زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

للتقريع على التكذيب بالبعث ، والإشارة إلى البعث وما يتبعه من الثواب والعقاب (قالُوا بَلى) هو حقّ (وَرَبِّنا) أكّدوا اعترافهم به وأقرّوا به باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بسبب كفركم ، أو ببدله. وإنّما قال : «ذوقوا» لأنّهم في كلّ حال يجدون ذلك وجدان الذائق المذوق في شدّة الاحساس.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) إذ فاتهم النعيم ، واستوجبوا العذاب المقيم.

والمراد لقاء ما وعد الله به من البعث وما يتبعه من الثواب والعقاب. وجعل لقاءهم لذلك لقاء له تعالى مجازا. وهذا منقول عن ابن عبّاس والحسن.

(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) غاية لـ «كذّبوا» لا لـ «خسر» لأنّ خسرانهم لا غاية له (بَغْتَةً) فجأة من غير أن علموا وقتها. ونصبها على الحال ، بمعنى باغتة ، أو المصدر ، فإنّها نوع المجيء ، كأنّه قيل : بغتتهم الساعة بغتة. ولمّا كان الموت وقوعا في أحوال الآخرة ومقدّماتها جعل من جنس الساعة ، وسمّي باسمها ، ولذلك

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات فقد قامت قيامته».

أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة ، فتحسّرهم عند موتهم لا ينافي هذه الغاية.

(قالُوا) عند معاينة ذلك اليوم وأهواله ، وتباين أحوال أهل الثواب والعقاب (يا حَسْرَتَنا) أي : تعالي فهذا أوانك (عَلى ما فَرَّطْنا) قصّرنا (فِيها) في الحياة الدنيا ، أضمرت وإن لم يجر ذكرها للعلم بها. أو في الساعة ، يعني : في شأنها والإيمان بها ، كما تقول : فرّطت في فلان ، ومنه : (فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (١). (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) تمثيل لاستحقاقهم أثقال الآثام. وهو مثل قوله :

__________________

(١) الزمر : ٥٦.

٣٨١

(فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (١) لأنّ الأثقال تحمل على الظهور في العادة ، كما أنّ الكسب يكون في الأيدي.

روي أنّ المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا فيقول : أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم ، فذلك قوله : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) (٢) أي : ركبانا. وأنّ الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة وأخبثه ريحا فيقول : أنا عملك السيّء طال ما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم ، وذلك قوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ). (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) بئس شيئا يزرونه وزرهم ، بحذف المخصوص بالذمّ.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) وما أعمالها (إِلَّا لَعِبٌ) وهو الّذي لا يعقّب نفعا (وَلَهْوٌ) وما يلهي الناس ويشغلهم عمّا يعقّب منفعة دائمة ولذّة حقيقيّة. وهو جواب لقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا).

(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) وما فيها من أنواع النعيم (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) لدوامها وخلوص منافعها ولذّاتها. وقوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) تنبيه على أنّ ما سوى أعمال المتّقين لعب ولهو. وقرأ ابن عامر : ولدار الآخرة. تقديره : ولدار الساعة الآخرة.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أيّ الأمرين خير.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ويعقوب بالتاء ، على خطاب المخاطبين به ، أو تغليب الحاضرين على الغائبين.

وفي الآية تسلية للفقراء بما حرموا من متاع الدنيا ، وتقريع للأغنياء إذا ركنوا إلى حطامها ، ولم يعملوا لغيرها.

__________________

(١) الشورى : ٣٠.

(٢) مريم : ٨٥.

٣٨٢

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤))

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه على تكذيبهم إيّاه بعد إقامة الحجّة عليهم ، فقال : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) معنى «قد» زيادة الفعل وكثرته ، كقوله (١) : ولكنّه قد يهلك المال نائله.

فهو هاهنا بمنزلة «ربّما» الّذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته. والهاء في «أنّه» للشأن. وقرأ نافع : ليحزنك من : أحزن. و «الّذي يقولون» هو قولهم : شاعر ومجنون وساحر وكذّاب.

(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) في الحقيقة ، وإنّما يكذّبون الله ، لأنّك رسوله المصدّق بالمعجزات ، فتكذيبك راجع إليه وإلى جحود آياته. ونحوه قول السيّد لعبده إذا أهانه بعض الناس : إنّهم لم يهينوك ، وإنّما أهانوني. ومن هذه الطريقة قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) (٢). وقيل : معناه : فإنّهم لا يكذّبونك بقلوبهم ،

__________________

(١) من قصيدة لزهير بن أبي سلمى ، صدر البيت : أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله

(٢) الفتح : ١٠.

٣٨٣

ولكنّهم يجحدون بألسنتهم ، كقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١).

وقرأ نافع والكسائي : لا يكذبونك ، من : أكذبه ، إذا وجده كاذبا أو نسبه إلى الكذب.

(وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ولكنّهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها. فوضع الظالمين موضع الضمير ، للدلالة على أنّهم ظلموا بجحودهم ، أو جحدوا لتمرّنهم على الظلم. والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب.

وعن ابن عبّاس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمّى الأمين ، فعرفوا أنّه لا يكذب في شيء ، ولكنّهم كانوا يجحدون.

وروي أنّ الأخنس بن شريق قال لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صادق هو أم كاذب؟ فإنّه ليس هاهنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا.

فقال : ويحك والله إنّ محمدا صادق ، وما كذب قطّ ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية (٢) والحجابة والنبوّة فما ذا يكون لسائر قريش؟

وروى سلام بن مسكين ، عن أبي بريد المدني ، أنّ رسول الله لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل ، فقيل له في ذلك ، فقال : والله إنّي لأعلم أنّه صادق ، ولكنّا متى كنّا تبعا لعبد مناف؟ فأنزل الله تعالى الآية.

ثمّ قال لمزيد تسلية : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ). وفيه دليل على أنّ قوله : (لا يُكَذِّبُونَكَ) ليس لنفي تكذيبه ، بل تكذيب مرسله ، وهو الله تعالى ، كما مرّ.

(فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) على ما نالهم منهم من التكذيب والأذى في أداء الرسالة ، فتأسّ بهم واصبر (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) إيّاهم على المكذّبين. وفيه إيماء بوعد النصر للصابرين. (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لمواعيده من قوله :

__________________

(١) النمل : ١٤.

(٢) في هامش النسخة الخطية : «السقاية : حياض من أدم ، يسقون الحاج منها. والحجابة : سدنة الكعبة. منه».

٣٨٤

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (١) الآيات. (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي : بعض قصصهم وما كابدوا من قومهم.

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦))

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعظم عليه إعراض قومه عن الإيمان وقبول دينه ، فنزلت : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ)

عظم وشقّ (إِعْراضُهُمْ) عنك وعن الإيمان بما جئت به (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) قدرت وتهيّأ لك (أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) أن تطلب سربا ومنفذا تنفذ فيه إلى ما تحتها ، فتطلع لهم آية يؤمنون عندها (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) أو مصعدا تصعد إلى السماء (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي بآية ملجئة إلى إيمانهم فافعل ، أي : انّك لا تستطيع ذلك. وحذف جواب «إن».

و «في الأرض» صفة لـ «نفقا» ، و «في السماء» صفة لـ «سلّما». ويجوز أن يكونا متعلّقين بـ «تبتغي» أو حالين من المستكن. والجملة الشرطيّة مع جوابها المحذوف جواب الشرط الأوّل.

والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه ، وأنّه لو قدر أن يأتيهم بآية

__________________

(١) الصافات : ١٧١.

٣٨٥

من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) بأن يأتيهم بآية ملجئة ، ولكن لم يفعل ، لخروجه عن الحكمة ، فإنّ الإلجاء مناف للتكليف الّذي هو مناط للعبادة. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) من الّذين يجهلون ذلك ، ويرومون ما هو خلافه. أو من الجهلة بالحرص على ما لا يكون ، والجزع في مواطن الصبر ، فإنّ ذلك من دأب الجهلة.

والمراد : لا تجزع ولا تتحسّر لكفرهم وإعراضهم عن الإيمان. وغلّظ الخطاب تبعيدا وزجرا عن هذه الحال.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ) أي : ما يجيب الإيمان إلّا (الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) بفهم وتأمّل ، ويصغون إليك وإلى ما تقرأ عليهم من القرآن فينقادون له ، كقوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (١). وهؤلاء الكفّار الّذين تحرص على إيمانهم كالموتى الّذين لا يسمعون ، فكما أيست أن تسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم الله ، فكذلك آيس من هؤلاء أن يستجيبوا لك. (وَالْمَوْتى) أي : الّذين كالموتى في عدم الإصغاء لجاجا (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) من القبر ، فيعلمهم حين لا ينفعهم الايمان (ثُمَّ إِلَيْهِ) إلى جزائه (يُرْجَعُونَ) فحينئذ يسمعون وإن لم ينفعهم ، وأمّا قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧))

ثمّ عاد إلى حكاية أقوال الكفّار ، فقال عاطفا على ما تقدّم : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ) بمعنى : أنزل (عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي : آية ممّا اقترحوه ، أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة ، لعدم اعتدادهم بها عنادا.

__________________

(١) ق : ٣٧.

٣٨٦

(قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) ممّا اقترحوه ، أو آية تضطرّهم إلى الإيمان كنتق الجبل ، أو آية إن جحدوها هلكوا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّ الله قادر على إنزالها ، وأنّ الصارف من الحكمة يصرفه عن إنزالها ، وأنّ إنزالها يستجلب عليهم البلاء ، وأنّ لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره. وقرأ ابن كثير : ينزل بالتخفيف. والمعنى واحد.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨))

ولمّا بيّن سبحانه أنّه قادر على أن ينزل آية ، عقّبه بذكر ما يدلّ على كمال قدرته وحسن تدبيره وحكمته ، فقال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) تدبّ على وجهها (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) في الهواء. وصفه به قطعا لمجاز السرعة ونحوها.

وفي الكشّاف (١) : فائدة ذكر قوله : «في الأرض» وقوله : «يطير بجناحيه» زيادة التعميم والإحاطة ، كأنّه قيل : وما من دابّة قطّ في جميع الأرضين السبع ، وما من طائر قطّ في جوّ السماء ، ومن جميع ما يطير بجناحيه (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) محفوظة أحوالها ، مقدّرة أرزاقها وآجالها ، كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم.

وقيل : أشباهكم في أنّ الله أبدعها ، وفي دلالتها على وحدانيّته ، وفي أنّهم يموتون ويحشرون. وجمع الأمم للحمل على المعنى ، فإنّ النكرة في سياق النفي مفيدة للاستغراق ، مغن أن يقال : وما من دوابّ ولا طير. والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته ، وشمول علمه ، وسعة تدبيره في تلك الخلائق المتقاربة الأجناس المتكاثرة الأصناف ، وحفظه لما لها وعليها ، واطّلاعه على أحوالها ، لا يشغله شأن

__________________

(١) الكشّاف ٢ : ٢١.

٣٨٧

عن شأن ، وعلى أنّ المكلّفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. فالآية كالدليل على أنّه قادر على أن ينزّل آية.

(ما فَرَّطْنا) ما تركنا وما أغفلنا (فِي الْكِتابِ) يعني : اللوح المحفوظ (مِنْ شَيْءٍ) من الأرزاق والآجال والأعمال وغير ذلك ، فإنّه مشتمل على ما يجري في العالم من جليل ودقيق ، لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد.

وقيل : المراد به القرآن ، فإنّه قد دوّن فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مجملا أو مفصّلا. و «من» زائدة ، و «شيء» في موضع المصدر لا المفعول به ، فإنّ «فرّط» لا يتعدّى بنفسه ، وقد عدّي بـ «في» إلى الكتاب.

(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) يعني : الأمم كلّها ، فينصف بعضها من بعض ، كما روي أنّه يأخذ للجمّاء (١) من القرناء. وعن ابن عبّاس حشرها موتها.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))

وبعد ذكر آثار قدرته ، وبيان ما يشهد لربوبيّته ، وينادي على عظمته ، بيّن حال المتمرّدين المعاندين بقوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌ) أي : لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالّة على ربوبيّته وكمال علمه وعظم قدرته ، سماعا تتأثّر به نفوسهم (وَبُكْمٌ) لا ينطقون بالحقّ (فِي الظُّلُماتِ) خبر ثالث ، أي : خابطون في ظلمات الكفر ، أو في ظلمة الجهل ، وظلمة العناد ، وظلمة التقليد. ويجوز أن يكون حالا من المستكن في الخبر.

(مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) أي : يخذله ويخلّه ، فلا يلطف له ، لأنّه ليس من أهل

__________________

(١) أي : ينتقم من العنزة القرناء ـ وهي التي لها قرن ـ للجمّاء ، وهي التي لا قرن لها.

٣٨٨

اللطف. وهم الّذين وضح لهم طريق الحقّ فأعرضوا عنها عنادا ولجاجا وإنكارا.

(وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : يلطف به ، لأنّ اللطف يجدي أهل الاستصواب والاسترشاد.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١))

ثم أمر سبحانه نبيّه بمحاجّة الكفّار ، فقال : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) استفهام تعجيب.

والكاف حرف الخطاب أكّد به الضمير للتأكيد ، لا محلّ له من الإعراب ، لأنّك تقول : أرأيتك زيدا ما شأنه؟ فلو جعلت الكاف مفعولا ـ كما قاله الكوفيّون ـ لعدّيت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل ، وذلك فاسد ، وللزم في الآية أن يقال : أرأيتموكم.

بل الفعل معلّق ، أو المفعول محذوف ، تقديره : أرأيتكم آلهتكم تنفعكم إذ تدعونها.

والمعنى : أخبروني.

(إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) في الدنيا كما أتى من قبلكم (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) وهولها ، ويدلّ عليه (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) أي : أتخصّون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ ، أم تدعون الله دونها ، أو تخصّون الله دونها؟! وهذا تبكيت لهم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّ الأصنام آلهة. وجوابه محذوف ، أي : فادعوه.

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) بل تخصّونه بالدعاء ، كما حكى عنهم في مواضع. وتقديم المفعول لإفادة التخصيص. (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أي : ما تدعونه إلى كشفه (إِنْ شاءَ) أن يتفضّل عليكم بكشفه ولم يكن مفسدة (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) وتتركون

٣٨٩

آلهتكم في ذلك الوقت ، لما ركز في العقول على أنّه القادر على كشف الضرّ دون غيره. أو تنسونه من شدّة الأمر وهوله.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

ثمّ أعلم الله سبحانه نبيّه حال الأمم الماضية في مخالفة رسله ، وبيّن حال هؤلاء إذا سلكوا طريق المخالفة كحالهم في نزول العذاب بهم ، فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي : قبلك. و «من» زائدة للتأكيد. (فَأَخَذْناهُمْ) أي : فكفروا وكذّبوا المرسلين فأخذناهم (بِالْبَأْساءِ) بالشدّة والفقر ، من البأس أو البؤس (وَالضَّرَّاءِ) والضرّ والآفات. وقيل : البأساء من القحط والجوع ، والضرّاء : المرض ونقصان الأنفس والأموال. والمراد : أخذناهم بالبليّات في أنفسهم وأموالهم. وهما صيغتا تأنيث لا مذكّر لهما. (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) لكي يتذلّلوا لنا ، ويتوبوا عن ذنوبهم.

(فَلَوْ لا) حرف التحضيض ، أي : فهلّا (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) معناه : في تضرّعهم في ذلك الوقت ، كأنّه قيل : ولم يتضرّعوا إذ جاءهم بأسنا مع قيام ما

٣٩٠

يدعوهم. ولكنّه جاء بـ «لولا» ليدلّ على أنّه لم يكن له عذر في ترك التضرّع إلّا عنادهم وقسوة قلوبهم ، وإعجابهم بأعمالهم الّتي زيّنها الشيطان لهم ، كما قال : (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) استدراك على المعنى ، وبيان للصارف لهم عن التضرّع ، وأنّه لا مانع لهم إلّا قساوة قلوبهم ، وإعجابهم بأعمالهم الّتي زيّنها الشيطان لهم.

وفي هذا حجّة على من قال : إنّ الله لم يرد من الكافر إيمانا ، لأنّه سبحانه بيّن أنّه إنّما فعل ذلك بهم ليتضرّعوا ، وبيّن أنّ الشيطان هو الّذي زيّن الكفر للكافر ، بخلاف ما قالت المجبّرة من أنّه سبحانه هو المزيّن لهم ذلك.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي : تركوا ما وعظوا به من البأساء والضرّاء ، ولم يتّعظوا به (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من أنواع النعم ، امتحانا لهم بالصحّة والتوسعة بعد السقم والنقم ، إلزاما للحجّة وإزاحة للعلّة ، كما يفعل الوالد البارّ بولده العاقّ المخاشنة تارة والملاطفة أخرى ، لصلاحه. أو مكرا بهم ، لما روي أنّه عليه‌السلام قال : مكر بالقوم وربّ الكعبة.

وقرأ ابن عامر : فتّحنا بالتشديد في جميع القرآن. ووافقه يعقوب فيما عدا هذا والّذي في الأعراف (١).

(حَتَّى إِذا فَرِحُوا) أعجبوا (بِما أُوتُوا) من النعم ، واشتغلوا بالتلذّذ ، وأظهروا البطر بما أعطوه ، ولم يروه نعمة من الله ليشكروه (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) مفاجأة من حيث لا يشعرون (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) آيسون من النجاة والرحمة ، متحسّرون منقطعوا الحجّة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإنّ ذلك استدراج منه ، ثمّ تلا هذه الآية».

__________________

(١) الأعراف : ٩٦.

٣٩١

ونحوه ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «يا ابن آدم إذا رأيت ربّك يتابع عليك نعمه فاحذره».

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : آخرهم ، بحيث لم يبق منهم أحد ، فلم يبق لهم عقب ولا نسل ، من : دبره دبرا ودبورا ، إذا تبعه (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على إهلاكهم وإعلاء كلمته ، فإنّ إهلاك الكفّار والعصاة ـ من حيث إنّه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم ـ نعمة جليلة يحقّ أن يحمد عليها. وفيه إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاكه للظلمة ، فإنّه من أجلّ النعم.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يعصى الله ، ومن أحبّ أن يعصى الله فقد بارز الله بالعداوة ، وإنّ الله حمد نفسه على إهلاك الظالمين ، فقال : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧))

ثمّ زاد سبحانه في الاحتجاج عليهم ، فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) أي : أصمّكم وأعماكم (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) بأن يغطّي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم ، ويسلب تمييزكم (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي : بذلك ، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة ، أو بما أخذ وختم عليه ، أو بأحد هذه المذكورات.

٣٩٢

(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) نكرّرها تارة في جهة النعمة ، ومرّة في جهة الشدّة ، وتارة من جهة الترغيب والترهيب ، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدّمين (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) يعرضون عنها. و «ثمّ» لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها. وإنّما قال : «انظر» لأنّه سبحانه عجب أوّلا من تتابع نعمه عليهم وضروب دلائله ، من تعريف الآيات وأسباب الاعتبار ، ثمّ عجب ثانيا من إعراضهم عنها.

ولمزيد التنبيه والمبالغة في رفع الأعذار زاد في الحجاج ، فقال : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) أي : أعلمتم (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) من غير ظهور مقدّمة (أَوْ جَهْرَةً) بتقدمة أمارة تؤذن بحلوله. فمقابلة الجهرة البغتة ، لما في البغتة من معنى الخفية.

وقيل : البغتة أن يأتيهم العذاب ليلا ، والجهرة أن يأتيهم نهارا. (هَلْ يُهْلَكُ) أي : ما يهلك هلاك سخط وتعذيب (إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) الكافرون الّذين ظلموا بكفرهم وفسادهم. ولمّا كانت «هل» متضمّنة للنفي صحّ الاستثناء المفرّغ منه.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يبعث الرسل أربابا يقدرون على كلّ شيء يسألون عنه من الآيات ، وإنّما يرسلهم لما يعلمه من المصالح ، فقال : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) المؤمنين ومن آمن بهم وأطاعهم بالجنّة (وَمُنْذِرِينَ) من كذّبهم وعصاهم بالنار. ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم

٣٩٣

بالبراهين القاطعة.

(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ) ما يجب إصلاحه ممّا شرع لهم (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من العذاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بفوات الثواب.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : بأدلّتنا وحججنا. وقيل : بمحمد ومعجزاته (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) أي : يصيبهم ماسّا لهم ، كأنّ العذاب حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم وخروجهم عن التصديق والطاعة.

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠))

ثمّ أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهم بعد اقتراحهم الآية منه : إنّي لا أدّعي الربوبيّة ولوازمها ، من الاقتدار على كلّ شيء والعلم بالمغيّبات ، ولا الملكيّة لأفعل كلّ ما اقترحتموه ، وإنّما أدّعي النبوّة ، فقال : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) مقدوراته ، أو خزائن رزقه ، أو خزائن رحمته ، أي : لا أدّعي أنّي مالك خزائن الله.

(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) الّذي يختصّ الله بعلمه ، ولم يوح إليّ ، ولم ينصب عليه دليل. وعن ابن عبّاس : لا أعلم عاقبة ما تصيرون إليه ، وإنّما أعلم منه قدر ما يعلّمني الله ويخصّني به. وهو من جملة القول ، فهو عطف على محلّ قوله : (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ، كأنّه قال : لا أقول لكم هذا القول ، ولا هذا القول.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أي : من جنس الملائكة ، أو أقدر على ما يقدرون عليه ، بل إنّي إنسان مثلكم تعرفون نسبي (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) فلا أخبركم إلّا

٣٩٤

بما أنزل الله إليّ ، تبرّأ عن دعوى الألوهيّة أو الملكيّة ، وأدّعي النبوّة الّتي هي من الكمالات البشريّة ، ردّا لاستبعادهم دعواه ، وجزمهم على فساد مدّعاه.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) مثل للضالّ والمهتدي ، أو الجاهل والعالم ، أو مدّعي المستحيل كالألوهيّة أو الملكيّة ، ومدّعي المستقيم كالنبوّة.

والهمزة للإنكار ، أي : لا يستويان. (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) فتهتدوا ، أو فتميّزوا بين ادّعاء الحقّ والباطل ، أو فتعلموا أنّ اتّباع الوحي ممّا لا محيص عنه.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١))

ثمّ أمر سبحانه بعد تقديم البيّنات بالإنذار ، فقال : (وَأَنْذِرْ بِهِ) الضمير لـ «ما يُوحى إِلَيَّ» (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) هم المؤمنون المفرّطون في العمل ، أو المجوّزون للحشر ، مؤمنا كان أو كافرا ، مقرّا به أو متردّدا فيه ، فإنّ الإنذار ينجع فيهم ، دون الفارغين الجازمين باستحالته.

وقال الصادق عليه‌السلام : «أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربّهم ، ترغّبهم فيما عنده ، فإنّ القرآن شافع مشفّع لهم».

(لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) فإنّ شفاعة الشافعين من الأنبياء والمؤمنين تكون بإذن الله ، لقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١) فهي راجعة إلى الله تعالى. وهذه الجملة في موضع الحال من «يحشروا». والمعنى : يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم ، فإنّ المخوف هو الحشر على هذه الحالة.

__________________

(١) البقرة : ٢٥٥.

٣٩٥

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لكي يدخلوا في زمرة أهل التقوى من المؤمنين ، بأن ينتهوا عمّا نهوا عنه ، ويمتثلوا ما أمروا به.

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢))

ثمّ أردفهم ذكر المتّقين منهم ، وأمر رسوله بتقريبهم وإكرامهم ، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك ، وأن لا يطردهم ترضية لقريش ، وأثنى عليهم بأنّهم يواصلون دعاء ربّهم ـ أي : عبادته ـ ويواظبون عليها ، فقال : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ). المراد بذكر الغداة والعشيّ الدوام. وقيل : صلاة الصبح والعصر. وقرأ ابن عامر : بالغدوة.

(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) يطلبون ثوابه ، ويبتغون مرضاته. وهو حال من «يدعون» أي : يدعون ربّهم مخلصين فيه. والوجه يعبّر به عن ذات الشيء وحقيقته. وقيّد الدعاء بالإخلاص تنبيها على أنّه ملاك الأمر. ورتّب النهي عليه إشعارا بأنّه يقتضي إكرامهم ، وينافي إبعادهم.

روى الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال : «مرّ رؤساء قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار ونظائرهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا محمّد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعا لهم؟ أهؤلاء الّذين منّ الله عليهم؟ اطردهم عنك ، فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك. فأنزل الله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ) إلى آخره.

٣٩٦

قال سلمان وخباب : فينا نزلت هذه الآية ، جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري ، وذووهم من المؤلّفة قلوبهم ، وكان عليهم جلباب من صوف ، فوجدوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمّار وخباب في ناس من ضعفاء المسلمين ، فحقّروهم ، وقالوا : يا رسول الله لو نحّيت هؤلاء عنك حتّى نخلو بك ، فإنّ وفود العرب تأتيك ، فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد ، فإن طردتهم جلسنا إليك وحادثناك.

فقال : ما أنا بطارد المؤمنين.

قالوا : فأقمهم عنّا إذا جئنا ، فإذا أقمنا فأقعدهم معك إن شئت.

فأجابهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك طمعا في إيمانهم.

فقالا له : أكتب لنا هذا على نفسك كتابا. وروي أنّ عمر قال له : لو فعلت حتّى ننظر إلى ماذا يصيرون.

فدعا بصحيفة وأحضر عليّا عليه‌السلام ليكتب. قال : ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل عليه‌السلام بقوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ) إلى آخره ، فرمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصحيفة ، واعتذر عمر من مقالته ، وأقبل علينا ، ودنونا منه وهو يقول : كتب ربّكم على نفسه الرّحمة. فكنّا نقعد معه ، وندنو منه حتّى تمسّ ركبنا ركبته.

وكان يقوم عنّا إذا أراد القيام ، فأنزل الله عزوجل : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) (١) الآية ، فترك القيام عنّا إلى أن نقوم عنه. وقال لنا : الحمد لله الّذي لم يمتني حتى أمرني الله أن أصبر نفسي مع قوم من أمّتي ، معكم المحيا ومعكم الممات».

(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : ليس عليك حساب إيمانهم ، فلعلّ إيمانهم عند الله تعالى أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعا في إيمانهم لو آمنوا. أو ليس عليك اعتبار بواطنهم وإخلاصهم ، لما

__________________

(١) الكهف : ٢٨.

٣٩٧

اتّسموا بسيرة المتّقين ، وإن كان لهم باطن غير مرضيّ كما ذكره المشركون ، فحسابهم عليهم لا يتعدّاهم إليك ، كما أنّ حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم. فجعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة قصد بهما مؤدّى واحد ، وهو المعنيّ في قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١). ولا يستقلّ بهذا المعنى إلّا الجملتان جميعا ، كأنّه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه.

وقيل : ما عليك من حساب رزقهم ، أي : فقرهم. فالمعنى : ليس رزقهم عليك ، ولا رزقك عليهم ، وإنّما يرزقك وإيّاهم الرزّاق ، فدعهم يدنوا منك.

وقيل : إنّ الضمير للمشركين. والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ، ولا أنت تؤاخذ بحسابهم ، حتى يهمّك إيمانهم ، ويحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين طمعا فيه.

وجواب النفي قوله : (فَتَطْرُدَهُمْ) فتبعّدهم. وجواب النهي قوله : (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ). ويجوز عطفه على «فتطردهم» على وجه التسبّب ، لأنّ كونه ظالما مسبّب عن طردهم.

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣))

ثمّ أخبر سبحانه أنّه يمتحن الفقراء بالأغنياء ، والأغنياء بالفقراء ، والضعفاء بالأشراف ، والأشراف بالضعفاء : (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الفتن العظيمة والابتلاء ، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا (فَتَنَّا) أي : ابتلينا (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) كرؤساء قريش بالموالي. بمعنى : عاملناهم معاملة المختبر. أو خذلناهم فافتتنوا ،

__________________

(١) الأنعام : ١٦٤.

٣٩٨

حتّى كان افتتانهم سببا (لِيَقُولُوا) على وجه الإنكار (أَهؤُلاءِ) أي : المسلمون (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) أي : أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحقّ ، والتوفيق والهداية ، من دوننا ونحن الرؤساء والأشراف ، وهم العبيد والأرذال؟! ومثل هذا القول لا يصدر إلّا عن مفتون مخذول. وهذا مثل قولهم : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (١).

واللام للتعليل ، على أنّ «فتنّا» متضمّن معنى : خذلنا. أو للعاقبة ، والمعنى : أن افتتانهم يؤول إلى هذا القول.

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) بمن يقع منه الايمان والشكر من أهل الاسترشاد فيوفّقه ، وبمن لا يقع منه من أهل الإنكار والعناد فيخذله. والاستفهام للتقرير ، أي : الله أعلم بهم البتّة.

وفي هذا دليل واضح على أنّ فقراء المؤمنين وضعفاءهم أولى بالتقديم والتقريب والتعظيم من أغنيائهم ، ولقد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من أتى غنيّا فتواضع لغنائه ذهب ثلثا دينه».

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤))

ثمّ أمر سبحانه بتعظيم المؤمنين ، فقال : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) وهم المؤمنون الّذين يدعون ربّهم. وصفهم بالإيمان بالقرآن واتّباع الحجج ، بعد ما

__________________

(١) الأحقاف : ١١.

٣٩٩

وصفهم بالمواظبة على العبادة. (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أمر بتبليغ سلام الله إليهم ، وتبشيرهم بسعة رحمة الله وفضله ، بعد النهي عن طردهم ، إيذانا بأنّهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل ، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرّب ولا يطرد ، ويعزّ ولا يذلّ ، ويبشّر من الله تعالى بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة. أو أمر بأن يبدأهم بالسلام تبجيلا لهم وتطييبا لقلوبهم.

وكذلك قوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) من جملة ما يقول لهم ليسرّهم ويبشّرهم بسعة رحمة الله عليهم. والمعنى : أوجب ربّكم الرحمة إيجابا مؤكّدا على نفسه.

عن عكرمة أنّ هذه الآية نزلت في الّذين نهى الله عن طردهم ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال : «الحمد لله الّذي جعل في أمّتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام».

وقيل : إنّ قوما جاءوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إنّا أصبنا ذنوبا عظاما ، فلم يردّ عليهم شيئا وسكت عنهم ، فانصرفوا ، فنزلت هذه الآية.

وقوله : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً) استئناف لتفسير الرحمة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالفتح على البدل منها.

وقوله : (بِجَهالَةٍ) في موضع الحال ، أي : من عمل ذنبا جاهلا بحقيقة ما يتبعه من المضارّ والمفاسد. أو متلبّسا بفعل الجهالة ، فإنّ ارتكاب ما يؤدّي إلى الضرر من أفعال أهل السفه والجهل ، فإنّ من كان حكيما لم يقدم على فعل شيء حتّى يعلم حاله.

(ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) بعد العمل أو السوء (وَأَصْلَحَ) بالتدارك والعزم على أن لا يعود إليه (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). فتح همزة «أنّه» من فتح الأوّل غير نافع ، على إضمار مبتدأ ، أي : فأمره أنّه غفور رحيم.

٤٠٠