما جلس متجافيا عن صاحبهما منحرفا عنه غير ملاصق له ، ثمّ كثر حتّى استعمل في المتجافي وغيره ، كما ذكرناه في «تعال». ونظيره قولهم : جلست عن يمينه أو عن شماله ، وقولهم : رميت عن القوس ، لأنّ السهم يبعد عنها.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة ، قعد له بطريق الإسلام ، فقال له : تدع دين آبائك ، فعصاه فأسلم. ثمّ قعد له بطريق الهجرة ، فقال له : تدع ديارك وتتغرّب ، فعصاه فهاجر. ثمّ قعد له بطريق الجهاد ، فقال له : تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك ، فعصاه فقاتل».

وعن شقيق : ما من صباح إلّا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد : من بين يديّ ، ومن خلفي ، وعن يميني ، وعن شمالي. أمّا من بين يديّ فيقول : لا تخف فإنّ الله غفور رحيم ، فأقرأ : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (١). وأمّا من خلفي فيخوّفني الضيعة على مخلّفي ، فاقرأ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (٢). وأمّا من قبل يميني فيأتيني من قبل الثناء ، فأقرأ : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٣). وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات ، فأقرأ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) (٤).

(وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) مطيعين. وإنّما قاله ظنّا ، لقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (٥) لمّا رأى فيهم مبدأ الشرّ متعدّدا ومبدأ الخير واحدا ،

__________________

(١) طه : ٨٢.

(٢) هود : ٦.

(٣) الأعراف : ١٢٨.

(٤) سبأ : ٥٤.

(٥) سبأ : ٢٠.

٥٠٢

ولأنّه لمّا استنزل آدم ظنّ أنّ ذرّيّته أيضا سيجيبونه ، لكونهم أضعف منه. وقيل : سمعه من الملائكة.

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥))

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بإبليس من الإهانة والإذلال ، وما آتاه آدم من الإكرام والإجلال ، فقال : (قالَ اخْرُجْ مِنْها) من الجنّة ، أو من السماء ، أو من المنزلة الرفيعة

٥٠٣

(مَذْؤُماً) مذموما. من : ذأمه إذا ذمّه. (مَدْحُوراً) مطرودا (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أطاعك واقتدى بك من بني آدم. اللام فيه لتوطئة القسم وجوابه. (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) سدّ مسدّ جواب الشرط. ومعنى «منكم» : منك ومنهم ، فغلّب المخاطب.

(وَيا آدَمُ) أي : وقلنا يا آدم (اسْكُنْ) من السكنى ، لا من السكون (أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) إنّما لم يقل : زوجتك ، لأنّ الإضافة أغنت عن ذكره ، وكان الحذف أحسن ، لما فيه من الإيجاز من غير إخلال بالمعنى (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) أباح سبحانه لهما أن يأكلا منها أين شاءا وما شاءا (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) بالأكل (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) فتصيرا من الباخسين نفوسهم الثواب العظيم. وقد مضى تفسير هذه الآية مشروحا في سورة البقرة (١). و «تكونا» يحتمل الجزم على العطف ، والنصب على الجواب.

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) يقال : وسوس إذا تكلّم كلاما خفيّا يكرّره. ومنه : وسوس الحليّ. وهو فعل غير متعدّ ، كـ : ولولت المرأة ، ووعوع الذئب. ورجل موسوس بكسر الواو. ولا يقال : موسوس بالفتح ، ولكن موسوس له وموسوس إليه ، وهو الّذي يلقى إليه الوسوسة. ومعنى : وسوس له ، فعل الوسوسة لأجله.

ووسوس إليه ألقاها إليه. وهي في الأصل الصوت الخفيّ ، كالهينمة (٢) للصوت الجليّ ، والخشخشة لصوت النعل. وقد سبق في البقرة كيفيّة وسوسته (٣).

(لِيُبْدِيَ لَهُما) ليظهر لهما. واللام للعاقبة ، أو للغرض على أنّه أراد أيضا

__________________

(١) راجع ج ١ : ١٢٦ ذيل الآية ٣٥.

(٢) الهينمة : الكلام أو الصوت الخفيّ. راجع الصحاح ٥ : ٢٠٦٢ ، لسان العرب ١٢ : ٦٢٣.

ولعلّ ما ذكره المفسّر «قدس‌سره» من سهو قلمه الشريف.

(٣) راجع ج ١ : ١٢٧ ذيل الآية ٣٦.

٥٠٤

بوسوسته أن يسوأهما بانكشاف عورتهما ، وذلك لعلمه أنّ من أكل هذه الشجرة بدت عورته ، وأنّ من بدت عورته لا يترك في الجنّة ، ولهذا عبّر عنهما بالسوءة ، فقال : (ما وُورِيَ) ما غطّي (عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) عوراتهما. والمواراة جعل الشيء وراء ما يستره. وإنّما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهور ، كما قلبت في «أو يصل» تصغير «واصل» ، لأنّ الثانية مدّة. وفيه دليل على أنّ كشف العورة من عظائم الأمور ، وأنّه لم يزل مستهجنا في الطباع ، مستقبحا في العقول.

(وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا) أي : كراهة أن تكونا (مَلَكَيْنِ) يعني : أنّه أوهمهما أنّهما إذا أكلا من هذه الشجرة تغيّرت صورتهما إلى صورة الملك. (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) الّذين لا يموتون ، أو يخلدون في الجنّة.

واستدلّ به على فضل الملائكة على الأنبياء. وجوابه : إنّما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما ما للملائكة من الكمالات الفطريّة ، والاستغناء عن الأطعمة والأشربة ، وذلك لا يدلّ على فضلهم مطلقا ، فإنّ الثواب إنّما يستحقّ على الطاعات دون الصور والهيئات. ولا يمتنع أن يكونا رغبا في صور الملائكة وهيئاتها ، ولا يكون ذلك رغبة في الثواب ولا الفضل. ألا ترى أنّهما رغبا في أن يكونا من الخالدين؟ وليس الخلود ممّا يقتضي مزيّة في الثواب ولا الفضل.

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي : أقسم لهما على أنّه من المخلصين النصيحة في دعائهما إلى التناول من هذه الشجرة ، أي : اجتهد في النصيحة اجتهاد المقاسم ، وإخراجه على صورة المفاعلة للمبالغة. وقيل : اقسم لهما بالنصيحة ، وأقسما له بقبولها ، فجعل ذلك مقاسمة.

(فَدَلَّاهُما) فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة ، من تدلية الدلو ، وهو إرسالها في البئر. نبّه به على أنّه أهبطهما بذلك من درجة عالية إلى رتبة سافلة ، فإنّ التدلية

٥٠٥

والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل. (بِغُرُورٍ) بما غرّهما به من القسم ، فإنّهما ظنّا أنّ أحدا لا يحلف بالله كاذبا. أو ملتبسين بغرور. وإنّما يخدع المؤمن بالله.

وعن ابن عمر أنّه كان إذا رأى من عبده حسن صلاة أعتقه. فقيل له : إنّهم يخدعونك. فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له.

(فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) وجدا طعمها آخذين في الأكل منها. وفيه أنّ ذوق الشيء المحرّم يوجب الذمّ ، فكيف استيفاؤه وقضاء الوطر منه؟ (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) تهافت عنهما لباسهما ، وظهرت لهما عوراتهما ، فأبصر كلّ واحد منهما عورة صاحبه ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ، ولا أحدهما من الآخر. وعن عائشة :ما رأيت منه ، ولا رأى منّي. واختلف في أنّ الشجرة كانت السنبلة أو الكرم أو غيرهما ، وأنّ اللباس كان من جنس النور يحول بينها وبين الناظر ، أو حلّة ، أو من جنس الظفر.

(وَطَفِقا يَخْصِفانِ) أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة. يقال : طفق يفعل كذا ، بمعنى : أخذ يفعل. (عَلَيْهِما) على عوراتهما (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ). قيل : كان ورق التين.

(وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) عتاب على ترك الأولى ، وعدم ارتكاب المندوب إليه ، وتوبيخ على الاغترار بقول العدوّ.

ولمّا عاتبهما ووبّخهما على ارتكاب المنهيّ عنه (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) أضررناها بنقص الثواب لأجل ترك المندوب إليه (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) أي : وإن لم تستره علينا ، لأنّ المغفرة هي الستر (وَتَرْحَمْنا) ولم تتفضّل علينا بنعمك الّتي يتمّ بها ما فوّتناه نفوسنا من الثواب (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) من جملة من خسر ولم

٥٠٦

يربح. وهذا نهي تنزيه لا تحريم عندنا ، لأنّ الأنبياء معصومون منزّهون عن ارتكاب القبائح ، لكن قالا ذلك على عادة أولياء الله في استعظام الزلّات ، واستصغار العظيم من الحسنات.

روي أنّ الله سبحانه قال لآدم : ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنّة مندوحة ـ أي : كافية ـ عن هذه الشجرة؟ فقال : بلى وعزّتك ، لكن ما ظننت أنّ أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا. قال : فبعزّتي لأهبطنّك إلى الأرض ، ثمّ لا تنال العيش إلّا كدّا. فأهبط ، وعلّم صنعة الحديد ، وأمر بالحرث ، فحرث وسقى وحصد وداس وذرى وعجن وخبز.

(قالَ اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحوّاء وإبليس. كرّر الأمر ليعلم أنّهم قرناء أبدا (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) في موقع الحال ، أي : متعادين ، يعاديهما إبليس ويعاديانه (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) استقرار ، أي : موضع استقرار (وَمَتاعٌ) وتمتّع وانتفاع بعيش (إِلى حِينٍ) إلى تقضّي آجالكم.

(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ) تعيشون (وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) عند البعث للجزاء.

وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب : تخرجون بفتح التاء وضمّ الراء.

قال الجبائي : في الآية دلالة على أنّ الله سبحانه يخرج العباد يوم القيامة من هذه الأرض الّتي حيوا فيها بعد موتهم ، وأنّه يفنيها بعد أن يخرج العباد منها في يوم الحشر ، وإذا أراد إفناءها زجرهم عنها زجرة فيصيرون إلى أرض أخرى يقال لها : الساهرة ، وتفنى هذه ، كما قال : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١).

__________________

(١) النازعات : ١٤.

٥٠٧

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠))

ولمّا ذكر نعمته على بني آدم في تبوّئه الدار والمستقرّ ، عقّبه بذكر النعمة في الملابس والستر ، فقال خطابا عامّا لجميع أهل القرون والأمصار إلى يوم القيامة : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) أي : خلقناه لكم بتدبيرات سماويّة ، واسباب نازلة منها ، فإنّه قضى وكتب في اللوح المحفوظ. أو لأنّه ينبت بالمطر الّذي ينزل

٥٠٨

من السماء. وقيل : لأنّ البركات تنسب إلى أنّها تأتي من السماء. ونظيره قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) (١). وقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (٢). (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) الّتي قصد الشيطان إبداءها ، ويغنيكم عن خصف الورق.

روي أنّ العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، ويقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله تعالى فيها ، فنزلت.

(وَرِيشاً) ولباسا يتجمّلون به. والريش الجمال ، استعير من ريش الطير ، لأنّه لباسه وزينته. والمعنى : أنزل عليكم لباسين : لباسا يواري عوراتكم ، ولباسا يزينكم. وقيل : مالا ، ومنه تريّش الرجل إذا تموّل.

(وَلِباسُ التَّقْوى) وهو الورع وخشية الله. وقيل : الإيمان. وقيل : السمت الحسن. وقيل : لباس الحرب ، من الدروع والمغافر وغيرهما ممّا يتّقى به في الحرب. وقيل : ستر العورة. ولا مانع من حمل ذلك على الجميع. ورفعه بالابتداء ، وخبره (ذلِكَ خَيْرٌ). أو خبره «خير» ، و «ذلك» صفته ، كأنّه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير. وفي هذه الإشارة تعظيم لباس التقوى. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي : ولباس بالنصب ، عطفا على «لباسا».

(ذلِكَ) أي : إنزال اللباس (مِنْ آياتِ اللهِ) الدالّة على فضله ورحمته على عباده (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيعرفون نعمته. أو يتّعظون فيتورّعون عن القبائح.

وفي الكشّاف : «هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدوّ السوءة وخصف الورق عليها ، إظهارا للمنّة فيما خلق من اللباس ، ولما في العري وكشف العورة من المهانة الفضيحة ، وإشعارا بأنّ التستّر باب عظيم من أبواب التقوى» (٣).

__________________

(١) الزمر : ٦.

(٢) الحديد : ٢٥.

(٣) الكشّاف ٢ : ٩٧.

٥٠٩

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) لا يمتحننّكم ، بأن يمنعكم دخول الجنّة بإغوائه وإضلاله إيّاكم عن الدين (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) كما محن أبويكم ، بأن أخرجهما منها. والنهي لفظا للشيطان ، والمراد نهيهم عن اتّباعه والافتتان به.

(يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) حال من «أبويكم» أو من فاعل «أخرج». وإسناد النزع إليه للتسبّب ، أي : أخرجهما نازعا لباسهما ، بأن كان سببا في أن ينزع عنهما.

(إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) عطف على الضمير في «يراكم» المؤكّد بـ «هو».

والضمير في «إنّه» ضمير الشأن. (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) فيغتالكم من حيث لا تشعرون. وهذا تعليل للنهي ، وتأكيد للتحذير من فتنته. وقبيله : جنوده.

عن ابن عبّاس : إنّ الله جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم ، وصدور بني آدم مساكن لهم ، كما قال تعالى : (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (١). فهم يرون بني آدم ، وبنو آدم لا يرونهم.

وعن قتادة ومالك بن دينار : والله إن عدوّا يراك ولا تراه لشديد المؤونة ، إلّا من عصم الله. وإنّما لا يراهم البشر لأنّ أجسامهم شفّافة لطيفة ، تحتاج رؤيتها إلى فضل شعاع.

وقال : أبو الهذيل : يجوز أن يمكّنهم الله تعالى فيتكشّفوا ، فيراهم حينئذ من يحضرهم. وإليه ذهب عليّ بن عيسى. قال : إنّهم ممكّنون من ذلك. وهو الّذي نصره الشيخ المفيد أبو عبد الله رحمه‌الله. وقال الشيخ أبو جعفر قدس‌سره : وهو الأقوى عندي.

(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) خلّينا بينهم ، لم نكفّهم عنهم حتّى تولّوهم وأطاعوهم فيما سوّلوا لهم من مخالفة الله. وهذا تحذير آخر

__________________

(١) الناس : ٥.

٥١٠

أبلغ من الأوّل.

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) فعلة متناهية في القبح ، كعبادة الصنم وكشف العورة في الطواف ، فنهوا عنه (قالُوا) في جواب الناهي (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) اعتذروا واحتجّوا بأمرين : تقليد الآباء ، والافتراء على الله. فأعرض عن الأوّل ، لظهور فساده ، وردّ الثاني بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) لأنّ فعل القبيح مستحيل عليه ، لعدم الداعي ، ووجود الصارف ، فكيف يأمر بفعله؟ (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) إنكار لإضافتهم القبيح إليه ، وشهادة عليهم بالجهل ، متضمّنا للنهي عن الافتراء على الله تعالى.

عن الحسن : إنّ الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى العرب وهم قدريّة مجبّرة يحملون ذنوبهم على الله. وتصديقه قول الله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) إلى قوله : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بالعدل. وهو الوسط من كلّ أمر ، المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط ، يشهد العقل المستقيم أنّه حقّ حسن. وقيل : هو التوحيد.

(وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) أي : وقل توجّهوا إلى عبادته ، واقصدوها مستقيمين ، غير عادلين إلى غيرها. أو أقيموها نحو القبلة. (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) في كلّ وقت سجود أو مكانه ، وهو الصلاة ، أو في أيّ مسجد حضرتكم الصلاة ، ولا تقولوا حتى نرجع إلى مسجدنا. أو اقصدوا المسجد في وقت كلّ صلاة أمر بالجماعة لها ندبا عند الأكثرين ، وحتما عند الأقلّين.

(وَادْعُوهُ) واعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : الطاعة ، مبتغين بها وجهه خالصا ، فإنّ إليه مصيركم لا غير (كَما بَدَأَكُمْ) كما أنشأكم ابتداء (تَعُودُونَ) بإعادته ، فيجازيكم على أعمالكم ، فإنّه ليس بعثكم أشدّ من ابتدائكم. احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق. والمعنى : أنّه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم ، فأخلصوا له العبادة. وإنّما شبّه الإعادة بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها.

٥١١

وقيل : كما بدأكم من التراب تعودون إليه.

وقيل : كما بدأكم حفاة عراة غرلا (١) تعودون.

وقيل : معناه : تبعثون على ما متّم عليه ، المؤمن على إيمانه ، والكافر على كفره.

(فَرِيقاً هَدى) وهم المؤمنون ، وفّقهم للإيمان (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي : الخذلان ، إذ لم يقبلوا الهدى ، ولم يكن لهم لطف ، فهم يضلّون ولا يهتدون.

و «فريقا» منصوب بفعل مضمر يفسّره ما بعده ، والتقدير : وخذل فريقا حقّ عليهم الضلالة. وهذا دليل على أنّ علم الله لا أثر له في ضلالهم ، وأنّهم هم الضالّون باختيارهم.

(إِنَّهُمُ) الفريق الّذين حقّ عليهم الضلالة (اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) أطاعوهم فيما أمروهم (مِنْ دُونِ اللهِ). وهذا تعليل لخذلانهم ، وتحقيق لضلالتهم ، ودليل على أنّ مولاهم في الضلالة الشيطان دون الله. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) وهم مع ذلك يظنّون أنّهم في ذلك على هداية وحقّ.

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١))

ولمّا تقدّم ذكر ما أنعم سبحانه على عباده من اللباس والرزق ، أمرهم في اثرها بتناول الزينة والتستّر والاقتصاد في المأكل والمشرب ، فقال : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) ثيابكم الّتي تتزيّنون بها (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي : كلّ صلاة.

وروى العيّاشي بإسناده : «أنّ الحسن بن عليّ عليه‌السلام كان إذا قام إلى الصلاة لبس

__________________

(١) غرل الصبيّ : لم يختن ، فهو أغرل ، وجمعه : غرل.

٥١٢

أجود ثيابه. فقيل له : يا ابن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال : إنّ الله جميل يحبّ الجمال ، فأتجمّل لربّي ، وهو يقول : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فأحبّ أن ألبس أجود ثيابي» (١).

وقيل : خذوا زينتكم للصلاة في الجمعات والأعياد. وهذا مرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وقيل : هو أمر بلبس الثياب في الصلاة والطواف ، وكانوا يطوفون عراة ، وقالوا : إنّا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها ، كما مرّ (٢). وكان يطوف الرجال بالنهار والنساء بالليل. وفيه دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة والطواف.

وقيل : أخذ الزينة هو التمشّط عند كلّ صلاة. وهو المرويّ عن الصادق عليه‌السلام.

وروي أنّ بني عامر في أيّام حجّهم كانوا لا يأكلون الطعام إلّا قوتا ، ولا يأكلون دسما ، يعظّمون بذلك حجّهم ، فقال المسلمون : فإنّا أحقّ أن نفعل ، فقال الله سبحانه : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) أي : لا تأكلوا محرّما ، فإنّ أكل الحرام وإن قلّ إسراف ومجاوزة عن الحدّ ، ولا حلالا على وجه لا يحلّ ، كمن لا يملك إلّا دينارا فاشترى به طيبا فتطيّب به وترك عياله محتاجين. أو ولا تسرفوا بإفراط الطعام والشره عليه. عن ابن عبّاس : كل ما شئت والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة (٣). (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) لا يرتضي فعلهم.

وقد حكي أنّ الرشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق ، فقال ذات يوم لعليّ بن الحسين بن واقد : أليس في كتابكم من علم الطبّ شيء ، والعلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان؟

فقال له عليّ : قد جمع الله الطبّ كلّه في نصف آية من كتابه ، وهو قوله : «كلوا

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ١٤ ح ٢٩.

(٢) في ص : ٥٠٩.

(٣) المخيلة : الكبر.

٥١٣

واشربوا ولا تسرفوا».

فقال النصراني : أيؤثر من رسولكم شيء في الطبّ؟

فقال : جمع نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطبّ في ألفاظ يسيرة.

قال : وما هي؟

قال : قوله : «المعدة بيت الداء ، والحمية راس كلّ دواء ، وأعط كلّ بدن ما عوّدته».

فقال الطبيب : ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا.

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢))

ولمّا حثّ الله سبحانه على أخذ الزينة عند كلّ مسجد وندب إليه ، وأباح الأكل والشرب ، ونهى عن الإسراف ، وكان قوم من العرب يحرّمون كثيرا من هذا الجنس ، حتّى إنّهم كانوا يحرّمون السمون والألبان في الإحرام ، ويحرّمون السوائب والبحائر ، أنكر عزّ اسمه ذلك عليهم ، فقال : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) من الثياب وسائر ما يتجمّل به (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) من النبات كالقطن والكتّان ، والحيوان كالحرير والصوف ، والمعادن كالدروع (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) المستلذّات من المآكل والمشارب. وفيه دليل على أنّ الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجمّلات الإباحة ، لأنّ الاستفهام في «من» للإنكار.

(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالأصالة. والكفّار وإن شاركوهم فيها فتبع (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) لا يشاركهم فيها غيرهم. وانتصابها على الحال. وقرأ

٥١٤

نافع بالرفع ، على أنّها خبر بعد خبر.

(كَذلِكَ) أي : كتفصيلنا هذا الحكم (نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) نفصّل سائر الأحكام لأهل العلم وأرباب العقول.

وفي هذه الآية دلالة على جواز لبس الثياب الفاخرة ، وأكل الأطعمة الطيّبة من الحلال.

وروى العيّاشي بإسناده عن الحسن بن زيد ، عن عمر بن عليّ ، عن أبيه زين العابدين عليّ بن الحسين عليه‌السلام : «أنّه كان يشتري كساء الخزّ بخمسين دينارا ، فإذا أصاف (١) تصدّق به ، ولا يرى به بأسا ، ويقول : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) الآية» (٢).

وبإسناده عن يوسف بن إبراهيم ، قال : «دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام وعليّ جبّة خزّ وطيلسان خزّ ، فنظر إليّ فقلت : جعلت فداك هذا خزّ ما تقول فيه؟ فقال عليه‌السلام : لا بأس بالخزّ. قلت : وسداه (٣) إبريسم. قال : لا بأس به ، فقد أصيب الحسين عليه‌السلام وعليه جبّة خزّ. ثمّ قال : إنّ عبد الله بن عبّاس لمّا بعثه أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه ، وتطيّب بأطيب طيبه ، وركب أفضل مراكبه ، فخرج إليهم فوافقهم. فقالوا : يا ابن عبّاس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم. فتلا هذه الآية : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) إلى آخرها. فألبس وأتجمّل ، فإنّ الله جميل يحبّ الجمال ، وليكن من حلال» (٤).

وفي الآية دلالة أيضا على أنّ الأشياء على الإباحة ، لقوله : «من حرّم».

فالسمع ورد مؤكّدا لما في العقل.

__________________

(١) أي : دخل في الصيف.

(٢) تفسير العيّاشي ٢ : ١٦ ح ٣٥.

(٣) السدى والسداة من الثوب : ما مدّ من خيوطه ، والجمع : أسدية.

(٤) تفسير العيّاشي ٢ : ١٥ ح ٣٢.

٥١٥

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣))

ثمّ بيّن سبحانه المحرّمات ، فقال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) ما تفاحش قبحه ، أي : تزايد. وقيل : هي ما يتعلّق بالفروج. (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) ما علن منها وما خفي.

(وَالْإِثْمَ) وما يوجب الإثم. تعميم بعد تخصيص. وقيل : شرب الخمر.

(وَالْبَغْيَ) الظلم أو الكبر. أفرده بالذكر للمبالغة ، كما قال : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (١). (بِغَيْرِ الْحَقِ) متعلّق بـ «البغي» ، مؤكّد له معنى.

(وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) تهكّم بالمشركين ، لأنّه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره ، وتنبيه على تحريم اتّباع ما لم يدلّ عليه برهان.

(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) بالإلحاد في صفاته ، والافتراء عليه ، كقولهم : الله أمرنا بها.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤))

ثمّ بيّن ما فيه تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تأخير عذاب الكفّار ، ووعيد لهم بالعذاب النازل عند الأجل المقدّر ، فقال : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مدّة أو وقت لنزول العذاب بهم

__________________

(١) النحل : ٩٠.

٥١٦

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) انقرضت مدّتهم ، أو حان وقتهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي : لا يتأخّرون ولا يتقدّمون أقصر وقت. أو لا يطلبون التأخّر والتقدّم لشدّة الهول.

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩))

ثمّ خاطب جميع المكلّفين من بني آدم ، فقال : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ)

٥١٧

أي : إن يأتكم. و «ما» زائدة. (رُسُلٌ مِنْكُمْ) من جنسكم (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) ذكر الشرط بحرف الشكّ في مقام الجزم لتنزيل المخاطب العالم بوقوع الشرط عقلا منزلة الجاهل ، لمخالفته مقتضى العلم. وضمّت إليها «ما» تأكيدا لمعنى الشرط ، ولذلك أكّد فعلها بالنون وجوابه. (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ) فمن اتّقى التكذيب وأصلح عمله منكم (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الآخرة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) منكم (بِآياتِنا) بحججنا (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) عن قبولها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون على وجه الدوام. وإدخال الفاء في الخبر الأوّل دون الثاني ، للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد.

(فَمَنْ أَظْلَمُ) فمن أشنع ظلما (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ممّن تقوّل عليه ما لم يقله (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أو كذّب ما قاله. والمراد بالاستفهام الإخبار ، وإنّما جاء بصورة الاستفهام ليكون أبلغ. (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) ممّا كتب لهم من الأرزاق والأعمار. وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ ، أي : ممّا أثبت لهم فيه.

(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) أي : ملك الموت وأعوانه (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) يتوفّون أرواحهم. وهو حال من الرسل ، و «حتّى» غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له ، أي : إلى وقت وفاتهم ، وهي الّتي يبتدأ بعدها الكلام. والمستأنف هاهنا الجملة الشرطيّة.

والمعنى : حتّى إذا استوفوا أرزاقهم وآجالهم ، وجاءهم ملك الموت مع أعوانه.

(قالُوا) جواب «إذا» أي ، قال الرسل توبيخا لهم : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أين الآلهة التي كنتم تعبدونها؟ ولفظة «ما» وصلت بـ «أين» في خطّ المصحف ، وحقّها الفصل ، لأنّها موصولة.

٥١٨

(قالُوا ضَلُّوا) أي : غابوا (عَنَّا) فلا نراهم ولا ننتفع بهم (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) اعترفوا بأنّهم كانوا ضالّين فيما كانوا عليه.

(قالَ) أي : قال الله تعالى لهم يوم القيامة ، أو أحد من الملائكة : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعني : كفّار الأمم الماضية من النوعين (فِي النَّارِ) متعلّق بـ «ادخلوا» أي : ادخلوا في النار مع أمم قد مضت من قبلكم ، وتقدّم زمانهم زمانكم.

(كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) في النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) شبيهتها في الدين. وهم الّذين ضلّوا بالاقتداء بهم. (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) أي : تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار (قالَتْ أُخْراهُمْ) دخولا أو منزلة. وهم الأتباع والسفلة.

(لِأُولاهُمْ) أي : لأجل أولاهم ، إذ الخطاب مع الله لا معهم. وهم القادة والرؤساء لهم. (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) سنّوا لنا الضلال ، ودعونا إليه ، فاقتدينا بهم.

قال الصادق عليه‌السلام : «هم أئمّة الجور».

(فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) مضاعفا (مِنَ النَّارِ) لأنّهم ضلّوا وأضلّوا.

(قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي : لكلّ من رؤساء الضلالة وأتباعهم عذاب مضاعف.

أمّا القادة فبكفرهم وتضليلهم. وأمّا الأتباع فبكفرهم وتقليدهم. أو لأنّ كلّا منهم كانوا ضالّين ومضلّين. (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ما لكم أو ما لكلّ فريق. وقرأ عاصم بالياء على الغيبة ، ردّا على قوله : «لكلّ ضعف».

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) وقال الرؤساء للأتباع : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) عطفوا كلامهم على قول الله تعالى : «لكلّ ضعف» أي : فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا ولا تفاوت في الكفر ، حتّى تطلبوا من الله أن يزيد في عذابنا وينقص من عذابكم ، بل إنّا وإيّاكم مساوون في الضلال ، واستحقاق ضعف العذاب. (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من قول القادة ، أو من قول الله لكلا الفريقين.

٥١٩

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١))

ثمّ عاد الكلام إلى الوعيد ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي : عن الإيمان بها (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أي : لا يصعد لهم أدعيتهم وأعمالهم ، كما تفتّح لأعمال المؤمنين ، كقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (١).

وقيل : لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا ، كما تصعد أرواح المؤمنين لتتّصل بالملائكة.

وقيل : لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون ، كما قال : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) (٢).

والتاء في «تفتّح» لتأنيث الأبواب ، والتشديد لكثرتها. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف ، وحمزة والكسائي به وبالياء ، لأنّ التأنيث غير حقيقيّ ، والفعل مقدّم.

(وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي : حتّى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم ـ وهو البعير ـ فيما هو مثل في ضيق المسلك ـ وهو ثقبة الإبرة ـ وذلك ممّا لا يكون ، فكذا ما يتوقّف عليه. وهذا كما تقول العرب في التبعيد

__________________

(١) فاطر : ١٠.

(٢) القمر : ١١.

٥٢٠