زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : سيظهر لهم أخبار الشيء الّذي كانوا به يستهزؤن ، وهو القرآن. يعني : سيعلمون بأيّ شيء استهزؤا ، وسيظهر لهم أنّه لم يكن بموضع الاستهزاء ، وذلك عند نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة ، أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره وعلوّ كلمته.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))

ثمّ حذّرهم سبحانه ما نزل بالأمم قبلهم ، فقال : (أَلَمْ يَرَوْا) ألم ير كفّار قريش (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي : من أهل زمان مقترنين في وقت. والقرن مدّة أغلب أعمار الناس. وهي سبعون سنة. وقيل : ثمانون. وقيل : القرن أهل عصر فيه نبيّ أو فائق في العلم ، قلّت المدّة أو كثرت. واشتقاقه من : قرنت.

(مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) جعلنا لهم فيها مكانا ، أو قرّرناهم فيها ، أو أعطيناهم من القوى والآلات ما تمكّنوا بها من أنواع التصرّف فيها (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) ما لم نجعل لكم يا أهل مكّة ، من البسطة في الأجسام ، والسعة في الأموال ، والعبيد والخدم ، والولاية ، وطول المقام. أو ما لم نعطكم من القوّة والسعة في المال ، والاستظهار بالعدد والأسباب ، وأنتم تسمعون أخبارهم ، وترون ديارهم وآثارهم.

عدل عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات.

(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ) أي : المطر ، أو السحاب ، أو المظلّة ، فإنّ مبدأ المطر منها (مِدْراراً) مغزارا (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) فعاشوا في

٣٦١

الخصب والريف بين الأنهار والثمار (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي : لم يغن ذلك عنهم شيئا من مقدّمة الإهلاك (وَأَنْشَأْنا) وأحدثنا (مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أمّة اخرى بدلا منهم.

والمعنى : أنّه تعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود ، وينشئ مكانهم آخرين يعمّر بهم بلادهم ، يقدر أن يفعل ذلك بكم.

وفيه دلالة صريحة على أنّه سبحانه لا يتعاظمه أن يفني عالما وينشئ عالما آخر ، لقوله : (وَلا يَخافُ عُقْباها) (١). ففيه احتجاج على منكري البعث.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

روي أنّ نضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أميّة ونوفل بن خويلد قالوا عنادا : يا محمّد لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنّه من عند الله وأنّك رسوله ، فنزلت : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) مكتوبا في ورق.

وعن ابن عبّاس : كتابا معلّقا من السماء إلى الأرض.

(فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) فمسّوه. وتخصيص اللمس لأنّ التزوير لا يقع فيه ، فلا يمكنهم

__________________

(١) الشمس : ١٥.

٣٦٢

أن يقولوا : إنّما سكّرت أبصارنا ، فتبقى لهم. وعلّة تقييده بالأيدي لدفع التجوّز ، فإنّه قد يتجوّز به للفحص ، كقوله : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) (١). فاللمس باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة. (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) تعنّتا وعنادا للحقّ بعد ظهوره.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) هلّا أنزل مع محمّد ملك نشاهده يكلّمنا أنّه نبيّ فنصدّقه ، كقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (٢).

(وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) على ما اقترحوه (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي : أمر إهلاكهم. هذا جواب لما قالوا ، وبيان لما هو المانع ممّا اقترحوه. والمعنى : أنّ الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحقّ إهلاكهم ، فإنّ سنّة الله جرت بذلك فيمن قبلهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) بعد نزوله طرفة عين ، لأنّهم لا يؤمنون عند مشاهدة تلك الآية الّتي لا شيء أبين منها ، فتقتضي الحكمة استئصالهم.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) هذا جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب. وإن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان ، فإنّهم تارة يقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ، وتارة يقولون : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) (٣).

وعلى الأوّل معناه : ولو جعلنا قرينا لك ملكا يعاينوه. وعلى الثاني : ولو جعلنا الرسول ملكا لمثّلناه رجلا ، كما مثّل جبرئيل في صورة دحية الكلبي ، فإنّ القوّة البشريّة لا تقوى على رؤية الملك في صورته ، وإنّما رأى الملائكة بعض الأنبياء صلوات الله عليهم بقوّتهم القدسيّة.

وقوله : «وللبسنا» جواب محذوف ، أي : ولو جعلناه رجلا للبسنا ، أي :

__________________

(١) الجنّ : ٨.

(٢) الفرقان : ٧.

(٣) فصّلت : ١٤.

٣٦٣

لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم ، فيقولون : ما هذا إلّا بشر مثلكم ، فحصل الاشتباه بينهم ، وكذّبوه كما كذّبوا محمدا.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣))

ثمّ قال سبحانه على سبيل التسلية لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تكذيب المشركين إيّاه واستهزائهم به : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما استهزئ قومك ، فلست بأوّل رسول استهزئ به ، ولا هم أوّل أمّة استهزئت برسولها (فَحاقَ) فأحاط (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الشيء المستهزأ الّذي كانوا يستهزؤن به ، وهو الحقّ ، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به. وقيل : فأحاط بهم وبال استهزائهم ، أو العذاب الّذي يسخرون من وقوعه.

(قُلْ سِيرُوا) سافروا (فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) بأبصاركم ، وتفكّروا بقلوبكم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) المستهزئين بالرسل من الأمم السالفة ، أي : كيف أهلكهم الله تعالى بعذاب الاستئصال كي تعتبروا.

٣٦٤

والفرق بينه وبين قوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) (١) أنّ السير ثمّة لأجل النظر ، لأنّ الفاء للسببيّة ، ولا كذلك هاهنا ، ولذلك قيل : معناه : إباحة السير للتجارة وغيرها ، وإيجاب النظر في آثار الهالكين.

(قُلْ) تبكيتا لهم (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا (قُلْ لِلَّهِ) تقريرا لهم ، وتنبيها على أنّه المتعيّن للجواب بالاتّفاق ، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره. والمعنى : هو لله ، لا خلاف بيني وبينكم في ذلك ، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره.

(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أوجبها على ذاته والتزمها. والمراد بالرحمة ما يعمّ الدارين ، ومن ذلك الهداية إلى معرفته ، ونصب الأدلّة على توحيده ، وإنزال الكتب ، والإمهال على الكفر.

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) استئناف وقسم للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر ، أي : ليجمعنّكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة ، فيجازيكم على شرككم.

أو ليجمعنّ آخركم إلى أوّلكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة ، أو في يوم القيامة.

و «إلى» بمعنى «في» شائع. وقيل : بدل من الرحمة بدل البعض ، فإنّ من رحمته بعثه إيّاكم ، وإنعامه عليكم (لا رَيْبَ فِيهِ) في اليوم ، أو الجمع.

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بتضييع رأس ما لهم ، وهو الفطرة الأصليّة والعقل السليم. وموضع الموصول نصب على الذمّ ، أو رفع على الخبر ، أي : وأنتم الّذين ، أو على الابتداء وخبره قوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). والفاء للدلالة على أنّ عدم إيمانهم مسبّب عن خسرانهم ، فإنّ إبطال العقل باتّباع الحواسّ والوهم ، والانهماك في التقليد وإغفال النظر ، أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناع من الايمان.

(وَلَهُ) عطف على «لله» (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : ما تمكّن من

__________________

(١) النمل : ٦٩.

٣٦٥

السكنى ، بمعنى الحلول والنزول ، لا من السكون ضدّ الحركة ، ومنه : سكن الدار وفيها إذا أقام. ويجوز أن يكون من السكون. والمراد : ما سكن فيها وما تحرّك ، فاكتفى بأحد الضدّين عن الآخر ، كقوله تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (١). والمراد الحرّ والبرد. والأول موافق لقول ابن عباس : وله ما استقرّ في الليل والنهار من خلق. وتعديته بـ «في» ، كما في قوله : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٢).

والمعنى : ما اشتملا عليه اشتمال الظرف على المظروف. ذكر في الأوّل السماوات والأرض ، وذكر هنا الليل والنهار. فالأوّل يجمع المكان ، والثاني يجمع الزمان.

وهما ظرفان لجميع الموجودات ، من الأجسام والأعراض.

(وَهُوَ السَّمِيعُ) لكلّ مسموع (الْعَلِيمُ) بكلّ معلوم ، فلا يخفى عليه شيء.

ويجوز أن يكون وعيدا للمشركين على أقوالهم وأفعالهم.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦))

قيل : إنّ أهل مكّة قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمد تركت ملّة قومك ، وقد

__________________

(١) النحل : ٨١.

(٢) إبراهيم : ٤٥.

٣٦٦

علمنا أنّه لا يحملك على ذلك إلّا الفقر ، فإنّا نجمع لك من أموالنا حتّى تكون من أغنانا ، فنزلت : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) مالكا ومولى.

ووليّ الشيء مالكه الّذي هو أولى به من غيره. هذا إنكار لاتّخاذ غير الله وليّا ، لا لاتّخاذ الوليّ ، فلذلك قدّم وأولي همزة الاستفهام ، دون الفعل الّذي هو : اتّخذ. والمراد بالوليّ المعبود ، لأنّه ردّ لمن دعاه إلى الشرك.

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما. عن ابن عبّاس : ما عرفت معنى : فاطر السماوات والأرض ، حتّى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي : ابتدأت بحفرها. وجرّه على الصفة لله ، فإنّه بمعنى الماضي.

(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) يرزق ولا يرزق. وتخصيص الطعام لشدّة الحاجة إليه. والمعنى : أنّ المنافع كلّها من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع ، فكيف أشرك بمن هو فاطر السماوات والأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانيّة؟! (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ) أي : أمر ربّي (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أوّل من استسلم لأمر الله ورضي بحكمه ، أو أوّل من أخلص العبادة لله من أهل الزمان ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سابق أمّته في الدين ، كقول موسى : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١). (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بترك أمره وارتكاب نهيه ، أو باتّخاذ غيره وليّا ، أي : وقيل لي : ولا تكوننّ من أهل الشرك ، أي : أمرت بالإسلام ، ونهيت عن الشرك. ويجوز عطفه على «قل».

(قُلْ إِنِّي أَخافُ) قيل : معناه أوقن وأعلم. وقيل : هو من الخوف. (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) مبالغة اخرى في قطع أطماعهم ، وتعريض لهم بأنّهم عصاة مستوجبون للعذاب. والشرط معترض بين الفعل والمفعول به. وجوابه محذوف دلّ عليه الجملة.

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

٣٦٧

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ) أي : يصرف العذاب عنه. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم : يصرف ، على أنّ الضمير فيه لله تعالى والمفعول به محذوف ، أو يومئذ بحذف المضاف ، أي : عذاب يومئذ. (فَقَدْ رَحِمَهُ) الرحمة العظمى الّتي هي النجاة ، كما تقول : من أطعمته من جوع فقد أحسنت إليه ، تريد : فقد أتممت الإحسان إليه. أو فقد أثابه وأدخله الجنّة ، لأنّ من لم يعذّب فلا بدّ أن يثاب. (وَذلِكَ) أي : الصرف أو الرحمة (الْفَوْزُ الْمُبِينُ) الفوز بالبغية ، الظاهر البيّن.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يملك النفع والضرّ إلّا هو ، ولا يكشفه سواه ممّا يعبده المشركون ، فقال : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) يصيبك ببليّة ، كمرض وفقر (فَلا كاشِفَ لَهُ) فلا قادر على كشفه (إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) بنعمة ، كصحّة وغنى (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الخير والضرّ وغير ذلك (قَدِيرٌ) لا يقدر أحد على دفع ما يريد لعباده من مكروه أو محبوب ، فكان قادرا على حفظه وإدامته ، فلا يقدر غيره على دفعه ، كقوله تعالى : (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) (١).

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) تصوير لقهره وعلوّه بالغلبة والقدرة ، كقوله : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (٢). يريد أنّهم تحت تسخيره وتذليله (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في

__________________

(١) يونس : ١٠٧.

(٢) الأعراف : ١٢٧.

٣٦٨

أمره وتدبيره (الْخَبِيرُ) العالم بكلّ ما يصحّ أن يخبر به ، فكان عالما بالعباد وخفايا أحوالهم.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠))

روي عن الكلبي أنّ أهل مكّة قالوا : يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من يشهد لك أنّك رسول الله ، فنزلت : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً)

أراد : أيّ شهيد أكبر شهادة وأصدق. فوضع شيئا مقام شهيد ليبالغ بالتعميم ، فإنّ الشيء أعمّ العامّ ، لوقوعه على كلّ ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه ، فيقع على القديم والجسم والعرض والمحال والمعدوم ، ولذلك صحّ أن يقال في الله عزوجل : شيء لا كالأشياء ، بمعنى : أنّه معلوم لا كسائر المعلومات الّتي هي الأجسام والأعراض ، ولم يصحّ : جسم لا كالأجسام.

(قُلِ اللهُ) أي : الله أكبر شهادة. ثمّ ابتدأ فقال : (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي : هو شهيد يشهد لي بالرسالة. ويجوز أن يكون «الله شهيد» هو الجواب ، لأنّه تعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شيء شهادة.

(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) لأخوّفكم بالقرآن من عذاب الله.

٣٦٩

واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة. (وَمَنْ بَلَغَ) عطف على ضمير المخاطبين ، أي : لأنذركم به يا أهل مكّة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر ، أي : من العرب والعجم ، أو من الثقلين. أو لأنذركم أيّها الموجودون ومن بلغه إلى يوم القيامة. وهو دليل على أنّ أحكام القرآن تعمّ الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم ، وأنّه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه.

وروى الحسن في تفسيره عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من بلغه أنّي أدعو إلى أن لا إله إلّا الله فقد بلغه».

يعني : بلغته الحجّة ، وقامت عليه.

وعن سعيد بن جبير : من بلغه القرآن فكأنّما رأى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي تفسير العيّاشي قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما‌السلام : «معناه : من بلغ أن يكون إماما من آل محمّد فهو ينذر بالقرآن ، كما أنذر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

وعلى هذا ، فيكون قوله : «ومن بلغ» في موضع الرفع عطفا على الضمير في «أنذر».

ثمّ قال تقريرا لهم مع إنكار واستبعاد : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) بعد وضوح الأدلّة ، وقيام الحجّة على وحدانيّته تعالى (قُلْ لا أَشْهَدُ) بما تشهدون (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي : بل اشهد أن لا إله إلّا الله (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) به ، يعني : الأصنام.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحليته المذكورة في التوراة والإنجيل ، ونعته الثابت فيهما ، معرفة خالصة واضحة (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بحلاهم وصفاتهم ، لا يخفون عليهم ، ولا يلتبسون بغيرهم.

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من أهل الكتاب الجاحدين والمشركين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لتضييعهم ما به يكتسب الإيمان.

روي أنّ عبد الله بن سلام قال : وأيم الّذي يحلف به ابن سلام لأنا بمحمد أشدّ

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٣٥٦ ح ١٢ و١٣.

٣٧٠

معرفة منّي بابني ، لأنّي عرفته بما نعته الله لنا في كتابنا ، فأشهد أنّه هو ، فأمّا ابني فإنّي لا أدري ما أحدثت أمّه.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢))

ثم بيّن سبحانه ما يلزمهم من التوبيخ والتهجين بالإشراك ، فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) اختلق (عَلَى اللهِ كَذِباً) كقولهم : الملائكة بنات الله ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كأن كذّبوا بالقرآن والمعجزات ، وسمّوها سحرا. وإنّما ذكر «أو» وهم قد جمعوا بين الأمرين ، تنبيها على أنّ كلّا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس. والاستفهام في معنى الجحد ، أي : لا أحد أظلم منه.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) لا يفوز الكافرون المتوغّلون في الكفر والافتراء برحمة الله وثوابه ، ولا بالنجاة من النار.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) ناصبه محذوف ، تقديره : ويوم نحشرهم كان كيت وكيت ، فترك ليبقى على الإبهام الّذي هو أدخل في التخويف (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أي : آلهتكم الّتي جعلتموها شركاء لله تعالى. وقرأ يعقوب : يحشرهم ويقول بالياء. (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي : تزعمونهم شركاء ، فحذف المفعولان. والمراد من الاستفهام التوبيخ. ويجوز أن يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ، ليفقدوها في الساعة الّتي علّقوا بها الرجاء فيها ، فيروا مكان خزيهم وحسرتهم. ويحتمل أن يشاهدوهم ، ولكن لمّا لم ينفعوهم فكأنّهم غيّب عنهم.

٣٧١

وفي الآية دلالة واضحة على بطلان الجبر ، وعلى إثبات المعاد ، وحشر جميع الخلائق.

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

ثمّ بيّن سبحانه جواب القوم عند توجّه التوبيخ إليهم ، فقال : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) أي : كفرهم. والمراد عاقبته. يعني : ثمّ لم يكن عاقبة كفرهم الّذي لزموه مدّة أعمارهم ، وقاتلوا عليه ، وافتخروا به ، وقالوا دين آبائنا. (إِلَّا أَنْ قالُوا) من فرط الحسرة والدهشة (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) يكذبون ويحلفون عليه ، مع علمهم بأنّه لا ينفعهم ، وذلك كأنّ الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشا. ألا تراهم يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١) وقد أيقنوا بالخلود ، ولم يشكّوا فيه. وقالوا : (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) (٢) وقد علموا أنّهم لا يقضى عليهم.

والمعنى : جحدوا الكفر وتبرّؤا منه ، وحلفوا على الانتفاء من التديّن به ، مع علمهم بأنّه لا ينفعهم ذلك القول.

وقيل : المراد من فتنتهم معذرتهم الّتي يتوهّمون أن يتخلّصوا بها ، من : فتنت الذهب إذا خلّصته.

وقيل : جوابهم. وإنّما سمّاه فتنة لأنّه كذب ، أو لأنّهم قصدوا به الخلاص.

وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص : لم تكن بالتاء ، وفتنتهم بالرفع ، على أنّها

__________________

(١) المؤمنون : ١٠٧.

(٢) الزخرف : ٧٧.

٣٧٢

الاسم. ونافع وأبو عمرو وأبو بكر بالتاء والنصب ، على أنّ الاسم «أن قالوا» ، والتأنيث للخبر ، كقولهم : من كانت أمّك؟ والباقون بالياء والنصب.

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي : بنفي الشرك عنها. والمراد بالاستفهام التنبيه على التعجيب منهم. وقول من يقول : المعنى : ما كنّا مشركين عند أنفسنا ، وما علمنا أنّا على خطأ في معتقدنا ، وحمل قوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) في الدنيا ، فتمحّل وتعسّف يخلّ بالنظم. وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) (١) بعد قوله : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢) فشبّه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.

وقرأ حمزة والكسائي : ربّنا بالنصب ، على النداء والمدح.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الشركاء.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))

روي أنّ أبا سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبا جهل وأضرابهم اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ : فقالوا للنضر يا أبا قتيلة ما يقول؟ : فقال : والّذي

__________________

(١ ، ٢) المجادلة : ١٨ و١٤.

٣٧٣

جعلها ـ أي : الكعبة ـ بيته ما أدري ما يقول ، إلّا أنّه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين ، مثل ما حدّثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان : إنّي لأراه حقّا.

فقال : أبو جهل : كلّا فنزلت : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)

حين تتلو القرآن (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أغطية ، جمع كنان ، وهو ما يستر الشيء (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفقهوه (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) يمنع من استماعه. والأكنّة في القلوب والوقر (١) في الآذان مثل في نبوّ قلوبهم وسامعتهم عن قبوله واعتقاد صحّته. ووجه إسناد الفعل إلى ذاته ـ وهو قوله :«وجعلنا» ـ للدلالة على أنّه ثابت فيهم لا يزول عنهم ، كأنّهم مجبولون عليه. أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (٢). وقد مرّ (٣) تحقيق ذلك في أوّل سورة البقرة عند قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ).

وقال القاضي أبو عاصم العامري : أصحّ الأقوال فيه ما روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي بالليل ، ويقرأ القرآن في الصلاة جهرا ، رجاء أن يستمع إلى قراءته إنسان فيتدبّر معانيه ويؤمن به. فكان المشركون إذا سمعوه آذوه ، ومنعوه عن الجهر بالقراءة. فكان الله تعالى يلقي عليهم النوم ، أو يجعل في قلوبهم أكنّة ليقطعهم عن مرادهم ، وذلك بعد ما بلغهم ممّا تقوم به الحجّة وتنقطع به المعذرة ، وبعد ما علم الله سبحانه أنّهم لا ينتفعون بسماعه ولا يؤمنون به ، فشبّه إلقاء النوم عليهم بجعل الغطاء على قلوبهم وبوقر آذانهم ، لأنّ ذلك كان يمنعهم من التدبّر ، كالوقر والغطاء. وهذا معنى قوله تعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

__________________

(١) وقرت أذنه وقرا : ثقلت أو ذهب سمعه كله وصمت أذنه.

(٢) فصلت : ٥.

(٣) راجع ج ١ : ٥٣ ـ ٥٤.

٣٧٤

حِجاباً مَسْتُوراً) (١). وهو قول أبي علي الجبائي.

ويحتمل ذلك وجها آخر ، وهو أنّه تعالى يعاقب هؤلاء الكفّار الّذين علم أنّهم لا يؤمنون بعقوبات يجعلها في قلوبهم ، يكون موانع من أن يفهموا ما يسمعونه.

ويحتمل أيضا أن يكون سمّى الكفر الّذي في قلوبهم كنّا تشبيها ومجازا ، وإعراضهم عن تفهّم القرآن وقرا توسّعا ، لأنّ مع الكفر والإعراض لا يحصل الإيمان والفهم ، كما لا يحصلان مع الكنّ والوقر. ونسب ذلك إلى نفسه ، لأنّه الّذي شبّه أحدهما بالآخر ، كما يقول أحدنا لغيره إذا أثنى على إنسان وذكر مناقبه : جعلته فاضلا ، وبالضدّ إذا ذكر مقابحه وفسقه يقول : جعلته فاسقا ، وكما يقال : جعل القاضي فلانا عدلا ، وكلّ ذلك يراد به الحكم عليه بذلك ، والإبانة عن حاله ، كما قال الشاعر :

جعلتني باخلا كلّا وربّ منى

إنّي لأسمح كفّا منك في اللزب (٢)

ومعناه : سمّيتني باخلا.

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) لفرط عنادهم ، واستحكام التقليد فيهم (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) أي : بلغ تكذيبهم الآيات إلى غاية أنّهم جاؤك يجادلونك. و «حتى» هي الّتي تقع بعدها الجمل لا عمل لها. والجملة قوله : «إذا جاؤك» ، وجوابه وهو قوله : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا) ما هذا القرآن (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، فإنّ جعل أصدق الحديث خرافات الأوّلين وأكاذيبهم ـ كحديث رستم وإسفنديار ، وغيره ممّا لا فائدة فيه ، ولا طائل تحته ، وغير مطابق للواقع ـ غاية التكذيب. و «يجادلونك» حال لمجيئهم.

ويجوز أن تكون «حتّى» هي الجارّة ، و «إذا جاؤك» في موضع الجرّ ،

__________________

(١) الإسراء : ٤٥.

(٢) اللزبة : الشدّة والقحط ، وجمعها : لزب.

٣٧٥

و «يجادلونك» جواب ، و «يقول» تفسير له.

والأساطير : الأباطيل ، وكلّ كلام لا نظام له. جمع اسطارة واسطيرة بكسرهما ، واسطورة بالضمّ ، وبالهاء في الكلّ. أو جمع أسطار جمع سطر. وأصله السطر بمعنى الخطّ والكتابة.

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) أي : ينهون الناس عن استماع القرآن ، أو الرسول والإيمان به. (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) ويتباعدون عنه بأنفسهم فرارا منه ، فيضلّون ويضلّون. (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) وما يهلكون بذلك (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) أنّ ضرره لا يتعدّى إلى غيرهم ، وإن كانوا يظنّون أنّهم يضرّون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. هكذا قال ابن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة والحسن والسّدي وقتادة ومجاهد في تفسيره. واختاره الجبائي.

وقال عطاء ومقاتل من العامّة : إنّ المراد به أبو طالب بن عبد المطّلب ، لأنّه كان ينهى قريشا عن التعرّض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينأى عنه ، فلا يؤمن به. فمعناه : يمنعون الناس عن أذى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يتّبعونه بالإيمان.

وهذا لا يصحّ ، لأنّ هذه الآية معطوفة على ما تقدّمها ، وما تأخّر عنها معطوف عليها ، وكلّها في ذمّ الكفّار المعاندين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. هذا وقد ثبت إجماع أهل البيت عليهم‌السلام على إيمان أبي طالب ، وإجماعهم حجّة ، لأنّهم أحد الثقلين اللّذين أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسّك بهما بقوله : «إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».

ويدلّ على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر أنّ أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا تركت الشيخ فآتيه؟ وكان أعمى. فقال أبو بكر : أردت أن يأجره الله ، والّذي بعثك بالحقّ لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشدّ فرحا منّي بإسلام أبي ، ألتمس بذلك قرّة عينك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صدقت.

٣٧٦

وروى الطبري (١) بإسناده : «أنّ رؤساء قريش لمّا رأوا ذبّ أبي طالب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتمعوا عليه ، وقالوا : جئناك بفتى قريش جمالا وجودا وشهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك ، وتدفع إلينا ابن أخيك الّذي فرّق جماعتنا وسفّه أحلامنا فنقتله. فقال أبو طالب : ما أنصفتموني ، تعطونني ابنكم فأغذوه ، وأعطيكم ابني فتقتلونه! بل فليأت كلّ امرئ منكم بولده فأقتله. وقال :

منعنا الرسول رسول المليك

ببيض تلألأ كلمح البروق

أذود وأحمي رسول المليك

حماية حام عليه شفيق

وأقواله وأشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى ، فمن ذلك قوله :

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمدا

نبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

ومنه :

ألا إنّ أحمد قد جاءهم

بحقّ ولم يأتهم بالكذب

وقوله حين يحضّ أخاه حمزة على اتّباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والصبر في طاعته :

صبرا أبا يعلى على دين أحمد (٢) ...

إلى قوله

.... فكن لرسول الله في الله ناصرا

وقوله في قصيدته :

أقيم على نصر النبيّ محمد

أقاتل عنه بالقنا (٣) والقنابل

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

(٢) تمام البيت :

وكن مظهرا للدين وفّقت صابرا

فقد سرّني إذ قلت إنّك مؤمن

فكن لرسول ...........

(٣) القنا جمع القناة : الرمح. والقنابل جمع القنبلة : الطائفة من الناس أو الخيل.

٣٧٧

وقوله يحضّ النجاشي على نصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

تعلّم مليك الحبش أنّ محمدا

وزير لموسى والمسيح بن مريم

أتى بهدى مثل الّذي أتيا به

وكلّ بأمر الله يهدي ويعصم

وإنّكم تتلونه في كتابكم

بصدق حديث لا حديث المرجّم

فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا

وأنّ طريق الحقّ ليس بمظلم

وقوله في وصيّته وقد حضرته الوفاة :

أوصي بنصر النبيّ الخير مشهده

عليّا ابني وشيخ القوم عبّاسا

وحمزة الأسد الحامي حقيقته

وجعفرا أن يذودا دونه الناسا

وأمثال هذه الأبيات ممّا هو موجود في قصائده المشهورة ووصاياه وخطبه ، يطول بها الكتاب.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨))

ثمّ بيّن سبحانه ما ينال هؤلاء الكفّار يوم القيامة من الحسرة وتمنّي الرجعة ، فقال : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) حتّى يعاينوها أو يطّلعون عليها اطّلاعا هي تحتهم. وجوابه محذوف ، أي : لو تراهم حين يوقفون على النار لرأيت أمرا شنيعا.

وقيل : معناه : ادخلوها فعرفوا مقدار عذابها ، مأخوذا من قولك : وقفته على كذا ، إذا عرّفته وفهّمته.

(فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ) تمنّيا للرجوع إلى الدنيا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ

٣٧٨

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وعد منهم بالإيمان ، كأنّهم قالوا : ونحن لا نكذّب ونؤمن ، استئنافا منهم على وجه الإثبات. وشبّهه سيبويه بقولهم : دعني ولا أعود ، أي وأنا لا أعود ، تركتني أو لم تتركني.

ويجوز أن يكون معطوفا على «نردّ» ، أو حال من الضمير فيه ، فيكون في حكم التمنّي. وحينئذ قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) راجع إلى ما تضمّنه التمنّي من الوعد ، فيجوز أن يتعلّق به التكذيب. فلا يرد أن التمنّي لا يكون كاذبا فكيف يتعلّق به التكذيب؟ وهذا كما يقول الرجل : ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك. فهذا متمنّى في معنى الوعد. فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب ، كأنّه قال : إن رزقني الله مالا كافأتك على الإحسان.

ونصبهما حمزة ويعقوب وحفص على الجواب ، بإضمار «أن» بعد الواو ، إجراء لها مجرى الفاء. ومعناه : إن رددنا لم نكذّب ونكن من المؤمنين. وقرأ ابن عامر برفع الأوّل على العطف ، ونصب الثاني على الجواب.

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) إضراب عن إرادة الإيمان المفهومة من التمنّي. والمعنى : أنّه ، ظهر لهم ما كانوا يخفون من الناس من قبائح أعمالهم في صحفهم ، وبشهادة جوارحهم عليهم ، فلذلك تمنّوا ذلك ضجرا ، لا أنّهم عازمون على أنّهم لو ردّوا لآمنوا.

قيل : هو في المنافقين ، أي : يظهر نفاقهم الّذي كانوا يسرّونه.

وقيل : هو في أهل الكتاب ، أي : يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحّة نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَلَوْ رُدُّوا) أي : إلى الدنيا بعد الوقوف على النار وظهور ما كانوا يخفون (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر والمعاصي (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما وعدوا به من أنفسهم ، لا يؤمنون به.

٣٧٩

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢))

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار ، وإنكارهم البعث والنشور والحشر والحساب ، فقال : (وَقالُوا) عطف على «لعادوا» أي : ولو ردّوا لكفروا ولقالوا. أو على «أنّهم لكاذبون» على معنى : وأنّهم لقوم كاذبون في كلّ شيء ، وهم الّذين قالوا. أو على «نهوا». أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا. (إِنْ هِيَ) ما الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) عنوا بذلك أنّه لا حياة في الآخرة ، وإنّما هي هذه الّتي حيينا بها في الدنيا (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) لسنا مبعوثين بعد الموت ، أي : قالوا ذلك كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) مجاز عن الحبس للسؤال والتوبيخ ، كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه ليعاتبه. وقيل : معناه : وقفوا على قضاء ربّهم أو جزائه ، أو عرّفوه حقّ التعريف ، كما يقال : وقفته على كلام فلان ، أي : عرّفته إيّاه.

(قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) كأنّه جواب قائل قال : ماذا قال ربّهم حينئذ؟ والهمزة

٣٨٠