زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

الضلّال ، وحكم عليه بضلالته ، أو خذله وخلّاه ووكله إلى نفسه ، ولم يوفّقه كما وفّق المؤمنين ، لأنّهم لمّا عصوا وخالفوا مع ظهور الحقّ عندهم استحقّوا هذا الخذلان ، فيصيرون ضالّين.

وقال أبو علي الجبائي : معناه أتريدون أن تهدوا إلى طريق الجنّة من أضلّه عن طريقها لأجل نفاقه وكفره؟

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يحكم بضلالته ، أو يخلّيه حتّى ضلّ ، أو لم يوصله إلى طريق الجنّة (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) إلى الهدى.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) تمنّوا أن تكفروا ككفرهم (فَتَكُونُونَ سَواءً) فتكونون معهم سواء في الضلال. وهو معطوف على «تكفرون».

(فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) فلا توالوهم (حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) حتّى يؤمنوا وتتحقّقوا إيمانهم بهجرة صحيحة ، وهي لله ورسوله ، لا لأغراض الدنيا وسبيل الله ما أمر بسلوكه.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان المصاحب للهجرة المستقيمة ، أو عن إظهار الإيمان (فَخُذُوهُمْ) فأسروهم (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في أرض الله ، في الحلّ والحرم ، كسائر الكفرة (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي : جانبوهم رأسا ، ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة ، وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة.

(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) عهد وحلف في ترك المحاربة. وهو استثناء من قوله : «فخذوهم واقتلوهم» أي : إلّا الّذين يتّصلون وينتهون إلى قوم بينكم وبينهم موادعة وعهد وحلف في ترك المحاربة ، فحكمهم حكمكم في حقن دمائهم. وهؤلاء هم الأسلميّون ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وادع وقت خروجه إلى مكّة هلال بن عويمر الأسلمي ، على أن لا يعين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يعين عليه ، وعلى أنّ من وصل ولجأ إليه فله من الجوار ـ أي : الأمان ـ مثل الّذي

١٢١

لهلال.

وقيل : هم بنو بكر بن زيد بن منات. وقيل : سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي من بني مدلج ، جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أحد فقال : أنشدك الله والنعمة ، وأخذ منه أن لا يغزوا قومه ، فإن أسلم قريش أسلموا ، لأنّهم كانوا في عقد قريش ، فحكم الله فيهم ما حكم في قريش. ففيهم نزل.

(أَوْ جاؤُكُمْ) عطف على الصلة ، أي : أو الّذين جاءوكم كافّين عن قتالكم وقتال قومهم. استثنى من المأمور بأخذهم وقتلهم من ترك المحاربين فلحق بالمعاهدين ، أو أتى الرسول وكفّ عن قتال الفريقين. أو على صفة قوم ، وكأنّه قيل : إلّا الّذين يصلون إلى قوم معاهدين ، أو إلى قوم كافّين عن القتال لكم وعليكم.

والأوّل أظهر ، لقوله : «فإن اعتزلوكم».

(حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) حال بإضمار «قد» أي : حال كونهم ضاقت صدورهم. ويدلّ عليه ما ورد في القراءة الشاذّة : حصرة صدورهم وحصرات. أو بيان لـ «جاءوكم». وقيل : صفة محذوف ، أي : جاءوكم قوما حصرت صدورهم.

والحصر : الضيق والانقباض. والمعنى : ضاقت قلوبهم. (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) عن أن ، أو لأن ، أو كراهة أن يقاتلوكم (أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) فلا عليكم ولا عليهم.

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره (١) أنّ بني أشجع قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن رجيلة ، فأخرج إليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحمال التمر ضيافة. وقال : نعم الشيء الهديّة أمام الحاجة. وقال لهم : ما جاء بكم؟ قالوا : قرب دارنا منك ، وكرهنا حربك وحرب قومنا ـ يعني : بني ضمرة الّذين بينهم وبينهم عهد ـ لقلّتنا ، فجئنا لنوادعك. فقبل النبيّ ذلك منهم ووادعهم ، فرجعوا إلى بلادهم ، فأمر الله سبحانه أن لا يتعرّضوا لهؤلاء.

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧.

١٢٢

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) بأن قوّى قلوبهم ، وبسط صدورهم ، وأزال الرعب عنهم (فَلَقاتَلُوكُمْ) ولم يكفّوا عنكم. هذا إخبار عن المقدور ، وليس فيه أنه يفعل ذلك ، أو يأذن لهم فيه. فمعناه : أنّه يقدر على ذلك لو شاء ، لكنّه لم يشأ ذلك ، بل قذف سبحانه الرعب في قلوبهم حتى فزعوا وطلبوا الموادعة ، ولو لم يقذفه كانوا مسلّطين ، أي : مقاتلين لكم غير كافّين.

(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ) أي : فإن لم يتعرّضوا لكم بالقتال (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) الاستسلام والانقياد ، أي : صالحوكم واستسلموا لكم (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم.

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))

روي أنّ بني أسد وغطفان أتوا المدينة وأظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين ، فلمّا رجعوا إلى قومهم نكثوا عهدهم وكفروا ، فنزلت في شأنهم : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) غير الّذين وصفوا (يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) فيظهرون الإسلام (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) فيظهرون لهم الموافقة في دينهم (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) المراد بالفتنة هنا الشرك ، أي : كلّما دعاهم قومهم إلى الكفر وإلى قتال المسلمين (أُرْكِسُوا فِيها) قلّبوا فيها أقبح قلب ، وكانوا شرّا فيها من كلّ عدوّ.

(فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) لم يعتزل هؤلاء قتالكم (وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) ولم

١٢٣

يستسلموا لكم (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) ولم يكفّوا أيديهم عن قتالكم (فَخُذُوهُمْ) فأسروهم (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) حيث تمكّنتم منهم (وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) حجّة واضحة في التعرّض لهم بالقتل والسبي ، لظهور عداوتهم ، ووضوح كفرهم وغدرهم. وسمّيت الحجّة سلطانا لأنّها يتسلّط بها على الخصم ، كما يتسلّط السلطان. أو تسلّطا ظاهرا ، حيث أذن لكم في القتال.

قيل : نزلت هذه الآية في عيينة بن حصن الفزاري ، وذلك أنّه أجدبت بلادهم فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووادعه على أن يقيم ببطن نخل ولا يتعرّض له ، وكان منافقا ملعونا ، وهو الّذي

سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأحمق المطاع في قومه. وهو المرويّ عن الصادق عليه‌السلام.

وبرواية ابن عبّاس نزلت في أناس كانوا يأتون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسلّمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا قومهم ويأمنوا رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢))

ولمّا أمر الله تعالى بقتال أهل الحرب وقتلهم ، نهى عن قتل غيرهم من

١٢٤

المسلمين والمعاهدين ، فقال : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) وما صحّ له ، وليس من شأنه (أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) بغير حقّ (إِلَّا خَطَأً) فإنّه على عرضته. ونصبه على الحال أو المفعول له ، أي : لا يقتله في شيء من الأحوال إلّا حال الخطأ ، أو لا يقتله إلّا للخطأ. أو على أنّه صفة مصدر محذوف ، أي : إلّا قتلا خطأ من غير قصد ، بأن يرمي شخصا على أنّه كافر فيكون مسلما ، أو كان يريد شيئا فيصيب غيره ، مثل أن يرمي إلى غرض أو إلى صيد فيصيب إنسانا فقتله. وقيل : «ما كان» نفي في معنى النهي ، والاستثناء منقطع ، أي : لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما قال عزّ اسمه.

(وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي : فعليه تحرير رقبة. والتحرير الاعتاق ، والحرّ كالعتيق بمعنى الكريم ، ومنه حرّ الوجه لأكرم موضع منه ، سمّي به لأنّ الكرم في الأحرار. والرقبة عبّر بها عن النسمة كما عبّر عنها بالرأس.

(مُؤْمِنَةٍ) محكوما بإيمانها وإن كانت صغيرة (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) مؤدّاة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث. وكميّة الدية وكيفيّتها جنسا ووصفا مذكورتان في كتب الفقه. والدية على عاقلة القاتل.

(إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي : يتصدّق أولياء المقتول بالدية. ومعناه العفو. وسمّي العفو عنها صدقة حثّا عليه ، وتنبيها على فضله. وفي الحديث : «كلّ معروف صدقة». وهو متعلّق بـ «عليه» ، أو بـ «مسلّمة» أي : تجب الدية عليه ، أو يسلّمها إلى أهله ، إلّا حال تصدّقهم عليه أو زمانه. فهو في محلّ النصب على الحال أو الظرف.

(فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) أي : من قوم كفّار محاربين ، أو في تضاعيفهم ، ولم يعلم إيمانه (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فعلى قاتله الكفّارة دون الدية ، إذ لا وراثة بينه وبينهم ، لأنّهم محاربون.

(وَإِنْ كانَ) المقتول (مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) من قوم كفرة معاهدين ، أو أهل الذمّة ، فحكمه حكم المسلم (فَدِيَةٌ) فعلى عاقلة قاتله دية

١٢٥

(مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي : وعلى قاتله تحرير رقبة مؤمنة ، كما روي عن الصادق عليه‌السلام ، وعليه جمهور الفقهاء.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة ، بأن لم يملكها ، ولا ما يتوصّل به إليها (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) فعليه ، أو فالواجب عليه صيام شهرين. (تَوْبَةً) نصب على المفعول له ، أي : شرع ذلك توبة كائنة (مِنَ اللهِ) من تاب الله عليه ، إذا قبل توبته.

أو على المصدر ، أي : وتاب الله عليكم توبة. أو الحال بحذف مضاف ، أي : فعليه صيام شهرين ذا توبة من الله.

وقيل : المراد بالتوبة هنا التخفيف من الله ، لأنّه سبحانه إنّما جوّز للقاتل العدول إلى الصيام تخفيفا عليه ، فيكون كقوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) (١).

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بحاله (حَكِيماً) فيما أمر في شأنه.

والآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الأمّ ، وذلك أنّه اسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة قبل هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأقسمت أمّه لا تأكل ولا تشرب ولا يظلّها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل ومعه الحارث بن زيد العامري فأتياه وهو في أطم (٢) ، فاطّلع أبو جهل في ذروة (٣) وقال : أليس محمد يحثّك على صلة الرحم؟ انصرف وبرّ أمّك وأنت على دينك ، حتّى نزل وذهب معهما. فلمّا خرجا من المدينة كتّفاه وجلده كلّ واحد منهما مائة جلدة. فقال للحارث : هذا أخي ، فمن أنت يا حارث؟ لله عليّ إن وجدتك خاليا أن أقتلك.

وقدما به على أمّه ، فحلفت لا تحلّ كتافه أو يرتدّ ، ثم فعل. ثم هاجر بعد ذلك ، وأسلم الحارث وهاجر ، فلقيه عياش بظهر قبا ـ ولم يشعر بإسلامه ـ فقتله ، ثم أخبر

__________________

(١) المزّمّل : ٢٠.

(٢) الأطم جمعه آطام : القصر والحصن المبنيّ بالحجارة ، وكلّ بناء مرتفع.

(٣) الذروة : العلوّ والمكان المرتفع.

١٢٦

بإسلامه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : قتلته ولم أشعر بإسلامه ، فنزلت الآية فيه.

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣))

ولمّا بيّن سبحانه قتل الخطأ وحكمه ، عقّبه ببيان قتل العمد وحكمه ، فقال تهديدا بليغا فيه : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) قاصدا إلى قتله ، عالما بإيمانه وحرمة قتله وعصمة دمه (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) أبعده من الرحمة وطرده عنها (وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً). وقتل العمد أن يقصد قتل غيره بما جرت العادة بأنّه يقتل مثله ، سواء كان بحديدة حادّة كالسلاح ، أو بخنق أو سمّ ، أو إحراق أو تغريق ، أو ضرب بالعصا أو بالحجارة حتى يموت ، فإنّ ذلك عمد يوجب القود به.

ولمّا كان في قتل العمد تهديد بليغ ووعيد عظيم وخطب جسيم ، قال ابن عبّاس : لا يقبل توبة قاتل المؤمن عمدا. ولعلّه أراد به التشديد ، إذ روي عن ابن عبّاس خلافه ، كما روى الواحدي (١) بإسناده مرفوعا إلى عطاء ، عن ابن عبّاس أنّ رجلا سأله : القاتل المؤمن توبة؟ فقال : لا. وسأله آخر : ألقاتل المؤمن توبة؟ فقال : نعم. فقيل له في ذلك ، فقال : جاءني ذلك ولم يكن قتل ، فقلت : لا توبة لك لكي لا يقتل ، وجاءني هذا وقد قتل ، فقلت : لك توبة لكي لا يلقى بيده إلى التهلكة.

وقال بعض أصحابنا : إنّ قاتل المؤمن لا يوفّق للتوبة ، على معنى أنه لا يختار التوبة. وعند معظم أصحابنا وعند الشافعي أنّ هذا الحكم مخصوص بالمستحلّ له ، كما ذكره عكرمة.

وعن الصادق عليه‌السلام أنّ معنى التعمّد أن يقتله على دينه. ويؤيّده مارواه

__________________

(١) الوسيط ٢ : ٩٩.

١٢٧

الضحّاك وجماعة من المفسّرين أنّها نزلت في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجّار ولم يظهر قاتله ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأرسل معه قيس بن الهلال الفهري وقال : قل لبني النجّار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه ، وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته. فبلّغ الفهري الرسالة ، فأعطوه الدية.

فلمّا انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان فقال : ما صنعت شيئا! أخذت دية أخيك فتكون عليك سبّة (١) ، اقتل الّذي معك ليكون نفس بنفس ، والدية فضل. فرماه بصخرة فقتله ، فركب بعيرا ورجع إلى مكّة مرتدّا. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أؤمنه في حلّ ولا حرم. فقتل يوم الفتح.

أو المراد بالخلود المكث الطويل ، فإنّ الدلائل متظافرة على أنّ عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم.

وروى العيّاشي بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقد روي أيضا مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : هو جزاؤه إن جازاه.

وروى عاصم بن أبي النجود عن ابن عبّاس في قوله : «فجزاؤه جهنّم» قال : «هي جزاؤه ، فإن شاء عذّبه ، وإن شاء غفر له».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤))

روي عن ابن عبّاس وقتادة والسدّي أنّ سريّة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غزت أهل

__________________

(١) السبّة : العار.

١٢٨

فدك ، فهربوا وبقي مرداس ثقة بإسلامه ، فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول (١) من الجبل وصعد ، فلمّا تلاحقوا وكبّروا كبّر ونزل وقال لهم : لا إله إلّا الله محمد رسول الله ، فبدر إليه أسامة فقتله واستاقوا غنمه ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) سافرتم وذهبتم للغزو (فَتَبَيَّنُوا). وقرأ حمزة والكسائي : فتثبّتوا. وهما من التفعّل بمعنى الاستفعال ، أي : اطلبوا بيان الأمر وثباته ، ولا تعجّلوا في القتل من غير رويّة.

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) لمن حيّاكم بتحيّة الإسلام. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة : السّلم بغير الألف ، أي : الاستسلام والانقياد. وفسّر به السلام أيضا. (لَسْتَ مُؤْمِناً) أي : ليس لإيمانك حقيقة ، وإنّما أظهرت الإسلام خوفا من القتل.

(تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) تطلبون ماله الّذي هو حطام سريع النفاد.

وهو حال من الضمير في «تقولوا» مشعر بما هو الحامل لهم على العجلة وترك التثبّت ، وقلّة البحث عن حال من تقتلونه. (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي : في مقدوره فواضل ونعم وأرزاق تغنيكم بها عن قتل رجل يظهر الإسلام لتأخذوا ماله ، إن أطعتموه فيما أمركم به.

(كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي : أوّل ما دخلتم في الإسلام تفوّهتم بكلمتي الشهادة ، فحصنت بها دماؤكم وأموالكم ، من غير انتظار الاطّلاع على مواطاة قلوبكم ألسنتكم (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين.

(فَتَبَيَّنُوا) وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم ، ولا تبادروا إلى قتلهم ظنّا بأنّهم دخلوا فيه اتّقاء وخوفا ، فإنّ إبقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل امرئ مسلم. وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر ، وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم.

__________________

(١) العاقول : منعطف الوادي أو النهر ، أو المعوجّ منه ، أو الأرض لا يهتدى إليها.

١٢٩

(إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) عالما به وبالغرض منه ، فلا تتساقطوا في القتل واحتاطوا.

وروي عن ابن عبّاس وقتادة لمّا نزلت الآية حلف أسامة لا يقتل رجلا قال : لا إله إلّا الله. وبهذا اعتذر إلى عليّ عليه‌السلام لمّا تخلّف عنه ، وإن كان عذره غير مقبول ، لصريح الدلالة على وجوب طاعة الامام في محاربة البغاة ، سيّما وقد سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : حربك يا عليّ حربي ، وسلمك سلمي.

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦))

ولمّا نهى عن قتل المسلمين وذكر أحكامه ، وبيّن ما فيه من النكال والعقاب ، عاد إلى قتال المشركين وقتلهم ، وبيّن ما فيه من الفضل والثواب ، فقال : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) عن الحرب (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) في موضع الحال من القاعدين ، أو من الضمير الّذي فيه (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بالرفع صفة لـ «القاعدون» ، لأنّه لم يقصد به قوم بأعيانهم ، أو بدل منه. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على الحال أو الاستثناء. والمراد بالضرر المرض أو العاهة ، من عمى أو زمانة أو نحوهما.

١٣٠

وعن زيد بن ثابت أنّها نزلت ولم يكن فيها «غير أولي الضرر» ، فقال ابن أمّ مكتوم : وكيف وأنا أعمى؟ فغشي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجلسه الوحي ، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضّها ، ثم كشف عنه الوحي فقال : اكتب : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ).

(وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ومنهاج دينه ، لتكون كلمة الله هي العليا (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي : لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علّة.

وفائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد ، رفعا لرتبته ، وأنفة عن انحطاط منزلته.

(فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) فضيلة ومزيّة. ونصبه بنزع الخافض ، أي : بدرجة. أو على المصدر ، لأنّه تضمّن معنى التفضيل ووقع موقع : مرّة ، فيكون «درجة» في معنى : تفضيلا ، نحو : ضربته سوطا ، أي : ضربته ضربة. أو على الحال ، بمعنى ذوي درجة. وهذه الجملة الفعليّة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين ، كأنّه قيل : ما لهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك.

(وَكُلًّا) من القاعدين والمجاهدين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) المثوبة الحسنى ، وهي الجنّة ، لحسن عقيدتهم ، وخلوص نيّتهم. وإنّما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد خلّفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم».

وهم الّذين صحّت نيّاتهم ، ونصحت (١) جيوبهم ، وهوت أفئدتهم إلى الجهاد ، وقد منعهم من المسير ضرر أو غيره.

__________________

(١) رجل ناصح الجيب ، أي : نقيّ القلب. الصحاح ١ : ٤١١.

١٣١

(وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) نصب على المصدر ، لأنّ «فضّل» بمعنى : أجر ، والمفعول الثاني لتضمّنه معنى الإعطاء ، كأنّه قيل : وأعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما.

(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) كلّ واحد منها بدل من «أجرا». ويجوز أن ينتصب درجات على المصدر ، كأنّه قيل : فضّلهم تفضيلات ، كقولك : ضربته أسواطا ، وأجرا على الحال عنها ، تقدّمت عليها لأنّها نكرة. ومغفرة ورحمة على المصدر بإضمار فعلهما ، بمعنى : غفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة.

قيل : كيف قال أوّلا : فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ، ثم قال ثانيا : فضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات ، وهذا متناقض الظاهر.

وأجيب : بأنّ المراد بالأوّل ما خوّلهم في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر ، والثاني ما جعل لهم في الآخرة.

وفي الحديث : «إنّ الله تعالى فضّل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة ، بين كلّ درجتين مسيرة سبعين خريفا للفرس الجواد المضمر».

والمراد بالدرجة الأولى ارتفاع منزلتهم عند الله تعالى ، كما يقال : فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان ، يريدون بذلك أنه أعظم منزلة ، وبالدرجات منازلهم في الجنّة. أو القاعدون الأوّل هم الأضرّاء ، والقاعدون الثاني هم الّذين أذن لهم في التخلّف اكتفاء بغيرهم ، فإنّ الجهاد فرض على الكفاية. أو المجاهدون الأوّلون من جاهد الكفّار ، والآخرون من جاهد نفسه ، وعليه قوله عليه‌السلام : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما عسى أن يفرط منهم (رَحِيماً) بما وعد لهم.

١٣٢

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩))

ثم أخبر سبحانه عن حال من ترك الهجرة ، ووافق الكفرة ، وقعد عن نصرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) يحتمل الماضي والمضارع (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) في حال ظلمهم أنفسهم بترك المهاجرة وموافقة الكفرة (قالُوا) أي : الملائكة توبيخا لهم (فِيمَ كُنْتُمْ) في أيّ شيء كنتم من أمر دينكم (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) اعتذروا ممّا وبّخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة ، أو إظهار الدين وإعلاء كلمته.

وهم جماعة أسلموا بمكّة ، ولم يهاجروا حين كانت المهاجرة واجبة ، فلمّا خرج المشركون إلى بدر لم يخلفوا منهم أحدا إلا من كان صبيّا أو مريضا أو شيخا كبيرا ، فخرج هؤلاء معهم ، فلمّا نظروا إلى قلّة المسلمين ارتابوا فأصيبوا فيمن أصيب من المشركين ، فنزلت الآية.

فقولهم : «فيم كنتم» توبيخ لهم بأنّهم لم يكونوا في شيء من الدين ، حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا. فاعتذروا ممّا وبّخوا بالاستضعاف ، وأنّهم لم يتمكّنوا من الهجرة.

١٣٣

فالملائكة على وجه التبكيت والتكذيب لهم (قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) إلى قطر آخر ، كما هاجر المهاجرون إلى المدينة والحبشة؟! (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) لتركهم الواجب ، ومساعدتهم الكفّار. وهو خبر «إنّ» ، والفاء فيه لتضمّن الاسم معنى الشرط. و (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) حال من الملائكة بإضمار «قد». أو الخبر «قالوا» والعائد محذوف ، أي : قالوا لهم. وهو جملة معطوفة على الجملة التي قبلها مستنتجة منها (وَساءَتْ مَصِيراً) مصيرهم ، أو جهنّم.

وفي الآية دليل على وجوب الهجرة على المكلّف في موضع لا يتمكّن فيه من إقامة دينه.

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) استضعفهم المشركون (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) استثناء منقطع من أهل الوعيد ، لعدم دخولهم في الموصول وضميره والإشارة إليه.

وذكر الولدان إن أريد به المماليك فظاهر. وإن أريد به الصبيان فللمبالغة في الأمر ، والإشعار بأنّهم على صدد وجوب الهجرة ، فإنّهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة فلا محيص لهم عنها ، وأنّ قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت.

(لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) صفة للمستضعفين ، أو للرجال والنساء والولدان ، إذ لا تعيين فيه ، من قبيل : ... ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني ... أو حال منه ، أو من المستكن فيه. واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة وما تتوقّف عليه. واهتداء السبيل معرفة الطريق بنفسه أو بدليل.

(فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا) أي : لم يزل الله ذا صفح ـ بفضله ـ عن ذنوب عباده ، بترك عقوبتهم على معاصيهم (غَفُوراً) ساترا عليهم ذنوبهم ، بعفوه لهم عنها. ذكر بكلمة الإطماع ولفظ العفو إيذانا بأنّ ترك الهجرة وما يتوقّف عليه واهتداء السبيل أمر خطير ، حتى إنّ المضطرّ من حقّه أن لا يأمن ويترصّد الفرصة ، ويعلّق بها قلبه.

١٣٤

قيل : إنّ المستضعفين هم قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاص بن منبّه بن الحجّاج ، وعليّ بن أميّة بن خلف.

وروى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال ابن عبّاس : كنت من المستضعفين ، وكنت غلاما صغيرا. وذكر أيضا عنه أنّه قال : كان أبي من المستضعفين من الرجال ، وكانت أمّي من المستضعفات من النساء ، وكنت أنا من المستضعفين من الولدان.

وقال عكرمة : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو عقيب صلاة الظهر : اللهمّ خلّص الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين.

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))

ثم حثّ المستطيعين على المهاجرة بقوله : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ومن يفارق أهل الشرك ويهرب بدينه من وطنه وأهله في منهاج دين الله (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً) متحولا ، من الرغام وهو التراب. وقيل : طريقا يراغم بسلوكه قومه ، أي : يفارقهم على رغم أنوفهم. والرغم الذلّ والهوان ، وهو أيضا من الرغام (وَسَعَةً) في الرزق وإظهار الدين. وقيل : مهاجرا فسيحا ومتّسعا ممّا كان فيه من تضييق المشركين عليه.

روي عن سعيد بن جبير وقتادة وأبي حمزة الثمالي أنّه لمّا نزلت آيات

١٣٥

الهجرة سمعها رجل من المسلمين ، وهو جندب بن ضمرة ، وكان بمكّة ، فقال : والله ما أنا ممّن استثنى الله ، إنّي لأجد قوّة ، وإنّي لعالم بالطريق ، وكان مريضا شديد المرض ، فقال لبنيه : والله لا أبيت بمكّة حتّى أخرج منها ، فإنّي أخاف أن أموت فيها ، فخرجوا يحملونه على سرير ، فلمّا بلغ التنعيم أشرف على الموت ، فصفق بيمينه على شماله فقال : اللهمّ إنّ هذه لك ، وهذه لرسولك ، أبايعك على ما بايع عليه رسولك ، فمات ، فنزلت.

(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً) فارّا بدينه (إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) قبل بلوغه دار الهجرة (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ) جزاء هجرته وثواب عمله (عَلَى اللهِ) الوقوع والوجوب متقاربان. والمعنى : ثبت أجره عند الله ثبوت الأمر الواجب.

وكلّ هجرة لغرض دينيّ ـ من طلب علم ، أو حجّ ، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة ـ فهي هجرة إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) ساترا على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم (رَحِيماً) بهم رفيقا.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض ، وإن كان شبرا من الأرض ، استوجب الجنّة ، وكان رفيق إبراهيم ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١))

ولمّا أمر الله تعالى بالهجرة والجهاد ، بيّن كيفيّة صلاة السفر والخوف اللّذين لازمهما ، فقال : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) الضرب في الأرض هو السفر ، أي : إذا

١٣٦

سافرتم فيها (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) إثم (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) بتنصيف الرباعيّات ، فتصلّوها ركعتين ركعتين. والجارّ والمجرور صفة محذوف ، أي : شيئا من الصلاة عند سيبويه ، ومفعول «تقصروا» بزيادة «من» عند الأخفش.

والقصر ثابت بنصّ الكتاب في حال الخوف خاصّة ، وهو قوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا). يعني : خفتم فتنة الّذين كفروا في أنفسكم ، بأن يعذّبوكم بنوع من العذاب ، أو في دينكم. (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) ظاهر العداوة.

وأمّا قصر الصلاة في حال الأمن فبنصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهو عزيمة واجبة غير رخصة عند أبي حنيفة. وهو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام. ورخصة عند الشافعي.

وإنّما قال : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) في الواجب لئلّا يخطر ببالهم أنّ عليهم نقصانا في القصر ، فإنّهم ألفوا الأربع ، فكان مظنّة لأن يخطر ببالهم أنّ ركعتي السفر قصر ونقصان ، فسمّى الإتيان بهما قصرا على ظنّهم ، ونفي الجناح فيه لتطيب به أنفسهم.

والجملة الشرطيّة شريطة القصر باعتبار الغالب في ذلك الوقت ، ولم يعتبر مفهومها في وجوب القصر. ومثله في القرآن كثير ، كقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (١). وقد تظاهرت السنن من الموافق والمخالف على جواز القصر أيضا في حال الأمن.

وروى زرارة ومحمد بن مسلم : «قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي؟ وكم هي؟

قال : إنّ الله تعالى يقول : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فصار التقصير واجبا في السفر كوجوب التمام في الحضر.

قالا : قلنا : إنّه قال : لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة ، ولم يقل : افعل ،

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

١٣٧

فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام؟! قال : أو ليس قال سبحانه في الصفا والمروة : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (١)؟ ألا ترى أنّ الطواف واجب مفروض ، لأنّ الله تعالى ذكرهما في كتابه ، وصنعهما نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وكذا التقصير في السفر صنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكره الله في الكتاب.

قال : قلت : فمن صلّى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟

قال : إن كان قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه».

وقال في كنز العرفان : «قصر الصلاة جائز إجماعا. فقال الشافعي : هو رخصة ، لقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ). فهو من المخيّر عنده ، لكنّه قال : القصر أفضل. وقال المزني من أصحابه : الإتمام أفضل. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابنا : إنّه عزيمة. وبه قال عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام ، وابن عبّاس وجابر وابن عمر وغيرهم. ونفي الجناح لا ينافي الوجوب ، فإنّه قد استعمل في الوجوب ، كما في قوله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) إلى قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (٢) والطواف بهما واجب. ولما روي عن يعلى بن أميّة وقد سأل عمر : ما بالنا نقصّر وقد أمنّا؟ فقال : عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «تلك صدقة تصدّق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته» والأمر للوجوب. وغير ذلك من الروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام.

وتحقيق الحال هنا أن نقول : ليس السفر والخوف شرطين على الجمع للإجماع ، ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى قصرا سفرا مع زوال الخوف. وإذا لم يكونا

__________________

(١ ، ٢) البقرة : ١٥٨.

١٣٨

شرطين على الجمع ، فإمّا أن يكون أحدهما شرطا في الآخر ، دون العكس. وهو باطل.

أمّا أوّلا : فلاستلزام الترجيح من غير مرجّح.

وأمّا ثانيا : فلأنّ اشتراط السفر بالخوف باطل ، للإجماع المذكور والنصّ.

وعكسه ـ أعني : اشتراط الخوف بالسفر ـ باطل أيضا ، لكونه ينفي سببيّة الخوف مطلقا ، سفرا وحضرا. ولأنّ السبب التامّ يستحيل أن يكون شرطا في سببيّة الآخر.

وإذا بطل ذلك فلم يبق إلّا أن يكون كلّ واحد منهما سببا في وجوب القصر. ولما صحّ عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن صلاة الخوف وصلاة السفر أيقصّران جميعا؟ فقال : «نعم ، وصلاة الخوف أحقّ أن يقصّر من صلاة السفر الّذي ليس فيه خوف» بانفراده. جعل عليه‌السلام الخوف سببا أقوى من السفر الخالي عنه ، فيكون كلّ واحد منهما سببا تامّا منفردا. وهذا تقرير لوجوب القصر فيهما معا.

ثم قال : «وحدّ التقصير في السفر عندنا مرحلة ، ثمانية فراسخ أو مسير يوم متوسّط السير» (١).

أو أربعة فراسخ لمن أراد الرجوع في يومه أو ليلته ، على الخلاف في الأخير ، وبه وردت الروايات المتضافرة عن أهل البيت عليهم‌السلام. وعند الشافعي مرحلتان ، ستّة عشر فرسخا ، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه : ثلاثة مراحل ، أربعة وعشرون فرسخا. وباقي شرائط القصر مذكور في كتب الفقه ، فليطالع ثمّة.

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ

__________________

(١) كنز العرفان ١ : ١٨٢ ـ ١٨٤.

١٣٩

يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣))

ولمّا بيّن سبحانه وجوب قصر صلاة السفر ، عقّبه ببيان كيفيّة صلاة الخوف ، فقال : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) في الخائفين من أصحابك (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) بأن تؤمّهم. ومن خصّ صلاة الخوف بحضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمسّك بمفهومه. وأمّا فقهاء الاماميّة وفقهاء العامّة على أنّه تعالى علّم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها ليأتمّ به الأئمّة بعده ، فإنّهم نوّاب عنه ، فيكون حضورهم كحضوره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) من أصحابك الّذين أنت فيهم (مَعَكَ) أي : في صلاتك ، فاجعلهم طائفتين ، فلتقم إحداهما معك يصلّون ، وتقوم الطائفة الأخرى تجاه العدوّ ، ولم يذكر هذا لدلالة الكلام عليه (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي : المصلّون حزما ، لا يشغلهم عن الصلاة ، كالسيف يتقلّدون به ، والخنجر يشدّونه إلى دروعهم ، ونحوهما.

(فَإِذا سَجَدُوا) يعني : الطائفة الّتي تصلّي معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفرغوا من سجودهم (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) يحرسونكم ، يعني : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يصلّي معه ، فغلب المخاطب على الغائب يعني : فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم مصافّين للعدوّ

١٤٠