زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

والأمر المستحيل : لا أفعل كذا حتّى يشيب الغراب ، وحتّى يبيضّ القار (١). قال الشاعر :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

فتعليق الحكم بما لا يتوهّم وجوده ولا يتصوّر حصوله تأكيد له ، وتحقيق لليأس من وجوده.

(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) المكذّبين بآيات الله تعالى.

روي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال في هذه الآية : «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء ، فتفتّح لهم أبوابها. وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتّى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد : اهبطوا به إلى سجّين ، وهو واد بحضر موت يقال له : برهوت».

وقيل : لا تفتّح لهم أبواب السماء لدخول الجنّة ، لأنّ الجنّة في السماء.

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) فراش (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أغطية. والتنوين فيه للبدل عن الإعلال عند سيبويه ، وللصرف عند غيره. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) عبّر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى ، إشعارا بأنّهم بتكذيبهم الآيات اتّصفوا بهذه الأوصاف الذميمة. وذكر الجرم مع الحرمان من الجنّة ، والظلم مع التعذيب بالنار ، تنبيها على أنّه أعظم الأجرام.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ

__________________

(١) أي : القير.

٥٢١

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣))

ولمّا كانت عادة الله تعالى جارية في أن يشفع الوعيد بالوعد ، فقال بعد ذلك : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). الجملة الفعليّة بين المبتدأ ـ وهو الموصول ـ وخبره ـ وهو اسم الإشارة ـ للترغيب في اكتساب ما لا يبلغه وصف الواصف من النعيم الدائم ، مع الإجلال والتعظيم بما هو في الوسع ، وهو الإمكان الواسع غير الضّيق من الإيمان والعمل الصالح.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي : نخرج من قلوبهم أسباب الحقد والحسد والعداوة في الجنّة. أو نطهّرها منه حتّى لا يكون بينهم إلّا التوادّ والتعاطف ، وإن رأوا رجلا أرفع درجة منهم. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) زيادة في لذّتهم وسرورهم.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) لموجب هذا الفوز العظيم والأجر الجسيم (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) وما كان يستقيم أن نكون مهتدين (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) لو لا هداية الله وتوفيقه. واللام لتوكيد النفي. وجواب «لولا» محذوف دلّ عليه ما قبله.

وقرأ ابن عامر : ما كنّا بغير واو ، على أنّها مبيّنة للأولى.

(لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فاهتدينا بإرشادهم. يقولون ذلك ابتهاجا وفرط سرورهم بأنّ ما علموه يقينا في الدنيا صار لهم عين اليقين في الآخرة ، وتلذّذا بالتكلّم به ، لا تعبّدا وتقرّبا.

(وَنُودُوا) يناديهم مناد من جهة الله (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) إذا رأوها من بعيد ،

٥٢٢

أو بعد دخولها (أُورِثْتُمُوها) أعطيتموها إرثا (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بسبب أعمالكم ، لا بالتفضّل كما يقول المبطلة. وهو حال من «الجنّة» ، والعامل فيها معنى الإشارة. أو خبر والجملة صفة «تلكم». و «أن» في المواضع الخمسة ـ المتقدّمة والمتأخّرة ـ هي المخفّفة ، والضمير للشأن ، أي : ونودوا بأنّه تلكم الجنّة. أو المفسّرة ، لأنّ المناداة والتأذين من القول ، كأنّه قيل : وقيل لهم ، أي : تلكم الجنّة أورثتموها ، أي : يصير إليكم كما يصير الميراث إلى أهله.

وقيل : معناه جعلها الله سبحانه بدلا لكم عمّا كان أعدّ للكفّار لو آمنوا ، فقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ما من أحد إلّا وله منزل في الجنّة ومنزل في النار.

فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة ، فذلك قوله : «أورثتموها».

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧))

ثمّ حكى سبحانه ما يجري بين أهل الجنّة والنار بعد استقرارهم في الدارين ،

٥٢٣

فقال : (وَنادى) أي : وسينادي (أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) تبجّحا (١) بحالهم ، وشماتة بأصحاب النار ، وتحسيرا لهم (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا). إنّما لم يقل «ما وعدكم ربّكم» كما قال : (ما وَعَدَنا رَبُّنا) لدلالة «وعدنا» عليه ، فحذف تخفيفا ، وليتناول كلّ ما وعد الله من البعث والحساب وسائر أحوال القيامة ، لأنّهم كانوا مكذّبين بذلك أجمع. ولأنّ ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصا وعده بهم ، كالبعث والحساب ونعيم الجنّة لأهلها.

(قالُوا نَعَمْ) أي : قال أهل النار : وجدنا ما وعدنا ربّنا من العقاب حقّا وصدقا. وقرأ الكسائي بكسر العين. وهما لغتان. (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) قيل : هو صاحب الصور. وقيل : هو مالك خازن النار ، نادى بأمر الله نداء (بَيْنَهُمْ) بين الفريقين بحيث يسمع جميع أهل الجنّة وأهل النار (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي : «أنّ لعنة الله» بالتشديد والنصب. وقرئ «إنّ» بالكسر ، على إرادة القول ، أو إجراء «أذّن» مجرى : قال.

روي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «المؤذّن أمير المؤمنين عليه‌السلام». ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره (٢) بعد أن قال : حدّثني أبي ، عن محمد بن الفضيل ، عن الرضا.

ورواه أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن محمّد بن الحنفيّة ، عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : «أنا ذلك المؤذّن» (٣).

وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال : «إنّ لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس ، منها قوله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) ، فهو المؤذّن بينهم ،

__________________

(١) تبجّح وتباجح أي : افتخر وتعظّم وباهى.

(٢) تفسير القمّي ١ : ٢٣١.

(٣) شواهد التنزيل ١ : ٢٦٧ ح ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٥٢٤

يقول : ألا لعنة الله على الّذين كذّبوا بولايتي ، واستخفّوا بحقّي» (١).

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صفة لـ «الظالمين» مقرّرة ، أو ذمّ مرفوع أو منصوب (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) زيغا وميلا عمّا هو عليه. والعوج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم تكن منتصبة ، وبالفتح في المنتصبة ، كالحائط والرمح. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) وهي القيامة (كافِرُونَ) جاحدون.

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أي : بين الفريقين ، لقوله : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) (٢). أو بين الجنّة والنار ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الاخرى. وهو الأعراف.

(وَعَلَى الْأَعْرافِ) أي : على أعراف الحجاب ، أي : أعاليه ، وهي الأسوار المضروبة بينهما. جمع عرف ، مستعار من عرف الفرس وعرف الديك. وقيل : العرف ما ارتفع من الشيء ، فإنّه يكون لظهوره أعرف من غيره. (رِجالٌ) من الموحّدين قصرّوا في العمل ، كما روي عن ابن مسعود : أنّهم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فحالت حسناتهم بينهم وبين النار ، وحالت سيّئاتهم بينهم وبين الجنّة ، فيحبسون بين الجنّة والنار ، حتّى يقضي الله فيهم ما شاء.

وروى الضحّاك عن ابن عبّاس : أنّ الأعراف موضع عال على الصراط ، عليه حمزة والعبّاس وعليّ وجعفر ، يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه ، ومبغضيهم بسواد الوجوه. ورواه الثعلبي بالإسناد في تفسيره.

وقيل : إنّهم الملائكة في صورة الرجال ، يعرفون أهل الجنّة والنار ، ويكونون خزنة الجنّة والنار ، ويكونون حفظة الأعمال ، الشاهدين بها في الآخرة.

وعن الحسن ومجاهد : أنّهم فضلاء المؤمنين. وعن الجبائي : أنّهم الشهداء ، وهم عدول الآخرة.

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ : ٢٦٧ ح ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٢) الحديد : ١٣.

٥٢٥

(يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنّة والنار (بِسِيماهُمْ) بعلامتهم الّتي أعلمهم الله بها ، كبياض الوجه وسواده. «فعلى» من : سام إبله ، إذا أرسلها في المرعى معلمة.

أو من : وسم على القلب ، كالجاه من الوجه. وإنّما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة.

وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أصحاب الأعراف هم آل محمّد عليهم‌السلام ، لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلّا من أنكرهم وأنكروه».

وروى عمر بن شيبة بإسناده عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «يا عليّ كأنّي بك يوم القيامة وبيدك عصا عوسج (١) تسوق قوما إلى الجنّة ، وآخرين إلى النار».

وروي أيضا عن عمر بن شيبة وغيره : أنّ عليّا عليه‌السلام قسيم النار والجنّة.

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الأصبغ بن نباتة قال : «كنت جالسا عند عليّ عليه‌السلام فأتاه ابن الكوّاء فسأله عن هذه الآية. فقال : ويحك يا ابن الكوّاء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة والنار ، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة ، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار» (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام : «الأعراف كثبان (٣) بين الجنّة والنار ، فيقف عليها كلّ نبيّ وكلّ خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه ، كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده ، وقد سيق المحسنون إلى الجنّة ، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه : انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سيقوا إلى الجنّة ، فيسلّم المذنبون عليهم ، وذلك قوله : (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي : إذا نظروا إليهم سلّموا عليهم.

__________________

(١) العوسج : جنس شجيرات من فصيلة الباذنجانيّات ، أغصانه شائكة ، يصلح سياجا.

(٢) شواهد التنزيل ١ : ٢٦٣ ح ٢٥٦.

(٣) الكثيب : التلّ من الرمل ، وجمعه : كثبان.

٥٢٦

(لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أن يدخلهم الله بشفاعة النبيّ أو الإمام. وهذا حال من الواو. والواو إن كانت راجعة إلى الأنبياء أو الأئمّة فالطمع طمع يقين ، مثل قول إبراهيم : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (١) ، وإلّا طمع حسن ظنّ.

(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) ورأوا ما هم فيه من العذاب (قالُوا) نعوذ بالله (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : في النار. وقيل : إن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩))

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) أي : الأنبياء والخلفاء (رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) من رؤساء الكفرة وأئمّة الضلال (قالُوا) تعييرا وتوبيخا (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) كثرتكم ، أو جمعكم المال (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) عن الحقّ ، أو على الخلق.

ثمّ قالوا لهم : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) إشارة إلى ضعفاء أهل الجنّة الّذين كانت الكفرة وسائر أهل الضلال يحتقرونهم في الدنيا ، ويحلفون أنّ الله لا يدخلهم الجنّة ، فالتفتوا إلى أصحاب الجنّة وقالوا : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). وهذا أوفق للوجوه الأخيرة. وعلى الأوّل معناه : قيل

__________________

(١) الشعراء : ٨٢.

٥٢٧

لأصحاب الأعراف : ادخلوا الجنّة بفضل الله ، بعد أن حبسوا حتّى أبصروا الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا.

وقيل : لمّا عيّروا أصحاب النار أقسموا أنّ أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنّة ، فقال الله تعالى أو بعض الملائكة : أهؤلاء الّذين أقسمتم؟

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١))

ثمّ ذكر سبحانه كلام أهل النار وما أظهروه من الافتقار ، بدلا ممّا كانوا عليه من الاستكبار ، فقال : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا) أي : صبّوا. وهو دليل على أنّ الجنّة فوق النار. (مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة. أو من الفواكه وسائر الأطعمة ، كقوله (١) : علفتها تبنا وماء باردا. (قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) منعهما عنهم منع المحرّم عن المكلّف.

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) كتحريم البحيرة ، والتصدية حول البيت.

واللهو صرف الهمّ بما لا يحسن أن يصرف به. واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن

__________________

(١) صدره : لمّا حططت الرحل عنها واردا أي : لمّا حططت الرحل عن الناقة حال كوني واردا للماء ، علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا.

٥٢٨

يطلب به. (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : اغترّوا بها وبطول وبطول البقاء فيها ، فكأنّ الدنيا غرّتهم.

(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) نفعل بهم فعل الناسين ، فنتركهم في النار ، فلا نجيب لهم دعوة ، ولا نرحم لهم عبرة (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) فلم يخطروه ببالهم ، ولم يستعدّوا له (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) وكما كانوا منكرين أنّها من عند الله.

و «ما» في الموضعين مصدريّة. والتقدير : كنسيانهم وكونهم جاحدين.

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣))

ولمّا ذكر الله حال الفريقين ، بيّن أنّه قد أتاهم الكتاب والحجّة دفعا لمعذرتهم ، فقال : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) بيّنّا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصّلة (عَلى عِلْمٍ) عالمين بوجه تفصيل أحكامه ومواعظه وجميع معانيه. وهو حال من فاعل «فصّلناه». (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) حالان من الهاء ، أي : فصّلنا القرآن حال كونه هاديا وسببا للرحمة في الدارين.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي : ما يؤول إليه أمر الكتاب من تبيّن صدقه بظهور صحّة ما نطق به من الوعد والوعيد. والمعنى : ما ينتظرون إلّا عاقبة ما وعدوا به. (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) عاقبة ما وعدوا به (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) تركوه ترك

٥٢٩

الناسي (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) أي : قد تبيّن لنا أنّهم جاؤا بالحقّ (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) تمنّوا أن يكون لهم شفعاء (فَيَشْفَعُوا لَنا) اليوم في إزالة العقاب (أَوْ نُرَدُّ) أو هل نردّ إلى الدنيا (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) جواب الاستفهام الثاني.

(قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بصرف أعمارهم في الكفر (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وبطل (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) على الأصنام بقولهم إنّها آلهة تشفع لنا ، فلم تنفعهم.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤))

ولمّا ذكر سبحانه الكفّار وعبادتهم غير الله ، احتجّ عليهم بمقدوراته ومصنوعاته ، ودلّهم بذلك على أنّه لا معبود سواه ، فقال مخاطبا لجميع الخلق : (إِنَّ رَبَّكُمُ) خالقكم ومالككم (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أنشأهما وأوجدهما (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي : في ستّة أوقات ، كقوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) (١) أي : وقتئذ. أو في مقدار ستّة أيّام من أيّام الدنيا ، فإنّ المتعارف في اليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها. ولم يكن خلق الأشياء بالتدريج مع قدرته على إيجاده دفعة ، إلا ليدلّ على اختياره وقدرته ، ولتعتبره النظّار ، وليكون حثّا على التأنّي والرفق في الأمور. وخلقهما في هذه المدّة لا أزيد ولا أقلّ ، ورتّبهما على الأسبوع ، فابتدأ بالأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة ، لمصلحة لا يعلمها إلّا هو.

__________________

(١) الأنفال : ١٦.

٥٣٠

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استوى أمره ، أو استولى على خلق العرش.

وقيل : إنّ الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف. والمعنى : أنّ له تعالى استواء على العرش على الوجه الّذي عناه منزّها عن الاستقرار والتمكّن ، كما روي عن مالك بن أنس أنّه قال : الاستواء غير مجهول ، وكيفيّته غير معلومة ، والسؤال عنه بدعة.

والعرش : الجسم المحيط بسائر الأجسام. سمّي به لارتفاعه ، أو للتشبيه بسرير الملك ، فإنّ الأمور والتدابير تنزل منه. وقيل : الملك ، أي : استوى واستولى أمره على ملكه.

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يغطّيه به. ولم يذكر عكسه ، لأنّ الكلام يدلّ عليه.

وقد ذكر في موضع آخر : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) (١). وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بالتشديد فيه وفي الرعد (٢) ، للدلالة على التكرير. (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) يعقّبه سريعا ، بأن يأتي أحدهما عقيب الآخر ، كما يأتي الشيء في اثر الشيء طالبا له على وجه لا يفصل بينهما شيء. والحثيث فعيل من الحثّ. وهو صفة مصدر محذوف ، أو حال من الفاعل بمعنى : حاثّا ، أو المفعول بمعنى : محثوثا ، أو منهما.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ) مذلّلات جاريات في مجاريهنّ (بِأَمْرِهِ) أي : بمشيئته وتدبيره وتصريفه. وسمّى ذلك أمرا على التشبيه ، كأنّهنّ مأمورات بذلك. ونصبها بالعطف على «السماوات». ونصب «مسخّرات» على الحال. وقرأ ابن عامر كلّها بالرفع على الابتداء والخبر.

ولمّا ذكر أنّه خلقهنّ مسخّرات بأمره قال : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فإنّه

__________________

(١) الزمر : ٥.

(٢) الرعد : ٣.

٥٣١

الموجد والمتصرّف مطلقا ، أي : هو الّذي خلق الأشياء ، وهو الّذي صرّفها على حسب إرادته (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) تعالى بالوحدانيّة والألوهيّة ، وتعظّم بالتفرّد في الربوبيّة.

قال في الأنوار : «وتحقيق الآية والله أعلم : أنّ الكفرة كانوا متّخذين أربابا ، فبيّن لهم أنّ المستحقّ للربوبيّة واحد ، وهو الله تعالى ، لأنّه الّذي له الخلق والأمر ، فإنّه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم ، فأبدع الأفلاك ثمّ زيّنها بالكواكب ، كما أشار إليه بقوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (١).

وعمد إلى إيجاد الأجرام السفليّة ، فخلق جسما قابلا للصور المتبدّلة والهيئات المختلفة. ثمّ قسّمها بصور نوعيّة متضادّة الآثار والأفعال ، وأشار إليه بقوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) (٢) أي ، ما في جهة السفل في يومين.

ثمّ أنشأ أنواع المواليد الثلاثة : المعادن ، والحيوان ، والنبات ، بتركيب موادّها أوّلا ، وتصويرها ثانيا ، كما قال بعد قوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) (٣) أي : مع اليومين الأوّلين ، لقوله في سورة السجدة : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) (٤).

ثمّ لمّا تمّ له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة ، فدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ، بتحريك الأفلاك ، وتسيير الكواكب ، وتكوير الليالي والأيّام.

__________________

(١) فصّلت : ١٢. (٢ ، ٣) فصّلت : ٩ ـ ١٠.

(٤) السجدة : ٤.

٥٣٢

ثمّ صرّح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته ، فقال : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (١).

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))

ثمّ أمر سبحانه بعد ذكره دلائل توحيده بدعائه على وجه الخشوع والتذلّل كافّة عبيده ، فقال : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي : ذوي تضرّع ، من الضراعة ، وهي الذلّة ، وذوي خفية ، فإنّ الإخفاء دليل الإخلاص.

وقيل : التضرّع رفع الصوت ، والخفية السرّ ، أي : أدعوه علانية وسرّا.

ويؤيّد الأوّل ما روي : «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في غزاة ، فأشرفوا على واد ، فجعل الناس يهلّلون ويكبّرون ويرفعون أصواتهم. فقال : أيّها الناس اربعوا (٢) على أنفسكم ، أما إنّكم لا تدعون أصمّ ولا نائيا ، إنّكم تدعون سميعا قريبا ، إنّه معكم».

وعن الحسن قال : «بين دعوة السرّ ودعوة العلانية سبعون ضعفا».

وقرأ أبو بكر عن عاصم : خفية بالكسر. وهما لغتان.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المجاوزين الحدّ المرسوم في جميع العبادات والدعوات. ونبّه به على أنّ الدّاعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق به ، كرتبة

__________________

(١) أنوار التنزيل ٣ : ١٢ ـ ١٣.

(٢) يقال : اربع على نفسك أي : توقّف وكفّ.

٥٣٣

الأنبياء عليهم‌السلام ، والصعود إلى السماء. وقيل : هو الصياح في الدعاء والإكثار والإطناب فيه. والرواية المذكورة تؤيّده.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرء أن يقول : اللهمّ إنّي أسألك الجنّة ، وما قرّب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار ، وما قرّب إليها من قول وعمل ، ثمّ قرأ : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالكفر والمعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِها) بعد أن أصلحها الله ببعث الأنبياء وإنزال الكتب وشرع الأحكام.

(وَادْعُوهُ خَوْفاً) ذوي خوف من الردّ ، لقصور أعمالكم ، وعدم استحقاقكم (وَطَمَعاً) وذوي طمع في إجابته تفضّلا وإحسانا ، لفرط رحمته. (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ترجيح للطمع ، وتنبيه على ما يتوسّل به إلى الإجابة. وتذكير قريب ، لأنّ الرحمة بمعنى الرحم أو الترحّم. أو لأنّه صفة محذوف ، أي : أمر قريب.

أو على تشبيهه بفعيل الّذي بمعنى مفعول ، أو الّذي هو بزنة المصدر كالنقيض. أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره. والإحسان هو النفع الّذي يستحقّ به الحمد ، والإساءة هي الضرر الّذي يستحقّ به الذمّ.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧))

ولمّا أخبر الله تعالى في الآية المتقدّمة بأنّه خلق السماوات والأرض وما فيهما من البدائع ، عطف على ذلك بقوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً). وقرأ

٥٣٤

ابن كثير وحمزة والكسائي : الريح على الوحدة ، و «نشرا» (١) جمع نشور بمعنى ناشر. وقرأ ابن عامر : و «نشرا» بالتخفيف حيث وقع. وحمزة والكسائي : نشرا بفتح النون حيث وقع ، على أنّه مصدر في موقع الحال ، بمعنى : ناشرات ، أو مفعول مطلق ، فإنّ الإرسال والنشر متقاربان ، فكأنّه قيل : نشرها نشرا. وعاصم : بشرا ، وهو تخفيف بشر جمع بشير.

(بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) قدّام رحمته. يعني : الغيث الّذي هو أحسن النعم أثرا ، فإنّ الصبا تثير السحاب ، والشمال تجمعه ، والجنوب تذره ، والدبور تفرّقه.

(حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) أي : حملت هذه الرياح. واشتقاق الإقلال من القلّة ، فإنّ المقلّ للشيء يستقلّه ، يعني : الرافع المطيق يرى ما يرفعه قليلا. (سَحاباً ثِقالاً) بالماء. جمعه ، لأنّ السحاب ـ بمعنى السحائب ـ جمع سحابة. (سُقْناهُ) أي : السحاب. وإفراد الضمير باعتبار اللفظ. (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) لأجل بلد ليس فيه حياة ، أو لإحيائه ، أو لسقيه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : ميت.

(فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) بالبلد ، أو بالسحاب ، أو بالسوق ، أو بالريح. وكذلك (فَأَخْرَجْنا بِهِ). ويحتمل فيه عود الضمير إلى الماء. وإذا كان للبلد فالباء للإلصاق في الأوّل. وللظرفيّة في الثاني. وإذا كان لغيره فهي للسببيّة فيهما. (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) من كلّ أنواعها. و «من» للتبعيض أو للتبيين.

(كَذلِكَ) إشارة إلى إخراج الثمرات ، أو إلى إحياء البلد الميّت ، أي : كما نحييه بإحداث القوّة النامية فيه ، وتطريتها (٢) بأنواع النباتات والثمرات

__________________

(١) أي : قرأ ابن كثير وحده : ونشرا ، لما سيأتي في السطر التالي أن قراءة حمزة والكسائي : نشرا.

(٢) أي : جعلها ذات طراوة بأنواع النبات.

٥٣٥

(نُخْرِجُ الْمَوْتى) من الأجداث ، ونحييها بردّ النفوس إلى موادّ أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواسّ. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أنّ من قدر على ذلك قدر على هذا ، إذ كلّ واحد منهما إعادة الشيء بعد إنشائه ، فلا يكون فرقا بين الإخراجين.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

ثمّ بيّن سبحانه حال الأرض الّتي يأتيها المطر ، فقال : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) الأرض العذبة الكريمة التربة (يَخْرُجُ نَباتُهُ) زرعه خروجا زاكيا ناميا (بِإِذْنِ رَبِّهِ) بمشيئته وتيسيره. عبّر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه ، كأنّه قيل : يخرج نباته حسنا وافيا ، لأنّه أوقعه في مقابلة قوله : (وَالَّذِي خَبُثَ) وهو السبخة الّتي لا تنبت ما ينتفع به. (لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) نباتا قليلا عسر الخروج منه ، من : نكد عيشهم بالكسر ينكد نكدا ، إذا اشتدّ وعسر. ونصبه على الحال.

وتقدير الكلام : والبلد الّذي خبث لا يخرج نباته إلّا نكدا ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فصار مرفوعا مستترا. أو يقدّر : ونبات الّذي خبث.

(كَذلِكَ) مثل ذلك التصريف (نُصَرِّفُ الْآياتِ) نردّدها ونكرّرها (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) نعمة الله تعالى ، فيتفكّرون فيها ، ويعتبرون بها. والآية مثل لمن تدبّر الآيات وانتفع بها ، ولمن لم يرفع إليها رأسا ، ولم يتأثّر بها.

وعن مجاهد : ذرّيّة آدم منهم خبيث وطيّب. وعن قتادة : المؤمن سمع كتاب الله بعقله فوعاه وانتفع به ، كالأرض الطيّبة أصابها الغيث فأنبتت ، والكافر بخلاف ذلك.

٥٣٦

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))

ولمّا بيّن سبحانه الأدلّة على وحدانيّته ذكر بعده حال من عاند وكذّب رسله ، تسلية لنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتثبيتا له على احتمال الأذى من قومه ، وتحذيرا لهم عن الاقتداء بأولئك ، فينزل بهم ما نزل بهم. وابتدأ بقصّة نوح ، لأنّه شيخ الأنبياء ومقدّمهم ، فقال : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) وهو ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس النبيّ عليه‌السلام ، أوّل نبيّ بعده. وولد في العام الّذي مات آدم عليه‌السلام قبل موت آدم في الألف الأولى ، وبعث في الثانية (إِلى قَوْمِهِ) وهو ابن أربعمائة. وقيل : ابن خمسين أو أربعين.

ولبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما. وكان في تلك الألف ثلاثة قرون

٥٣٧

عايشهم وعمّر فيهم. وكان يدعوهم ليلا ونهارا ، فلا يزيدهم دعاؤه إلّا فرارا. وكان يضربه قومه حتّى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهمّ اهد قومي ، فإنّهم لا يعلمون. ثمّ شكاهم إلى الله تعالى ، فغرقت له الدنيا ، وعاش بعد ذلك تسعين سنة. وروي أكثر من ذلك أيضا.

وذكر اللام لأنّه جواب قسم محذوف ، كأنّه قيل : حقّا أقول : إنّا أرسلناه ، ولا تكاد تطلق هذه اللام إلّا مع «قد» لأنّها مظنّة التوقّع ، فإنّ المخاطب إذا سمعها توقّع وقوع ما صدّر بها.

(فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : اعبدوه وحده ، لقوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) بالرفع على محلّ «من إله». وقرأ الكسائي : غيره بالجرّ على اللفظ. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن لم تؤمنوا. وهذا وعيد وبيان للداعي إلى عبادة الله ، لأنّه هو الّذي يحذر عقابه دون من كانوا يعبدونه من دونه. واليوم هو القيامة ، أو يوم نزول الطوفان.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) أي : الأشراف ، فإنّهم يملأون العيون بحسن منظرهم وبهجتهم ووجاهتهم (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ) ذهاب عن الحقّ (مُبِينٍ) بيّن الضلالة.

والمراد بالرؤية رؤية القلب الّذي هو العلم. وقيل : رؤية البصر ، أي : نراك بأبصارنا على هذه الحال.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي : شيء من الضلال. بالغ في النفي ، فإنّ الضلالة كانت أبلغ في نفي الضلال ، كما بالغوا في الإثبات ، وعرّض لهم به. (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) استدراك باعتبار ما يلزمه ، وهو كونه على هدى ، كأنّه قال : ولكنّي على هدى في الغاية ، لأنّي رسول من الله.

(أُبَلِّغُكُمْ) كلام مستأنف بيانا لكونه رسول ربّ العالمين ، أو صفة لـ «رسول». قرأ أبو عمرو : وأبلغكم بالتخفيف. (رِسالاتِ رَبِّي) جمع الرسالات

٥٣٨

لاختلاف أوقاتها. أو لتنوّع معانيها ، كالعقائد والمواعظ والأحكام. أو لأنّ المراد بها ما أوحي إليه وإلى الأنبياء قبله ، كصحف شيث وإدريس عليهما‌السلام. والمعنى : ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي. أو ما أوحي إليّ وإلى الأنبياء السابقة.

(وَأَنْصَحُ لَكُمْ) في زيادة اللام دلالة على إمحاض النصيحة للمنصوح له.

(وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) هو تقرير لما أوعدهم به ، فإنّ معناه أعلم من قدرته وشدّة بطشه على أعدائه ، وأنّ بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين ، أو من جهته بالوحي ، أشياء لا علم لكم بها.

(أَوَعَجِبْتُمْ) الهمزة للإنكار ، والواو عطف على محذوف ، أي : أكذبتم وعجبتم (أَنْ جاءَكُمْ) من أن جاءكم (ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) رسالة أو موعظة (عَلى رَجُلٍ) على لسان رجل (مِنْكُمْ) من جملتكم ، أو من جنسكم ، فإنّهم كانوا يتعجّبون من إرسال البشر ، ويقولون : ما هذا إلّا بشر مثلكم ، ولو شاء الله لأنزل ملائكة ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين (لِيُنْذِرَكُمْ) ليحذّركم عاقبة الكفر والمعاصي (وَلِتَتَّقُوا) ولتخشوا الله في ترك الشرك والمعاصي بسبب الإنذار (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ولترحموا بالتقوى.

وفائدة حرف الترجّي التنبيه على أنّ المتّقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ، ولا يأمن من عذاب الله ، فإنّ الاعتماد على التقوى مستلزم للعجب في الأعمال ، وهو محبط لها.

(فَكَذَّبُوهُ) فكذّبوا نوحا فيما دعاهم إليه (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) وهم من آمن به. وكانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل : كانوا تسعة : بنوه سام ويافث وحام ، وستّة ممّن آمن به. (فِي الْفُلْكِ) متعلّق بـ «معه» ، كأنّه قال : والّذين استقرّوا معه في الفلك ، أو صحبوه فيه. أو بـ «أنجيناه» ، أي : أنجيناهم في السفينة من

٥٣٩

الطوفان. أو حال من الموصول ، أو من الضمير في «معه».

(وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بالطوفان (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) أي : عمي القلوب غير مستبصرين. يقال : رجل عم ، إذا كان أعمى القلب ، ورجل أعمى في البصر. وأصله عميين فخفّف. والفرق بين العمى والعامي : أنّ العمى يدلّ على عمى ثابت ، والعامي على عمى حادث.

وفي حديث وهب بن منبّه : «أنّ نوحا عليه‌السلام كان أوّل نبيّ نبّأه عزوجل بعد إدريس ، وكان إلى الأدمة ما هو (١) ، دقيق الوجه ، في رأسه طول ، عظيم العينين ، دقيق الساقين ، طويلا جسيما. دعا قومه إلى الله حتّى انقرضت ثلاثة قرون منهم ، كلّ قرن ثلاثمائة سنة ، يدعوهم سرّا وجهرا فلا يزدادون إلّا طغيانا ، ولا يأتي منهم قرن إلّا كان أعتى (٢) على الله من الّذين قبلهم.

وكان الرجل منهم يأتي بابنه وهو صغير فيقيمه على رأس نوح فيقول : يا بنيّ إن بقيت بعدي فلا تطيعنّ هذا المجنون. وكانوا يثورون إلى نوح فيضربونه حتّى يسيل مسامعه دما ، وحتّى لا يعقل شيئا ممّا يصنع به ، فيحمل فيرمى به في بيته أو على باب داره مغشيّا عليه.

فأوحى الله تعالى إليه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (٣). فعندها أقبل على الدعاء عليهم ، ولم يكن دعا عليهم قبل ذلك ، فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٤) إلى آخر السورة. فأعقم الله تعالى أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فلبثوا أربعين سنة لا يولد لهم ولد ، وقحطوا في تلك الأربعين سنة حتّى هلكت أموالهم ، وأصابهم الجهد والبلاء.

__________________

(١) أي : قريبا إلى الأدمة.

(٢) من : عتى عتوّا ، استكبر وعصى وجاوز الحدّ.

(٣ ، ٤) هود : ٣٦.

٥٤٠