زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

ثمّ قال لهم نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (١) الآيات. فأعذر إليهم وأنذر ، فلم يزدادوا إلّا كفرا. فلمّا يئس منهم أقصر عن كلامهم ودعائهم ، فلم يؤمنوا (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً) (٢) الآية ، يعني : آلهتهم ، حتى غرقهم الله وآلهتهم الّتي كانوا يعبدونها.

وبعد نوح عبد الناس الأصنام ، وسمّوا أصنامهم بأسماء أصنام قوم نوح.

فاتّخذ أهل اليمن يغوث ويعوق ، وأهل دومة الجندل اتّخذوا صنما سمّوه ودّا ، واتّخذت حمير صنما سمّته نسرا ، وهذيل صنما سمّوه سواعا. فلم يزالوا يعبدونها حتّى جاء الإسلام.

وسنذكر قصّة السفينة والغرق في سورة هود عليه‌السلام إن شاء الله.

وروى الشيخ أبو جعفر بإسناده في كتاب النبوّة مرفوعا إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لمّا بعث الله عزوجل نوحا دعا قومه علانية ، فلمّا سمع أولاد هبة الله ـ يعني :شيث عليه‌السلام ـ من نوح تصديق ما في أيديهم من العلم ، وعرفوا أنّ العلم الّذي في أيديهم هو العلم الّذي جاء به نوح ، صدّقوه وسلّموا له. فأمّا ولد قابيل فإنّهم كذّبوه وقالوا : إنّ الجنّ كانوا قبلنا فبعث الله إليهم ملكا ، فلو أراد أن يبعث إلينا لبعث إلينا ملكا من الملائكة».

وروى عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال : سمعت عليّ بن محمّد عليه‌السلام يقول : «عاش نوح عليه‌السلام ألفين وخمسمائة سنة ، وكان يوما في السفينة نائما فهبّت ريح فكشفت عورته ، فضحك حام ويافث ، وزجرهما سام ونهاهما عن الضحك ، وكان كلّما غطّى سام ما يكشفه الريح كشفه حام ويافث ، فانتبه نوح فرآهم يضحكون فقال : ما هذا؟ فأخبره سام بما كان ، فرفع يده إلى السماء

__________________

(١) هود : ٣٦.

(٢) نوح : ٢٣.

٥٤١

يدعو ، فقال : اللهمّ غيّر ماء صلب حام حتّى لا يولد له إلّا السودان ، اللهمّ غيّر ماء صلب يافث. فغيّر الله ماء صلبهما ، فجميع السودان من صلب حام حيث كانوا ، وجميع الترك والسقلاب ويأجوج ومأجوج والصين من يافث ، وجميع البيض سواهم من سام».

وروى إبراهيم بن هاشم ، عن عليّ بن الحكم ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «عاش نوح ألفي سنة وخمسمائة سنة ، منها ثمانمائة وخمسين قبل أن يبعث ، وألف سنة إلّا خمسين عاما وهو في قومه ، ومأتي عام في عمل السفينة ، وخمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة ونضب الماء. فمصّر الأمصار ، وأسكن ولده البلدان.

ثمّ إنّ ملك الموت جاءه وهو في الشمس فقال : السلام عليك.

فردّ عليه نوح عليه‌السلام ، وقال له : ما جاء بك يا ملك الموت؟

فقال : جئت لأقبض روحك.

فقال له : تدعني أتحوّل من الشمس إلى الظلّ؟

فقال له : نعم.

قال : فتحوّل نوح ، ثمّ قال : يا ملك الموت كأنّ ما مرّ بي من الدنيا مثل تحوّلي من الشمس إلى الظلّ ، فامض لما أمرت به. قال : فقبض روحه صلّى الله على نبيّنا وعليه» (١).

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ

__________________

(١) لم نجده في تفسير القمّي ، ورواه عنه في مجمع البيان ٢ : ٤٣٥.

٥٤٢

وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

ثم حكى سبحانه قصّة هود عليه‌السلام ، فقال عطفا على (نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) عطف بيان لـ «أخاهم». والمراد به الواحد منهم ، كقولهم : يا أخا العرب. وهو : هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح. وقيل : هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ابن عمّ أبي عاد. وعاد اسم أبي القبيلة. وهو : عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه‌السلام.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) استأنف به ولم يعطف كما في قصّة نوح ، كأنّه جواب سائل قال : فما قال لهم حين أرسل؟ (أَفَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله ، وكأنّ قومه كانوا أقرب من قوم نوح ، ولذا قال : «أخاهم».

٥٤٣

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) وصف الملأ الّذين كفروا دون الملأ من قوم نوح ، لأنّه كان في أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد ، بخلاف قوم نوح. (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) متمكّنا ومنغمسا في خفّة عقل ، راسخا فيها حيث فارقت دين قومك. فجعلوا السفاهة ظرفا على طريق المجاز ، لإفادة أنّه متمكّن فيها غير خال عنها. (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي : كذّبوه ظانّين لا متيقّنين.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) أي : لم يحملني على هذا الإخبار السفاهة (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

في إجابة (١) الأنبياء عليهم‌السلام ـ من نسبتهم إلى الضلال والسفاهة ، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء ، وترك المقابلة بما قالوا لهم ، مع علمهم بأنّ خصومهم أضلّ الناس وأسفههم ـ أدب حسن وخلق عظيم. وحكاية الله عزوجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء؟ وكيف يغضّون عنهم ، ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم؟

والحاصل : أنّ هذا تعليم من الله أن لا يقابل السفهاء بالكلام القبيح ، ولكن يقتصر الإنسان على نفي ما أضيف إليه عن النفس.

(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ) فيما أدعوا إليه من توحيد الله وطاعته (أَمِينٌ) ثقة مأمون في تأدية الرسالة ، فلا أكذب فيه. أو عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة ، فما حقّي أن أتّهم.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : لا عجب في أن جاءكم نبوّة (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) أي : اذكروا وقت استخلافكم (مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أي : في مساكنهم أو في الأرض ، بأن جعلكم ملوكا ، فإنّ شدّاد بن عاد ممّن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى بحر عمان ، فخوّفهم هود أوّلا من

__________________

(١) خبر مقدّم ، والمبتدأ قوله بعد أسطر : أدب حسن.

٥٤٤

عقاب الله تعالى ، ثمّ ذكّرهم بإنعامه.

(وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي : طولا وقوّة. قال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع ، وأقصرهم ستّين ذراعا. وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «كانوا كأنّهم النخل الطوال ، وكان الرجل منهم ينحو الجبل بيده فيهدم منه قطعة».

(فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي : نعم الله في استخلافكم وبسطة أجرامكم ، وغير ذلك من عطاياه. وواحد الآلاء إلى (١) ، ونحوه أنى وآناء ، وضلع وأضلاع ، وعنب وأعناب. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفوزوا بنعيم الدنيا والآخرة.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام.

استبعدوا اختصاص الله تعالى بالعبادة ، والإعراض عمّا أشرك به آباؤهم ، انهماكا في التقليد ، وحبّا لما ألفوه. ومعنى المجيء إمّا المجيء من مكان اعتزل به عن قومه ، أو من السماء على التهكّم ، أو القصد على المجاز ، كقولهم : ذهب يسبّني ، ولا يراد حقيقة الذهاب.

(فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب المدلول عليه بقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ). وهذا استعجال منهم للعذاب. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أنّك رسول الله إلينا ، وفي نزول العذاب بنا لو لم نترك عبادة الأصنام.

(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ) قد وجب وحقّ عليكم ، أو نزل عليكم على أنّ المتوقّع الّذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع (مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ) عذاب ، من الارتجاس ، وهو الاضطراب (وَغَضَبٌ) إرادة انتقام.

(أَتُجادِلُونَنِي) أتناظرونني وتخاصمونني (فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) في أشياء ما هي إلّا أسماء ليس تحتها مسمّيات ، لأنّكم سمّيتموها آلهة ، ومعنى الإلهيّة فيها معدوم ، فإنّ المستحقّ للعبادة بالذات هو الموجد للكلّ. ونحوه

__________________

(١) الإلي والإلى والألى : النعمة. ومثّل لها المصنّف «قدس‌سره» بثلاث صيغ ، ف : أنى على زنة ألى ، وضلع على زنة إلي ، وعنب على زنة إلى.

٥٤٥

قوله : (ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) (١). (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي : لو استحقّت للعبادة كان استحقاقها بجعله عزوجل ، إمّا بإنزال آية أو نصب حجّة. فبيّن بذلك أنّ منتهى حجّتهم وسندهم أنّ الأصنام تسمّى آلهة ، من غير دليل يدلّ على تحقّق المسمّى ، لفرط جهالتهم وغباوتهم.

ولمّا وضح الحقّ وأنتم مصرّون على العناد (فَانْتَظِرُوا) نزول عذاب الله ، فإنّه نازل بكم (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لنزوله بكم.

(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) في الدين ، من العذاب (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) عليهم ، بأن أخرجناهم من بينهم قبل إنزال العذاب بهم (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي :دمّرناهم واستأصلناهم عن آخرهم ، فلم يبق لهم نسل ولا ذرّيّة (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) تعريض بمن آمن منهم ، وتنبيه على أنّ الفارق بين من نجا ومن هلك هو الإيمان.

وقصّة عاد إجمالا : أنّهم قد تبسّطوا في البلاد ما بين عمان وحضر موت ، وكانت مساكنهم في اليمن بالشحر والأحقاف ، وهي رمال يقال لها : رمل عالج.

وكان لهم زرع ونخل ، ولهم أعمار طويلة ، وأجساد عظيمة. وكانت لهم أصنام يعبدونها : صداء ، وصمود ، والهباء. فبعث الله إليهم هودا نبيّا ، وكان من أوسطهم وأفضلهم حسبا ، فكذّبوه وازدادوا عتوّا وتجبّرا ، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتّى جهدوا. وكان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج منه عند بيته الحرام ، مسلمهم ومشركهم. وأهل مكّة إذ ذاك العماليق ، أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وسيّدهم معاوية بن بكر.

فجهّزت عاد إلى مكّة سبعين رجلا ، منهم قيل بن عنز ومرثد بن سعد الّذي كان يكتم إسلامه. فلمّا قدموا نزلوا على معاوية بن بكر ـ وهو بظاهر مكّة خارجا

__________________

(١) العنكبوت : ٤٢.

٥٤٦

عن الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره. فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنّيهم الجرادتان ـ قينتان كانتا لمعاوية بن بكر ـ اسم إحداهما وردة والاخرى جرادة ، فقيل لهما الجرادتان على التغليب.

فلمّا رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عمّا قدموا له أهمّه ذلك ، وقال : قد هلك أخوالي واصهاري وهؤلاء على ما هم عليه. وكان يستحي أن يكلّمهم خيفة أن يظنّوا به ثقل مقامهم عليه ، فذكر ذلك للقينتين. فقالتا : قل شعرا نغنّيهم به لا يدرون من قاله. فقال معاوية :

ألا يا قيل ويحك قم فهينم (١)

لعلّ الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا

قد أمسوا ما يبينون الكلاما

فلمّا غنّتا به قالوا : إنّ قومكم يتغوّثون من البلاء الّذي نزل بهم ، وقد أبطأتم عليهم ، فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم.

فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيّكم وتبتم إلى الله سقيتم ، وأظهر إسلامه.

فقالوا لمعاوية : احبس عنّا مرثدا ، لا يقدمنّ معنا مكّة ، فإنّه قد اتّبع دين هود وترك ديننا. ثمّ دخلوا مكّة.

فقال قيل : اللهمّ اسق عادا ما كنت تسقيهم.

فأنشأ الله سحابات ثلاثا : بيضاء ، وحمراء ، وسوداء. ثمّ ناداه مناد من السماء يا قيل : اختر لنفسك وقومك.

فقال : اخترت السوداء ، فإنّها أكثرهنّ ماء. فخرجت على عاد من واد لهم يقال له : المغيث. فاستبشروا بها وقالوا : هذا عارض ممطرنا. فجاءتهم منها ريح عقيم ، فتدمغهم بالحجارة فأهلكتهم. ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكّة ، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا.

وروى أبو حمزة الثمالي ، عن سالم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ لله بيت ريح

__________________

(١) أمر من الهينمة ، وهو الصوت الخفيّ ، أي : فادع الله تعالى.

٥٤٧

مقفل عليه لو فتح لأذرت (١) ما بين السماء والأرض ، ما أرسل على قوم عاد إلّا قدر الخاتم».

وروي عنه عليه‌السلام : «أنّه كان هود وصالح وشعيب وإسماعيل ونبيّنا صلّى الله عليه وعليهم يتكلّمون بالعربيّة».

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩))

__________________

(١) أذرته الريح إذراء : أطارته وفرّقته.

٥٤٨

وبعد ذكر قصّة عاد عطف عليها قصّة صالح ، فقال : (وَإِلى ثَمُودَ) أي : وأرسلنا إلى ثمود. وهي قبيلة أخرى من العرب سمّوا باسم أبيهم الأكبر ، وهو ثمود بن عابر بن ارم بن سام. وقيل : سمّوا به لقلّة مائهم ، من الثمد ، وهو الماء القليل.

وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. (أَخاهُمْ صالِحاً) صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. فصالح من ولد ثمود.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) معجزة ظاهرة الدلالة على صحّة نبوّتي.

وقوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) استئناف لبيانها ، كأنّه قيل : ما هذه البيّنة؟ فقال : هذه ناقة الله لكم. و «آية» نصب على الحال ، والعامل فيها معنى الإشارة.

و «لكم» بيان لمن هي له آية. ويجوز أن تكون «ناقة الله» بدلا أو عطف بيان ، و «لكم» خبرا عاملا في «آية». وإضافة الناقة إلى الله تعالى لتعظيمها ، ولأنّها جاءت من عند الله بلا وسائط وأسباب معهودة ، فإنّها خرجت من صخرة ملساء ، كما سنذكر ، ولذلك كانت آية.

(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) العشب (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) بعقر أو نحر.

نهى عن المسّ الّذي هو مقدّمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى ، مبالغة في الأمر ، وإزاحة للعذر. (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جواب للنهي.

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) في الأرض ، بأن مكّنكم فيها (مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) وأنزلكم في أرض الحجر ، وجعل لكم فيها مساكن تأوون إليها.

(تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أي : تبنونها من سهولة الأرض بما تعملون منها من اللبن والآجرّ (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) تسكنونها في الشتاء. وانتصاب «بيوتا» على الحال المقدّرة ، كما تقول : خط هذا الثوب قميصا ، لأنّ الجبل لا يكون

٥٤٩

بيتا في حال النحت ، ولا الثوب قميصا. أو على المفعوليّة ، على أنّ التقدير : بيوتا من الجبال ، أو تنحتون بمعنى : تتّخذون.

(فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) نعم الله عليكم ، بما أعطاكم من القوّة والتمكّن في الأرض (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ولا تضطربوا بالفساد في الأرض ، ولا تبالغوا فيه.

(قالَ الْمَلَأُ). وقرأ ابن عامر : وقال الملأ بالواو. (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تعظّموا وأبوا من اتّباع الرسول الداعي إلى الله (مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي : للّذين استضعفوهم واستذلّوهم (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بدل الكلّ إن كان الضمير لـ «قومه» ، وبدل البعض إن كان لـ «الّذين». وذلك أنّ الراجع إذا رجع إلى «قومه» فقد جعل «من آمن» مفسّرا لمن استضعف منهم ، فدلّ أنّ استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين ، وإذا رجع إلى «الذين استضعفوا» لم يكن الاستضعاف مقصورا عليهم ، ودلّ أنّ المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين.

(أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) قالوه على الاستهزاء (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ). عدلوا به عن الجواب السويّ الّذي هو «نعم» تنبيها على أنّ إرساله أظهر من أن يشكّ فيه عاقل ، ويخفى على ذي رأي ، وإنّما الكلام فيمن آمن به ومن كفر ، فلذلك قال : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) على وجه المقابلة. ووضعوا «آمنتم به» موضع : أرسل به ، ردّا لما جعلوه معلوما مسلّما.

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) فنحروها. قال الأزهري (١) : «العقر عند العرب قطع عرقوب البعير ، ثمّ جعل النحر عقرا ، لأنّ ناحر البعير يعقره ثمّ ينحره». أسند إلى جميعهم فعل بعضهم ـ وهو قدار بن سالف مع أصحابه ـ للملابسة ، أو لأنّه كان برضاهم.

وقدار كان أحيمر أزرق قصيرا ، وكانوا تسعة رهط.

روى الثعلبي بإسناده مرفوعا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «يا علي أتدري من

__________________

(١) تهذيب اللغة ١ : ٢١٥.

٥٥٠

أشقى الأوّلين؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال : عاقر الناقة. قال : أتدري من أشقى الآخرين؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال : الّذي يخضب هذه من هذه ، وأشار إلى لحيته ورأسه».

(وَعَتَوْا) واستكبروا وتولّوا (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) عن امتثاله ، وهو ما بلّغهم صالح بقوله : «فذروها». أو عن شأن ربّهم ، وهو دينه. (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب. وإنّما استعجلوه لتكذيبهم به ، ولذلك علّقوه بما كانوا به كافرين ، وهو قوله : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) من عند الله.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي : الصيحة الّتي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها ، أو الزلزلة الّتي زلزلت بها الأرض (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) في مساكنهم وبلادهم (جاثِمِينَ) صرعى ميّتين هامدين لا حراك بهم. يقال : الناس جثم ، أي : قعود لا حراك بهم. ومنه المجثمة الّتي جاء النهي عنها ، وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى.

وعن جابر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا مرّ بالحجر قال : «لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة ، فلم يبق منهم إلّا رجل واحد كان في حرم الله.

قالوا : من هو؟ قال : ذاك أبو رغال ، فلمّا خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه.

وروي أنّ صالحا كان بعثه إلى قوم فخالف أمره».

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) تولّى يتحسّر على ما فاته من إيمانهم ويتحزّن لهم (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) لقد بذلت فيكم وسعي ، ولم آل جهدا في النصيحة لكم (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) حكاية حال ماضية. وظاهره يدلّ أنّ تولّيه عنهم كان بعد أن أبصرهم موتى صرعى ، ولعلّه خاطبهم به بعد هلاكهم ، كما خاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل قليب بدر ، وقال : إنّا وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا ، فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ أو ذكر ذلك على سبيل التحسّر عليهم كما مرّ ، كما يقول

٥٥١

الرجل لصاحبه وهو ميّت ، وكان قد نصحه فلم يسمع منه حتّى ألقى بنفسه في التهلكة : يا أخي كم نصحتك ، وكم قلت لك فلم تقبل منّي؟ ويجوز أن يتولّى عنهم تولّي ذاهب عنهم ، منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب.

وملخّص قصّتهم : أنّ عادا لمّا هلكت عمرت ثمود بلادها ، وخلّفوهم في الأرض ، وكثروا وعمّروا أعمارا طوالا ، حتّى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته ، فنحتوا البيوت من الجبال. وكانوا في سعة ورخاء من العيش ، فعتوا على الله ، وأفسدوا في الأرض ، وعبدوا الأوثان ، فبعث الله إليهم صالحا ، وكانوا قوما عربا ، وصالح من أوسطهم نسبا. فدعاهم إلى الله ، فلم يتّبعه إلّا قليل منهم مستضعفون ، فحذّرهم وأنذرهم. فسألوه آية.

فقال : أيّة آية تريدون؟

قالوا : تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة ، فتدعو إلهك وندعو آلهتنا ، فإن استجيب لك اتّبعناك ، وإن استجيب لنا اتّبعتنا.

فقال صالح : نعم. فخرج معهم ودعوا أوثانهم ، وسألوها الاستجابة فلم تجبهم.

ثمّ قال سيّدهم جندع بن عمرو ، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة : أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء. والمخترجة هي الّتي شاكلت البخت. فإن فعلت صدّقناك وأجبناك.

فأخذ صالح عليه‌السلام المواثيق عليهم لئن فعلت ذلك لتؤمننّ ولتصدّقنّ؟ قالوا : نعم. فصلّى ودعا ربّه فتمخّضت الصخرة تمخّض النتوج بولدها ، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا ، لا يعلم ما بين جنبيها إلّا الله ، وعظماؤهم ينظرون ، ثمّ نتجت ولدا مثلها في العظم. فآمن به جندع ورهط من قومه ، ومنع الباقين من الإيمان ذؤاب بن عمرو ، والحباب صاحب أوثانهم ، ورباب كاهنهم.

٥٥٢

فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء ، وكانت ترد غبّا ، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر ، فما ترفعه حتّى تشرب كلّ ماء فيها ، ثمّ تتفحّج (١) فيحتلبون ما شاؤا حتى تمتلئ أوانيهم ، فيشربون ويدّخرون.

قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستّين ذراعا. وفي رواية الحسن بن محبوب : ثمانون ذراعا.

وكانت الناقة إذا وقع الحرّ تصيّفت بظهر الوادي ، فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه ، وإذا وقع البرد تشتّت بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره ، فشقّ ذلك عليهم. وزيّنت عقرها لهم امرأتان : عنيزة أمّ غنم ، وصدقة بنت المختار ، لمّا أضرّت به من مواشيهما ، وكانتا كثيرتي المواشي.

فعنيزة دعت قدار بن سالف ـ وكان ولد زنا ـ وقالت : أعطيك أيّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة. وكان قدار عزيزا منيعا في قومه. ودعت صدقة ـ وهي ذات جمال ـ رجلا من ثمود يقال له : مصدع بن مهرج ، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة.

فاستغويا غواة ثمود ، فأتبعهما سبعة نفر ، فعقروها ، واقتسموا لحمها وطبخوه.

فانطلق سقبها (٢) حتّى رقى جبلا اسمه قارة ، فرغا (٣) ثلاثا. وكان صالح قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب ، فلم يقدروا عليه. وانفجّت (٤) الصخرة بعد رغائه فدخلها.

فقال لهم صالح : تصبحون غدا ووجوهكم مصفرّة ، وبعد غد ووجوهكم محمرّة ، واليوم الثالث ووجوهكم مسودّة ، ثمّ يصبحكم العذاب.

__________________

(١) أي : تفرّج ما بين رجليها.

(٢) السقب : ولد الناقة ساعة يولد ، وجمعه : أسقب.

(٣) رغا البعير : صوّت وضجّ.

(٤) أي : انفتحت.

٥٥٣

فلمّا رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه ، فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولمّا كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنّطوا بالصبر (١) وتكفّنوا بالأنطاع (٢) ، فأتتهم صيحة من السماء ، فتقطّعت قلوبهم ، فهلكوا.

وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بقبر أبي رغال فقال : «أتدرون من هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فذكر قصّة أبي رغال ، وأنّه دفن هاهنا ، ودفن معه غصن من ذهب.

فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن».

وروي أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ، ونزل بهم العذاب يوم السبت.

وروي أنّه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي ، فالتفت فرأى الدخان ساطعا ، فعلم أنّهم قد هلكوا ، وكانوا ألفا وخمسمائة. وروي أنّه رجع بمن معه ، فسكنوا ديارهم.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

ثمّ عطف الله سبحانه على قصّتهم قصّة لوط ، وقال : (وَلُوطاً) أي : أرسلنا

__________________

(١) الصّبر : عصارة شجر مرّ.

(٢) النطع : بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب.

٥٥٤

لوطا. وهو لوط بن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم الخليل. وقيل : إنّه كان ابن خالة إبراهيم ، وكانت سارة امرأة إبراهيم أخت لوط. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) وقت قوله لهم. أو واذكر لوطا. و «إذ» بدل منه. (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح ، وهي إتيان الرجال في أدبارهم. (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) ما عملها قبلكم أحد قطّ.

والباء للتعدية. و «من» الأولى لتأكيد النفي والاستغراق ، والثانية للتبعيض ، والجملة استئناف مقرّر للإنكار ، كأنّه وبّخهم أوّلا بإتيان الفاحشة ثمّ باختراعها ، فإنّه أسوأ.

وقوله : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) بيان لقوله : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ). وهو أبلغ في الإنكار والتوبيخ. وقرأ نافع وحفص : إنّكم ، على الإخبار المستأنف. و «شهوة» مفعول له ، أي : للاشتهاء. أو مصدر موضع الحال ، أي : ذوي شهوة. وفي التقييد بها وصفهم بالبهيميّة الصرفة ، وتنبيه على أنّ العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع ، لا قضاء الوطر. و (مِنْ دُونِ النِّساءِ) في موضع الحال أيضا ، أي : تاركين إتيان النساء اللاتي أباح الله إتيانهنّ ، أي : مجامعتهنّ ، من : أتى المرأة إذا غشيها.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) متجاوزون الحدّ في الفساد ، حتى تجاوزتم المعتاد إلى غير المعتاد. وهذا إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عن حالهم الّتي أدّت بهم إلى ارتكاب أمثالها ، وهي اعتياد الإسراف في كلّ شيء. أو عن الإنكار عليها إلى الذمّ على جميع معايبهم. أو عن محذوف ، مثل : لا عذر لكم فيه ، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف.

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) يعني : ما أجابوا لوطا عمّا كلّمهم به بما يكون جوابا ، ولكنّهم جاؤا بما لا يتعلّق بكلامه ونصيحته ،

٥٥٥

من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ، والاستهزاء بهم. فقالوا استهزاء وافتخارا بما كانوا فيه من القذرات : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي : من الفواحش والخبائث.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) فخلّصنا لوطا ومن آمن معه (إِلَّا امْرَأَتَهُ) فإنّها كانت تسرّ الكفر موالية لأهل سدوم (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) من الّذين غبروا في ديارهم ، أي : بقوا فيها. والتذكير لتغليب الذكور. روي أنّها التفتت فأصابها الحجر فماتت.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي : نوعا من المطر عجيبا ، وهو مبيّن بقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (١). (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) تفكّر بعين العقل كيف كان مآل أمر المقترفين للسيّئات؟ وعاقبة فعلهم من عذاب الدنيا بالاستئصال قبل عذاب الآخرة بالخلود في النار.

وتحرير قصّتهم على ما روي عن أبي حمزة الثمالي وأبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام وغيره : أنّ لوطا لمّا هاجر مع عمّه إبراهيم إلى الشام نزل بالأردن ، فأرسله الله إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى الله ، وينهاهم عمّا اخترعوه من الفاحشة.

فلبث في قومه ثلاثين سنة ، وكان نازلا فيهم ، ولم يكن منهم ، يدعوهم إلى الله ، وينهاهم عن الفواحش ، ويحثّهم على الطاعة ، فلم يجيبوه ، ولم يطيعوه.

وكانوا لا يتطهّرون من الجنابة ، بخلاء أشحّاء على الطعام ، فأعقبهم البخل الداء الّذي لا دواء له في فروجهم. وذلك أنّهم كانوا على طريق السيّارة إلى الشام ومصر ، وكان ينزل بهم الضيفان ، فدعاهم البخل إلى أن كانوا إذا نزل بهم الضيف فضحوه ، وإنّما فعلوا ذلك لتنكل النازلة عليهم ، من غير شهوة بهم إلى ذلك.

فأوردهم البخل هذا الداء ، حتى صاروا يطلبونه من الرجال ، ويعطون عليه الجعل.

وكان لوط سخيّا كريما يقري الضيف إذا نزل به ، فنهوه عن ذلك وقالوا : لا

__________________

(١) الحجر : ٧٤.

٥٥٦

تقرينّ ضيفا جاء ينزل بك ، فإنّك إن فعلت فضحنا ضيفك. فكان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه.

ولمّا أراد الله سبحانه عذابهم بعث إليهم رسلا مبشّرين ومنذرين. فلمّا عتوا عن أمره بعث الله إليهم جبرئيل في نفر من الملائكة ، فأقبلوا إلى إبراهيم قبل لوط.

فلمّا رآهم إبراهيم ذبح عجلا سمينا ، فلمّا رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم ، وأوجس منهم خيفة ، قالوا : يا إبراهيم إنّا رسل ربّك ، ونحن لا نأكل الطعام ، إنّا أرسلنا إلى قوم لوط. وخرجوا من عند إبراهيم ، فوقفوا على لوط وهو يسقي الزرع.

فقال : من أنتم؟

قالوا : نحن أبناء السبيل أضفنا الليلة.

فقال لوط : إنّ أهل هذه القرية قوم سوء ، ينكحون الرجال في أدبارهم ، ويأخذون أموالهم.

قالوا : قد أبطأنا فأضفنا.

فجاء لوط إلى أهله وكانت كافرة ، فقال : قد أتاني أضياف في هذه الليلة ، فاكتمي أمرهم.

قالت : أفعل. وكانت العلامة بينها وبين قومها أنّه إذا كان عند لوط أضياف بالنهار تدخّن من فوق السطح ، وإذا كان بالليل توقد النار.

فلمّا دخل جبرئيل والملائكة معه بيت لوط وثبت امرأته على السطح فأوقدت نارا ، فأقبل القوم من كلّ ناحية يهرعون إليه ، أي : يسرعون ، ودار بينهم ما قصّه الله تعالى في مواضع من كتابه. فضرب جبرئيل بجناحه على عيونهم فطمسها ، فلمّا رأوا ذلك علموا أنّه قد أتاهم العذاب.

فقال جبرئيل للوط : أخرج من بينهم أنت وأهلك إلّا امرأتك.

٥٥٧

فقال : كيف أخرج وقد اجتمعوا حول داري؟

فوضع بين يديه عمودا من نور ، وقال : اتّبع هذا العمود ، ولا يلتفت منكم أحد.

فخرجوا من القرية. فلمّا طلع الفجر ضرب جبرئيل عليه‌السلام بجناحه في طرف القرية فقلعها من تخوم الأرضين السابعة ، ثمّ رفعها في الهواء ، حتّى سمع أهل السماء نباح كلابهم وصراخ ديوكهم ، ثم قلبها عليهم. وهو قول الله عزوجل (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) (١). وذلك بعد أن أمطر الله عليهم حجارة من سجّيل ، وهلكت امرأته ، بأن أرسل الله عليها صخرة فقتلتها ، كما مرّ.

وقيل : قلبت المدينة على الحاضرين منهم ، فجعل عاليها سافلها ، وأمطرت الحجارة على الغائبين ، فأهلكوا بها.

وقال الكلبي : أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث ، لأنّ بلادهم أخصبت ، فانتجعها (٢) أهل البلدان ، فتمثّل لهم إبليس في صورة شابّ ، ثمّ دعاهم إلى دبره فنكح في دبره ، ثمّ عبثوا بذلك العمل. فلمّا كثر ذلك فيهم عجّت الأرض إلى ربّها ، فسمعت السماء فعجّت إلى ربّها ، فسمع العرش فعجّ إلى ربّه ، فأمر الله السماء أن تحصبهم ، وأمر الأرض أن تخسف بهم.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) هود : ٨٢.

(٢) انتجع القوم الكلأ : ذهبوا لطلبه في مواضعه.

٥٥٨

مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

٥٥٩

ثمّ عطف الله سبحانه على ما تقدّم من القصص قصّة شعيب ، فقال : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي : وأرسلنا إليهم. وهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، فنسبت القبيلة إليه. قال عطاء : هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم. وقال قتادة : هو شعيب بن بويب. وقال ابن إسحاق : هو شعيب بن ميكيل بن يشحب بن مدين.

وكان يقال له خطيب الأنبياء ، لحسن مراجعته قومه.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : معجزة من عند ربّكم شاهدة بصحّة نبوّتي ، أوجبت عليكم الإيمان. وليس في القرآن أنّها ما هي ، كما لم تذكر أكثر معجزات الأنبياء فيه ، ولكن قد وقع العلم بأنّه كانت له معجزة تشهد له وتصدّقه ، وإلّا لم تصحّ دعواه. وكان متنبّئا لا نبيّا. وما روي من أنّ معجزاته هي محاربة عصا موسى التنّين (١) حين دفع إليه غنمه ، وولادة الغنم الّتي دفعها إليه الدرع (٢) خاصّة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ، ووقوع عصا آدم على يده في المرّات السبع ، متأخّر (٣) عن هذه المقاولة. ويحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه‌السلام ، أو إرهاصا (٤) لنبوّته.

(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أي : آلة الكيل على الإضمار ، وهي المكيال. أو إطلاق الكيل على المكيال ، كالعيش على المعاش ، وهو ما يعاش به ، لقوله (وَالْمِيزانَ) كما قال في سورة هود : (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) (٥). أو أوفوا الكيل ووزن الميزان. ويجوز أن يكون الميزان مصدرا ، كالميعاد والميلاد.

__________________

(١) التنّين : الحيّة العظيمة.

(٢) الدرع جمع الأدرع ، وهو من الفرس والشاة ما اسودّ رأسه وابيضّ سائر جسده.

(٣) خبر «وما روي ...» قبل ثلاثة أسطر.

(٤) الإرهاص : ما يصدر من النبيّ من خوارق العادة قبل دعوى النبوّة.

(٥) هود : ٨٥.

٥٦٠