زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

وبعض المباحات ، وصونا للنفس عن الخسّة ، وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة» (١).

(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فلا يؤاخذهم بشيء. وفيه أنّ من فعل ذلك صار محسنا ، ومن صار محسنا صار لله محبوبا.

قال علم الهدى (٢) رحمه‌الله : «إنّ المفسّرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التكرار الّذي تضمّنته الآية ، وظنّوا أنّه المشكل منها ، وتركوا ما هو أشدّ إشكالا من التكرار ، وهو أنّه تعالى نفى الجناح عن الّذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتّقاء والإيمان وعمل الصالحات ، والحال أنّهما ليسا بشرط في نفي الجناح ، فإنّ المباح إذا وقع من الكافر فلا إثم عليه ولا وزر.

ولنا في حلّ هذه الشبهة : أنّ الإيمان وعمل الصالحات هنا ليس بشرط حقيقيّ ، وإن كان معطوفا على الشرط ، فكأنّه تعالى لمّا أراد أن يبيّن وجوب الإيمان وعمل الصالحات عطفه على ما هو واجب من اتّقاء المحارم ، لاشتراكهما في الوجوب ، وإن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيمن يطعم. وهذا توسّع في البلاغة يحار العقل فيه استحسانا واستغرابا.

أو نضمّ إلى المشروط المصرّح به غيره حتى يظهر تأثير ما شرط. فيكون تقدير الآية : ليس على الّذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ، لأنّ الشرط في نفي الجناح لا بدّ من أن يكون له تأثير حتّى يكون متى انتفى ثبت الجناح ، وقد علمنا أنّه باتّقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم ، فهو الشرط الّذي لا زيادة عليه. ولمّا ولي ذكر الاتّقاء الإيمان وعمل الصالحات ولا تأثير لهما في نفي الجناح ، علمنا أنّه أضمر ما تقدّم ذكره ليصحّ الشرط ويطابق المشروط ، لأنّ من اتّقى الحرام فيما يطعم لا جناح عليه فيما يطعمه ، لكنّه قد يصحّ أن يثبت عليه الجناح فيما أخلّ به من واجب وضيّعه من

__________________

(١) أنوار التنزيل ٢ : ١٦٨.

(٢) أمالي المرتضى (طبعة دار الكتاب العربي) ٢ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥.

٣٢١

فرض ، فإذا شرطنا أنّه وقع اتّقاء القبيح ممّن آمن بالله وعمل الصالحات ارتفع الجناح عنه من كلّ وجه. وليس بمنكر حذف ما ذكرناه ، لدلالة الكلام عليه ، فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى ، وتكون قوّة الدلالة عليه مغنية عن النطق». انتهى كلامه.

ونحن نقول : إنّ المؤمن يصحّ أن يطلق عليه بأنّه لا جناح عليه ، والكافر مستحقّ للعقاب مغمور في المعاصي ، فلا يطلق عليه هذا اللفظ. وأيضا فإنّ الكافر قد سدّ على نفسه طريق معرفة التحريم والتحليل ، فلذلك يخصّ المؤمن بالذكر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

ولمّا تقدّم في أوّل السورة تحريم الصيد على المحرم مجملا ، وانجرّ الكلام

٣٢٢

إلى هاهنا ، بيّن سبحانه ذلك المجمل بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) التقليل والتحقير في «بشيء» للتنبيه على أنّه ليس من العظائم الّتي تدحض الأقدام ، كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال ، فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشدّ منه؟

روي أنّها نزلت في عام الحديبية ، ابتلاهم الله تعالى بالصيد ، وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم ، بحيث يتمكّنون من صيدها ، أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وهم محرمون.

(لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي : ليتميّز الخائف من عقابه وهو غائب منتظر ، لقوّة إيمانه ، ممّن لا يخافه ، لضعف قلبه وقلّة إيمانه. فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره ، أو تعلّق العلم. أو ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم مظاهرة في العدل.

قال بعض العلماء : امتحن الله أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصيد البرّ ، كما امتحن الله أمّة موسى عليه‌السلام بصيد البحر.

والمراد بتحريم صيد البرّ الّذي تناله الأيدي من فراخ الطير وصغار الوحش والبيض ، والّذي تناله الرماح من كبار الصيد.

(فَمَنِ اعْتَدى) فمن تجاوز حدّ الله وخالف أمره بالصيد في الحرم أو في حال الإحرام (بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد ذلك الابتلاء بالصيد (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) فالوعيد لا حق به ، فإنّ من لا يملك قلبه في مثل ذلك ، ولا يراعي حكم الله تعالى فيه ، فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه وأحرص عليه؟! ثمّ ذكر سبحانه عقيب ذلك ما يجب على هذا الاعتداء من الجزاء ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) هو اسم مصدر ، أو المصيد ، وهو المراد هاهنا

٣٢٣

(وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي : محرمون بحجّ أو عمرة ، جمع حرام ، كرداح (١) وردح. وهو مصدر سمّي به المحرم مجازا.

واختلف في المعنيّ بالصيد ، فقيل : هو كلّ الوحش ، أكل أم لم يؤكل. وهو قول أهل العراق. واستدلّوا بقول عليّ عليه‌السلام :

صيد الملوك ثعالب وأرانب

فإذا ركبت فصيدي الأبطال

وقيل : هو كلّ ما يؤكل لحمه ، لأنّه الغالب فيه. وهو قول الشافعي. ويؤيّده قوله عليه‌السلام : «خمس يقتلن في الحلّ والحرم : الحدأة (٢) ، والغراب ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور». وفي رواية بدل العقرب الحيّة.

وفيه تنبيه على قتل كلّ مؤذ.

وأمّا أصحابنا فقالوا : إنّ المحلّل حرام مطلقا. وأمّا المحرّم فقالوا بتحريم الأسد والثعلب والأرنب والضبّ واليربوع والقنفذ ، لتظافر الروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام.

واختلف أيضا في أنّ هذا النهي هل يلغي حكم الذبح ، فيلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح الوثني ، أو لا ، فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب؟ وأصحابنا على الأوّل. ويؤيّده إيثار «لا تقتلوا» على : لا تذكّوا أو لا تذبحوا.

(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) ذاكرا لإحرامه ، عالما بأنّه حرام عليه قتل ما يقتله. والأكثر على أنّ ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء ، فإنّ إتلاف العامد والمخطئ واحد في إيجاب الضمان ، وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام ، بل لقوله : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ). ولأنّ الآية نزلت في من تعمّد ، إذ روي أنّه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش ، فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله ، فنزلت.

(فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) برفع الجزاء والمثل. قرأه الكوفيّون ويعقوب ، بمعنى : فعليه ، أي : فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النعم. فيكون مبتدأ ، و «مثل»

__________________

(١) الرداح : الشجرة الكبيرة.

(٢) الحدأة : طائر من الجوارح.

٣٢٤

صفته. وعلى هذه القراءة لا يتعلّق الجارّ بـ «جزاء» ، للفصل بينهما بالصفة. وقرأ الباقون على إضافة المصدر إلى المفعول. والمعنى : فعليه أن يجزي مثل ما قتل.

وهذه المماثلة عند أئمّة الهدى عليهم‌السلام والشافعي باعتبار الخلقة والهيئة ، ففي النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش وبقر الوحش بقرة ، وفي الظبي والأرنب ونحوهما شاة. وباعتبار القيمة عند أبي حنيفة ، بأن يقوّم الصيد قيمة عادلة ، ثمّ يشترى بقيمته مثله من النعم. والصحيح القول الأوّل ، وهو أيضا قول ابن عبّاس والحسن ومجاهد والسدّي وعطاء والضحّاك وغيرهم.

(يَحْكُمُ بِهِ) أي : بمثل ما قتل (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي : حكمان عدلان من الفقهاء ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به. وهو صفة «جزاء» ، أو حال من ضميره.

(هَدْياً) حال من الهاء في «به» ، أو من «جزاء» وإن نوّن ، لتخصّصه بالصفة (بالِغَ الْكَعْبَةِ) وصف به هديا لأنّ إضافته لفظيّة. ومعنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم ، والتصدّق به ثمّة. وقال أصحابنا : إذا كان محرما بالعمرة ذبح أو نحر بمكّة ، وإن كان محرما بالحجّ فبمنى. وقال أبو حنيفة : يذبح بالحرم ، ويتصدّق به حيث شاء.

(أَوْ كَفَّارَةٌ) عطف على «جزاء». والمعنى : أو الواجب عليه (طَعامُ مَساكِينَ) عطف بيان ، أو بدل منه ، أو خبر محذوف ، أي : هي طعام. وقرأ نافع وابن عامر : كفّارة طعام بالإضافة للتبيين ، تقديره : أو كفّارة من طعام مساكين ، كقولك : خاتم فضّة ، أي : خاتم من فضّة. وهو أن يقوّم الجزاء ، ويفضّ ثمنه على الحنطة ، ويتصدّق به على كلّ مسكين نصف صاع.

(أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أي : ما عاد له ، أي : ساواه من الصوم ، فيصوم عن إطعام كلّ مسكين يوما. وهو في الأصل مصدر أطلق للمفعول. والخيار في هذه الكفّارات الثلاث إلى قاتل الصيد. وقيل : هي مرتّبة. وكلا القولين رواهما أصحابنا.

٣٢٥

(لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) يتعلّق بمحذوف ، أي : فعليه الجزاء أو الإطعام أو الصوم ، ليذوق ثقل فعله ، وسوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام أو الحرم ، أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى. وأصل الوبل الثقل ، ومنه الطعام الوبيل.

(عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من قتل الصيد محرما في الجاهليّة ، أو قبل التحريم ، أو في هذه المرّة. (وَمَنْ عادَ) أي : ومن عاد ثانيا عمدا إلى قتل الصيد (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) فهو ممّن ينتقم الله منه عقوبة بما صنع ، ولا كفّارة. وهل ذلك مانع من وجوب الكفّارة عليه أم لا؟ قال ابن عبّاس : نعم ، وبه قال أكثر أصحابنا. وقال الحسن وابن جبير وعامّة الفقهاء : لا ، بل تجب ، وبه قال بعض أصحابنا. (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ممّن أصرّ على عصيانه.

ثمّ بيّن سبحانه ما يحلّ من الصيد وما يحرم ، فقال : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) أي : مصيداته. وهي ما صيد منه ممّا لا يعيش إلّا في الماء. والمعنى : أحلّ لكم الانتفاع من لحمه الطريّ (وَطَعامُهُ) أي : وأحلّ لكم طعام البحر ما كان مملوحا قديدا عندنا وعند أبي حنيفة. ولا يحلّ منه إلّا السمك الّذي له فلس. وعند الشافعي كلّ مصيدات البحر حلال. وإنّما سمّي طعاما لأنّه يدّخر ليطعم ، فيصير كالمقتات من الأغذية. وقيل : المراد ما يقذفه البحر ميّتا. وهو مرويّ عن ابن عمر وقتادة. والّذي يليق بمذهبنا هو الأوّل.

(مَتاعاً لَكُمْ) نصب على الغرض ، أي : ليتمتّعوا من أكله. تمتيعا لكم (وَلِلسَّيَّارَةِ) ولسيّارتكم ، أي : لمسافريكم يتزوّدونه طريّا وقديدا.

(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) أي : ما صيد فيه ، أو الصيد فيه. فعلى الأوّل يحرم على المحرم ما صاده الحلال فيه ، وإن لم يكن للمحرم فيه مدخل. وهذا موافق لمذهبنا. (ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي : محرمين.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) هذا أمر منه تعالى بأن يتّقى جميع معاصيه ، ويجتنب جميع محارمه ، لأنّ إليه الرجوع في الوقت الّذي لا يملك أحد فيه الضرر

٣٢٦

والنفع سواه ، وهو يوم القيامة ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩))

ولمّا ذكر سبحانه حرمة الحرم ، عقّبه بذكر البيت الحرام والشهر الحرام ، فقال : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على جهة المدح ، أو المفعول الثاني (قِياماً لِلنَّاسِ) انتعاشا لهم ، أي : سبب انتعاشهم في أمر دينهم ودنياهم ، ونهوضهم إلى أغراضهم ومقاصدهم في أمور معاشهم ومعادهم ، بأن يلوذ به الخائف ، ويأمن فيه الضعيف ، ويربح فيه التجّار ، ويتوجّه إليه الحجّاج والعمّار. أو ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم ، وأنواع منافعهم الدنيويّة والدينيّة.

وعن ابن عبّاس : معناه : جعل الله الكعبة أمنا للناس بها يقومون ، أي : يأمنون ، ولولاها لفنوا وهلكوا وما قاموا ، وكان أهل الجاهليّة يأمنون به ، فلو لقي الرجل قاتل أبيه وابنه في الحرم ما قتله.

وعن عطاء : لو تركوه عاما واحدا لا يحجّونه لم ينظروا ولم يؤخّروا. ومعناه : يهلكون.

وعن عليّ (١) بن إبراهيم عنهم عليهم‌السلام قالوا : «ما دامت الكعبة يحجّ الناس إليها

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ١٨٧ ـ ١٨٨.

٣٢٧

لم يهلكوا ، فإذا هدمت أو تركوا الحجّ هلكوا».

وفي الحديث : «مكتوب في أسفل المقام : إنّي أنا الله ذو بكّة ، حرّمتها يوم خلقت السماوات والأرض ، ويوم وضعت هذين الجبلين ، وحففتهما بسبعة أملاك حنفاء ، من جاءني زائرا لهذا البيت عارفا بحقّه ، مذعنا لي بالربوبيّة ، حرّمت جسده على النار».

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه».

وقرأ ابن عامر : قيما ، على أنّه مصدر على فعل كالشبع ، أعلّت عينه كما أعلّت في فعله. ونصبه على المصدر أو الحال.

(وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) أي : وجعل الشهر الّذي يؤدّى فيه الحجّ ـ وهو ذو الحجّة ـ قياما للناس. وقيل : عنى به جنس الأشهر الحرم الأربعة ، واحد (١) فرد ، وثلاثة سرد. وهو عطف على «الكعبة» كما تقول : ظننت زيدا منطلقا وعمرا. وكذا قوله : (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أي : والمقلّدات من الهدي خصوصا ، لأنّ الثواب فيه أكثر. وقد سبق (٢) تفسير القلائد.

(ذلِكَ) إشارة إلى الجعل ، أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإنّ شرع الأحكام لدفع المضارّ قبل وقوعها ، وجلب المنافع المترتّبة عليها ، دليل حكمة الشارع وكمال علمه. (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعميم بعد تخصيص ، ومبالغة بعد إطلاق.

ولمّا تقدّم بيان الأحكام عقّبه سبحانه بذكر الوعد والوعيد ، فقال : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصاه (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب وأطاع. وعيد ووعد لمن هتك محارمه ، ولمن حافظ عليها ، ولمن أصرّ عليه ، ولمن أقلع عنه.

وعقّب الإنذار والتبشير بقوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) تشديد في

__________________

(١) وهو رجب ، والسّرد ـ أي : المتتابع ـ : ذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم.

(٢) راجع ص ٢١٠ ذيل الآية ٢ من سورة المائدة.

٣٢٨

إيجاب القيام بما أمر به ، أي : الرسول أتى بما أمر به من التبليغ ، ولم يبق لكم عذر في التفريط. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) لا يخفى عليه شيء من أحوالكم الّتي تظهرونها وتخفونها ، من تصديق وتكذيب ، وفعل وعزيمة. وفيه غاية الزجر والتهديد.

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

ولمّا بيّن سبحانه الحلال والحرام ، بيّن أنّهما لا يستويان ، فقال : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) حكم عامّ في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيّدها ، رغّب به فمي مصالح الأعمال وحلال الأموال. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإنّ العبرة بالجودة والرداءة دون القلّة والكثرة ، فإنّ المحمود القليل خير من المذموم الكثير. والخطاب لكلّ معتبر ذي لبّ ، ولذا قال : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي : فاتّقوه في تحرّي الخبيث وإن كثر ، وآثروا الطيّب وإن قلّ (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) راجين أن تبلغوا الفلاح.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))

ولمّا بيّن سبحانه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبلّغ ما فيه المصلحة ، نهى العباد عن السؤال عمّا لا يعنيهم ولا يحتاجون إليه ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا)

٣٢٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) تظهر لكم (تَسُؤْكُمْ) تكرهوا وتحزنوا (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) أي : في زمان الوحي (تُبْدَ لَكُمْ) يظهر لكم جوابها فتكرهوه وتغتمّوا ، فلا تتكلّفوا السؤال عنها في حال.

والشرطيّة وما عطف عليها صفتان لـ «أشياء» ، وهما كمقدّمتين تنتجان ما يمنع السؤال ، وهو أنّه ممّا يغمّهم ، والعاقل لا يفعل ما يغمّه.

و «أشياء» اسم جمع كطرفاء ، غير أنّه قلبت لامه فجعلت لفعاء.

وقيل : أفعلاء ، حذفت لامه ، جمع لشيء على أنّ أصله : شيّئ كهيّن ، أو شيء كصديق ، فخفّف. وقيل : أفعال ، جمع له من غير تغيير ، كبيت وأبيات. ويردّه منع صرفه.

(عَفَا اللهُ عَنْها) صفة أخرى ، أي : عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلّف بها ، إذ روي أنّه لمّا نزلت : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (١) قال سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن : يا رسول الله في كلّ عام كتب علينا الحجّ؟ فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أعاد ثلاثا ، فقال : «ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم؟ والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه». فنزلت هذه الآية.

أو استئناف ، أي : عفا الله عمّا سلف من مسألتكم ، فلا تعودوا إلى مثلها.

(وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم ، ويعفو عن كثير.

وعن ابن عبّاس : «أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه ممّا لا يعنيهم ، فقال : لا أسأل عن شيء إلّا أجبت. فقال رجل : أين

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٣٣٠

أبي؟ قال : في النار. وقال آخر : من أبي؟ فقال : حذافة بن قيس ، وكان يدعى لغيره». فنزلت.

وقال مجاهد : كان ابن عبّاس إذا سئل عن الشيء لم يجيء فيه أثر يقول : هو من العفو ، ثمّ يقرأ هذه الآية.

ثمّ أخبر سبحانه أنّ قوما سألوا مثل سؤالهم ، فلمّا أجيبوا إلى ما سألوا كفروا ، فقال : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ) الضمير ليس براجع إلى «أشياء» حتّى يجب تعديته بـ «عن» ، وإنّما هو راجع إلى المسألة الّتي دلّ عليها «تسألوا» ، فلذلك لم يعدّ بـ «عن». والمعنى : قد سأل هذه المسألة قوم. أو إلى «أشياء» بحذف الجارّ. (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلّق بـ «سألها». وليس صفة لـ «قوم» ، فإنّ ظرف الزمان لا يكون صفة للجثّة ، ولا حالا منها ، ولا خبرا عنها. (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أي : بسببها حيث لم يأتمروا بما سألوا جحودا ، كبني إسرائيل كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا ، وكقوم عيسى سألوه إنزال المائدة ثمّ كفروا بها ، وقوم صالح سألوه الناقة ثمّ عقروها وكفروا بها.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها».

واعلم أنّ الّذي يجوز السؤال عنه هو ما يجوز العمل عليه في الأمور الدينيّة والدنيويّة ، وما لا يجوز العمل عليه في أمور الدين والدنيا لا يجوز السؤال عنه ، فعلى هذا لا يجوز أن يسأل الإنسان من أبي؟ لأنّ المصلحة قد اقتضت أن يحكم على كلّ من ولد على فراش إنسان بأنّه ولده وإن لم يكن مخلوقا من مائه ، فالمسألة بخلاف ذلك سفه لا يجوز.

٣٣١

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))

ولمّا تقدّم ذكر الحلال والحرام بيّن حال ما يعتقده أهل الجاهليّة من ذلك ، فقال ردّا وإنكارا لهم على ما ابتدعوه : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) ما شرع ووضع ، ولذلك تعدّى إلى مفعول واحد. و «من» مزيدة.

روي أنّهم إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها ـ أي : شقّوها ـ وحرّموا ركوبها ، وخلّوا سبيلها ، فلا تركب ، ولا تحلب ، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى. وكان الرجل منهم يقول : إن شفيت أو قدمت من سفري فناقتي سائبة ، ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم ، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم ، وإن ولدتهما وصلت الأنثى أخاها ، فلا يذبحوا الذكر لآلهتهم. وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرّموا ظهره ، ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى ، وقالوا : قد حمى ظهره.

(وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بتحريم ذلك ونسبته إليه (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي : الحلال من الحرام ، أو الآمر من الناهي ، بل يقلّدون كبارهم. وفيه أنّ منهم من يعرف بطلان ذلك ، ولكن يمنعه حبّ الرئاسة وتقليد الآباء أن يعترف به ، كما قال الله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) هلمّوا (إِلى ما أَنْزَلَ

٣٣٢

اللهُ) من القرآن واتّباع ما فيه ، والإقرار بصحّته (وَإِلَى الرَّسُولِ) وتصديقه والاقتداء به (قالُوا حَسْبُنا) كفانا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) يعنون مذاهب آبائهم.

فهذا بيان لقصور عقلهم ، وانهماكهم في التقليد ، وأن لا سند لهم سواه.

ثمّ أنكر ذلك عليهم بقوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) من أحكام الدين الحقّ (وَلا يَهْتَدُونَ) إليه. الواو للحال ، والهمزة دخلت عليها لإنكار الفعل على هذه الحال ، أي : أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالّين.

والمعنى : أنّ الاقتداء إنّما يصحّ بمن علم أنّه عالم مهتد ، وذلك لا يعرف إلّا بالحجّة ، فلا يكفي التقليد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

ولمّا بيّن الله سبحانه حكم الكفّار الّذين قلّدوا آباءهم وأسلافهم ، وركنوا إلى أديانهم ، عقّبه بالأمر بالطاعة ، وبيان أنّ المطيع لا يؤاخذ بذنوب العاصي ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي : احفظوها والزموا إصلاحها. والجارّ مع المجرور جعل اسما لـ «الزموا» ، ولذلك نصب «أنفسكم». (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) لا يضرّكم الضلال إذا كنتم مهتدين. ومن الاهتداء أن ينكر المكلّف المنكر حسب طاقته ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من رأى منكرا واستطاع أن يغيّره بيده فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه».

فليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّ من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد.

وعن ابن مسعود أنّها قرئت عنده فقال : إنّ هذا ليس بزمانها ، إنّها اليوم مقبولة ، ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم ، فحينئذ عليكم أنفسكم. فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه ، وبسط لعذره. وعنه :

٣٣٣

ليس هذا زمان تأويلها ، قيل : فمتى؟ قال : إذا جعل دونها السيف والسوط والسجن.

وروي أنّ أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الآية ، فقال : «ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتّى إذا ما رأيت دنيا مؤثّرة ، وشحّا مطاعا ، وهوى متّبعا ، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه ، فعليك بخويصة نفسك ، وذر عوامهم ، وإنّ من ورائكم أيّاما الصبر فيهنّ كقبض على الجمر ، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله».

قيل : الآية نزلت لمّا كان المؤمنون يتحسّرون على أهل العناد من الكفرة ، ويتمنّون إيمانهم.

وقيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ، فنزلت.

وقوله : (لا يَضُرُّكُمْ) يحتمل الرفع على أنّه مستأنف. ويؤيّده قراءة : لا يضيركم. والجزم على الجواب أو النهي ، لكنّه ضمّت الراء اتباعا لضمّة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة. وتنصره قراءة من قرأ : لا يضرّكم بالفتح. ولا يضركم بكسر الضاد وضمّها ، من : ضاره يضيره ويضوره.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : يجازيكم بأعمالكم. هذا وعد ووعيد للفريقين ، وتنبيه على أنّ أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً

٣٣٤

لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩))

ولمّا قدّم الأمر بالرجوع إلى ما أنزل ، عقّبه بذكر هذا الحكم المنزل ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) أي : فيما أمرتم شهادة بينكم. والمراد بالشهادة الإشهاد على الوصيّة. وإضافتها إلى الظرف على الاتّساع. (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) إذا شارفه وظهرت أماراته. وهو ظرف للشهادة. (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل من الظرف. وفي إبداله تنبيه على أنّ الوصيّة ممّا ينبغي أن لا يتهاون فيه عند حضور الموت ، أي : وقت أمارته ومشارفته. أو ظرف «حضر».

(اثْنانِ) فاعل «شهادة» إذ تقدير الآية : عليكم شهادة بينكم يشهد اثنان ، بحذف الخبر والفعل. ومعناه : فرض أن يشهد اثنان. ويجوز أن يكون خبر «شهادة» على حذف المضاف ، أي : شهادة بينكم شهادة اثنين.

(ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) من أهل ملّتكم ودينكم ، أي : من المسلمين. وهما صفتان لـ «اثنان».

(أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من غير ملّتكم. عطف على «اثنان». و «أو»

٣٣٥

هاهنا للتفصيل لا للتخيير ، فإنّ المعنى : أو آخران من غيركم إن لم تجدوا شاهدين منكم.

وقيل : المعنى : ذوا عدل من عشيرتكم ، فإنّهم أعلم بأحوال الميّت وبما هو أصلح ، أو آخران من غير عشيرتكم. والأوّل أقوى وأصحّ.

وذهب جماعة إلى أنّ الآية كانت في شهادة أهل الذمّة ثمّ نسخت. وعلماؤنا قائلون إنّ هذه الآية محكمة وردت في شهادة أهل الذمّة. ويقوّي هذا القول تتابع الآثار على أنّها من محكم القرآن وآخر ما نزل.

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : سافرتم فيها (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي : قاربتكم. يعني : إن وقعت أمارة موتكم في السفر ، ولم يكن معكم رجلان عدلان منكم ، فاستشهدوا على الوصيّة آخرين من غيركم ، أي : من أهل الذمّة.

(تَحْبِسُونَهُما) صفة لـ «آخران» أي : تقفونهما. والشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) اعتراض ، فائدته الدلالة على أنّه ينبغي أن يشهد اثنان منكم ، فإن تعذّر ـ كما في السفر ـ فمن غيركم.

أو استئناف ، كأنّه قيل : كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين؟ فقال : تحبسونهما ليحلفا.

(مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) اللام للعهد ، أي : صلاة العصر ، فإنّ الناس كانوا يحلفون بالحجاز بعد صلاة العصر ، لاجتماع الناس وتكاثرهم في ذلك الوقت ، وتصادم ملائكة النهار والليل فيه. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلاموقتادة وسعيد ابن جبير وغيرهم. وقيل : صلاة الظهر. وقيل : أيّ صلاة كانت. وقيل : من بعد صلاة أهل دينهما ، يعني : الذمّيّين.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي : ارتاب الوارث منكم ، وشكّ في أمانتهما (لا

٣٣٦

نَشْتَرِي بِهِ) هذا مقسم عليه ، و (إِنِ ارْتَبْتُمْ) اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب. والمعنى : لا نستبدل بالقسم أو بالله (ثَمَناً) عرضا من الدنيا ، أي : لا نحلف بالله كاذبا لطمع (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ولو كان المقسم له قريبا منّا. وجوابه أيضا محذوف ، أي : لا نشتري.

(وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أي : الشهادة الّتي أمرنا بإقامتها (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي : إن كتمنا.

روي أنّ ثلاثة نفر خرجوا تجّارا من المدينة إلى الشام : تميم بن أوس الداري ، وأخوه عديّ بن يزيد ، وكانا حينئذ نصرانيّين ، وبديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاص. فلمّا قدموا الشام مرض ابن أبي مارية ، فدوّن ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ، ولم يخبرهما به ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات. ففتّشاه وأخذا منه إناء من فضّة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب ، فغيّباه.

فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما ، فجحدا ، فترافعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت هذه الآية. فصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العصر ، ودعا بتميم وعديّ ، فحلّفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد صلاة العصر عند المنبر وخلّى سبيلهما. ثمّ وجد الإناء في أيديهما ، فأتاهما بنو سهم في ذلك ، فقالا : قد اشتريناه منه ، ولكن لم يكن لنا عليه بيّنة ، فكرهنا أن نقرّ به ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت.

(فَإِنْ عُثِرَ) فإن اطّلع (عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي : فعلا ما أوجب إثما بأيمانهما الكاذبة ، واستوجبا أن يقال : إنّهما لمن الآثمين بخيانتهما (فَآخَرانِ) فشاهدان آخران (يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) من الّذين جني عليهم ، وهم الورثة. وقرأ حفص : استحقّ على البناء للفاعل. (الْأَوْلَيانِ) أي : من الورثة الّذين استحقّ عليهم الأوليان ، أي : الأحقّان بالشهادة ، لقرابتهما ومعرفتهما. هو على قراءة البناء للمفعول خبر محذوف ، أي : هما الأوليان ، كأنّه قيل : ومن هما؟ فقيل :

٣٣٧

الأوليان. أو خبر «آخران». أو مبتدأ خبره «آخران». أو بدل منهما ، أو من الضمير في «يقومان».

وقرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر عن عاصم : الأوّلين ، على أنّه صفة «الّذين» أو بدل منه ، أي : من الأوّلين الّذين استحقّ عليهم.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا) ليميننا في وصيّة صاحبنا (أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أصدق من يمينهما ، وأولى بأن تقبل. وإطلاق الشهادة على اليمين مجاز ، لوقوعها موقعها كما في اللعان. (وَمَا اعْتَدَيْنا) وما تجاوزنا الحقّ فيما طلبناه من حقّنا (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الواضعين الباطل موضع الحقّ ، أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا. وبعد نزول هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطّلب بن أبي وداعة السهميّان وحلفا وأخذا الإناء.

قال في الأنوار (١) : «ومعنى الآيتين : أنّ المحتضر إذا أراد الوصيّة ينبغي أن يشهد عدلين من دينه على وصيّته ، أو يوصي إليهما احتياطا ، فإن لم يجدهما ـ بأن كان في سفر ـ فآخرين من غيرهم من أهل الذمّة. ثمّ إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت ، فإن اطّلع على أنّهما كذبا بأمارة ومظنّة حلف آخران من أولياء الميّت. والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين ، فإنّه لا يحلف الشاهد ، ولا يعارض يمينه بيمين الوارث ، وثابت إن كانا وصيّين. وردّ اليمين إلى الورثة إمّا لظهور خيانة الوصيّين ، فإنّ تصديق الوصيّ باليمين لأمانته ، أو لتغيير الدعوى ، كما في هذه القضيّة».

(ذلِكَ) أي : الحكم الّذي تقدّم ، أو تحليف الشاهد (أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أقرب إلى أن يأتي الشهداء على نحو ما تحمّلوها من غير تحريف

__________________

(١) أنوار التنزيل ٢ : ١٧٣ ـ ١٧٤.

٣٣٨

وخيانة فيها (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أو أقرب إلى أن يخافوا أن تردّ اليمين على المدّعين بعد أيمانهم ، فيفتضحوا بظهور كذبهم ، كما جرى في هذه القضيّة. فربما لا يحلفون كاذبين ، ويتحفّظون في الشهادة مخافة ردّ اليمين إلى المستحقّ عليهم. وإنّما جمع الضمير لأنّه حكم يعمّ الشهود كلّهم.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا) ما توصون به سمع إجابة وقبول (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : فإن لم تتّقوا ولم تسمعوا كنتم قوما فاسقين ، والله لا يهدي الفاسقين إلى حجّة أو إلى طريق الجنّة ، كما يهدي غيرهم.

قال في كنز العرفان (١) : «وفي هاتين الآيتين أحكام :

الأول : إنّ الّذي يحضره أسباب الموت ينبغي أن يشهد عدلين على وصيّته ، إمّا من ذوي قرابته ، أو من أهل دينه ، وهو الإسلام. فإن تعذّر ذلك عليه ، بأن كان في سفر ، فآخران من الأجانب أو أهل الذمّة.

الثاني : أنّه إذا حمل الضمير في «منكم» على المسلمين ، وفي «غيركم» على غيرهم ، هل الحكم باق غير منسوخ أو لا؟ قال : أصحابنا بالأوّل ، وجوّزوا شهادة أهل الذمّة مع تعذّر المسلمين في الوصيّة. وقال جماعة من الفقهاء بالثاني ، وأنّ الآية منسوخة. والأصحّ الأوّل ، لأصالة عدم النسخ ، وتكون الآية مخصّصة لأدلّة اشتراط الإيمان والعدالة في الشاهد بما عدا الوصيّة. نعم ، يشترط عدالتهم في دينهم ، ويرجّحون على فسّاق المسلمين.

الثالث : أنّه إذا حمل الضمير في «منكم» على الأقارب دلّ على قبول شهادة القريب على قريبه مطلقا. وفيه ردّ على من منع ذلك من المخالفين.

الرّابع : أنّه على قول أصحابنا بقبول شهادة الذمّي في الوصيّة مع عدم عدول

__________________

(١) كنز العرفان ٢ : ٩٨ ـ ١٠٠.

٣٣٩

المسلمين ، هل يشترط السفر كما في ظاهر الآية أم لا؟ الأصحّ العدم. وبالاشتراط رواية مطروحة.

الخامس : جواز شهادة أهل الذمّة في الوصيّة عند أصحابنا مختصّ بالمال ، فلا تسمع في الولاية إجماعا.

السادس : جواز التغليظ في اليمين بالوقت ، لقوله تعالى : «بعد الصلاة».

السابع : إنّ الآية تقتضي جواز الدعوى بعد الإحلاف ، وهو خلاف القبول ، ومناف لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حلف فليصدّق».

ويمكن أن يجاب بأنّ الدعوى إنّما توجّهت بعد اعتراف المدّعى عليهما بالإناء ، وأنّه كان للميّت ، ومع اعتراف الحالف يجوز المطالبة. ثمّ لمّا جازت المطالبة لمكان اعترافهما بملكيّة الميّت التي حلفا على نفيها أوّلا وبراءة ذمّتهما ، ادّعيا الشراء فأنكر الورثة ، فحلفوا على نفي العلم».

وقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ظرف لـ «لا يهدي». وقيل : بدل من مفعول «واتّقوا» بدل الاشتمال. أو مفعول «واسمعوا» على حذف المضاف ، أي : واسمعوا خبر يوم جمعه. أو منصوب بإضمار : اذكر (فَيَقُولُ) أي : للرسل (ما ذا أُجِبْتُمْ) أيّ إجابة أجبتم؟ على أنّ «ماذا» في موضع المصدر. أو بأيّ شيء أجبتم؟ فحذف الجارّ.

وهذا السؤال لتوبيخ قومهم ، كما أنّ سؤال الموؤدة (١) لتوبيخ الوائد ، ولذلك (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) أي : لا علم لنا بما كنت أنت تعلمه. فوكلوا الأمر إلى علمه بسوء إجابتهم ، ولجأوا إليه في الانتقام منهم (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فتعلم ما نعلمه ممّا أجابونا وأظهروا لنا ، وما لم نعلم ممّا أضمروا في قلوبهم.

وفيه التشكّي منهم ، وردّ الأمر إلى علمه عزّ شأنه بما كابدوا منهم ، وذلك

__________________

(١) التكوير : ٨.

٣٤٠