زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

الحكم عند التباس الأمر في المخالفة ، فقال : (وَإِنْ خِفْتُمْ) حسبتم. وقيل : علمتم (شِقاقَ بَيْنِهِما) خلافا بين المرأة وزوجها. أضمرهما وإن لم يجر ذكرهما لجري ما يدلّ عليهما ، وهو ذكر الرجال والنساء. وإضافة الشقاق إلى الظرف إما لإجرائه مجرى المفعول به ، كقوله : يا سارق الليلة ، أو الفاعل ، كقولهم : نهارك صائم.

(فَابْعَثُوا) أيّها الحكّام لتبيين أمرهما ، أو إصلاح ذات البين (حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) رجلا وسيطا يصلح لحكومة العدل والإصلاح من أهل الزوج ، وآخر من أهل الزوجة ، فإنّ الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح.

وهذا على سبيل الاستحباب ، فلو نصبا من الأجانب جاز.

وقيل : الخطاب للأزواج والزوجات. والأوّل مرويّ عن الصادق. واستدلّ به على جواز التحكيم.

وقال مالك : لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه من غير أن يستأمرا الزوجين ، ورضيا بذلك. وعند أصحابنا الإماميّة أنّ النصب لإصلاح ذات البين أو لتبيين الأمر ، ولا يليان التفرّق إلّا بإذن الزوجين.

(إِنْ يُرِيدا) أي : يريد الحكمان (إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) بين الزوجين ، أي : إن قصد الإصلاح أوقع الله تعالى ـ بحسن سعيهما ونيّتهما ـ الموافقة بين الزوجين.

وقيل : الضمير الأوّل والثاني للحكمين ، أي : إن قصدا الإصلاح يوفّق الله بينهما ، ليتّفق كلمتهما ، ويحصل مقصودهما.

وقيل : للزوجين ، أي : إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق ، أوقع الله تعالى بينهما الألفة والوفاق. وفيه تنبيه على أنّ من أصلح نيّته فيما يتحرّاه ، أصلح الله مبتغاه.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) بالظواهر والبواطن ، فيعلم ما يريد الحكمان من الإصلاح والإفساد.

٦١

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧))

ولمّا أمر الله سبحانه بمكارم الأخلاق في أمر اليتامى والأزواج والعيال ، عطف على ذلك الخلال المحمودة المشتملة على معالي الأمور ومحاسن الأفعال.

فبدأ بالأمر بعبادته الّتي هي رأس الخصال الحميدة ، ومنشأ الخلال السنيّة ، فقال : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) صنما أو غيره ، أو شيئا من الإشراك جليّا أو خفيّا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي : أحسنوا بهما إحسانا ، من برّ وإعانة وإنعام.

(وَبِذِي الْقُرْبى) وبصاحب القرابة ، أي : بكلّ من بينكم وبينه قرابة (وَالْيَتامى) بحفظ أموالهم والقيام عليها ، وغيرها من وجوه الإحسان (وَالْمَساكِينِ) فلا تضيّعوهم ، وأعطوهم ما تحتاجون إليه من الطعام والكسوة وسائر ما لا بدّ منه لهم.

(وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) أي : الّذي جواره قريب. وقيل : الّذي له مع الجوار قرب واتّصال بنسب أو دين.

(وَالْجارِ الْجُنُبِ) الّذي جواره بعيد ، أو الّذي لا قرابة له.

وفي الحديث : «الجيران ثلاثة : فجار له ثلاثة حقوق : حقّ الجوار وحقّ القرابة وحقّ الإسلام ، وجار له حقّان : حقّ الجوار وحقّ الإسلام ، وجار له حقّ

٦٢

واحد : حقّ الجوار ، وهو المشرك من أهل الكتاب».

وروي أنّ حدّ الجوار إلى أربعين دارا. ويروى إلى أربعين ذراعا.

(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) أي : الّذي يصحب الإنسان ، بأن يحصل بجنبه بكونه رفيقه في أمر حسن ، كسفر أو صناعة أو شركة ، أو قاعد إلى جنبه في مجلس ، أو خادم ، فإنّ كلّ هؤلاء صحبه وحصل بجنبه ، فعليه أن يراعي حقّه. وقيل : المراد المرأة.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر المنقطع به ، أو الضيف (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) العبيد والإماء. وذكر اليمين تأكيد ، كما يقال : مشت رجلك وبطشت يدك. وموضع «ما» جرّ بالعطف على ما تقدّم ، أي : وأحسنوا بعبيدكم وإمائكم بالنفقة والسكنى ، ولا تحمّلوهم من الأعمال ما لا يطيقونه.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) متكبّرا يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ، ولا يلتفت إليهم (فَخُوراً) يتفاخر عليهم بكثرة ماله.

هذه آية جامعة تضمّنت بيان أركان الإسلام ، والتنبيه على مكارم الأخلاق.

ومن تدبّرها حقّ التدبّر ، وتذكّرها حقّ التذكّر ، أغنته عن كثير من مواعظ البلغاء ، وهدته إلى جمّ غفير من علوم العلماء.

وقوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بدل من قوله : «من كان» ، أو نصب على الذمّ ، أو رفع عليه ، أي : هم الّذين يبخلون بما منحوا به ، ويمنعون ما أوجب الله عليهم من الزكاة وغيرها (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) ويأمرون غيرهم بذلك.

وقرأ حمزة والكسائي بالبخل بفتحتين. وهي لغة.

(وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ويجحدون ما أعطاهم الله من اليسار والثروة ، اعتذارا لهم في البخل.

ويحتمل أن يكون الموصول مع صلته مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : الّذين

٦٣

يبخلون ويفعلون كذا وكذا أحقّاء بكلّ ملامة ، مستحقّون للعقوبة.

وقيل : الآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار تنصّحا : ولا تنفقوا أموالكم ، فإنّا نخشى عليكم الفقر ، ومع ذلك كتموا ما عندهم من العلم بنعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومبعثه.

والأولى أن تكون هذه الآية عامّة في كلّ من يبخل بأداء ما يجب عليه أداؤه ، ويأمر الناس به ، وعامّة في كلّ من كتم فضلا آتاه الله تعالى ، من العلم وغيره من أنواع النعم الّتي يجب إظهارها ويحرم كتمانها. وقد ورد في الحديث : «إذا أنعم الله على عبد نعمة أحبّ أن يرى أثرها عليه».

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشعارا بأنّ من هذا شأنه فهو كافر لنعمة الله ، ومن كان كافرا لنعمة الله فله عذاب يهينه ، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.

(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩))

ثم عطف على «الّذين يبخلون» أو «الكافرين» قوله : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ). وإنّما شاركهم في الذمّ والوعيد لأنّ البخل والسرف ـ الّذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي ـ من حيث إنّهما طرفا إفراط وتفريط سواء في القبح واستجلاب الذمّ.

ويحتمل أن يكون مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله : (وَمَنْ يَكُنِ

٦٤

الشَّيْطانُ) ، تقديره : الّذين ينفقون أموالهم رئاء الناس فقرينهم الشيطان.

و «رئاء الناس» منصوب على العلّيّة ، أي : للمراءاة والفخار ، وليقال : إنّهم أسخياء ، لا لوجه الله.

وقيل : هم مشركو قريش أنفقوا أموالهم في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : هم المنافقون.

(وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ليتحرّوا بالإنفاق مراضيه وثوابه (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) هذا تنبيه على أنّ الشيطان قرنهم ، فحملهم على البخل والرياء وكلّ شرّ وفساد ، وزيّنه لهم ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) (١). والمراد : إبليس وأعوانه من الجنّ والإنس. ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يكون الشيطان مقرونا بهم في النار.

(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) أي : وما الّذي عليهم من الشنعة؟ أو : أيّ تبعة تحيق بهم بسبب الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟

وهذا توبيخ لهم وتهجين على الجهل بمكان المنفعة ، والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر. وتحريض على الفكر لطلب الجواب ، لعلّه يؤدّي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة. وتنبيه على أنّ المدعوّ إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطا ، فكيف إذا تضمّن المنافع؟! وإبطال لقول من قال : إنّهم لا يقدرون على الإيمان ، لأنّه لا يحسن أن يقال للعاجز عن الشيء : ماذا عليك لو فعلت كذا؟ فلا يقال للقصير : ماذا عليك لو كنت طويلا؟! وللأعمى : ماذا عليك لو كنت بصيرا؟! وفيه أيضا دلالة على أنّ الحرام لا يكون رزقا ، من حيث إنّه سبحانه حثّهم

__________________

(١) الإسراء : ٢٧.

٦٥

على الإنفاق ممّا رزقهم ، وأجمعت الأمّة على أنّ الإنفاق من الحرام محظور.

وإنّما قدّم الإيمان هاهنا وأخّره في الآية الّتي قبل هذه ، لأن القصد بذكره إلى التخصيص هاهنا والتعليل ثمّة.

(وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) فيجازيهم بما يفعلون ويعتقدون. وهذا وعيد لهم.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠))

ثم حثّ على الإنفاق على الوجه الحسن بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أصغر شيء كالذرّة ، وهي النملة الحمراء الصغيرة الّتي لا تكاد ترى لصغرها. ويقال : لكلّ جزء من أجزاء الهباء (١). والمثقال مفعال من الثقل. وفي ذكره إيماء إلى أنّه وإن صغر قدره عظم جزاؤه. وفي هذا دلالة على أنّه لو نقص من الأجر أدنى شيء أو زيد على المستحقّ من العقاب لكان ظلما.

(وَإِنْ تَكُ) مثقال الذرّة (حَسَنَةً) أنّث الضمير لتأنيث الخبر ، أو لإضافة المثقال إلى مؤنّث. وحذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلّة. وقرأ ابن كثير ونافع : حسنة بالرفع على «كان» التامّة. (يُضاعِفْها) أي : ضاعف ثوابها. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب : يضعّفها. وكلاهما بمعنى. (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ) ويؤت صاحبها من عنده على سبيل التفضّل زائدا على ما وعد في مقابلة العمل (أَجْراً عَظِيماً) عطاء جزيلا. وإنّما سمّاه أجرا لأنّه تابع للأجر ، مزيد عليه ، لا يثبت إلّا بثباته.

__________________

(١) الهباء : الغبار ، ودقائق التراب.

٦٦

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢))

ولمّا ذكر سبحانه اليوم الآخر وصف حال المنكرين له ، فقال : (فَكَيْفَ) حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) يشهد ـ وهو نبيّهم ـ على فساد عقائدهم وقبح أعمالهم. يعني : أنّ الله سبحانه يستشهد يوم القيامة كلّ نبيّ على أمّته ، فيشهد لهم وعليهم. والعامل في الظرف مضمون المبتدأ والخبر ، وهو هول الأمر وتعظيم الشأن (وَجِئْنا بِكَ) يا محمّد (عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) تشهد على صدق هؤلاء الشهداء ، لعلمك بعقائدهم ، واستجماع شرعك مجامع قواعدهم.

وقيل : «هؤلاء» إشارة إلى الكفرة المستفهم عن حالهم. وقيل : إلى المؤمنين ، كقوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (١).

وعن ابن مسعود قرأ هذه الآية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففاضت عيناه. فانظر في هذه الحالة إذا كان الشاهد يبكي لهول هذه المقالة ، فما ذا ينبغي أن يصنع المشهود عليه ، من الانتهاء عن كلّ ما يستحيا منه على رؤوس الأشهاد؟! ثم بيّن حال المشهود عليهم بقوله : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) أي : يودّ الّذين جمعوا بين الكفر وعصيان الأمر في ذلك الوقت أن يدفنوا فتسوّى بهم الأرض ، أي : يجعلون هم والأرض سواء كالموتى ،

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

٦٧

كما قال الله تعالى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (١). يعنون بذلك أنّهم لم يبعثوا ولم يخلقوا ، فكانوا هم والأرض سواء.

وقرأ نافع وابن عامر : تسّوّى بتشديد السين. وأصله تتسوّى ، فأدغم التاء في السين. وحمزة والكسائي : تسوّى ، بفتح التاء وتخفيف السين وإمالة الواو ، على حذف التاء الثانية ، يقال : سوّيته فتسوّى.

(وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) ولا يقدرون على كتمانه ، لأنّ جوارحهم تشهد عليهم. وقيل : الواو للحال. والمعنى : يودّون أن تسوّى بهم الأرض وحالهم أنّهم لا يكتمون الله حديثا ، ولا يكذبونه بقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢) ، إذ روي أنّهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم ، فتشهد عليهم جوارحهم ، فيشتدّ الأمر عليهم ، فيتمنّون أن تسوّى بهم الأرض.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣))

ولمّا أمر الله تعالى في الآية المتقدّمة بالعبادة ذكر عقيبها ما هو من أكبر

__________________

(١) النبأ : ٤٠.

(٢) الأنعام : ٢٣.

٦٨

العبادات وأفضلها ، وهو الصلاة وما هو شرط صحّتها ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) أي : لا تقوموا إليها وأنتم نشاوى من خمر ونحوها (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) حتى تنتبهوا وتعلموا ما تقولون في صلاتكم.

روي أنّ عبد الرحمن بن عوف صنع مأدبة ودعا نفرا من رفقائه ، فأكلوا وشربوا حتى ثملوا (١) ، وجاء وقت صلاة المغرب فتقدّم عبد الرحمن ليصلّي بهم فقرأ : أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد ، فنزلت.

وقيل : معناه : لا تقربوا مواضع الصلاة ، وهي المساجد ، كقوله تعالى : (وَصَلَواتٌ) (٢). أي : مواضع الصلاة. ويؤيّد هذا قوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) فإنّ العبور إنّما يكون في الموضع دون الصلاة.

وقيل : هو سكر النوم وغلبة النعاس. وروي ذلك عن الباقر عليه‌السلام.

ويعضده ما روته عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا نعس أحدكم وهو يصلّي فلينصرف ، لعلّه يدعو على نفسه وهو لا يدري».

(وَلا جُنُباً) عطف على قوله : «وأنتم سكارى» ، إذ الجملة في موضع النصب على الحال ، كأنّه قال : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا. والجنب هو الّذي أصابته الجنابة ، يستوي فيه المذكّر والمؤنّث ، والواحد والجمع ، لأنّه يجري مجرى المصدر الّذي هو الإجناب.

(إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) متعلّق بقوله : «ولا جنبا». استثناء من أعمّ الأحوال ، أي : لا تقربوا الصلاة جنبا في عامّة الأحوال إلّا في حال كونكم مسافرين إذا لم يوجد الماء ، فيجوز لكم أن تؤدّوها بالتيمّم. ويشهد له تعقيبه بذكر التيمّم. أو صفة لقوله : «جنبا» أي : جنبا غير عابري سبيل. وفيه دلالة على أنّ التيمّم لا يرفع حكم

__________________

(١) ثمل ثملا : أخذ فيه الشراب وسكر.

(٢) الحجّ : ٤٠.

٦٩

الجنابة. ومن فسّر الصلاة بمواضعها فسّر «عابري سبيل» بالمجتازين فيها. فمعناه : لا تقربوا مواضع الصلاة جنبا إلّا مجتازين.

والقول الأوّل منقول عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عبّاس وسعيد بن جبير ومجاهد. والثاني عن جابر والحسن وعطاء والزهري. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام.

(حَتَّى تَغْتَسِلُوا) من الجنابة. وهو غاية النهي عن القربان حال الجنابة.

والقول الأخير أقوى ، لأنّه سبحانه بيّن حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم الماء ، فلو حملناه على ذلك لكان تكرارا ، فإنّما أراد سبحانه أن يبيّن حكم الجنب في دخول المساجد في أوّل الآية ، ويبيّن حكمه في الصلاة عند عدم الماء في آخر الآية.

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) مرضا يخاف معه من استعمال الماء ، فإنّ الواجد له كالفاقد ، أو مرضا يمنعه عن الوصول إليه (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي : كنتم مسافرين لا تجدون الماء فيه (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين. وأصل الغائط المطمئنّ من الأرض ، وكانوا يتبرّزون هناك لئلّا ير واحد في هذه الحالة ، ثم كثر استعماله في الحدث تسمية باسم المجاور أو المحلّ.

(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) أو ماسستم بشرتهنّ ببشرتكم. وهذا كناية عن الجماع.

فمعناه : أو جامعتموهنّ. وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي المائدة (١) : لمستم.

واستعماله كناية عن الجماع أقلّ من الملامسة.

وقال ابن عبّاس : سمّى الله الجماع لمسا كما سمّى المطر سماء. وعن عمر ابن الخطّاب والشعبي وعطاء وابن مسعود : أنّ المراد به اللمس باليد وغيرها.

واختاره الشافعي ، وقال : إنّ اللمس ينقض الوضوء.

__________________

(١) المائدة : ٦.

٧٠

والصحيح الأوّل ، لأنّ الله تعالى بيّن حكم الجنب في حال وجود الماء بقوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ، ثم بيّن عند عدم الماء حكم المحدث.

بقوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) ، فلا يجوز أن يدع بيان حكم الجنب عند عدم الماء ، مع أنّه جرى له ذكر في الآية ، وبيّن حكم المحدث ولم يجر له ذكر ، فعلمنا أنّ المراد بقوله : «لامستم» الجماع ، ليكون بيانا لحكم الجنب عند عدم الماء ، والمعلوم من قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) أي : فلم تتمكّنوا من استعماله ، إذ الممنوع منه كالمفقود.

أراد سبحانه في هذه الآية أن يرخّص للّذين يجب عليهم الطهارة في التيمّم عند عدم الماء ، فخصّ أوّلا من بينهم مرضاهم ومسافريهم ، لأنّ الحال المقتضية للتيمّم في غالب الأمر مرض وسفر ، فلأجل ذلك قدّمهما على سائر الأسباب الموجبة للتيمّم ، ثمّ عمّ كلّ من وجب عليه الطهارة وأعوز الماء ، لخوف عدوّ أو سبع أو عدم ما يتوصّل به إلى الماء ، أو غير ذلك ممّا لا يكثر كثرة المرض والسفر ، فلذلك نظم في سلك واحد بين المريض والمسافر وبين المحدث والجنب ، ثم رتّب الحكم عليهم فقال : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) أي : فتعمّدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا.

والتيمّم أصله القصد ، وقد يخصّص في الشرع بقصد الصعيد لمسح أعضاء مخصوصة.

وقال الزجّاج : لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في أنّ الصعيد وجه الأرض ، ترابا كان أو صخرا لا تراب عليه ، فلو ضرب المتيمّم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره. وهو مذهب أبي حنيفة ، والمرويّ عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام. وعند الشافعي لا بدّ من علوق التراب باليد.

والتيمّم إن كان بدلا من الوضوء فضربة واحدة للوجه واليدين ، وإن كان بدلا

٧١

من الغسل فضربتان : إحداهما للوجه ، والأخرى لليدين. ومسح الوجه من قصاص الشعر إلى طرف الأنف ، ومن الزند إلى رؤوس الأصابع. وهذا التفصيل منقول عن ائمّتنا صلوات الله عليهم. وعند الشافعي ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين مطلقا. وعليه قوم من أصحابنا. ومزيد بيان مسائل التيمّم وفروعه محال إلى كتب الفقه.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) فلذلك يسّر الأمر عليكم ، ورخّص لكم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥))

ولمّا ذكر سبحانه الأحكام الّتي أوجب العمل بها وصلها بالتحذير ممّا دعا إلى خلافها ، فقال : (أَلَمْ تَرَ) من رؤية البصر ، أي : ألم تنظر إليهم؟ أو من رؤية القلب ، وعدّي بـ «إلى» لتضمّن معنى الانتهاء ، أي : ألم ينته علمك؟ (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) حظّا يسيرا من التوراة (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) يختارونها على الهدى ، أو يستبدلونها به. وهي البقاء على اليهوديّة بعد وضوح المعجزات الدالّة على صدق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والآيات الموضحة عن صحّة نبوّته ، وأنّه النبيّ العربيّ المبشّر به في التوراة والإنجيل. وقيل : يأخذون الرشا ، ويحرّفون التوراة.

(وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا) أيّها المؤمنون (السَّبِيلَ) سبيل الحقّ كما ضلّوه ، فهم إذا ضلّوا أحبّوا أن يضلّ غيرهم معهم.

(وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم (بِأَعْدائِكُمْ) وما هم عليه من الغشّ والحسد وشدّة

٧٢

العداوة لكم ، وقد أخبركم بعداوة هؤلاء وما يريدون بكم ، فاحذروهم ، ولا تستشيروهم في أموالكم وسائر أحوالكم ، ولا تستنصحوهم في أموركم.

(وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) يلي أمركم (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) يعينكم ، فاعتمدوا على ولايته ، واكتفوا بنصرته عن غيره ، ولا تبالوا بهم. وزيادة الباء في فاعل «كفى» لتوكيد الاتّصال الإسنادي.

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦))

ثم بيّن سبحانه صفة حال اليهود ليتحرّز المؤمنون منهم ، فقال : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) فإنّه بيان لـ (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) ، لأنّهم يهود ونصارى. وتوسّطت بين البيان والمبيّن جمل اعتراضيّة ، وهي قوله : «وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ» «وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً». فالمعنى : الّذين أوتوا نصيبا هم الّذين هادوا لا النصارى.

أو بيان لـ «أعدائكم» أي : والله أعلم بحال أعدائكم الّذين هادوا.

أو صلة لـ «نصيرا» أي : ينصركم من الّذين هادوا ويحفظكم منهم ، كقوله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) (١).

__________________

(١) الأنبياء : ٧٧.

٧٣

أو خبر مبتدأ محذوف صفته (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي : ومن الّذين هادوا قوم يحرّفون الكلم ، أي : يميلونه عن مواضعه الّتي وضعه الله فيها ، بإزالته عنها وإثبات غيره فيها ، كما حرّفوا «أسمر ربعة» عن موضعه في التوراة ، ووضعوا مكانه : «آدم طوال» ، وحرّفوا الرجم ووضعوا الحدّ بدله. أو يؤوّلونه على ما يشتهون ، فيميلونه عمّا أنزل الله تعالى فيه. فعلى المعنى الأوّل التحريف لفظيّ ، وعلى الثاني معنويّ. وتذكير الضمير باعتبار أن مرجعه اسم الجنس.

(وَيَقُولُونَ سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك ، أو يقولون بألسنتهم : سمعنا ، وفي قلوبهم : عصينا (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي : حال كونك مدعوّا عليك بـ «لا سمعت» لصمم أو موت. أو اسمع حال كونك غير مجاب إلى ما تدعو إليه. أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه. أو اسمع كلاما غير مسمع إيّاك ، لأنّ أذنك تنبو عنه. وعلى الوجه الأخير يكون مفعولا به. أو اسمع غير مسمع مكروها ، من قولهم : أسمعه فلان ، إذا سبّه. وعلى هذا قالوه على سبيل الخير نفاقا.

(وَراعِنا) أنظرنا نكلّمك ، أو نفهم كلامك (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) فتلا بها ، وصرفا للكلام إلى ما يشبه السبّ ، حيث وضعوا «غير مسمع» موضع «لا أسمعت مكروها» لقصد السبّ ، و «راعنا» المشابه لما يتسابّون به ـ وهو : راعنا ـ موضع «انظرنا». أو فتلا بها وضمّا لما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرون من السبّ والتحقير.

(وَطَعْناً فِي الدِّينِ) استهزاء به وسخريّة.

إن قيل : كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرّحوا وقالوا : سمعنا وعصينا.

قلنا : جميع الكفرة كانوا يواجهون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكفر والعصيان ، ولا يواجهونه بالسبّ ودعاء السوء ، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ، ولكنّهم لمّا لم يؤمنوا به جعلوا كأنّهم نطقوا به.

٧٤

(وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا) ولو ثبت قولهم هذا مكان ما قالوه (لَكانَ) قولهم ذلك (خَيْراً لَهُمْ) عاجلا وآجلا (وَأَقْوَمَ) أي : أعدل وأسدّ وأصوب في الكلام. وإنّما يجب حذف الفعل بعد «لو» في مثل ذلك لدلالة «أنّ» عليه ووقوعه موقعه.

(وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ) طردهم وأبعدهم عن رحمته (بِكُفْرِهِمْ) بسبب كفرهم (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) إلّا إيمانا قليلا ضعيفا لا يعبأ به ، وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل. ويجوز أن يراد بالقلّة العدم ، لأنّ وقوع القلّة موضع العدم في كلام العرب كثير. أو : إلّا قليلا منهم آمنوا ، أو سيؤمنون. فخرج مخبره سبحانه على وفق خبره ، فلم يؤمن منهم إلّا عبد الله بن سلام وأصحابه ، وهم نفر قليل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧))

ثم خاطب أهل الكتاب بالتخويف والتحذير ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا) صدّقوا (بِما نَزَّلْنا) بما نزّلناه من القرآن وغيره من أحكام الإسلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من التوراة (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) أي : نمحو آثارها وتخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) فنجعلها على هيئة أدبارها ـ وهي الأقفاء ـ مطموسة مثلها ، أو ننكس وجوها إلى خلف وأقفاها إلى قدّام ، في الدنيا أو في الآخرة.

وأصل الطمس إزالة الأعلام الماثلة. وقد يطلق بمعنى الطّلس (١) في إزالة

__________________

(١) طلس الكتابة طلسا : محاها.

٧٥

الصورة ، وبمعنى مطلق القلب والتغيير ، ولذلك قيل في معناه : من قبل أن نغيّر وجوها ، فنسلب وجاهتها وإقبالها ، ونكسوها الصّغار والإدبار. أو نردّها إلى حيث جاءت منه ، وهي أذرعات الشام ، يعني : إجلاء بني النضير. ويقرب منه قول من قال : إنّ المراد بالوجوه الوجهاء والرؤساء ، أي : من قبل أن نغيّر أحوال وجهائهم ، فنسلبهم وجاهتهم وإقبالهم ، ونكسوها صغارهم وإدبارهم. أو المراد : نعمي الأبصار عن الاعتبار ، ونصمّ الأسماع عن الإصغاء إلى الحقّ بالطبع والتخلية ، ونردّها عن الهداية إلى الضلالة ، ختما وتخلية.

(أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت ، أو نلعنهم على لسانك كما لعنّا أصحاب السبت على لسان داود.

والضمير لأصحاب الوجوه ، أو لـ «الّذين» على طريقة الالتفات ، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء. وعطفه على الطمس بالمعنى الأوّل يدلّ على أنّ المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا. ومن حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال : إنّه بعد مترقّب ، ولا بدّ من طمسهم ولعنهم قبل يوم القيامة ، أو كان وقوعه مشروطا بعدم إيمانهم ، وقد آمن منهم طائفة ، كعبد الله بن سلام وأسد بن سعية وثعلبة بن سعية وأسد بن عبيد ومخريق وغيرهم ، وأسلم كعب في أيّام عمر.

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ) من وعد ووعيد ، وما حكم به وقضاه (مَفْعُولاً) نافذا وكائنا ، فيقع لا محالة ما أو عدتم به إن لم تؤمنوا.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨))

ثم إنّه سبحانه آيس الكفّار من رحمته فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لأنّه بتّ الحكم على خلود عذابه ، وأنّ ذنبه لا ينمحي عنه أثره ، فلا يستعدّ للعفو ،

٧٦

بخلاف غيره (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) أي : ما دون الشرك ، صغيرا كان أو كبيرا (لِمَنْ يَشاءُ) تفضّلا عليه وإحسانا.

ولمّا ذهب المعتزلة إلى أنّ الله يغفر الشرك لمن يشاء ، ولا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلّا بالتوبة ، فأوّل الفعل المنفيّ والمثبت بأنّهما موجّهان إلى من يشاء.

والمعنى : أنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ، وهو من لم يتب ، ويغفر ما دونه لمن يشاء ، وهو من تاب.

وفي تقييد غفران ما دون الشرك بالتائب تقييد بلا دليل ، إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى من آيات الوعد ، ونقض لمذهبهم ، فإنّ تعليق الأمر بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة والصفح بعدها. فالآية كما هي حجّة عليهم ، حجّة على الخوارج الّذين زعموا أنّ كلّ ذنب شرك ، وأنّ صاحبه مخلّد في النار.

روى مطرف بن الشخير عن عمر بن الخطّاب قال : كنّا على عهد رسول الله إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا عليه بأنّه من أهل النار ، حتّى نزلت هذه الآية ، فأمسكنا عن الشهادات.

والصحيح أنّ الله لا يغفر المشرك غير التائب قطّ ، ويغفر ما دون الشرك ، التائب وغير التائب مطلقا تفضّلا.

وتنقيح هذا المبحث : أنّ الله تعالى نفى غفران الشرك أوّلا ، وقد حصل الإجماع على أنّه تعالى يغفره بالتوبة ، ثم أثبت غفران ما دون الشرك من المعاصي ، فينبغي أن يكون المراد غفران من لم يتب منها ، ليخالف المنفيّ المثبت. ثم علّق المشيئة بالمغفور لهم فقال : «لمن يشاء» أي : يغفر الذنوب الّتي هي دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له من المذنبين ، ليكون العبد واقفا بين الخوف والرجاء ، خارجا عن الإغراء ، إذ الإغراء إنّما يحصل بالقطع على الغفران ، دون الرجاء للغفران المعلّق بالمشيئة. ولذا قال الصادق عليه‌السلام : «لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا». ويؤيّده

٧٧

قوله سبحانه : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (١). (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٢). فذكر المشيئة لأجل ذلك.

فالآية أرجى من كلّ آية ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية».

وقد روينا قبل عن ابن عبّاس (٣) أنّه قال : ثمان آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ، قوله سبحانه : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ). و (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ). (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ). (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ). (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ).

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) في الموضعين. (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ). فظهر من هذا التفصيل أنّ الله تعالى يغفر الذنوب من غير توبة.

وإذا انتقش هذا على صفحة الخاطر علم أنّ ما قال جار الله في الكشّاف (٤) من أنّ المنفيّ والمثبت في الآية موجّهان إلى قوله : «لمن يشاء» ، والمراد بالأوّل من لم يتب ، وبالثاني من تاب ، في غاية الفساد والبطلان ، لأنّه يكون حينئذ معنى الآية : أنّه سبحانه لا يغفر الشرك لمن يشاء وهو غير التائب ، ويغفر لمن تاب منه ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وهو التائب ، ولا يغفر لمن لم يتب منه ، فيصير المنفيّ والمثبت كما ترى سواء في الحكم والمعنى. وحاشا كلام الّذي بهر العقول بفصاحته عن مثل هذه النقيصة الّتي يأبى عنها كلام كلّ عاقل. على أنّ التوبة إذا أوجبت عنده إسقاط العقاب فكيف تعلّق بها المشيئة؟! جلّ ربّنا عن مثله ، وتقدّس عن شبهه.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى) فقد كذب بقوله : إنّ العبادة يستحقّها غير الله

__________________

(١) الحجر : ٥٦.

(٢) الأعراف : ٩٩.

(٣) راجع ص : ٤٩.

(٤) الكشّاف ١ : ٥١٩ ـ ٥٢٠.

٧٨

تعالى ، وأثم (إِثْماً عَظِيماً) يستحقر دونه سائر الآثام. وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب. ولفظ الافتراء كما يطلق على القول ، يطلق على الفعل. وكذلك لفظ الاختلاق.

قال الكلبي : نزلت هذه الآية في المشركين ، وحشيّ وأصحابه ، وذلك أنّه لمّا قتل حمزة وكان قد جعل له على قتله أن يعتق ، فلم يوف له بذلك ، فلمّا قدم مكّة ندم على صنيعه هو وأصحابه ، فكتبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا قد ندمنا على الّذي صنعناه ، وليس يمنعنا على الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول وأنت بمكّة : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) (١) الآيتان. وقد دعونا مع الله إلها آخر. وقتلنا النفس الّتي حرّم الله ، وزنينا ، فلولا هذه لاتّبعناك.

فنزلت : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (٢) الآيتان. فبعث بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وحشي وأصحابه.

فلمّا قرءوهما كتبوا إليه : هذا شرط شديد فنخاف أن لا نعمل صالحا ، فلا نكوننّ من أهل هذه الآية.

فنزل : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). فبعث بها إليهم.

فقرؤوها فبعثوا إليه : إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته.

فنزلت : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٣). فبعث بها إليهم.

__________________

(١) الفرقان : ٦٨.

(٢) مريم : ٦٠.

(٣) الزمر : ٥٣.

٧٩

فلمّا قرءوها دخل هو وأصحابه في الإسلام ، ورجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقبل منهم.

ثم قال لوحشي : أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلمّا أخبره قال : ويحك غيّب وجهك عنّي. فلحق وحشيّ بعد ذلك بالشام ، فكان بها إلى أن مات.

وروى أبو مجلز عن ابن عمر قال : نزلت في المؤمنين ، وذلك أنّه لمّا نزلت : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية ، قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر فتلاها على الناس ، فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله ، فسكت ، ثم قام إليه مرّتين أو ثلاثا ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، فأثبت هذه في الزمر ، وهذه في النساء.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠))

ثم ذكر سبحانه تزكية هؤلاء الكفرة أنفسهم مع كفرهم وتحريفهم الكتاب ، ذمّا وتعييرا لهم ، فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) يعني : أهل الكتاب قالوا : نحن أبناء الله وأحبّاؤه ، ولن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى. وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلا وقولا.

وقيل : جماعة من اليهود أتوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب؟ قال : لا. فقالوا : والله ما نحن إلّا كهيئتهم ، ما عملناه بالنهار كفّر عنّا بالليل ، وما عملناه بالليل كفّر عنّا بالنهار. فكذّبهم الله تعالى بهذه الآية.

والأوّل مرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. ويدخل في الآية كلّ من زكّى نفسه وأثنى

٨٠