زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

فإنّ الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية».

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١))

ثم فصّل سبحانه ما أجمله فيما قبل من قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ) الآية ، فقال : (يُوصِيكُمُ اللهُ) يأمركم ويفرض عليكم ، لأنّ الوصيّة منه سبحانه أمر وفرض (فِي أَوْلادِكُمْ) في شأن ميراثهم. وهو إجمال ، تفصيله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) التقدير : للذكر منهم ، فحذف للعلم به ، أي : يعدّ كلّ ذكر من الأولاد في النصيب بأنثيين حيث اجتمع الصنفان ، فيضعّف نصيبه. وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظّه لأنّ القصد إلى بيان فضله ، والتنبيه على أنّ التضعيف كاف للتفضيل ، فلا يحرمنّ بالكلّية.

وهذا الحكم في حال اجتماع البنين والبنات. فأمّا في حال الانفراد فالابن فصاعدا يأخذ المال ، والبنات يأخذن الثلثين ، لقوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) أي : فإن كان الأولاد نساء خلّصا ليس معهنّ ذكر ، فأنّت الضمير باعتبار الخبر ، أو على تأويل المولودات (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) خبر ثان ، أو صفة لـ «نساء» ، أي : نساء زائدات على

٢١

اثنتين (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) من الميراث. والضمير في «ترك» للميّت وإن لم يجر له ذكر ، لأنّ الآية لمّا كانت في الميراث علم أنّ التارك هو الميّت.

وحكم البنتين حكم ما زاد عليهما من البنات ، لأنّه لمّا بيّن الله تعالى أنّ حظّ الذكر مثل الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان ، اقتضى ذلك أنّ فرضهما الثلثان ، ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد ردّ ذلك بقوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ). ويؤيّد ذلك : أنّ البنت الواحدة لمّا استحقّت الثلث مع أخيها ، فبالحريّ أن تستحقّه مع أخت مثلها ، وأنّ البنتين أمسّ رحما من الأختين ، وقد فرض لهما الثلثين بقوله : (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) (١) ، فكان للبنتين الثلثان بطريق أولى. وأيضا أجمعت الأمّة على أنّ حكم البنتين حكم البنات.

ونقل عن ابن عبّاس أنّ حكم الاثنتين حكم الواحدة ، لأنّه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما. والحقّ الأوّل ، وعليه الفقهاء الإماميّة ومعظم العامّة.

(وَإِنْ كانَتْ) أي : إن كانت المولودة أو المتروكة (واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) نصف ما ترك الميّت.

ثم ذكر ميراث الوالدين بقوله : (وَلِأَبَوَيْهِ) ولأبوي الميّت ، يعني : الأب والأمّ (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) بدل منه بتكرير العامل. وفائدته التنصيص على استحقاق كلّ واحد منهما السدس ، والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا (السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ) للميّت (وَلَدٌ) ذكر أو أنثى ، واحد أو أكثر.

ثم إن كان الولد ذكرا كان الباقي له. وإن كان ذكورا فالباقي لهم بالسويّة. وإن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظّ الأنثيين. وإن كانت بنتا فلها النصف بالتسمية ، ولأحد الأبوين السدس ، ولهما السدسان ، والباقي عند ائمّتنا عليهم‌السلام يردّ على البنت وعلى أحد الأبوين أو عليهما على قدر سهامهم ، بدلالة قوله تعالى :

__________________

(١) النساء : ١٧٦.

٢٢

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (١). وولد الولد يقوم مقام الولد الصلب مع الوالدين. وفي بعض هذه المسائل خلاف بين الفقهاء مذكور في الكتب الفقهيّة.

(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ) للميّت (وَلَدٌ) ابن ولا بنت ولا أولادهما ، لأنّ اسم الولد يعمّ الجميع (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) فحسب (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) ممّا ترك. وإنّما لم يذكر حصّة الأب ، لأنّه لمّا فرض أنّ الوارث أبواه فقط وعيّن نصيب الأمّ ، علم أنّ الباقي للأب ، فكأنّه قال : فلهما ما ترك أثلاثا. (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ).

وقرأ حمزة والكسائي : فلأمّه ، بكسر الهمزة ، اتباعا للكسرة الّتي قبلها.

قال معظم أصحابنا : إنّما يكون لها السدس إذا كان هناك أب. ويدلّ عليه ما تقدّم من قوله : «وورثه» ، فإنّ هذه الجملة معطوفة على قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ). وتقديره : فإن كان له إخوة وورثه أبواه فلأمّه السدس.

ويشترط في الإخوة أن لا يكونوا كفرة ، ولا قتلة ، ولا رقّا ، وأن يكونوا منفصلين لا حملا ، وأن يكونوا للأبوين أو للأب.

وقال بعض أصحابنا : إنّ لها السدس مع وجود الإخوة وإن لم يكن هناك أب. وبه قال جميع فقهاء العامّة. واتّفقوا على أنّ الأخوين يحجبان الأمّ من الثلث إلى السدس.

وقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال : لا تحجب الأمّ من الثلث إلى السدس بأقلّ من ثلاثة من الإخوة والأخوات ، كما يقتضيه ظاهر الآية.

وأصحابنا يقولون : لا يحجب الأمّ عن الثلث إلى السدس إلّا أخوان ، أو أخ وأختان ، أو أربع أخوات من قبل الأب والأمّ ، أو من قبل الأب خاصّة دون الأمّ.

وفي ذلك خلاف بين فقهاء الامّة.

والأنصباء المفصّلة على النهج المذكور للورثة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ)

__________________

(١) الأنفال : ٧٥.

٢٣

فهذا متعلّق بما تقدّمه من قسمة المواريث كلّها. وقرأ ابن عامر وابن كثير وابن عيّاش عن عاصم : يوصى ، على البناء للمفعول.

وإنّما قال بـ «أو» الّتي للإباحة دون الواو للدلالة على أنّهما متساويان في الوجوب ، مقدّمان على القسمة مجموعين ومنفردين ، كقولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ، أي : جالس أحدهما مفردا أو مضموما.

وقدّم الوصيّة على الدين ، وهي متأخّرة في الحكم إجماعا ، لأنّها مشبهة بالميراث ، شاقّة على الورثة في كونها مأخوذة من غير عوض ، فكان إخراجها ممّا يشقّ عليهم ، مندوب إليها جميع المؤمنين ، والدين إنّما يكون على الندور.

ثم اعترض بين أرباب المواريث بما يوجب تأكيدا لأمر القسمة وتنفيذا للوصيّة ، فقال : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي : لا تعلمون من أنفع لكم ممّن يرثكم من أصولكم وفروعكم ، في عاجلكم وآجلكم ، فتحرّوا فيهم ما أوصاكم الله به ، ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمان بعض.

وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنّة سأل أن يرفع إليه ، فيرفع بشفاعته.

أو من (١) مورّثيكم ، أي : لا تعلمون من أوصى منهم ، فعرّضكم للثواب الباقي بإمضاء وصيّته ، فهو أقرب لكم نفعا ممّن ترك الوصيّة ، أم من لم يوص ، فوفّر عليكم ماله الفاني.

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكّد ، أي : فرض فرضا ، أو مصدر «يوصيكم الله» ، لأنّه في معنى : يأمركم ويفرض عليكم (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بمصالح خلقه ورتبهم (حَكِيماً) فيما فرض من المواريث وغيرها.

__________________

(١) عطف على قوله : «ممن يرثكم من أصولكم» قبل أسطر.

٢٤

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢))

ولمّا بيّن ميراث الوالدين والأولاد عيّن إرث الأزواج والكلالات ، وقدّم الأزواج لأنّهم يرثون مع جميع الطبقات ، فقال مخاطبا للأزواج : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) زوجاتكم (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) أي : ولد وارث من بطنها ، أو من صلب بنيها ، أو بني بنيها وإن سفل ، ذكرا أو أنثى ، منكم أو من غيركم (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) منكم أو من غيركم (فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) أي : من ميراثهنّ (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) على نهج ما سبق.

(وَلَهُنَ) ولزوجاتكم (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) من الميراث (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) مطلقا كما مرّ (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) فرض للرجل بحقّ الزواج ضعف ما للمرأة ، كما في النسب. وهكذا قياس كلّ رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب ، ولا يستثنى منه إلّا أولاد الأمّ والمعتق والمعتقة. وتستوي الواحدة والعدد منهنّ في الربع والثمن.

(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) أي : ميّت (يُورَثُ) على البناء للمفعول ، أي : يورث منه ،

٢٥

من : ورث ، أو يورث من : أورث ، فيكون الرجل وارثا لا موروثا منه. وهو صفة رجل (كَلالَةً) خبر «كان» أي : وإن كان رجل موروث منه أو وارث كلالة ، أو «يورث» خبره و «كلالة» حال من الضمير في «يورث» ، أو مفعول له. وهو من لم يخلّف ولدا ولا والدا. والمعنى : قرابة ليست من جهة الوالد والولد.

وعن ابن عبّاس : أنّ الكلالة من عدا الولد. والمرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام أنّ الكلالة الإخوة والأخوات.

والمذكور في هذه الآية من كان من قبل الأمّ منهم ، والمذكور في آخر السورة من كان منهم من قبل الأب والأمّ ، أو من قبل الأب.

فالكلالة : أن يترك الإنسان من أحاط بأصل النسب الّذي هو الولد والوالد وتكلّله ، كالإكليل الّذي يحيط بالرأس ويشتمل عليه. وليس الولد والوالد بكلالة ، لأنّهما أصل النسب الّذي ينتهي إلى الميّت ، ومن سواهما خارج عنهما. فتكون الكلالة كالإكليل (١) يشتمل على الرأس ويحيط به ، وليس من أصله. وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال ، فاستعير لقرابة ليست بولد ولا والد ، ثم وصف بها من لم يخلّف والدا ولا ولدا وخلّف ما عداهما من الإخوة والأخوات ، ثم وصف بها المورّث والوارث ، بمعنى : ذي كلالة ، كما تقول : فلان من قرابتي ، تريد من ذوي قرابتي.

(أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على رجل (وَلَهُ) وللرجل. واكتفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه. (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) من الأمّ ، لأنّه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين وللإخوة الكلّ ، وهو لا يليق بأولاد الأمّ ، ولأنّ ما قدّر ها هنا فرض الأمّ ، فيناسب أن يكون لأولادها. ويدلّ عليه أيضا قراءة أبيّ وسعد بن مالك : وله أخ أو أخت من الأمّ ، ولروايات أصحابنا المتظافرة ، وللإجماع.

(فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) سوّى بين الذكر والأنثى في القسمة لأنّ الانتساب بمحض الأنوثة ، ولا خلاف بين الأمّة

__________________

(١) الإكليل : التاج ، شبه عصابة تزيّن بالجوهر.

٢٦

أنّ الإخوة والأخوات من قبل الأمّ متساوون في الميراث.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) حال ، أي : يوصى بها غير مضارّ لورثته بالزيادة على الثلث ، أو قصد المضارّة بالوصيّة دون القربة ، وبالإقرار بدين لا يلزمه. وهو حال من فاعل «يوصي» في هذه القراءة ، وفاعل «يوصى» المدلول عليه بقوله «يوصى» على البناء للمفعول في قراءة ابن كثير وعاصم ، فإنّه لمّا قيل : «يوصى بها» علم أنّ ثمّة موصيا ، كما قال : (يُسَبِّحُ لَهُ) (١) على ما لم يسمّ فاعله ، فعلم أنّ ثمّة مسبّحا ، فأضمر «يسبّح».

(وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكّد ، أو منصوب بـ «غير مضارّ» على المفعول به ، أي : لا يضارّ وصيّة من الله تعالى ـ وهو الثلث فما دونه ـ بالزيادة ، أو وصيّة منه تعالى بالأولاد بالإسراف في الوصيّة والإقرار الكاذب (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمضارّ وغيره (حَلِيمٌ) لا يعاجل بعقوبته. وهذا وعيد.

وفي هاتين الآيتين دلالة على تقدير سهام أصحاب الفرائض في المواريث وتفصيل مسائلها ، والاختلاف فيها بين فقهاء العامّة والخاصّة كثير ، لا نطوّل بذكره الكتاب ، فيحال إلى كتب الفقه.

روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أنّه قال : مرضت فعادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر فأغمي عليّ ، فدعا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بماء فتوضّأ ثم صبّه عليّ فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت فيّ آية المواريث.

وقيل : نزلت في عبد الرحمن أخي حسّان الشاعر ، وذلك أنّه مات وترك امرأة وخمسة إخوان ، فجاءت الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئا ، فشكت ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله تعالى آية المواريث.

__________________

(١) النور : ٣٦. وتمام الآية : (... فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ).

٢٧

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤))

ولمّا فرض الله تعالى فرائض المواريث ، عقّبها بذكر الوعد في الائتمار لها ، والوعيد على التعدّي لحدودها ، فقال : (تِلْكَ) إشارة إلى الأحكام الّتي تقدّمت في أمر اليتامى والوصايا والمواريث (حُدُودُ اللهِ) شرائعه الّتي هي كالحدود المحدودة الّتي لا يجوز مجاوزتها (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمر به من الأحكام الشرعيّة الّتي منها أحكام فرائض المواريث (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) من تحت أشجارها وأبنيتها (الْأَنْهارُ خالِدِينَ) دائمين (فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

توحيد الضمير في «يدخله» وجمع «خالدين» للّفظ والمعنى. وقرأ نافع وابن عامر : ندخله بالنون.

و «خالدين» حال مقدّرة ، فإنّ الخلود غير حاصل حال الإدخال ، كقولك : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، وكذلك خالدا في قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما بيّنه من الفرائض وغيرها (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) ويتجاوز ما حدّ له من الطاعات (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) سمّاه مهينا لأنّ الله تعالى يفعله على وجه الإهانة ، كما أنّه يثيب المؤمن على وجه الكرامة.

وليس «خالدين» و «خالدا» صفتين لـ «جنّات» و «نارا» ، وإلّا لوجب إبراز الضمير ، أي : خالدين هم فيها ، وخالدا هو فيها ، لأنّهما جريا على غير من هما له.

وفي قوله : «ويتعدّ» حدوده دلالة على أنّ المراد بقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) الكافر ، لأنّ من تعدّى جميع حدود الله الّتي هي فرائضه وأوامره ونواهيه لا يكون إلّا كافرا.

٢٨

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))

ولمّا بيّن سبحانه حكم الرجال والنساء في باب الزواج والميراث ، بيّن حكم الحدود فيهنّ إذا ارتكبن الزنا ، فقال : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) أي : يفعلنها. يقال : أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها ، إذا فعلها. والفاحشة : الزنا ، لزيادة قبحها وشناعتها بالنسبة إلى كثير من القبائح (مِنْ نِسائِكُمْ) الحرائر (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) فاطلبوا الشهادة أيّها الحكّام والأئمّة ممّن قذفهنّ أربعة من رجال المؤمنين تشهد عليهنّ ، وذلك عند عدم إقرارهنّ بها.

(فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) فاحبسوهنّ في البيوت ، واجعلوها سجنا عليهنّ (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) يستوفي أرواحهنّ الموت ، أو يتوفّاهنّ ملائكة الموت. وعند جمهور المفسّرين كان ذلك عقوبتهنّ في أوائل الإسلام ، فنسخ ذلك بالرجم في المحصنين والجلد في الأبكار. وهذا منقول (١) عن أبي جعفر وأبي عبد الله صلوات الله عليهما. ويحتمل أن يكون المراد به التوصية بإمساكهنّ بعد أن يجلدن ، كيلا يجري عليهنّ ما جرى بسبب الخروج والتعرّض للرجال. ولم يذكر الحدّ استغناء بقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) (٢).

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٢٢٧ ح ٦١.

(٢) النور : ٢.

٢٩

(أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) كتعيين الحدّ المخلّص عن الحبس ، أو النكاح المغني عن السفاح. ويؤيّد الأوّل ما روي أنّه لمّا نزل قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذوا عنّي قد جعل الله لهنّ سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم».

وعندنا أنّ هذا الحكم مختصّ بالشيخ والشيخة إذا زنيا ، فأمّا غيرهما فليس عليه غير الرجم.

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) يعني : الزانية والزاني. وقرأ ابن كثير : واللذانّ ، بتشديد النون وتمكين مدّ الألف. والباقون بالتخفيف من غير تمكين. (فَآذُوهُما) بالتوبيخ والتعيير. وقيل : بالجلد. (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) فاقطعوا عنهما الإيذاء ، أو أعرضوا عنهما بالإغماض والستر (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) علّة الأمر بالإعراض وترك المذمّة.

قيل : الآية الأولى في السحّاقات ، وهذه في اللوّاطين ، و «الزانية والزاني» في الزناة. وهذا ينافي ما قاله جمهور المفسّرين من أنّ الفاحشة في الآية الزنا.

وقيل : هذه الآية سابقة على الاولى نزولا ، وكان عقوبة الزنا الأذى ثمّ الحبس ثم الجلد. وهذا خلاف الظاهر.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))

ولمّا وصف سبحانه نفسه بالتوّاب الرحيم ، بيّن عقيبه شرائط التوبة الموجبة

٣٠

للرحمة ، فقال : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي : إنّما التوبة واجبة على الله تعالى بمقتضى وعده ـ كرما وتفضّلا ـ من تاب عليه إذا قبل توبته (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) متلبّسين بها ، أي : جاهلين سفهاء ، لأنّ ارتكاب القبيح ممّا يدعو إليه السفه والشهوة ، ولا يدعو إليه العقل والحكمة.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كلّ ذنب عمله العبد وإن كان عالما به ، فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه ، فقد حكى الله تعالى قول يوسف لإخوته : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) (١) ، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله تعالى».

فارتكاب الذنب سفه وتجاهل ، ولذلك قيل : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته.

(ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) من زمان قريب ، أي : قبل حضور الموت ، لقوله تعالى : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) (٢). وقوله عليه‌السلام : «إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر» (٣) ، كما ورد في كتاب من لا يحضره الفقيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في آخر خطبة خطبها : «من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه. ثم قال : وإنّ السنة لكثيرة ، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه. ثم قال : وإنّ الشهر لكثير ، من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه. ثم قال : وإنّ يوما لكثير ، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه. ثم قال : وإنّ الساعة لكثير ، من تاب وقد بلغت نفسه إلى هذه ـ وأهوى بيده إلى حلقه ـ تاب الله عليه» (٤).

وروى الثعلبي بإسناده عن عبادة بن الصامت ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الخبر

__________________

(١) يوسف : ٨٩.

(٢) النساء : ١٨.

(٣) غرغر الرجل : صات صوتا معه بحح ، وجاد بنفسه عند الموت.

(٤) الفقيه ١ : ٧٩ ح ٣٥٤.

٣١

بعينه ، إلّا أنّه قال في آخرة : «وإنّ الساعة لكثيرة ، من تاب قبل أن يغرغر بها تاب الله عليه».

وروى أيضا بإسناده عن الحسن قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا هبط إبليس قال : وعزّتك وعظمتك لا أفارق ابن آدم حتى تفارق روحه جسده. فقال سبحانه : وعزّتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتّى يغر غر بها».

وسمّى قبل حضور الموت قريبا لأنّ أمد الحياة قريب ، لقوله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) (١).

و «من» للتبعيض ، أي : يتوبون في أيّ جزء من الزمان القريب الّذي هو ما قبل أن ينزل بهم سلطان الموت.

(فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي : يقبل توبتهم. وعد بالوفاء بما وعد به وكتب على نفسه ، لقوله : «إنّما التوبة على الله» ، وإعلام بأنّ الغفران كائن لا محالة ، كما يعد العبد الوفاء بالواجب (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) فهو يعلم بإخلاصهم في التوبة (حَكِيماً) والحكيم لا يعاقب التائب.

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي : المعاصي ، ويصرّون عليها (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) أي : أسباب الموت من معاينة ملك الموت ، وانقطاع الرجاء عن الحياة ، وهو حال لليأس الّتي لا يعلمها إلّا المحتضر (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي : ليس عند ذلك توبة.

(وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) أي : ليست التوبة أيضا للّذين يموتون على الكفر ثم يندمون بعد الموت.

سوّى سبحانه بين مسوّف التوبة إلى وقت حضور الموت ، وبين من يموت كافرا ، في نفي التوبة ، للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة ، وكأنّه قال :

__________________

(١) النساء : ٧٧.

٣٢

وتوبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء.

ثم أكّد عدم قبول توبتهم بقوله : (أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً). وهذا نظير قوله : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) في الوعد ليتبيّن أنّ الأمرين كائنان لا محالة.

والاعتداد التهيئة ، من العتاد ، وهو العدّة. وقيل : أصله أعددنا ، فأبدلت الدال الأولى تاء.

وقيل : المراد بالّذين يعملون السوء عصاة المؤمنين ، وبالّذين يعملون السيّئات المنافقين ، لتضاعف كفرهم وسوء أعمالهم ، وبالّذين يموتون الكفّار.

وإنّما لم يقبل الله التوبة حال اليأس وهو من الحياة ، لأنّه يكون العبد ملجأ إلى فعل الحسنات وترك القبائح ، فيكون خارجا عن حدّ التكليف ، إذ لا يستحقّ على فعله المدح ولا الذمّ ، وإذا زال عنه التكليف لم تصحّ منه التوبة ، ولهذا لم يكن أهل الآخرة مكلّفين ، ولا تقبل توبتهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩))

ولمّا نهى الله تعالى فيما تقدّم عن عادات أهل الجاهليّة في أمر اليتامى والأموال ، وانجرّ الكلام إلى ها هنا ، عقّبها بالنهي عن الاستنان بسنّتهم في النساء ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ) أي : نكاحهنّ (كَرْهاً) على كره منهنّ.

٣٣

روي أنّ من عادات الجاهليّة أنّ الرجل إذا مات وله عصبة ألقى ثوبه على امرأته وقال : أنا أحقّ بها ، ثم إن شاء تزوّجها بصداقها الأوّل ، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ، وإن شاء عضلها عن التزويج لتفتدي بما ورثت من زوجها. ومن جملتهم أبو قيس بن الأسلت لمّا مات عن زوجته كبيشة بنت معن ألقى ابنه من غيرها ـ وهو محصن بن أبي قيس ـ ثوبه عليها ، فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها ، فجاءت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا نبيّ الله لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تركت فأنكح! فنهى الله سبحانه عن ذلك.

وقرأ حمزة والكسائي : كرها بالضمّ في مواضعه. وهما لغتان. وقيل : بالضمّ المشقّة ، وبالفتح ما يكره عليه.

(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) عطف على «أن ترثوا» ، و «لا» لتأكيد النفي ، أي : ولا تمنعوهنّ من التزويج. وأصل العضل الحبس والتضييق ، يقال : عضلت المرأة بولدها ، إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه. وكذا : عضلت الدجاجة بيضها.

وعن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «الخطاب مع الأزواج ، كانوا يحبسون النساء من غير حاجة ورغبة ، وينتظرون موتها حتى يرثوا منهنّ».

وعن ابن عبّاس : نزلت في الرجل يكون تحته امرأة يكره صحبتها ، ولها عليه مهر ، فيطول عليها ويضارّها لتفتدي بالمهر أو تموت فيرث منها مهرها.

وقيل : تمّ الكلام بقوله : «كرها» ، ثم خاطب الأزواج ونهاهم عن العضل.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) كالنشوز ، وسوء العشرة ، وعدم التعفّف.

والاستثناء من أعمّ عامّ الظرف ، أي : لا تعضلوهنّ للافتداء في وقت من الأوقات إلّا أن يأتين بفاحشة ، فيصيرون معذورين في طلب الخلع ، أو من المفعول له ، أي : لا تعضلوهنّ لعلّة إلّا أن يأتين بفاحشة.

٣٤

وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم : مبيّنة هنا ، وفي الأحزاب (١) والطلاق بفتح الياء ، والباقون بكسرها فيهنّ.

(وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) بالإنصاف في الإنفاق والإجمال في القول والفعل (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) أي : كرهتم صحبتهنّ وإمساكهنّ ، فلا تفارقوهنّ لكراهة الأنفس وحدها (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) فإنّ النفس قد تكره ما هو أصلح دينا وأكثر خيرا ، وقد تحبّ ما هو بخلافه ، فليكن نظركم إلى ما هو أصلح للدين وأقرب إلى الخير. و «عسى» في الأصل علّة الجزاء ، فأقيم مقامه.

والمعنى : فإن كرهتموهنّ فاصبروا عليهنّ ، فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١))

روي أنّ الرجل إذا أراد جديدة بهت الّتي تحته بفاحشة يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ، ليصرفه إلى تزوّج الجديدة ، فنهى الله تعالى عن ذلك بقوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) تطليق امرأة وتزوّج أخرى (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَ) أي : إحدى الزوجات. جمع الضمير لأنّه أراد بالزوج الجنس. (قِنْطاراً) مالا كثيرا ، وهو الصداق ، من : قنطرت الشيء إذا رفعته ، ومنه : القنطرة ، لأنّها بناء مشيّد (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) أي : من القنطار ، أي : لا ترجعوا فيما أعطيتموهنّ من المهر إذا كرهتموهنّ وأردتم طلاقهنّ (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) استفهام إنكار وتوبيخ ،

__________________

(١) الأحزاب : ٣٠ ، الطلاق : ١.

٣٥

أي : أتأخذونه باهتين وآثمين؟ ويحتمل النصب على العلّيّة ، كما في قولك : قعدت عن الحرب جبنا ، لأنّ الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم.

والبهتان الكذب الّذي يبهت المكذوب عليه ، فيتحيّر. وقد يستعمل في الفعل الباطل ، ولهذا فسّر هاهنا بالظلم.

ثم أنكر تعجيبا استرداد المهر بقوله : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) أي : عجبا من فعلكم كيف تأخذون ذلك المهر (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ)؟! الجملة حاليّة من فاعل «تأخذونه». والإفضاء كناية عن الجماع. والمعنى : وكيف تأخذون مهرهنّ والحال أنّه وصل بعضكم إلى بعضها بالملامسة ، ودخل بها وتقرّر المهر؟! (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) عهدا وثيقا ، وهو حقّ الصحبة والممازجة والمضاجعة. ووصفه بالغلظ لقوّته وعظمه ، فقد قالوا : صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتّحاد والامتزاج؟! وقيل : الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وأشار إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «استوصوا بالنساء خيرا ، فإنّهنّ عوان (١) في أيديكم ، أخذتموهنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله».

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢))

ولمّا بيّن سبحانه ذكر شرائط النكاح عقّبه بذكر من تحلّ من النساء ومن لا تحلّ ، فقال : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) ولا تنكحوا الّتي نكحها آباؤكم. وإنّما ذكر «ما» دون «من» لأنّه أريد به الصفة ، لأنّ المعنى : لا تنكحوا منكوحة آبائكم.

__________________

(١) العاني : الأسير ، ومؤنّثه : العانية ، والجمع : عناة وعوان ، كحافي وحفاة ، وجارية وجوار.

٣٦

وقيل : «ما» مصدريّة على إرادة المفعول من المصدر ، أي : لا تنكحوا نكاح آبائكم ، بمعنى منكوحتهم ، إطلاقا للمصدر على المفعول. (مِنَ النِّساءِ) بيان ما نكح على الوجهين (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) استثناء من المعنى اللازم للنهي ، كأنّه قيل : تستحقّون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلّا ما قد سلف ، فإنّه معفوّ عنها. أو من اللفظ ، للمبالغة في التحريم والتعميم ، كقوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

والمعنى : ولا تنكحوا حلائل آبائكم إلّا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوا فانكحوه ، فإنّه لا يحلّ لكم غيره ، ولكنّه غير ممكن. فالغرض المبالغة في التحريم.

وقيل : الاستثناء منقطع ، ومعناه : لكن ما قد سلف ، فإنّه لا مؤاخذة عليه ، لا أنّه مقرّر.

عن ابن عبّاس وغيره : أنّ هذه الآية نزلت فيما كان يفعل أهل الجاهليّة من نكاح امرأة الأب ، ومنهم صفوان بن أميّة تزوّج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطّلب ، وتزوّج حصين بن أبي قيس امرأة أبيه كبيشة بنت معن كما مرّ ، وتزوّج منظور بن ريّان امرأة أبيه مليكة بنت خارجة.

قال أشعث بن سوار : توفّي أبو قيس ، وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأته. فقالت : إنّي أعدّك من ولدي ، وأنت من صالحي قومك ، ولكنّني آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأستأمره ، فأتته فأخبرته. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارجعي إلى بيتك. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وكان ناس من ذوي مروءة الجاهليّة يمقتون ذلك ، ويسمّونه نكاح المقت ، ويقولون لمن ولد عليه : المقتي. ولهذا قال عزّ اسمه : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) أي : إنّ نكاحهنّ فاحشة عند الله ، بالغة في القبح في دين الله ، ما رخّص فيه لأمّة من الأمم (وَمَقْتاً) وممقوتا مبغوضا عند ذوي المروءات (وَساءَ سَبِيلاً) سبيل من يراه

٣٧

ويفعله ، أي : بئس طريقا ذلك النكاح الفاسد.

وفي الآية دلالة على أن كلّ من عقد عليها الأب من النساء يحرم على الابن ، دخل بها الأب أو لم يدخل. وهذه مسألة إجماعيّة عند أهل الإسلام.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤))

ثمّ بيّن سبحانه محرّمات أخر من النساء بقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) ليس المراد تحريم ذاتهنّ ، لأنّ التحريم لا يتعلّق بالأعيان ، وإنّما يتعلّق بأفعال المكلّفين. فالمراد تحريم نكاحهنّ ، لأنّه معظم ما يقصد منهنّ. ولأنّه المتبادر إلى الفهم ، كتحريم الأكل

٣٨

من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (١) ، وكما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها.

ولأنّ ما قبله وما بعده في النكاح.

وأمّهاتكم تعمّ من ولدتك ، أو ولدت من ولدك وإن علون ، سواء كنّ من قبل الأب أو من قبل الأمّ. وبناتكم تتناول من ولدتها ، أو ولدت من ولدها وإن سفلن.

وأخواتكم الأخوات من قبل أب أو أمّ أو منهما. والعمّات كلّ أخت لذكر رجع النسب إليه بالولادة ، من قبل الأب كان أو من قبل الأمّ. والخالات كلّ أخت لأنثى رجع النسب إليها بالولادة ، من جهة الأمّ أو من جهة الأب. وبنات الأخ والأخت كلّ بنات الإخوة ، من قبل الأب كنّ أو من قبل الأمّ ، قربن أو بعدن. فهؤلاء السبع من المحرّمات من جهة النسب.

ثم ذكر المحرّمات من جهة السبب فقال : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ). نزّل الله تعالى الرضاعة منزلة النسب ، حتّى سمّى المرضعة أمّا ، والمراضعة أختا. فعلى هذا يكون زوج المرضعة أبا للرضيع ، وأبواه جدّيه ، وأخته عمّته ، وكلّ ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه ، وأمّ المرضعة جدّته ، وأختها خالته ، وكلّ من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمّه ، وكلّ من ولد لها من غير هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأمّه. ومنه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

وشرائط الرضاع ، والأحكام المتعلّقة به ، والمسائل المتفرّعة عليه ، مذكورة في الفقه ، فليطالع.

ثم قال سبحانه : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) فذكر أوّلا محرّمات النسب ، ثم الرضاعة ، لأنّ لها لحمة كلحمة النسب ، ثم محرّمات

__________________

(١) المائدة : ٣.

٣٩

المصاهرة ، فإنّ تحريمهنّ عارض لمصلحة الزواج.

والربائب جمع ربيبة. والربيب ولد المرأة من آخر ، سمّي به لأنّه يربّه كما يربّ ولده في غالب الأمر ، فعيل بمعنى مفعول ، وإنّما لحقه التاء لأنّه صار اسما.

و «اللاتي» بصلتها صفة لها. ولا يجوز تعلّقها بالأمّهات أيضا ، لأنّ «من» إذا علّقتها بالربائب كانت ابتدائيّة ، وإذا علّقتها بالأمّهات لم يجز ذلك ، بل وجب أن يكون بيانا لنسائها ، والكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء.

والحجور جمع الحجر ، يقال : فلان في حجر فلان ، أي : في تربيته. ولا خلاف بين العلماء أنّ كونهنّ في حجره ليس بشرط في التحريم ، وإنّما ذكر ذلك لأنّ الغالب أنّها تكون كذلك ، أو تكون فائدة ذكره تقوية العلّة وتكميلها.

والمعنى : أنّ الربائب إذا دخلتم بأمّهاتهنّ وهنّ في احتضانكم قوي الشبه بينها وبين أولادكم ، وصارت أحقّاء بأن تجروها مجراهم ، لا تقييد الحرمة. وهذا يقتضي تحريم بنت المرأة من غير زوجها على زوجها ، وتحريم بنت ابنها وبنت بنتها ، قربت أو بعدت ، لوقوع اسم الربيبة عليهنّ.

وقوله : (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) متعلّق بربائبكم. والمعنى : أنّ الربيبة من المرأة المدخول بها محرّمة على الرجل. ولا يجوز أن يكون هذا الموصول صفة للنساءين ، لأنّ عاملهما مختلف ، فإنّ العامل في الأوّل اللام ، ومعناها الاختصاص ، وفي الثاني «من» ومعناها في هذا الموضع الابتداء ، فيظهر المغايرة بينهما. وحكم الصفة حكم الموصوف ، فإن جعلنا الموصول صفة للنساءين ، فيجتمع فيها اعتبار معنى الموصوفين ، أعني : النساءين جميعا ، وهو باطل.

ويؤيّده ما روى العيّاشي في تفسيره بإسناده عن إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ابن محمد عليه‌السلام ، عن أبيه ، قال : «إنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : الربائب عليكم حرام مع

٤٠