زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

خليله. وإنّما أعاد ذكره ولم يضمر تفخيما له ، وتنصيصا على أنّه الممدوح.

والخلّة من الخلال ، فإنّه ودّ تخلّل النفس وخالطها. وقيل : من الخلل ، فإنّ كلّ واحد من الخليلين يسدّ خلل الآخر. أو من الخلّ ، وهو الطريق في الرمل ، فإنّهما يترافقان في الطريقة. أو من الخلّة بمعنى الخصلة ، فإنّهما يتوافقان في الخصال. أو من الخلّة والخلولة بمعنى الفقر والاحتياج ، لأنّه افتقر إلى الله عزوجل حسب ، وتوكّل عليه ، وانقطع بحوائجه إليه ، واشتغل به عمّا سواه.

وهذه الجملة استئناف جيء بها للترغيب في اتّباع ملّته ، والإيذان بأنّه نهاية في الحسن ، وغاية كمال البشر ، فيجب التبعيّة في ملّته.

وروى عليّ بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّه كان إبراهيم عليه‌السلام يضيف الضيفان ، ويطعم المساكين ، والناس أصابهم جدب وقحط في سنة ، فبعث إلى خليل له بمصر يلتمس منه طعاما لأهله.

فقال خليله : لو كان إبراهيم يريد لنفسه لفعلت ، ولكن يريد للأضياف ، وقد أصابنا ما أصاب الناس.

فاجتاز غلمانه ببطحاء (١) ليّنة ، فملؤا منها الغرائر (٢) حياء من الناس. فلمّا أخبروا إبراهيم عليه‌السلام ساءه الخبر ، فغلب النوم عينيه فنام ، وقامت سارة إلى غرارة منها فأخرجت أحسن الحوّارى (٣) فاختبزت. فاستيقظ إبراهيم عليه‌السلام فاشتمّ رائحة الخبز ، فقال : من أين لكم هذا؟

فقالت : من خليلك المصري.

__________________

(١) البطحاء : مسيل فيه دقاق الحصى ، وبطحاء الوادي : تراب ليّن ممّا جرّته السيول.

(٢) الغرارة واحدة الغرائر التي للتّبن ، أي : وعاء للتّبن. انظر الصحاح ٢ : ٧٦٩.

(٣) الحوّارى بالضمّ وتشديد الواو والراء مفتوحة : الدقيق الأبيض ، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه. لسان العرب ٤ : ٢٢٠.

١٦١

فقال : بل هو من عند خليلي الله عزوجل ، فسمّاه الله خليلا.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا ، يختار منهما ما يشاء ومن يشاء ، كما اختار إبراهيم عليه‌السلام بالخلّة.

وقيل : هو متّصل بذكر العمّال ، مقرّر لوجوب طاعته على أهل السماوات والأرض ، وكمال قدرته على مجازاتهم على الأعمال.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) إحاطة علم وقدرة ، فكان عالما بأعمالهم ، فيجازيهم على خيرها وشرّها.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨))

واعلم أنّ الله سبحانه لمّا صدّر السورة بذكر الأيتام والنساء ، وبيان سهام إرثهم ، والأمر بمراعاة حقوقهم والشفقة عليهم ، لأنّهم أضعف الناس ، عاد هاهنا إلى ذكرهم تأكيدا ومبالغة ، بعد انجرار الكلام إلى مباحث غيرهم ، ونحن بيّنّا وجه

١٦٢

ارتباط بعضها ببعض ، فقال سبحانه : (وَيَسْتَفْتُونَكَ) أي : يسألونك الفتوى ، وهو تبيين المشكل من الأحكام ، ويستخبرونك يا محمد عن الحكم (فِي النِّساءِ) فيما يجب لهنّ من ميراثهنّ.

روي في سبب نزوله أنّ عيينة بن حصين أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أخبرنا أنّك تعطي الابنة النصف والأخت النصف ، وإنّما كنّا نورّث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذلك أمرت.

وذلك قوله سبحانه : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) يبيّن لكم حكمه فيهنّ.

(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) عطف على اسم الله تعالى ، أو ضميره المستكن في «يفتيكم» ، وساغ للفصل. فيكون الإفتاء مسندا إلى الله تعالى ، وإلى ما في القرآن من قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ) (١) ، باعتبارين مختلفين. ونظيره : أعجبني زيد وكرمه ، وأغناني زيد وعطاؤه.

أو استئناف معترض ، لتعظيم المتلوّ عليهم. فيكون «ما يتلى عليكم» مبتدأ ، و «في الكتاب» خبره. والمراد به اللوح المحفوظ.

ويجوز أن ينصب على معنى : ويبيّن لكم ما يتلى في الكتاب. أو يخفض على القسم ، كأنّه قيل : وأقسم بما يتلى في الكتاب.

ولا يجوز عطفه على المجرور في «فيهنّ» لاختلاله لفظا ومعنى. أما لفظا فلأنّه لا يجوز أن يعطف على الضمير المجرور بلا إعادة الجارّ. وأما معنى فلأنه لا يستقيم المعنى أن يقال : في حقّ ما يتلى عليكم.

وقوله : (فِي يَتامَى النِّساءِ) صلة «يتلى» إن عطف الموصول على ما قبله ، أي : يتلى عليكم في شأنهنّ ، كما تقول : كلّمتك اليوم في زيد ، وإلّا فبدل من «فيهنّ» أو صلة اخرى لـ «يفتيكم فيهنّ». وإضافة «يتامى» إلى «النساء» بمعنى «من» لأنها

__________________

(١) النساء : ١١ ـ ١٢.

١٦٣

إضافة الشيء إلى جنسه ، نحو : ثوب خزّ ، وسحق (١) عمامة.

(اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) أي : لا تعطونهنّ ما فرض لهنّ من الميراث (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) في أن تنكحوهنّ ، أو عن أن تنكحوهنّ ، إذ قد روي أن في الجاهليّة كان الرجل منهم يضمّ اليتيمة ومالها إلى نفسه ، فإن كانت جميلة تزوّجها وأكل المال ، وإن كانت دميمة (٢) عضلها عن التزوّج حتى تموت فيرثها.

والواو تحتمل الحال والعطف.

وقوله : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) عطف على «يتامى النساء». وكانوا في الجاهليّة لا يورّثونهم كما لا يورّثون النساء ، بل إنّما يورّثون الرجال الّذين يقومون بالأمور ، دون الأطفال والنساء كما مرّ.

(وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أيضا عطف عليه ، أي : ويفتيكم أو ما يتلى عليكم في يتامى النساء ، وفي المستضعفين من الصبيان ، أن تعطوهم حقوقهم ، وفي أن تقوموا لليتامى بالعدل في أنفسهم وفي مواريثهم ، أن تعطوا كلّ ذي حقّ منهم حقّه ، صغيرا كان أو كبيرا ، ذكرا كان أو أنثى. ويجوز أن يكون منصوبا ، بمعنى : ويأمركم أن تقوموا.

وهذا خطاب للأئمّة في أن ينظروا لهم ، ويستوفوا حقوقهم ، أو للقوّام بالنصفة في شأنهم.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) من عدل وغيره من وجوه البرّ (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) وعد لمن آثر الخير في ذلك.

عن أبي جعفر صلوات الله عليه وسعيد بن المسيّب أنّه كانت بنت محمد بن سلمة عند رافع بن خديج ، وكانت قد دخلت في السنّ ، وكانت عنده امرأة شابّة

__________________

(١) السّحق : الثوب البالي. وسحق ثوب ، أي : بال.

(٢) دمّ يدمّ دمامة : كان حقيرا وقبح منظره ، فهو دميم ، ومؤنّثه : دميمة.

١٦٤

سواها ، فطلّقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير قال : إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة (١) ، وإن شئت تركتك. قالت : بلى راجعني وأصبر على الأثرة ، فراجعها.

فهذا الصلح الّذي بلغنا أنّ الله تعالى أنزل فيه.

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها) توقّعت منه لما ظهر لها من الأمارات. و «امرأة» فاعل فعل يفسّره الظاهر (نُشُوزاً) تجافيا عنها ، وترفّعا عن صحبتها ، واستعلاء وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها ، كراهة لها ومنعا لحقوقها (أَوْ إِعْراضاً) بأن يقلّ مجالستها ومحادثتها ومؤانستها ، لطعن في سنّ ، أو شيء في خلق أو خلق ، أو طموح عين إلى أخرى ، أو غير ذلك (فَلا جُناحَ) فلا حرج ولا إثم (عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) أن يتصالحا ، بأن تحطّ له بعض المهر أو القسم ، أو تهب له شيئا تستميله به.

وقرأ الكوفيّون : أن يصلحا ، من أصلح بين المتنازعين. وعلى هذا جاز أن ينتصب «صلحا» على المفعول به ، و «بينهما» ظرف أو حال منه. أو على المصدر كما في القراءة الأولى ، والمفعول «بينهما».

(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الفرقة أو سوء العشرة ، أو من الخصومة والإعراض. أو لا يراد به التفضيل ، بأن يراد أنّ الصلح خير من الخيور ، كما أنّ الخصومة من الشرور. وهو اعتراض. وكذا قوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) ولذلك اغتفر عدم تجانسهما. والأوّل للترغيب في المصالحة ، والثاني لتمهيد العذر في المماكسة.

ومعنى إحضار الأنفس الشحّ جعلها حاضرة له لا يغيب عنها أبدا ، إذ هو كالمطبوعة عليه في اللزوم ، فلا تكاد المرأة تسمح بالإعراض عن قسمتها والتقصير في حقّها ، ولا الرجل يسمح بأن يمسكها ويقوم بحقّها على ما ينبغي إذا كرهها أو أحبّ غيرها.

__________________

(١) الأثرة : الاختيار ، أي : إن شئت راجعتك وصبرت على اختياري المرأة الشابّة.

١٦٥

(وَإِنْ تُحْسِنُوا) بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهنّ ، وتصبروا على ذلك (وَتَتَّقُوا) النشوز والإعراض ونقص الحقّ ، وما يؤدّي إلى الأذى والخصومة (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من الإحسان والخصومة (خَبِيراً) عليما به وبالغرض فيه ، فيجازيكم عليه. أقام كونه عالما بأعمالهم مقام إثابته إيّاهم عليها الّذي هو في الحقيقة جواب الشرط ، إقامة السبب مقام المسبّب ، إذ العلم سبب المجازاة.

وعن ابن عبّاس أنّ سودة بنت زمعة خشيت أن يطلّقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : لا تطلّقني وأجلسني مع نسائك ، ولا تقسم لي واجعل يومي لعائشة ، فنزلت الآية.

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))

ولمّا تقدّم ذكر النشوز والصلح بين الزوجين ، عقّبه سبحانه بأنّه لا يكلّف من ذلك ما لا يستطاع ، فقال : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) أي : لا تقدروا أبدا أن تسوّوا بين النساء في المحبّة والمودّة في القلب (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على تحرّي ذلك وبالغتم فيه ، لأنّ العدل أن لا يقع ميل البتّة ، وهو متعذّر. ولذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : اللهمّ هذه قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك ، يعني : المحبّة.

قيل : إنّ العدل بينهنّ صعب ، وهو أن يسوّي بينهنّ في القسمة والنفقة والتعهّد والنظر والمؤانسة ، وغير ذلك ممّا لا يحصى ، فهو كالخارج عن حدّ الاستطاعة. هذا

١٦٦

إذا كنّ محبوبات كلّهنّ ، فكيف إذا مال القلب مع بعضهنّ؟! (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) ولا تعدلوا بأهوائكم عمّن لم تملكوا محبّة منهنّ كلّ العدول بترك المستطاع أيضا ، والجور على المرغوب عنها ، فإنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه ، فلا تجوروا عليهنّ في ترك أداء الواجب لهنّ عليكم ، من حقّ القسمة والنفقة والكسوة والعشرة بالمعروف من غير رضا منها (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) الّتي ليست ذات بعل ولا مطلّقة.

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّه سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول عن قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) (١) ثمّ قال (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) فبين القولين فرق. فقال أبو جعفر الأحول : فلم يكن في ذلك عندي جواب حتى قدمت المدينة ، فدخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فسألته عن ذلك ، فقال : أمّا قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) (٢) فإنّما عني به التفقّه.

وأمّا قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا) فإنّه عنى به المودّة ، فإنّه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة. قال : فرجعت إلى الرجل فأخبرته ، فقال : هذا ما حملته الإبل من الحجاز» (٣).

وروى أبو قلابة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كانت له امرأتان ، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضّا في بيت الاخرى».

وايضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما ، جاء يوم القيامة وأحد شقّيه مائل».

(وَإِنْ تُصْلِحُوا) ما كنتم تفسدون من أمورهنّ في القسمة والتسوية

__________________

(١) النساء : ٣.

(٢) النساء : ٣.

(٣) تفسير القمّي ١ : ١٥٥.

١٦٧

(وَتَتَّقُوا) فيما يستقبل في أمرهنّ ، وتتركوا الميل الّذي نهاكم الله عنه (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) فيغفر لكم ما مضى من ميلكم ، من الحيف والميل في ذلك (رَحِيماً) يرحمكم بترك المؤاخذة على ذلك.

(وَإِنْ يَتَفَرَّقا) وإن فارق كلّ واحد منهما صاحبه ، وأبيا الصلاح بينهما (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) اي : يرزقه الله زوجا خيرا من زوجه ، وعيشا أهنأ من عيشه (مِنْ سَعَتِهِ) من غناه وسعة فضله ، ورزقه من كمال قدرته. والسعة بمعنى الغنى والمقدرة. والواسع الغنيّ المقتدر. (وَكانَ اللهُ واسِعاً) واسع الفضل على عباده ، مقتدرا متقنا في أفعاله وأحكامه (حَكِيماً) فيما يدبّرهم.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢))

ثمّ نبّه على كمال سعته وقدرته بقوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإنّ من يملك ما في السماوات وما في الأرض لا يتعذّر عليه الإغناء بعد الفرقة ، والإيناس بعد الوحشة.

ثمّ ذكر الوصيّة بالتقوى عن نواهيه ، فإنّ بها ينال خير الدنيا والآخرة ، فقال : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من اليهود والنصارى وغيرهم في كتبهم (وَإِيَّاكُمْ) ووصيناكم أيضا أيّها المسلمون في كتابكم (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) بأن اتّقوا الله. يعني : التقوى وصيّة قديمة ما زال يوصي الله بها عباده ، لأنّ بالتقوى تنال

١٦٨

النجاة والسعادة. ويجوز أن تكون «أن» مفسّرة ، لأنّ التوصية في معنى القول.

(وَإِنْ تَكْفُرُوا) على إرادة القول ، أي : وقلنا لهم : ولكم أن تكفروا ـ أي : تجحدوا ـ وصيّته إيّاكم فتخالفوها (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإنّ الله مالك الملك كلّه ، لا يتضرّر بكفركم ومعاصيكم ، كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم.

وإنّما وصّاكم لرحمته ، لا لحاجته ولا لاستنصاره بكم.

ثمّ قرّر ذلك بقوله : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) عن الخلق وعبادتهم (حَمِيداً) في ذاته ، حمد أو لم يحمد ، لأنّه المنعم لا غير.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ذكره ثالثا للدلالة على كونه غنيّا حميدا ، فإنّ جميع المخلوقات تدلّ لحاجتها على غناه ، وبما فاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميدا.

وقوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) راجع إلى قوله : (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) فإنّه توكّل بكفايتهما. وما بينهما تقرير لذلك.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣)) وكذا لتقرير غناه وقدرته ، وتهديد من كفر به وخالف أمره ، قال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يفنيكم ويعدمكم (أَيُّهَا النَّاسُ) ومفعول «يشأ» محذوف دلّ عليه الجواب (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) ويوجد قوما آخرين مكانكم. أو خلقا آخرين مكان الإنس. (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ) من الإعدام والإيجاد (قَدِيراً) بليغ القدرة ، لا يعجزه مراد.

قيل : هذه الآية خطاب لمن عادى رسول الله عليه‌السلام من العرب. ومعناه معنى

١٦٩

قوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) (١). لما روي أنّه لمّا نزل ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده على ظهر سلمان وقال : «إنّهم قوم هذا» يعني : أبناء فارس.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)) ثمّ ذكر سبحانه عظم ملكه وقدرته بأنّ جزاء الدارين عنده ، فقال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) كالمجاهد يجاهد للغنيمة (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فماله يطلب أخسّهما؟ فليطلبهما ، كمن يقول : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (٢). أو ليطلب الأشرف منهما ، فإنّ من جاهد خالصا لله تعالى لم تخطئه الغنيمة ، وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء. أو فعند الله ثواب الدارين ، فيعطي كلّا ما يريده ، لقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) (٣) الآية.

(وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) عالما عارفا بالأغراض ، فيجازي كلّا بحسب قصده.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥))

ولمّا ذكر سبحانه أنّ عنده ثواب الدنيا والآخرة ، عقّبه بأمر العباد بالقسط ،

__________________

(١) محمّد : ٣٨.

(٢) البقرة : ٢٠١.

(٣) الشورى : ٢٠.

١٧٠

والقيام بالحقّ ، وترك الميل والجور ، لينالوا ما عنده من ثواب الدارين ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) مواظبين على العدل ، مجتهدين في إقامته ، حتّى لا تجوروا أصلا (شُهَداءَ لِلَّهِ) بالحقّ ، تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمركم بإقامتها. وهذا خبر ثان ، أو حال. (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) ولو كانت الشهادة على أنفسكم ، بأن تقرّوا عليها ، لأنّ الشهادة بيان الحقّ ، سواء كان عليه أو على غيره (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ولو على والديكم وأقاربكم (إِنْ يَكُنْ) أي : المشهود عليه ، أو كلّ واحد منه ومن المشهود له (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة عليه لغناه ، ولا تجوروا فيها ميلا وترحّما عليه لفقره (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) بالغنيّ والفقير ، وبالنظر لهما. فلو لم تكن الشهادة عليهما أولهما صلاحا لما شرعها. وهو علّة الجواب ، أقيمت مقامه.

والضمير في «بهما» راجع إلى ما دلّ عليه قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) لا إلى أحد المذكورين ، فلذلك ثنّى ولم يفرد. وهو جنس الغنيّ وجنس الفقير. كأنّه قيل : فالله أولى بجنس الغنيّ والفقير ، أي : بالأغنياء والفقراء. فلا يرد : أن الأولى أن لا يثنّى الضمير في «أولى بهما» بل حقّه أن يوحّد ، لأنّ قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) في معنى : إن يكن أحد هذين. ويشهد على هذا المعنى أنّه قرئ : فالله أولى بهم.

(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) لأن تعدلوا عن الحقّ. أو كراهة أن تعدلوا ، من العدل. (وَإِنْ تَلْوُوا) ألسنتكم عن شهادة الحقّ ، أو حكومة العدل. وقرأ ابن عامر وحمزة : وإن تلوا ، بضمّ اللام وسكون الواو ، على معنى : وإن ولّيتم إقامة الشهادة (أَوْ تُعْرِضُوا) عن أدائها (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم عليه.

وفي هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،

١٧١

وسلوك طريق العدل في النفس والغير.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩))

ولمّا بيّن سبحانه أحكام الإيمان وشعائره ، عقّبه بالثبات فيه ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اي : ثبتوا وداموا على الإيمان (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ) منجّما (عَلى رَسُولِهِ) يعني : القرآن (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ) دفعة (مِنْ قَبْلُ) المراد به جنس الكتب ، أي : بكلّ الكتاب الّذي أنزل قبل القرآن.

وقيل : الخطاب للمنافقين. والمعنى : يا أيّها الّذين أظهروا الإيمان ، آمنوا به بقلوبكم كما آمنتم بلسانكم.

وقيل : إنّ هذه الآية نزلت في ابن سلام وأصحابه ، إذ قالوا : يا رسول الله إنّا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ، ونكفر بما سواه. فالمعنى : يا أيّها الّذين آمنوا ببعض الرسل والكتب ، آمنوا إيمانا عامّا يعمّ الكتب والرسل ، فإنّ الإيمان بالبعض كلا إيمان. وبعد نزول هذه الآية آمنوا كلّهم.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : نزّل وانزل على البناء للمفعول.

١٧٢

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ومن يكفر بشيء من ذلك (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه ، لأنّ الكفر بالبعض كفر بالكلّ ، ألا ترى كيف قدّم الإيمان بالجميع.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني : اليهود آمنوا بموسى عليه‌السلام (ثُمَّ كَفَرُوا) به حين عبدوا العجل (ثُمَّ آمَنُوا) بعد عوده إليهم (ثُمَّ كَفَرُوا) بعيسى عليه‌السلام (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : هم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك المسلمين بإظهار الإيمان ثمّ بإظهار الكفر به ، كما تقدّم ذكرهم عند قوله : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١).

وقيل : هم قوم تكرّر منهم الارتداد ، ثمّ أصرّوا على الكفر وازدادوا تماديا في الغيّ.

وقيل : هم المنافقون أظهروا الإيمان بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ الكفر به ، ثمّ الايمان به ، ثمّ الكفر به ، ثمّ ازدادوا كفرا بإصرارهم على الكفر حتّى ماتوا عليه.

وعن ابن عبّاس : دخل في هذه الآية كلّ منافق كان في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) بإظهارهم الإيمان ، فلو كانت بواطنهم كظواهرهم في الإيمان لما كفروا فيما بعد (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) سبيل الجنّة ، كما قال فيما بعد : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) (٢). أو المعنى : أنّه يخذلهم

__________________

(١) آل عمران : ٧٢.

(٢) النساء : ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٧٣

ولا يلطف بهم ، عقوبة لهم على كفرهم المتقدّم ، إذ يستعبد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبتوا على الإيمان الصحيح ، لأنّ قلوب أولئك الّذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ومرنت على الردّة ، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه.

وليس المعنى : أنّهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردّة ونصحت توبتهم لم ، يقبل منهم ولم يغفر لهم لأنّ ذلك مقبول مستوجب للغفران والهداية. واللام للمبالغة في النفي. وخبر «كان» محذوف ، أي : وما كان الله أن يوفّقهم بالايمان ليغفر لهم.

ويدلّ على أنّ هذه الآية في المنافقين قوله بعد ذلك : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) أي : أخبرهم يا محمد (بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) فإنّهم قد آمنوا في الظاهر وكفروا في السرّ مرّة بعد أخرى ، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار على النفاق وإفساد الأمر على المؤمنين.

ووضع «بشّر» مكان «أنذر» تهكّم بهم.

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) في محلّ النصب أو الرفع على الذمّ ، بمعنى : أريد الّذين ، أو هم الّذين كانوا يوالون الكفرة ، ويطلبون عندهم العزّة والغلبة ، باتّخاذهم إيّاهم أولياء من دون المؤمنين. فردّ الله تعالى عليهم بقوله : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أيتعزّزون بموالاتهم (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) لا يتعزّز إلّا من أعزّه ، وقد كتب العزّة لأوليائه فقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (١) ، لا يعتدّ بعزّة غيرهم بالإضافة إليهم.

__________________

(١) المنافقون : ٨.

١٧٤

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))

روي أنّ المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن ، فأخبر الله تعالى عن حالهم ، ونهى المؤمنين عن مجالستهم ومخالطتهم ، فقال : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) يعني : القرآن. وقرأ به عاصم ويعقوب. وقرأ الباقون :نزّل على البناء للمفعول ، والقائم مقام فاعله قوله : (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ) وهي المخفّفة. والمعنى : أنّه إذا سمعتم آيات الله (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) حالان من الآيات لتقييد النهي عن المجالسة في قوله : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ). والضمير للكفرة المدلول عليهم بقوله : (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) كأنّه قيل : فلا تقعدوا مع الكافرين بها والمستهزئين بها.

(حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) والمراد به ما نزل عليهم بمكّة من قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (١). وذلك أنّ المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن فيستهزءون به ، فنهي المسلمون عن القعود معهم. وكان اليهود في المدينة يفعلون مثل فعلهم ، فنهوا أن يجلسوا معهم. وكان المنافقون يجالسونهم ، فقيل لهم : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) يعني : إذا جالستموه على الخوض في كتاب الله والهزء به فأنتم مثلهم في الإثم ، لأنّكم

__________________

(١) الأنعام : ٦٨.

١٧٥

قادرون على الإعراض عنهم والإنكار عليهم. أو في الكفر إن رضيتم بذلك. أو لأنّ الّذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار كانوا منافقين. ويدلّ عليه : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) يعني : القاعدين والمقعود معهم.

و «إذا» ملغاة ، لوقوعها بين الاسم والخبر ، ولذلك لم يذكر بعدها الفعل.

وإفراد «مثلهم» لأنّه كالمصدر ، أو للاستغناء به ، لإضافته إلى الجمع.

وفي هذا دلالة على تحريم مجالسة الكفّار والفسّاق وأهل البدع من أيّ جنس كانوا.

روى العيّاشي بإسناده عن عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام في تفسير هذه الآية قال : «إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ ويكذّب به ، ويقع في أهله ، فقم من عنده ، ولا تقاعده» (١).

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) ينتظرون وقوع أمركم. وهو بدل من «الّذين يتّخذون» ، أو صفة للمنافقين والكافرين ، أو ذمّ مرفوع أو منصوب ، أو مبتدأ خبره (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) مظاهرين لكم ، فأسهموا لنا فيما غنمتم (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) من الحرب ، للتهاون الواقع منكم في تدبير الحرب ، وتقصيركم فيه. سمّى ظفر المسلمين فتحا وظفر الكافرين نصيبا ، تعظيما لشأن المسلمين ، وتحقيرا لحظّ الكافرين ، فإنّه مقصور على أمر دنيويّ سريع الزوال (قالُوا) للكافرين (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أي : قالوا للكفرة : ألم نغلبكم ونتمكّن من قتلكم فأبقينا عليكم؟ والاستحواذ الاستيلاء. وكان القياس أن يقال : استحاذ يستحيذ استحاذة ، فجاءت على الأصل.

(وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بأن ثبّطناهم عنكم ، بتخييل ما ضعفت به قلوبهم ،

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٢٨١ ح ٢٩٠.

١٧٦

وتوانينا في مظاهرتهم عليكم ، وأطلعناكم على أسرارهم ، وأفضينا إليكم بأخبارهم ، فاعرفوا لنا هذا الحقّ ، وأشركونا فيما أصبتم.

(فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أيّها المؤمنون وبين المنافقين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيدخل المؤمنين الجنّة والمنافقين النار.

(وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) حينئذ ، أو في الدنيا.

والمراد بالسبيل الحجّة ، وإن جاز أن يغلبوهم في الدنيا بالقوّة ، ولكنّ المؤمنين منصورون بالدلالة والحجّة.

قال الجبائي : ولو حملناه على الغلبة لكان ذلك صحيحا ، لأنّ غلبة الكفّار للمؤمنين ليس ممّا فعل الله تعالى ، فإنّه لا يفعل القبيح ، وليس كذلك غلبة المؤمنين للكفّار ، فإنّه يجوز أن ينسب إليه تعالى.

واحتجّ به أصحابنا والشافعيّة على فساد شراء الكافر المسلم.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣))

ثمّ بيّن سبحانه أفعالهم القبيحة ، فقال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) أي : يفعلون فعل المخادع ، من إظهار الايمان وإبطان الكفر (وَهُوَ خادِعُهُمْ) من : خادعته فخدعته ، أي : فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع ، حيث عصم دماءهم وأموالهم في الدنيا ، وكلّفهم بالأمور الشرعيّة ، وأعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة. وقد مرّ الكلام فيه أوّل سورة البقرة (١).

__________________

(١) راجع ج ١ : ٦٠.

١٧٧

(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) متثاقلين لا عن رغبة ، كالمكره على الفعل (يُراؤُنَ النَّاسَ) يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة. والمراءاة مفاعلة بمعنى التفعيل ، كـ : نعّم وناعم ، أو للمقابلة ، لأنّ المرائي يري الناس عمله ، وهم يرونه استحسانه (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) إذ المرائي لا يفعل إلّا بحضرة من يرائيه ، وهو أقلّ أحواله. أو لأنّ ذكرهم باللسان قليل بالإضافة إلى الذكر بالقلب.

وقيل : المراد بالذكر الصلاة. يعني : لا يصلّون إلّا قليلا ، لأنّهم لا يصلّون قطّ غائبين عن عيون الناس ، وما يجاهرون قليل.

وقيل : الذكر فيها ، فإنّهم لا يذكرون فيها غير التكبير والتسليم.

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) حال من واو «يراءون» ، كقوله : «ولا يذكرون» أي : يراءونهم غير ذاكرين مذبذبين ، أو من واو «يذكرون» ، أو منصوب على الذمّ.

والمذبذب هو الّذي يذبّ عن كلا الجانبين ويذاد ويدفع ، فلا يقرّ في حال واحدة ، من الذبذبة ، وهو جعل الشيء مضطربا. وأصله الذبّ بمعنى الطرد. ومذبذبهم الشيطان. فالمعنى : ذبذبهم وردّدهم الشيطان بين الكفر والإيمان ، فهم متردّدون بينهما متحيّرون.

(لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) لا منسوبين إلى المؤمنين فيكونوا مؤمنين ، ولا إلى الكافرين فيكونوا كافرين. أو لا صائرين إلى أحد الفريقين بالكلّيّة. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ مثلهم مثل الشاة العائرة (١) بين الغنمين ، يتحيّر فينظر إلى هذه وإلى هذه».

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي : يخذله ويخلّه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) إلى الحقّ والصواب. ونظيره قوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٢).

روى العيّاشي بإسناده إلى مسعدة بن زياد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن

__________________

(١) أي : المتردّدة بين قطيعين لا تدري أيّهما تتبع.

(٢) النور : ٤٠.

١٧٨

آبائه عليهم‌السلام ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل : فيما النجاة غدا؟ قال : «النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم ، فإنّه من يخادع الله يخدعه ، ونفسه يخدع لو شعر.

فقيل له : وكيف يخادع الله؟

قال : يعمل بما أمره الله ثم يريد غيره. فاتّقوا الله فاجتنبوا الرياء ، فإنّه شرك بالله ، إنّ المرائي يوم القيامة يدعى بأربعة أسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا غادر ، يا خاسر ، حبط عملك ، وبطل أجرك ، ولا خلاق لك اليوم ، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له» (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦))

ثم نهى سبحانه عن موالاة المنافقين ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أنصارا ، فإنّه صنيع المنافقين وديدنهم ، فلا تتشبّهوا بهم في اتّخاذكم الكافرين أولياء (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فتكونوا منهم (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) حجّة بيّنة ، فإنّ موالاتهم دليل على النفاق ، أو سلطانا يسلّط عليكم عقابه. والاستفهام للتقرير.

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٣ ح ٢٩٥.

١٧٩

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وهو الطبقة الّتي في قعر جهنّم.

وإنّما كان كذلك لأنّهم أخبث الكفرة ، إذ ضمّوا إلى الكفر استهزاء بالإسلام وخداعا للمسلمين. وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم : من إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» ونحوه فمن باب التشبيه والتغليظ.

وإنّما سمّيت طبقاتها السبع دركات لأنّها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض.

وقرأ الكوفيّون بسكون الراء. وهي لغة كالسّطر والسّطر. والتحريك أوجه ، لأنّه يجمع على أدراك.

(وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ) لهؤلاء المنافقين (نَصِيراً) يخرجهم منه.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن النفاق (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من نيّاتهم وأسرارهم وأحوالهم في حال النفاق (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) وثقوا وتمسّكوا بدينه ، كما يثق المؤمنون المخلصون ويتمسّكون به (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) لا يريدون بطاعتهم إلّا وجهه سبحانه وتعالى (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ومن عدادهم ورفقائهم في الدارين.

ولم يقل : فأولئك المؤمنون أو من المؤمنين ، غيظا عليهم.

(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) فيساهمونهم ويشاركونهم فيه.

و «سوف» كلمة ترجية وإطماع ، وهي من الله سبحانه إيجاب ، لأنّه سبحانه أكرم الأكرمين ، ووعد الكريم إنجاز.

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))

ثم خاطب المنافقين الّذين تابوا وآمنوا وأصلحوا أعمالهم ، فقال : (ما يَفْعَلُ اللهُ) ما يصنع (بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) أي : أدّيتم الحقّ الواجب لله عليكم ،

١٨٠