زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

(وَدَرَسُوا ما فِيهِ) وقرءوا ما فيه. عطف على «ألم يؤخذ» من حيث المعنى ، فكأنّه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه ، فإنّه تقرير. أو على «ورثوا» ، وهو اعتراض.

(وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) من ذلك العرض الحقير (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ممّا يأخذ هؤلاء (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فيعلموا ذلك ، ولا يستبدلوا الأدنى المؤدّي إلى العقاب بالنعيم المخلّد. وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين.

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) عطف على (الَّذِينَ يَتَّقُونَ). وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) اعتراض ، أي خير للّذين لا يحرّفونه ولا يكتمونه ، ويعملون بكلّ ما فيه.

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إفراد إقامتها لإنافتها على سائر أنواع التمسّكات. ويجوز أن تكون الجملة الموصولة مبتدأ خبره : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) على تقدير : منهم. أو وضع الظاهر موضع المضمر ، تنبيها على أنّ الإصلاح كالمانع من التضييع.

وقرأ أبو بكر : يمسكون بالتخفيف.

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١))

ثمّ عاد الكلام إلى قوم موسى عليه‌السلام فقال : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) أي : قلعناه ورفعناه فوقهم ، كقوله : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) (١). وأصل النتق الجذب. (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) سقيفة. وهي : كلّ ما أظلّك. (وَظَنُّوا) وتيقّنوا (أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) ساقط عليهم ، لأنّ الجبل لا يثبت في الجوّ ، ولأنّهم كانوا يوعدون به ، وذلك لأنّهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ، فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم ، وكان فرسخا

__________________

(١) البقرة : ٦٣.

٦٢١

في فرسخ. وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلّا ليقعنّ عليكم ، فلمّا نظروا إلى الجبل خرّوا سجّدا على أحد شقّي وجوههم ، ينظرون إلى الجبل خوفا من سقوطه.

وقوله : (خُذُوا) على إضمار القول ، أي : وقلنا : خذوا ، أو قائلين : خذوا (ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بجدّ وعزم على تحمّل مشاقّه. وهو حال من الواو. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من الأوامر والنواهي ، فاعملوا به ولا تتركوه كالمنسيّ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فضائح الأعمال ورذائل الأخلاق.

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))

ثمّ ذكر سبحانه ما أخذ على الخلق من المواثيق بعقولهم عقيب ذكر المواثيق الّتي في الكتب ، جمعا بين دلائل السمع والعقل ، وإبلاغا في إقامة الحجّة ، فقال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي : أخرج من أصلابهم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن. و «من ظهورهم» بدل من «بني آدم» بدل البعض. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب : ذرّيّاتهم. ومن أفرد فللاستغناء عن جمعه ، لوقوعه

٦٢٢

على الجمع ، ألا ترى إلى قوله : (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) (١).

وقوله : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) من باب التمثيل. والمعنى في ذلك : أنّه نصب لهم الأدلّة على ربوبيّته ، وركّب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها ، وجعلها مميّزة بين الضلالة والهداية ، حتّى صاروا بمنزلة من قيل لهم : ألست بربّكم؟ قالوا : بلى شهدنا ، أي : أقررنا بربوبيّتك. فنزّل تمكينهم من العلم بها وتمكّنهم منه بمنزلة الإشهاد والاعتراف ، على طريقة التمثيل.

وقوله : (أَنْ تَقُولُوا) مفعول له على حذف المضاف ، أي : نصبنا الأدلّة الّتي تشهد العقول على صحّتها كراهة أن تقولوا (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) لم ننبّه عليه بدليل.

(أَوْ تَقُولُوا) عطف على (أَنْ تَقُولُوا). وقرأ أبو عمرو كليهما بالياء على الغيبة ، لأنّ أوّل الكلام على الغيبة ، أي : كراهة أن يقولوا كذا أو يقولوا : (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاقتدينا بهم (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) يعني : آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك. ولمّا كان نصب الأدلّة على التوحيد قائما معهم ، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على تقليد الآباء والاقتداء بهم ، كما لا عذر لآبائهم في الشرك ، لأنّه نصبت الأدلّة لهم أيضا على التوحيد ، فهذا العذر منهم أيضا غير صحيح.

وقيل : لمّا خلق الله آدم أخرج من ظهره ذرّيّة كالذرّ وأحياهم ، وجعل لهم العقل والنطق ، وألهمهم ذلك. والقول الأوّل أشهر بين المفسّرين وأصحّ.

ولا شبهة أنّ المقصود من إيراد هذا الكلام هنا إلزام اليهود بمقتضى الميثاق العامّ بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص ، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعيّة والعقليّة ، ومنعهم عن التقليد ، وحملهم على النظر والاستدلال ، كما قال : (وَكَذلِكَ)

__________________

(١) الأعراف : ١٧٣.

٦٢٣

أي : ومثل ذلك التفصيل البليغ (نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي : عن التقليد واتّباع الباطل.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨))

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرأ عليهم قصّة أخرى من أخبار بني إسرائيل ، فقال : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي : على اليهود (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) هو عالم من علماء بني إسرائيل من الكنعانيّين ، اسمه بلعم بن باعوراء ، أوتي علم بعض كتب الله تعالى ، وعنده الاسم الأعظم. وهو مرويّ عن الباقر عليه‌السلام.

وقيل : هو أميّة بن أبي الصلت ، كان قد قرأ الكتب ، وعلم أنّ الله تعالى مرسل رسولا في ذلك الزمان ، ورجا أن يكون هو ، فلمّا بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسده وكفر به.

(فَانْسَلَخَ مِنْها) من الآيات ، بأن كفر بها وأعرض عنها ، كالشيء الّذي ينسلخ من الجلد (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) تبعه ولحقه فأدركه ، وصار قرينا له حتّى أضلّه. وتبع وأتبع واتّبع بمعنى. وقيل : استتبعه. (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ)

٦٢٤

فصار من الضالّين.

روي أنّ قومه سألوه أن يدعو على موسى ومن معه. فقال : كيف أدعو على من معه الملائكة؟ فألحّوا عليه حتى دعا عليهم ، فبقوا في التيه.

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ) إلى منازل الأبرار من العلماء (بِها) بسبب تلك الآيات وملازمتها (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) مال إلى الدنيا ورغب فيها ، أو إلى السفالة والدناءة (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في إيثار الدنيا واسترضاء قومه ، وأعرض عن مقتضى الآيات. وكان أصل الكلام أن يقول : ولكنّه أعرض عنها ، فأوقع موقعه (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) مبالغة ، وتنبيها على ما حمله عليه ، وأنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة.

وإنّما علّق الله سبحانه رفعه بمشيئة الله ، ولم يعلّقه بفعله الّذي يستحقّ به الرفع ، لأنّ مشيئة الله رفعه تابعة للزومه الآيات ، فذكرت المشيئة ، والمراد ما هي تابعة له ومسبّبة عنه ، كأنّه قيل : ولو لزمها لرفعناه بها. ألا ترى إلى قوله : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) فإنّه تعالى استدرك مشيئته بإخلاده الّذي هو فعله ، فوجب أن يكون (وَلَوْ شِئْنا) في معنى ما هو فعله ، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال : لرفعناه ولكنّا لم نشأ.

ثمّ ضرب مثلا لكلّ مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة ، فقال : (فَمَثَلُهُ) فصفته الّتي هي مثل في الخسّة (كَمَثَلِ الْكَلْبِ) كصفته في أخسّ أحواله ، وهو (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي : يلهث دائما ، سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرّض له ، أي : يتّصل لهثه في الحالين جميعا ، وذلك لضعف فؤاده ، بخلاف سائر الحيوانات ، فإنّها لا تلهث إلّا حين هيجت. واللهث إدلاع اللسان من التنفّس الشديد. والشرطيّة في موضع الحال. والمعنى : لاهثا في الحالتين ، أي : إن وعظته فهو ضالّ ، وإن لم تعظه فهو ضالّ. ومثله قوله تعالى :

٦٢٥

(سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١).

وقيل : شبّه بالكلب إذا أخرج لسانه لإيذاء الناس بلسانه ، حملت عليه أو تركته. والتمثيل واقع موقع لازم التركيب الّذي هو نفي الرفع ، ووضع المنزلة للمبالغة.

وقيل : لمّا دعا على موسى خرج لسانه فوقع على صدره ، وجعل يلهث كالكلب.

(ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) من اليهود ، بعد ما قرءوا نعت رسول الله في التوراة ، وبشّروا الناس بقرب مبعثه ، وكانوا يستفتحون به (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) أي : قصّة بلعم على اليهود ، فإنّها نحو قصصهم (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) تفكّرا يؤدّي بهم إلى الاتّعاظ ، فيحذرون مثل عاقبته ، إذ ساروا بسيرته ، وزاغوا شبه زيغه ، ويعلمون أنّك علمته من جهة الوحي فتزداد الحجّة لزوما لهم.

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) أي : مثل القوم (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بعد قيام الحجّة عليهم وعلمهم بها. وقوله : (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) إمّا أن يكون داخلا في الصلة معطوفا على «كذّبوا» بمعنى : الّذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم.

أو منقطعا عنها ، بمعنى : وما ظلموا بالتكذيب إلّا أنفسهم ، فإنّ وباله لا يتخطّاها ، ولذلك قدّم المفعول ، فكأنّه قيل : رخّصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ) إلى نيل الثواب ، أو الّذي هداه الله فقبل الهداية وأجاب إليها (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) للإيمان (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي : يضلله الله عن طريق الجنّة ، وعن نيل الثواب ، عقوبة على كفره وفسقه. أو الّذي اختار الضلالة فخلّى الله بينه وبين ما اختاره ، ولم يمنعه منه بالجبر. (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسروا أنفسهم في حرمانهم عن الجنّة. وإفراد الضمير أوّلا والجمع ثانيا باعتبار اللفظ والمعنى ، تنبيها

__________________

(١) الأعراف : ١٩٣.

٦٢٦

على أنّ المهتدين كواحد ، لاتّحاد طريقهم ، بخلاف الضالّين.

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩))

ولمّا بيّن سبحانه أمر الكفّار وضرب لهم الأمثال ، عقّبه ببيان حالهم في المصير والمآل ، فقال : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) اللام للعاقبة ، أي : خلقنا كثيرا من الثقلين على أنّ مصيرهم إلى جهنّم بسوء اختيارهم. وهم الكفّار المصرّون على الكفر ، المعاندون المكابرون ، فما أثّر اللطف فيهم.

ثم فصّل بيان حالهم بقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أي : لا يلقون أذهانهم إلى النظر في دلائل معرفة الله (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) أي : لا ينظرون إلى مخلوقاته نظر اعتبار (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أي : لا يسمعون ما يتلى عليهم من المواعظ والأذكار ، سماع تأمّل وتذكّر ، فلا يأتي منهم إلّا أفعال أهل النار ، فكأنّهم مخلوقون لها.

(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) في عدم الفقه والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبّر ، أو في أنّ مشاعرهم وقواهم متوجّهة إلى أسباب التعيّش مقصورة عليها (بَلْ هُمْ أَضَلُ) فإنّ البهائم إذا زجرت انزجرت ، وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت ، وتدرك من المنافع والمضارّ ، وتجتهد في جذبها ودفعها غاية جهدها ، وهؤلاء لا يهتدون إلى شيء من أمور الدين ، مع ما ركّب فيهم من العقول الدالّة على الرشاد ، والصارفة عن العناد.

(أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون في الغفلة.

٦٢٧

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١))

وبعد ذكر أهل العناد رغّب العباد إلى طريق التوحيد ، فقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الّتي هي أحسن الأسماء ، لأنّها دالّة على معاني هي أحسن المعاني ، بعضها يرجع إلى صفات ذاته ، كالعالم والقادر والحيّ والإله ، وبعضها يرجع إلى صفات فعله ، كالخالق والرازق والبارئ والمصوّر ، وبعضها يفيد التمجيد والتقديس ، كالغنيّ والواحد (فَادْعُوهُ بِها) فسمّوه بتلك الأسماء.

(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) واتركوا الّذين يعدلون بأسمائه عمّا هي عليه ، فيسمّون بها أصنامهم ، أو يصفونه بما لا يليق به ، كإسناد القبائح وخلق الفحشاء والمنكر إليه ، وكذا نسبة التشبيه إليه ، كالرؤية ونحوها. أو يسمّونه بما لا يجوز تسميته به ، إذ ربّما يوهم معنى فاسدا ، كقولهم : يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه. وهذا دالّ على أنّ أسماء الله توقيفيّة. أو ذروهم وإلحادهم فيها ، بإطلاقها على الأصنام ، وباشتقاق أسمائها منها ، كاللات من الله ، والعزّى من العزيز ، ولا توافقوهم عليه ، أو أعرضوا عنهم ، فإنّ الله مجازيهم ، كما قال : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : جزاء عملهم.

وقرأ حمزة : يلحدون بالفتح. يقال : لحد وألحد ، إذا مال عن القصد.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) أي : جماعة يدعون الناس إلى توحيد الله وأحكامه (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وبالحقّ يحكمون.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يقول إذا قرأها : «هذه لكم ، وقد أعطي القوم بين

٦٢٨

أيديكم مثلها : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) (١)». الآية.

وقال الربيع بن أنس : قرأ النبيّ هذه الآية فقال : «إنّ من أمّتي قوما على الحقّ حتّى ينزل عيسى عليه‌السلام».

وعن عليّ عليه‌السلام : «والّذي نفسي بيده لتفترقنّ الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلّها في النار إلّا فرقة واحدة : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ) الآية ، فهذه الّتي تنجو».

وعن الباقر والصادق عليهما‌السلام أنّهما قالا : «نحن هم».

واستدلّ به على صحّة الإجماع ، لأنّ المراد منه أنّ في كلّ قرن طائفة بهذه الصفة ، لقوله عليه‌السلام : «لا تزال من أمّتي طائفة على الحقّ إلى أن يأتي أمر الله» ، إذ لو اختصّ بعهد الرسول أو غيره لم تكن لذكره فائدة ، فإنّه معلوم.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))

ولمّا ذكر سبحانه المؤمنين بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهادين بالحقّ ، ذكر بعده المكذّبين

__________________

(١) الأعراف : ١٥٩.

٦٢٩

بآياته ، فقال : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة. والمعنى : سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا حتى يقعوا فيه بغتة. (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ما نريد بهم ، وذلك بأن تتواتر عليهم النعم ، فيظنّوا أنّها لطف من الله تعالى بهم ، فيزدادوا بطرا وانهماكا في الغيّ ، حتى يحقّ عليهم كلمة العذاب.

(وَأُمْلِي لَهُمْ) عطف على (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي : أمهلهم ولا أعاجلهم بالعقوبة (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) إنّ أخذي شديد. وإنّما سمّاه كيدا لأنّه شبيه به ، فإنّه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان.

عن قتادة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان على الصفا فدعاهم فخذا فخذا إلى توحيد الله ، يحذّرهم بأس الله. فقال قائلهم : إنّ صاحبكم لمجنون ، بات يهوّت (١) إلى الصباح ، فنزلت : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ)

ألم يتفكّر هؤلاء الكفّار فيعلموا ما بصاحبهم ـ يعني : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (مِنْ جِنَّةٍ) جنون (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) موضّح إنذاره بحيث لا يخفى على أحد.

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) نظر استدلال (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيما تدلّان على وجوب وجوبه ووحدانيّته (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) وفيما خلق الله ممّا يقع عليه اسم الشيء من أجناس خلقه الّتي لا يمكن حصرها ، ليدلّهم على كمال قدرة صانعها ، ووحدة مبدعها ، وعظم شأن مالكها ومتولّي أمرها ، ليظهر لهم صحّة ما يدعوهم إليه.

(وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) عطف على «ملكوت». و «أن» مصدريّة أو مخفّفة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن. وكذا اسم «يكون». والمعنى : أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقّع حلولها ، فيسارعوا إلى طلب الحقّ والتوجّه

__________________

(١) أي : يصيح من : هوّت تهويتا به ، أي : صاح.

٦٣٠

إلى ما ينجيهم ، قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب؟ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي : بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) إذا لم يؤمنوا به؟ وهو النهاية في البيان ، كأنّه إخبار عنهم بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجّة والإرشاد إلى النظر.

قال في الكشّاف : «قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) متعلّق بقوله : (عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) كأنّه قيل : لعلّ أجلهم قد اقترب ، فما بالهم لا يبادرون إلى الايمان بالقرآن قبل الفوت؟ وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقّ؟ فإن لم يؤمنوا به فبأيّ حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا به» (١).

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي : يخلّه ويمنعه عن التوفيق ، لتوغّله في العناد (فَلا هادِيَ لَهُ) من بعد الله (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) بالرفع على الاستئناف. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء ، لقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ). وحمزة والكسائي به وبالجزم ، عطفا على محلّ (فَلا هادِيَ لَهُ) ، كأنّه قيل : لا يهده أحد غيره ويذرهم في ضلالتهم.

(يَعْمَهُونَ) يتحيّرون. وهو حال من «هم».

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧))

ولمّا تقدّم الوعيد بالساعة سألوا عن وقتها ، فقال سبحانه :

__________________

(١) الكشاف ٢ : ١٨٢ ـ ١٨٣.

٦٣١

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) أي : القيامة. وهي من الأسماء الغالبة ، كالنجم للثريّا. وإطلاقها عليها إمّا لوقوعها بغتة ، أو لسرعة حسابها ، أو لأنّها على طولها عند الله تعالى كساعة. (أَيَّانَ مُرْساها) متى إرساؤها؟ أي : إثباتها. واشتقاق أيّان من أيّ ، لأنّ معناه : أيّ وقت؟ وهو من : أويت ، لأنّ البعض آو إلى الكلّ متساند إليه. والإرساء من الرسو ، بمعنى الثبوت ، فإنّ رسو الشيء ثباته واستقراره ، ومنه : رسا الجبل ، وأرسى السفينة.

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها) علم إرسائها (عِنْدَ رَبِّي) يعني : استأثر به لم يطلع عليه ملكا مقرّبا ولا نبيّا مرسلا ، فضلا عن غيرهما من خلقه ، ليكون العباد على حذر منه ، وذلك أدعى لهم إلى الطاعة ، وأزجر عن المعصية ، كما أخفى سبحانه وقت الموت لذلك (لا يُجَلِّيها) لا يظهر أمرها ، ولا يكشف خفاء علمها (لِوَقْتِها) في وقتها (إِلَّا هُوَ) يعني : أنّ الخفاء بها مستمرّ على غيره إلى وقت وقوعها. واللام للتوقيت ، كاللام في قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) (١).

(ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كثرت وعظمت على أهلها من الملائكة والجنّ والإنس ، لأهوالها وشدائدها. وكأنّه إشارة إلى الحكمة في إخفائها. (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) فجأة على غفلة.

وفي الحديث : «أنّ الساعة تهيج بالناس ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقوّم سلعته في سوقه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه».

(يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) عالم بها. فعيل من : حفي عن الشيء إذا سأل عنه ، وحفي بفلان يحفي به بالغ في البرّ به ، فإنّ من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه ، ولذلك عدّي بـ «عن».

وقيل : هي صلة الفعل ، أي : يسألونك عنها كأنّك حفيّ عالم بها.

وقيل : من الحفاوة ، بمعنى الشفقة ، فإنّ قريشا قالوا له : إنّ بيننا وبينك قرابة ،

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

٦٣٢

فقل لنا متى الساعة؟ ومعناه حينئذ : يسألونك عنها كأنّك حفيّ تتحفّى بهم ، فتخصّهم لأجل قرابتهم بتعليم وقتها.

وقيل : معناه : كأنّك حفيّ بالسؤال عنها ، أي : تحبّه في زعمهم ، والحال أنّك تكره السؤال عنها ، لأنّه من الغيب الّذي استأثره الله تعالى بعلمه ، من : حفي بالشيء إذا فرح.

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) كرّره لتكرير «يسألونك» ، لما نيط به من هذه الزيادة ، وللمبالغة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن علمها عند الله ، ولم يؤته أحدا من خلقه.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))

ولمّا تقدّم إجابة القوم بأنّه لا يعلم الغيب ، عقّبه بأنّ علم الغيب يختصّ به المالك للنفع والضرّ ، وهو الله سبحانه ، فقال : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً) أي : جلب نفع (وَلا ضَرًّا) ولا دفع ضرر. وهو إظهار للعبوديّة ، والانتفاء عمّا يختصّ بالربوبيّة من العلم بالغيوب (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ربّي ومالكي من النفع لي والدفع عنّي ، فيلهمني إيّاه ويوفّقني له.

(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي : ولو كنت أعلمه لكانت حالي على خلاف ما هي عليه ، فكنت استكثر المنافع واجتنب المضارّ حتّى لا يمسّني شيء منها ، ولم أكن غالبا مرّة ومغلوبا أخرى في الحروب ،

٦٣٣

ورابحا مرّة وخاسرا أخرى (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) ما أنا إلّا عبد مرسل للإنذار والبشارة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنّهم المنتفعون بهما. ويجوز أن يكون متعلّقا بالبشير ، ومتعلّق النذير محذوف ، أي : إلّا نذير للكافرين ، وبشير لقوم يؤمنون.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣))

ولمّا تقدّم ذكر الله سبحانه ، ذكر عقيبه ما يدلّ على وحدانيّته ، فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهو آدم عليه‌السلام (وَجَعَلَ مِنْها) من جسدها ، من ضلع من أضلاعها (زَوْجَها) وهي حوّاء (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ليأنس بها ، ويطمئنّ إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه. وتذكير الضمير باعتبار معنى النفس ، لتبيين أنّ المراد بها آدم ، ولأنّ الذكر هو الّذي يسكن إلى الأنثى ، وليناسب قوله : (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي : جامعها ، فإنّ التغشّي كناية عن الجماع ، وكذلك الغشيان والإتيان.

٦٣٤

(حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) خفّ عليها بحيث لم يمنعها الحمل عن شيء من التصرّف ، ولم تلق منه ما تلقى منه العوامل غالبا من الأذى. أو محمولا خفيفا ، وهو النطفة. (فَمَرَّتْ بِهِ) فاستمرّت به ، وقامت وقعدت.

(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها. أو حان وقت ثقل حملها ، كما يقال : أقربت. (دَعَوَا) أي : دعا آدم وحوّاء (اللهَ رَبَّهُما) ومالك أمرهما الّذي هو الحقيق أن يلتجأ إليه (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) وهبت لنا ولدا سويّا قد صلح بدنه. وقيل : ولدا ذكرا ، لأنّ الذكورة من الصلاح والجودة. (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك على هذه النعمة المجدّدة. والضمير في «آتيتنا» و «لنكوننّ» لهما ولكلّ من يتناسل من ذرّيّتهما.

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أي : جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، فإنّ آدم وحوّاء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله تسميتهم أولادهم بعبد العزّى وعبد مناف وعبد يغوث وما أشبه ذلك ، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم.

ويدلّ على حذف المضاف قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث جمع الضمير. وكذلك قوله : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) ما لا يقدر على خلق شيء (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) يعني : الأصنام أجريت مجرى أولي العلم بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إيّاها آلهة.

وما قالت العامّة من أنّ حوّاء لمّا حملت أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها : ما يدريك ما في بطنك ، لعلّه بهيمة أو كلب؟ وما يدريك من أين يخرج؟ فخافت من ذلك وذكرت لآدم عليه‌السلام ، فهمّا منه. ثمّ عاد إليها وقال : إنّي من الله بمنزلة ، فإن دعوت الله تعالى أن يجعله خلقا مثلك ، ويسهّل عليك خروجه ، تسمّيه

٦٣٥

عبد الحارث برضا آدم ، وكان اسمه حارثا بين الملائكة ، فتقبّلت. فلمّا ولدت سمّته عبد الحارث.

فذلك بعيد غاية البعد ، تأباه العقول وتنكره ، لأنّ البراهين الساطعة دالّة على عصمة الأنبياء ، فلا يجوز عليهم الشرك والمعاصي وطاعة الشيطان.

وقيل : الخطاب في «خلقكم» لآل قصيّ من قريش ، أي : خلقكم من نفس قصيّ ، وجعل من جنسها زوجها عربيّة قرشيّة ، فلمّا آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السويّ جعلا له شركاء فيما آتاهما ، حيث سمّيا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزّى وعبد قصيّ وعبد الدار.

وحكى البلخي عن جماعة من العلماء أنّهم قالوا : لو صحّ الخبر الأوّل لم يكن في ذلك إلّا إشراكا في التسمية ، وليس ذلك بكفر ولا معصية. واختاره الطبري (١).

(وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ) لعبدتهم (نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي : المشركين (إِلَى الْهُدى) إلى ما هو هدى ورشاد ، وهو الإسلام (لا يَتَّبِعُوكُمْ). وقرأ نافع بالتخفيف.

وقيل : الخطاب للمشركين ، و «هم» ضمير الأصنام ، أي : إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتّبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم ، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله.

(سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) على دعائهم ، في أنّه لا فلاح معهم. وإنّما لم يقل : أم صمتّم ، للمبالغة في عدم إفادة الدعاء ، من حيث إنّ الأصنام مستمرّة بالثبات على الصمات في عدم الإجابة. أو لأنّهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم ، فكأنّه قيل : سواء عليكم إحداثكم دعاءهم في إلحاح الحوائج أو

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ : ١٠١.

٦٣٦

استمراركم على الصمات من دعائهم.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨))

ثمّ أتمّ سبحانه الحجّة على المشركين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : تعبدونهم وتسمّونهم آلهة (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) من حيث إنّها مملوكة مسخّرة (فَادْعُوهُمْ) في مهمّاتكم ، ولصرف الأسواء عنكم (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّهم آلهة. ويحتمل أنّهم لمّا نحتوها بصور الأناسيّ قال لهم : إنّ نهاية أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم ، فلا يستحقّون عبادتكم ، كما لا يستحقّ بعضكم عبادة بعض.

ثمّ أبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم ، فقال : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها).

٦٣٧

روي : أنّهم كانوا يخوّفون الرسول بآلهتهم ، فأمره الله تعالى بقوله : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) واستعينوا بهم في عداوتي (ثُمَّ كِيدُونِ) فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكروهي أنتم وشركاؤكم (فَلا تُنْظِرُونِ) فلا تمهلوني ، فإنّي لا أبالي بكم ، لوثوقي على ولاية الله تعالى وحفظه.

(إِنَّ وَلِيِّيَ) ناصري وحافظي ودافع شرّكم عنّي (اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) القرآن (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي : ومن عادته تعالى أن يتولّى الصلحاء المطيعين من عباده ، فضلا عن أنبيائه.

ثمّ تمّم التعليل لعدم مبالاته بهم ، فقال : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) كرّر ذلك لأنّ ما تقدّم فإنّه على وجه التقريع والتوبيخ ، وما ذكره هنا فإنّه على وجه الفرق بين صفة من يجوز له العبادة وصفة من لا يجوز له ، فكأنّه قال : إنّ من أعبده ينصرني ، ومن تعبدونه لا يقدر على نصركم ولا على نصر نفسه (١).

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠))

ولمّا أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعاء إليه وتبليغ رسالته ، علّمه محاسن الأفعال

__________________

(١) سقط من النسخة الخطّية تفسير الآية (١٩٨) كملا ، وإليك تفسيرها باختصار من مجمع البيان : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) يعني : إن دعوتم هؤلاء الذين تعبدونهم من الأصنام (إِلَى الْهُدى) أي : إلى الرشد والمنافع. وقيل : معناه : وإن دعوتم المشركين إلى الدين. (لا يَسْمَعُوا) أي : لا يسمعوا دعاءكم (وَتَراهُمْ) فاتحة أعينهم نحوكم على ما صوّرتموهم عليه من الصور. وقيل : معناه : لا يقبلوا ، ومنه : سمع الله لمن حمده. (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الحجّة. يعني : مشركي العرب.

٦٣٨

ومكارم الأخلاق والخصال ، فقال : (خُذِ الْعَفْوَ) أي : خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم ، وتسهّل من غير كلفة ، ولا تداقّهم ، ولا تطلب ما يشقّ عليهم حتّى لا ينفروا ، من العفو الّذي هو ضدّ الجهد والمشقّة ، ومنه : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يسّروا ولا تعسّروا».

فأمر سبحانه بالتسامح وترك الاستقصاء. أو خذ العفو عن المذنبين أو الفضل وما تسهّل من صدقاتهم ، وذلك قبل وجوب الزكاة ، فلمّا نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعا أو كرها.

(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) المعروف المستحسن من الأفعال (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فلا تمارهم ، ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ، واحلم عنهم ، وأغض على ما يسوؤك منهم ، صيانة لقدرك ، فإنّ مجاوبة السفيه تضع عن القدر.

قيل : إنّه لمّا نزلت الآية سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرئيل عن ذلك ، فقال : لا أدري حتى أسأل. ثمّ أتاه فقال : يا محمد إنّ الله يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك.

وعن الصادق عليه‌السلام : «أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكارم الأخلاق ، وليست في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها».

قال ابن زيد : لمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف يا ربّ هذا والغضب؟ فنزل قوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) ينخسنّك (مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) نخس في القلب ، أي : وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به ، كاعتراء غضب. والنزغ والنسغ والنخس : الغرز ، كأنّه ينخس الإنسان حين يغريه على خلاف مأمور الله تعالى. فشبّه وسوسته للناس ـ إغراء لهم على المعاصي وإزعاجا ـ بغرز السائق ما يسوقه. وجعل النزغ نازغا كما قيل : جدّ جدّه.

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ولا تطعه (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يعلم ما فيه صلاح أمرك ، فيحملك عليه. أو سميع بأقوال من آذاك ، عليم بأفعاله ، فيجازيه عليها ، مغنيا إيّاك

٦٣٩

عن الانتقام ومتابعة الشيطان.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣))

ثمّ ذكر سبحانه طريقة المتّقين إذا عرضت لهم وساوس الشياطين ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) باجتناب معاصيه (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) لمّة (مِنَ الشَّيْطانِ) وهو اسم فاعل من : طاف يطوف ، كأنّها طافت بهم ودارت حولهم ، فلم تقدر أن تؤثّر فيهم. أو من : طاف به الخيال يطيف طيفا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب : طيف ، على أنّه مصدر أو تخفيف طيّف ، كـ : لين وهين. والمراد بالشيطان الجنس ، ولذلك جمع ضميره في قوله : «وإخوانهم».

ومعنى الآية : أن المتّقين عادتهم أنه إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته (تَذَكَّرُوا) ما أمر الله تعالى به ونهى عنه (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) فأبصروا الرشد ، أو بسبب التذكّر مواقع الخطأ ومكائد الشيطان ، فيتحرّزون عنها ولا يتّبعونه فيها.

والآية تأكيد وتقرير لما قبلها. وكذا قوله : (وَإِخْوانُهُمْ) أي : وإخوان الشياطين الّذين لم يتّقوا (يَمُدُّونَهُمْ) يمدّهم الشياطين ، أي : يكونون لهم مددا ويزيدونهم (فِي الغَيِ) بالتزيين والحمل عليه. وقرأ نافع : يمدّونهم ، من : أمدّ. (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) لا يمسكون ولا يكفّون عن إغوائهم.

٦٤٠