زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

الرجم على من أحصن؟

قال ابن صوريا : نعم ، والّذي ذكرتني به لولا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك ، ولكن أخبرني كيف هو في كتابك يا محمد؟

قال : إذا شهد أربعة رهط عدول أنّه قد أدخله فيها ، كما يدخل الميل في المكحلة ، وجب عليه الرجم.

فقال ابن صوريا : هكذا أنزل في التوراة على موسى.

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فما ذا كان أوّل ما ترخّصتم به أمر الله.

قال : كنّا إذا زنى الشريف تركناه ، وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ ، فكثر الزنا في أشرافنا ، حتّى زنى ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه ، ثمّ زنى رجل آخر ، فأراد الملك رجمه ، فقال له قومه لا حتى ترجم فلانا ، يعنون ابن عمّه. فقالوا : تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم ، يكون على الشريف والوضيع ، فوضعنا الجلد والتحميم ، وهو أن يجلد أربعين جلدة ، ثمّ يسوّد وجوههما ، ثمّ يحملان على حمارين ، وجوههما من قبل دبر الحمار ، ويطاف بهما. فجعلوا هذا مكان الرجم.

فقالت اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به ، وما كنت لما أتينا عليك بأهل ، ولكنّك كنت غائبا ، فكرهنا أن نغتابك! فقال : إنّه أنشدني بالتوراة ، ولولا ذلك لما أخبرته به. فأمر بهما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجما عند باب مسجده. وقال : أنا أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه ، فأنزل الله تعالى فيه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (١).

فقام ابن صوريا ، فوضع يديه على ركبتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ قال : هذا مقام العائذ بالله وبك ، أن تذكر لنا الكثير الّذي أمرت أن تعفو عنه ، فأعرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) المائدة : ١٥.

٢٦١

عن ذلك.

ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه.

فقال : تنام عيناي ولا ينام قلبي.

فقال : صدقت ، فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمّه شيء ، أو بأمّه ليس فيه من شبه أبيه شيء؟

فقال : أيّهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له.

قال : صدقت ، فأخبرني ما للرجل من الولد ، وما للمرأة منه؟

قال : فأغمي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طويلا ، ثمّ خلّي عنه محمرّا وجهه ، يفيض عرقا ، فقال : اللحم والدم والظفر والشعر للمرأة ، والعظم والعصب والعروق للرجل.

فقال له : صدقت ، أمرك أمر نبيّ ، فأسلم ابن صوريا عند ذلك ، وقال : يا محمّد من يأتيك من الملائكة؟

قال : جبرئيل.

قال : صفه لي. فوصفه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أشهد أنّه في التوراة كما قلت ، وأنّك رسول الله حقّا.

فلمّا أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه. فلمّا أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا : يا محمّد إخواننا بنو النضير : أبونا واحد ، وديننا واحد ، ونبيّنا واحد ، إذا قتلوا منّا قتيلا لم يقد ، وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل ، وأخذوا منّا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر ، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منّا ، وبالرجل منهم الرجلين منّا ، وبالعبد الحرّ منّا ، وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم ، فأنزل الله في الرجم والقصاص الآيات.

(وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) فضيحته بإظهار ما ينطوي عليه ، أو عذابه ، كقوله :

٢٦٢

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) (١) أي : عذابكم ، أو تركه مفتونا مخذولا (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فلن تستطيع له من الله شيئا في دفعها (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من عقوبات الكفر الّتي هي الختم والطبع والضيق والخذلان ، بأن يمنحهم من ألطافه الهادية إلى الإيمان ، كما طهّر قلوب المؤمنين منها ، لأنّهم ليسوا من أهلها ، لعلمه أنّها لا تنجع فيهم. ولا يجوز حمل الآية على ظاهرها كما هو رأي الأشعري ، لأنّ إرادة الكفر قبيح ، والله تعالى منزّه عنه.

(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) هو ان وذلّ بالجزية ، والخوف من أهل الإسلام (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو الخلود في النار. والضمير لـ (الَّذِينَ هادُوا) إن استأنفت بقوله : (وَمِنَ الَّذِينَ) ، وإلّا فللفريقين.

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) كرّره للتأكيد (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أي : الحرام كالرّشا ، من : سحته إذا استأصله ، لأنّه مسحوت البركة ، أو لأنّه يعقّب هلاك الاستئصال.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب بضمّتين ، وهما لغتان كالعنق والعنق.

وفي الحديث : «كلّ لحم نبت على السحت فالنار أولى به».

(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) تخيير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا تحاكموا إليه بين الحكم والإعراض. وهذا التخيير عندنا ثابت للأئمّة في الشرع ، للأخبار الواردة عن أئمّتنا عليهم‌السلام. وهو قول ابن عبّاس برواية ، وقول قتادة وعطاء والشعبي وإبراهيم. وقال الشافعي أيضا : إنّه لو تحاكم كتابيّان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم ، وعند أبي حنيفة يجب.

(وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ) عن الحكم بينهم (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي : لا يقدرون على إضرار بك في دنيا أو دين ، لإعراضك عنهم ، فإنّ الله يعصمك من الناس.

(وَإِنْ حَكَمْتَ) وإن اخترت أن تحكم بينهم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) بالعدل

__________________

(١) الذاريات : ١٤.

٢٦٣

الّذي أمر الله تعالى به ، كما حكمت بينهم بالرجم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) العادلين ، فيحفظهم ويعظّم شأنهم.

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) هؤلاء اليهود (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به وبكتابه ، والحال أنّ الحكم منصوص عليه في الكتاب الّذي عندهم ، وتنبيه على أنّهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحقّ وإقامة الشرع ، وإنّما طلبوا به ما يكون أهون عليهم ، وإن لم يكن حكم الله في زعمهم.

وقوله : (فِيها حُكْمُ اللهِ) حال من التوراة إن رفعتها بالظرف ، وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه. وتأنيثها لكونها نظيرة المؤنّث في كلام العرب لفظا ، كموماة (١) ودوداة.

(ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ) يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) بعد التحكيم ، ولا يرضون به. وهو عطف على «يحكّمونك» داخل في حكم التعجيب (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) بكتابهم كما يدّعون ، لإعراضهم عنه أوّلا ، وعمّا يوافقه ثانيا. أو بك وبه.

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً) يهدي إلى الحقّ والعدل (وَنُورٌ) يكشف عمّا استبهم من الأحكام (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) يعني : أنبياء بني إسرائيل ، لا جميع النبيّين ليلزم أنّ نبيّنا كان متعبّدا بأحكامها قبل المبعث (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة أجريت على النبيّين مدحا لهم ، وتنويها بشأن المسلمين ، وتعريضا باليهود ، وأنّهم بمعزل عن دين الإسلام الّذي هو دين الأنبياء كلّهم ، قديما وحديثا (لِلَّذِينَ هادُوا) متعلّق بـ «أنزل» أو بـ «يحكم» ، أي : يحكمون بها في تحاكمهم. وهو أقرب لفظا ومعنى. أمّا لفظا فظاهر. وأمّا معنى فلأنّ المذهب الحقّ أنّ نبيّنا ليس متعبّدا بالشرائع السابقة ، لا قبل البعثة ولا بعدها.

__________________

(١) الموماة : الفلاة التي لا ماء فيها. والدوداة : الأرجوحة التي يلعب بها الصبيان.

٢٦٤

(وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) ويحكم بها زهّادهم وعلماؤهم ، السالكون طريقة أنبيائهم ، المجتنبين ملّة اليهود (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) بسبب ما طلب منهم أنبياؤهم وأوصوهم من حفظ التوراة عن التضييع والتحريف. والراجع إلى «ما» محذوف. و «من» للتبيين. ويجوز أن يكون الضمير للأنبياء والربّانيّين والأحبار جميعا ، ويكون الاستحفاظ من الله ، أي : كلّفهم الله حفظه. (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) رقباء لا يتركون أن يغيّروا ، أو شهداء يبيّنون ما يخفى من التوراة ، كما فعل ابن صوريا.

(فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) نهي للحكّام أن يخشوا غير الله تعالى في حكوماتهم ، ويداهنوا فيها خشية ظالم أو خيفة أذيّة من الأقرباء والأصدقاء.

والمعنى : أيّها الحكّام والولاة ، احكموا على اليهود بأحكام التوراة ، ولا تتركوهم أن يعدلوا عنها ، كما فعله رسول الله من حملهم على حكم الرجم ، وكذلك حكم الربّانيّون والأحبار والمسلمون ، بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب الله ، وبسبب كونهم عليه شهداء ، فلا تخشوا غير الله في حكوماتكم. أو نهي لعلماء اليهود عن إخفاء صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكم الرجم. والمعنى : لا تخشوا اليهود في إظهار صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر الرجم ، واخشوني في كتمان ذلك.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي) ولا تستبدلوا بأحكامي الّتي أنزلتها (ثَمَناً قَلِيلاً) هو الرشوة ، وابتغاء الجاه ، وطلب الرئاسة ، كما فعله اليهود (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) مستهينا به منكرا له (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) لاستهانتهم به وتمرّدهم ، بأن حكموا بغيره ، ولذلك وصفهم بقوله : الظالمون والفاسقون. فكفرهم لإنكاره ، وظلمهم بالحكم على خلافه ، وفسقهم بالخروج عنه.

وعن ابن عبّاس : من جحد حكم الله فهو كافر ، ومن لم يحكم به وهو مقرّ فهو ظالم فاسق.

٢٦٥

وعن حذيفة : أنتم أشبه الأمم سمتا ببني إسرائيل ، لتركبنّ طريقهم حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة ، غير أنّي لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟

ويجوز أن يكون كلّ واحدة من الصفات الثلاث لطائفة كما قيل ، هذه في المسلمين لاتّصالها بخطابهم ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى.

والأوّل أصحّ ، لما روى البراء بن عازب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وبعده (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وبعده (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) كلّ ذلك في الكفّار خاصّة. أورده مسلم في الصحيح (١).

وبه قال ابن مسعود وأبو صالح والضحّاك وعكرمة وقتادة.

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥))

ثمّ بيّن سبحانه حكم التوراة في القصاص ، فقال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ) وفرضنا على اليهود (فِيها) في التوراة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي : أنّ النفس تقتل بالنفس (وَالْعَيْنَ) تفقأ (بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ) يجدع (بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ) تقطع (بِالْأُذُنِ وَالسِّنَ) تقلع (بِالسِّنِ). رفعها الكسائي على أنّها جمل معطوفة على «أنّ» وما في حيّزها باعتبار المعنى. وكأنّه قيل : وكتبنا عليهم النفس بالنفس والعين بالعين ، فإنّ الكتابة والقراءة تقعان على الجمل كالقول ، ولذلك قال الزجّاج : لو قرئ : «إنّ النفس» بالكسر لكان صحيحا. أو على أنّها مستأنفة ، ومعناه : وكذلك العين مفقوءة

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ١٣٢٧ ح ٢٨.

٢٦٦

بالعين ، والأنف مجدوعة بالأنف ، والأذن مقطوعة بالأذن ، والسنّ مقلوعة بالسنّ.

وقرأ نافع : «والأذن بالأذن» و «في أذنيه» (١) بإسكان الذال حيث وقع.

(وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي : ذات قصاص ، وهو المقاصّة فيما يمكن فيه القصاص.

وقرأ الكسائي أيضا بالرفع. ووافقه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ، على أنّه إجمال بعد التفصيل.

(فَمَنْ تَصَدَّقَ) من المستحقّين (بِهِ) بالقصاص ، أي : فمن عفا عنه (فَهُوَ) فالتصدّق (كَفَّارَةٌ لَهُ) للمتصدّق ، يكفّر الله به من ذنوبه بقدر ما تصدّق.

وقيل : للجاني ، يسقط عنه ما لزمه.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القصاص وغيره (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المتجاوزون عن حكم الله.

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧))

ولمّا تقدّم ذكر اليهود أتبعه سبحانه بذكر النصارى ، فقال : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ)

__________________

(١) لقمان : ٧.

٢٦٧

أي : وأتبعناهم على آثارهم ، فحذف المفعول لدلالة الجارّ والمجرور عليه. والضمير لـ «النبيّون». (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) مفعول ثان ، عدّي إليه الفعل بالباء (مُصَدِّقاً) نصب على الحال (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) في موضع النصب بالحال (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) عطف عليه ، وكذا قوله : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ). ويجوز نصبهما على المفعول له عطفا على محذوف ، تقديره : آتيناه الإنجيل لمصالح شتّى وللهدى والموعظة ، أو تعلّقا بمحذوف ، أي : للهدى وللموعظة آتيناه. وعطف عليه قوله : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) في قراءة حمزة ، وهي كسر اللام وفتح الميم ، أي : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إيّاه. وعلى الأوّل (١) اللام متعلّقة بمحذوف ، أي : وآتيناه ليحكم.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) عن حكمه ، أو عن الايمان إن كان مستهينا به.

والآية تدلّ على أنّ الإنجيل مشتمل على الأحكام ، وأنّ اليهوديّة منسوخة ببعثة عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأنّه كان مستقلّا بالشرع. وحملها على : وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة ، خلاف الظاهر.

__________________

(١) وهو جعل «هدى وموعظة» حالا.

٢٦٨

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠))

ولمّا بيّن سبحانه نبوّة موسى وعيسى عليهما‌السلام ، عقّب ذلك ببيان نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، احتجاجا على اليهود والنصارى بأنّ طريقته كطريقتهم في الوحي والمعجز ، فقال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي : القرآن ملتبسا (بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) من جنس الكتب المنزلة ، من التوراة والإنجيل وكلّ كتاب أنزل من السماء. فاللام الأولى للعهد ، والثانية للجنس.

(وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) ورقيبا على سائر الكتب ، يحفظه عن التغيير ، ويشهد له بالصحّة والثبات.

(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي : بما أنزل إليك (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه. فـ «عن» صلة «لا تتّبع» لتضمّنه معنى : لا تنحرف ، كأنّه قيل : لا تنحرف عمّا جاءك من الحقّ متّبعا أهواءهم. أو حال من فاعله ، أي : لا تتّبع أهواءهم مائلا عمّا جاءك.

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ) أيّها الناس (شِرْعَةً) شريعة ، وهي الطريقة الواردة إلى الماء. شبّه بها الدين ، لأنّه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبديّة. (وَمِنْهاجاً)

٢٦٩

وطريقا واضحا في الدين ، من : نهج الأمر إذا وضح. واستدلّ به على أنّا غير متعبّدين بالشرائع المتقدّمة.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي : جماعة متّفقة على دين واحد في جميع الأعصار ، من غير نسخ ولا اختلاف فيه. ومفعول «لو شاء» محذوف دلّ عليه الجواب. وقيل : معناه : لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه ، ولكنّ الإجبار مناف للتكليف فلم يفعل (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من الشرائع المختلفة ، المناسبة لكلّ عصر وقرن ، هل تعملون بها معتقدين أنّ اختلافها مصالح لكم ، أم تزيغون عن الحقّ ، وتفرّطون في العمل؟

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) فابتدروها انتهازا للفرصة ، وحيازة لقصب فضل السبق والتقدّم. هذا محمول على الواجبات ، ومن قال : إنّ الأمر على الندب ، حمله على جميع الطاعات. (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق ، ووعد ووعيد للمبادرين والمقصّرين. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر دينكم ، بالجزاء الفاصل بين محقّكم ومبطلكم ، وعاملكم ومقصّركم ، فيجازيكم على حسب استحقاقكم.

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) معطوف على الكتاب ، أي : أنزلنا إليك الكتاب والحكم ، أو على الحقّ ، أي : أنزلناه بالحقّ وبأن احكم. ويجوز أن يكون جملة بتقدير : وأمرنا أن احكم (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أي : أن يضلّوك ويصرفوك عنه. و «أن» بصلته بدل من «هم» بدل الاشتمال ، أي : احذر فتنتهم. أو مفعول له ، أي : احذرهم مخافة أن يفتنوك.

روي أنّ أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمّد لعلّنا نفتنه عن دينه. فقالوا : يا محمّد قد عرفت أنّا أحبار اليهود ، وأنّا إن اتّبعناك اتّبعتنا اليهود كلّهم ، وإنّ بيننا

٢٧٠

وبين قومنا خصومة ، فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ، ونحن نؤمن بك ونصدّقك ، فأبى ذلك رسول الله ، فنزلت هذه الآية.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الحكم المنزل ، وأرادوا غيره (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ) يعاقبهم ويعذّبهم عذابا مغلّظا شديدا (بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) يعني : ذنب التولّي عن حكم الله تعالى ، فعبّر عنه بذلك تنبيها على أنّ لهم ذنوبا كثيرة ، وهذا مع عظمه واحد منها ، معدود من جملتها. وفي هذا دلالة على تعظيم البعض ، كما أن في التنكير معنى التعظيم. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) لمتمرّدون في الكفر ، معتدون فيه.

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ) الّذي هو الميل والمداهنة في الحكم (يَبْغُونَ)؟! المراد الملّة الجاهليّة الّتي هي متابعة الهوى والجهالة ، لا تصدر عن كتاب ، ولا ترجع إلى وحي.

قيل : نزلت في بني قريظة والنضير ، طلبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهليّة من التفاضل بين القتلى.

وقرأ ابن عامر : «تبغون» بالتاء على : قل لهم أفحكم الجاهليّة تبغون؟ وعلى التقديرين ، هذا تعيير لليهود بأنّهم أهل الكتاب ، وهم يبغون حكم أهل الجاهليّة الّذين هم عبدة الأوثان.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الاستفهام للتقرير ، أي : لا أحد حكمه أحسن من حكم الله عند قوم يوقنون. فاللام للبيان ، كما في قوله : (هَيْتَ لَكَ) (١) ، أي : هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون ، فإنّهم هم الّذين يتدبّرون الأمور ، ويتحقّقون الأشياء بأنظارهم ، فيعلمون أن لا أحسن حكما من الله تعالى.

__________________

(١) يوسف : ٢٣.

٢٧١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))

ثمّ نهى الله سبحانه المؤمنين أن يتّخذوا أهل الكتاب أولياء ، ويستنصروهم ويوالوهم ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) فلا تعتمدوا عليهم ، ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب.

ثمّ علّل النهي عن مخالطتهم إيّاهم بقوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي : بعض الكفّار وليّ بعض في العون والنصرة ، ويدهم واحدة عليكم. يعني : كلّهم متّفقون على خلافكم ، يوالي بعضهم بعضا ، لاتّحادهم في الدين ، واجتماعهم على مضادّتكم.

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أي : ومن والاهم ، واستنصر بهم ، واتّخذهم أنصارا (مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ). وهذا تشديد من الله في وجوب مجانبتهم في الدين ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تتراءى ناراهما».

يعني : لا ينبغي لمسلم أن ينزل بالموضع الّذي إذا أوقدت فيه نار تظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله. والمراد المبالغة في مباعدة

٢٧٢

المسلم المشرك.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : الّذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفّار ، أو ظلموا المؤمنين بموالاة الكافرين ، فيمنعهم ألطافه ويخذلهم.

قال في الكشّاف (١) : روي أنّ عبادة بن الصامت قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ لي موالي من اليهود كثيرا عددهم ، وإنّي أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم ، وأوالي الله ورسوله. فقال ابن أبيّ : لكنّي رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية مواليّ ، وهم يهود بني قينقاع ، فنزلت : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعني : ابن أبيّ وأضرابه (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي : في موالاتهم ومعاونتهم ، ويرغبون في مودّتهم ومحبّتهم (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي : يعتذرون بأنّهم يخافون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان ، أي : صرف من صروفه ، بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفّار ، فيحتاجوا إليهم وإلى معونتهم.

(فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) يعني : فتح مكّة أو فتح بلاد الشرك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أعدائه ، وإظهار المسلمين عليهم (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) وهو إعزاز المسلمين بقطع شأفة (٢) اليهود ، وإذلال الكافرين بالرعب والقتل ، أو إجلائهم من ديارهم ، أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم (فَيُصْبِحُوا) أي : هؤلاء المنافقون (عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) على ما استبطنوه من الكفر والشكّ في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضلا عمّا أظهروه ممّا أشعر على نفاقهم.

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٦٤٣.

(٢) الشأفة : الأصل ، يقال : استأصل شأفته ، أي : أزاله من أصله.

٢٧٣

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالرفع ، على أنّه كلام مبتدأ. ويؤيّده قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر مرفوعا بغير واو ، على أنّه جواب قائل يقول : فما ذا يقول المؤمنون حينئذ؟ وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالنصب عطفا على «أن يأتي» باعتبار المعنى ، وكأنّه قال : عسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الّذين آمنوا. أو على الفتح ، أي : عسى الله أن يأتي بالفتح وبأن يقول المؤمنون ، فإنّ الإتيان بما يوجب القول كالإتيان بالقول.

(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أي : أنّهم مؤمنون ، ومعكم في معاونتكم على أعدائكم ونصرتكم. يعني : يقوله المؤمنون بعضهم لبعض ، تعجّبا من حال المنافقين ، وإظهارا لسرورهم وبهجتهم بما منّ الله عليهم من الإخلاص. أو يقول المؤمنون لليهود ، فإنّ المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة ، كما حكى الله تعالى عنهم : (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) (١).

وجهد الأيمان أغلظها. وهو في الأصل مصدر. ونصبه على الحال على تقدير : وأقسموا بالله يجهدون جهد أيمانهم ، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ، ولذلك ساغ كونها معرفة. أو على المصدريّة ، لأنّه بمعنى : أقسموا.

وقوله : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) إمّا من جملة المقول ، أو من قول الله تعالى شهادة لهم بأنّ أعمالهم بطلت وضاعت ، لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به ، وبطل ما أظهروه من الايمان ، لأنّه لم يوافق باطنهم ظاهرهم ، فلم يستحقّوا به الثواب (فَأَصْبَحُوا) فصاروا (خاسِرِينَ). فيه معنى التعجّب ، كأنّه قيل : ما أحبط أعمالهم! وما أخسرهم في الدنيا والآخرة!!

__________________

(١) الحشر : ١١.

٢٧٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))

ولمّا بيّن سبحانه حال المنافقين ، وأنّهم يتربّصون الدوائر بالمؤمنين ، أعلم أنّ قوما منهم يرتدّون بعد وفاته ، وأنّ ذلك كائن ، وأنّهم لا ينالون أمانيّهم ، وأنّه تعالى ينصر دينه بقوم لهم صفات محمودة مخصوصة ، تميّزوا بها من بين العالمين ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) قرأه على الأصل نافع وابن عامر ، وهو كذلك في الامام ، والباقون بالإدغام ، أي : يرتدّ.

وفي هذه الآية إخبار بالكائنات الّتي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها ، وهو أنّ قوما يرتدّون بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه سبحانه ينصر دينه بقوم لهم هذه الصفات المذكورة.

وقيل : كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة ، ثلاث من العرب ارتدّوا في أواخر عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم : بنو مدلج ، وكان رئيسهم ذا الحمار الأسود العنسي ، وكان كاهنا تنبّأ باليمن واستولى على بلاده ، فكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن ، فأهلكه الله على يد فيروز الديلمي ليلة قبض رسول

٢٧٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غدها ، وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الليلة فسرّ المسلمون ، وأتى الخبر في أواخر ربيع الأول.

وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة ، تنبّأ وكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمّد رسول الله. أمّا بعد ، فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب : من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب. أمّا بعد ، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتّقين. فحاربه أبو بكر بجند من المسلمين ، وقتله وحشي قاتل حمزة رضي‌الله‌عنه ، وكان يقول : قتلت خير الناس في الجاهليّة ، وشرّ الناس في الإسلام ، أراد : في جاهليّتي وإسلامي.

وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد ، تنبّأ فبعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالدا ، فهرب بعد القتال إلى الشام ، ثمّ أسلم وحسن إسلامه.

وسبع في عهد أبي بكر : فزارة قوم عيينة بن حصن ، وغطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبّئة زوجة مسيلمة ، وكندة قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد. وكفى الله أمرهم على يد المسلمين. وفرقة واحدة في زمان خلافة عمر ، غسّان قوم جبلّة بن الأيهم ، تنصّر وسار إلى الشام.

والحاصل : أنّ الله سبحانه يقول : يا أيّها المؤمنون من يرجع من جملتكم إلى الكفر بعد إظهار الإيمان فلن يضرّوا الله شيئا ، فإنّ الله لا يخلي دينه من أنصار يحمونه.

(فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). قيل : هم أهل اليمن ، لما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال : قوم هذا. وقال : «الإيمان يمانيّ ، والحكمة يمانيّة».

وقيل : الفرس ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عنهم فضرب يده على عاتق

٢٧٦

سلمان وقال : هذا وذووه. وقال : «لو كان الدين معلّقا بالثريّا لناله رجال من أبناء فارس».

وقيل : الّذين جاهدوا يوم القادسيّة ألفان من النخع ، وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من جماعات الناس.

وعن أئمّة الهدى عليهم‌السلام وابن عبّاس وعمّار وحذيفة أنّهم عليّ عليه‌السلام وأصحابه ، حين قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. ويؤيّد هذا القول أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفه بالصفات المذكورة في هذه الآية ، فقال فيه ـ وقد ندبه لفتح خيبر ، بعد أن ردّ عنها حامل الراية إليه مرّة بعد أخرى ، وفرّ من القتال ورجع إليه مرّة بعد أخرى ، وهو يجبّن الناس ويجبّنونه ـ : «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، كرّارا غير فرّار ، لا يرجع حتّى يفتح الله على يده». ثم أعطاها إيّاه.

والراجع إلى «من» محذوف تقديره : فسوف يأتي الله بقوم مكانهم. ومحبّة الله تعالى للعباد إرادة الهدى والتوفيق لهم في الدنيا ، وحسن الثواب في الآخرة. ومحبّة العباد له إرادة طاعته ، والتحرّز عن معصيته.

(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) عاطفين راحمين عليهم متذلّلين. جمع ذليل بمعنى الخاضع ، لا ذلول من الذلّة ، فإنّ جمعه ذلل. واستعماله مع «على» إمّا لتضمّنه معنى العطف والحنوّ ، أو للتنبيه على أنّهم مع علوّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خاضعون لهم ، أو للمقابلة بقوله : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) غلاظ شداد متغلّبين عليهم ، من : عزّه إذا غلبه. قال ابن عبّاس : تراهم للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيّده ، وفي الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته.

(يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) بالقتال لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه. هو صفة أخرى لـ «قوم» أو حال من الضمير في «أعزّة» (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) فيما يأتون من الجهاد والطاعات. عطف على «يجاهدون» بمعنى : أنّهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلّب في دينه. أو حال ، يعني : أنّهم يجاهدون وحالهم خلاف

٢٧٧

حال المنافقين ، فإنّهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود ، فلا يعملون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم. واللومة المرّة من اللوم. وفيها وفي تنكير «لائم» مبالغتان ، كأنّه قيل : لا يخافون شيئا قطّ من لوم أحد من اللّوام.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم من الأوصاف ، أي : ذلك المحبّة والذلّة والعزّة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) يعطيه من يعلم أنّه محلّ له (وَاللهُ واسِعٌ) جواد كثير الفضل واللطف ، لا يخاف نفاد ما عنده (عَلِيمٌ) بمن هو أهله ، فلا يبذله إلّا لمن تقتضي الحكمة إعطاءه.

واعلم أنّ وصف اللين على أهل الإيمان ، والشدّة على الكفّار ، والجهاد في سبيل الله ، وعدم الخوف من لائم ، لا يمكن أحدا أن يدفع عليّا عليه‌السلام عن استحقاق ذلك ، لما ظهر من شدّته على أهل الشرك والكفر ، ونكايته فيهم ، ومقاماته المشهورة في تشييد الملّة ونصرة الدين ، والرأفة على المؤمنين.

ويؤيّد ذلك أيضا إنذار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشا بقتال عليّ عليه‌السلام لهم من بعده ، حيث

جاء سهيل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا : يا محمّد إنّ أرقّاءنا لحقوا بك فارددهم علينا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتنتهينّ يا معشر قريش أو ليبعثنّ الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن ، كما ضربتكم على تنزيله. فقال له بعض أصحابه : من هو يا رسول الله ، أبو بكر؟ قال : لا. قال : فعمر؟ قال : لا ، ولكنّه خاصف النعل في الحجرة. وكان عليّ عليه‌السلام يخصف نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروى عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال يوم البصرة : «والله ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم ، وتلا هذه الآية».

وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بالإسناد عن الزهري ، عن سعيد بن المسيّب ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، فيجلون عن الحوض ، فأقول : يا ربّ أصحابي أصحابي. فيقال : إنّك لا

٢٧٨

علم لك بما أحدثوا من بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى».

وقيل : إنّ الآية عامّة في كلّ من استجمع هذه الخصال إلى يوم القيامة. وذكر عليّ بن إبراهيم (١) بن هاشم : أنّها نزلت في مهديّ الأمّة وأصحابه ، وأوّلها خطاب لمن ظلم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقتلهم وغصبهم حقّهم.

ويؤيّد ما قلنا من أنّ صاحب هذه الصفات الحميدة والسمات السنيّة والنعوت الجليلة والخصال العليّة ، كان عليّ بن أبي طالب وأولاده المعصومين عليهم‌السلام ، الّذين هم ولاة الدين بنصّ خاتم النبيّين صلوات الله عليه وعليهم ، أنّه سبحانه أورد بعد هذه الآية آية مخصوصة به عليه‌السلام عند الموافق والمخالف ، وهي قوله عزّ وعلا : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي : الذي يتولّى تدبيركم ويلي أموركم الله ورسوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا).

إنّما قال : وليّكم ، ولم يقل : أولياؤكم ، للتنبيه على أنّ الولاية لله تعالى على الأصالة ولرسوله والمؤمنين على التبع.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) صفة لـ (الَّذِينَ آمَنُوا) ، فإنّه جرى مجرى الاسم في تقدير : والمؤمنون الّذين يقيمون ، أو بدل منه. ويجوز نصبه ورفعه على المدح. (وَهُمْ راكِعُونَ) جملة حاليّة مخصوصة بـ «يؤتون» ، أي : يؤتون الزّكاة حال ركوعهم في الصّلاة حرصا على الإحسان ومسارعة إليه.

وهذه الآية بالاتّفاق نزلت في عليّ عليه‌السلام حين سأله سائل وهو راكع في صلاته ، فأومأ بخنصره اليمنى إليه ، فأخذ السائل الخاتم من خنصره.

ومن جملة الروايات الواردة في هذا الباب ، ما رواه صاحب المجمع (٢) عن

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ١٧٠.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٢١٠.

٢٧٩

السيّد أبي الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني ، قال : حدّثنا الحاكم أبو القاسم (١) الحسكاني رحمه‌الله ، قال : حدّثني أبو الحسن محمّد بن القاسم الفقيه الصيدلاني ، قال : أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن محمّد الشعراني ، قال : حدّثنا أبو علي أحمد بن علي بن رزين البياشاني ، قال : حدّثنا المظفّر بن الحسين الأنصاري ، قال : حدّثني السندي بن عليّ الورّاق ، قال : حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، عن قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن عباية بن ربعي ، قال : «بينا عبد الله بن عبّاس جالس على شفير زمزم يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ أقبل رجل متعمّم بعمامة ، فجعل ابن عبّاس لا يقول : قال رسول الله ، إلّا قال الرجل : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال ابن عبّاس : سألتك بالله من أنت؟

فكشف العمامة عن وجهه وقال : يا أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذرّ الغفاري ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين وإلّا فصمّتا ، ورأيته بهاتين وإلّا فعميتا ، يقول : عليّ قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله.

أما إنّي صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من الأيّام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء ، وقال : اللهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعطني أحد شيئا. وكان عليّ راكعا فأومأ بخنصره اليمنى إليه ، وكان يتختّم فيها ، فأقبل حتّى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلمّا فرغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ : ٢٢٩ ح ٢٣٥.

٢٨٠