زبدة التّفاسير - ج ٢

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٢

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-04-3
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٥٦

ملوكا. وقيل : الملك من له مسكن واسع ، فيه ماء جار. وقيل : من له بيت وخدم.

وقيل : من له مال لا يحتاج معه إلى تكلّف الأعمال وتحمّل المشاقّ.

(وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) من فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المنّ والسلوى ، وغير ذلك من الأمور العظام. وقيل : أراد عالمي زمانهم.

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))

ثم كلّفهم سبحانه دخول الأرض المقدّسة بعد ذكر النعم ، فقال : قال موسى لهم : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) أرض بيت المقدس ، سمّيت بذلك لأنّها كانت قرار الأنبياء عليهم‌السلام ومسكن المؤمنين. وقيل : الطور وما حوله. وقيل : دمشق

٢٤١

وفلسطين وبعض الأردن. وقيل : الشام. (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي : قسّمها لكم ، أو كتب في اللوح المحفوظ أنّها تكون مسكنا لكم ، ولكن إن آمنتم وأطعتم ، لقوله لهم بعد ما عصوا : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) (١).

(وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) ولا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة. قيل : لمّا سمعوا حالهم من النقباء بكوا وقالوا : ليتنا متنا بمصر ، تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر. أو لا ترتدّوا عن دينكم بعصيانكم نبيّكم ومخالفتكم أمر ربّكم. (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) ثواب الدنيا والآخرة. ويجوز في «فتنقلبوا» الجزم على العطف ، والنصب على الجواب.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) متغلّبين لا تتأتّى مقاومتهم. والجبّار فعّال من : جبره على الأمر بمعنى : أجبره ، وهو العاتي الّذي يجبر الناس على ما يريد.

قال ابن عبّاس : لمّا بعث من قومه اثني عشر نقيبا ليخبروه خبرهم ، رآهم رجل من الجبّارين يقال له عوج ، فأخذهم في كمّه مع فاكهة كان حملها من بستانه ، وأتى بهم الملك ، فنثرهم بين يديه ، وقال الملك تعجّبا منهم : هؤلاء يريدون قتالنا! فقال الملك ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا. قال مجاهد : وكان فاكهتهم لا يقدر على حمل عنقود منها خمسة رجال بالخشب ، ويدخل في قشر نصف رمّانة خمسة رجال ، وإنّ موسى كان طوله عشرة أذرع ، وله عصا كان طولها عشرة أذرع ، ونزا (٢) من الأرض مثل ذلك ، فبلغ كعب عوج بن عناق فقتله. وقيل : كان طول سريره ثمانمائة ذراع.

(وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) إذ لا طاقة

__________________

(١) المائدة : ٢٦.

(٢) نزا ينزو ، أي : وثب.

٢٤٢

لنا بهم.

(قالَ رَجُلانِ) كالب ويوشع (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) أي : من الّذين يخافون الله تعالى ويتّقونه. وقيل : كانا رجلين من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى واتّبعاه حين بلغهما خبره. وعلى هذا ، الواو (١) لبني إسرائيل ، والراجع إلى الموصول محذوف ، أي : من الّذين يخافهم بنو إسرائيل. (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالإيمان والتثبيت. وهو صفة ثانية لـ «رجلان» أو اعتراض. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) باب قريتهم ، أي :باغتوهم وضاغطوهم في المضيق ، وامنعوهم من الإصحار (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) لتعسّر الكرّ عليهم في المضايق من عظم أجسامهم ، ولأنّهم أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم. ويجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه‌السلام وقوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، أو ممّا علما من عادته تعالى في نصرة رسله ، وما عهدا من صنعه تعالى لموسى عليه‌السلام في قهر أعدائه. (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : مؤمنين به ، ومصدّقين بوعده.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً) نفوا دخولهم في المستقبل مدى الدهر المتطاول على التأكيد والتأييد (ما دامُوا فِيها) بدل من «أبدا» بدل البعض ، أو بيان للأبد (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) قالوا ذلك على وجه الاستهانة منهم بالله ورسوله ، وعدم مبالاة بهما ، أو استهزاء ، وقصدوا ذهابهما حقيقة ، لجهلهم وقسوة قلوبهم الّتي عبدوا بها العجل ، وسألوا بها رؤية الله جهرة. ويحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب ، ولكن كما تقول : كلّمته فذهب يجيبني ، تريد معنى الإرادة والقصد للجواب ، كأنّهم قالوا : أريدا قتالهم. وقيل : تقديره : فاذهب أنت وربّك يعينك.

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ) لنصرة دينك ، وترويج أحكامك (إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي)

__________________

(١) أي : الواو في «يخافون».

٢٤٣

قاله شكاية منه إلى الله تعالى ، وإظهارا لبثّه وحزنه لمّا خالفه قومه ، وأيس منهم ، ولم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه‌السلام. ونحوه قول يعقوب عليه‌السلام : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) (١).

وعن عليّ عليه‌السلام : أنّه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة ، فما أجابه إلّا رجلان ، فتنفّس الصعداء ، فدعا لهما وقال : أين تقعان ممّا أريد.

والرجلان المذكوران وإن كانا يوافقانه لم يثق عليهما ثقة هارون ، لما كابد من تلوّن قومه. ويجوز أن يراد بـ «أخي» من يؤاخيني في الدين ، فيدخلان فيه.

وذكر في إعراب «أخي» وجوه. نصبه عطفا على «نفسي» ، أو على اسم «إنّ» أي : وإنّ أخي لا يملك إلّا نفسه. وجرّه عند الكوفيّين عطفا على الضمير في «نفسي». وهو ضعيف ، لقبح العطف على الضمير المجرور إلا بتكرير الجارّ. ورفعه عطفا على الضمير في «لا أملك» أو على «إنّ» واسمها.

(فَافْرُقْ) فافصل (بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) بأن تحكم لنا بما نستحقّه ، وتحكم عليهم بما يستحقّونه ، أو بالتبعيد بيننا وبينهم ، تخليصا من صحبتهم ، فهو في معنى الدعاء عليهم.

(قالَ فَإِنَّها) فإنّ الأرض المقدّسة (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) لا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) عامل الظرف ـ وهو أربعين ـ إمّا «محرّمة» فيكون التحريم مؤقّتا غير مؤبّد ، فلا يخالف قوله : (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ). وإمّا «يتيهون» أي : يسيرون فيها متحيّرين لا يرون طريقا ، فيكون التحريم مطلقا. ويؤيّد الأوّل ما روي أنّ موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل ، وكان يوشع على مقدّمته ، ففتح أريحا وأقام بها ما شاء الله ثم قبض.

وقيل : مات موسى في التيه ، ولمّا احتضر أخبرهم بأنّ يوشع بعده نبيّ الله ،

__________________

(١) يوسف : ٨٦.

٢٤٤

وأنّ الله أمره بقتال الجبابرة ، وكان هارون مات قبله بسنة ، وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة في ملك أفريدون ومنوچهر ، وكان عمر يوشع مائة وستّة وعشرين ، وكان بعد وفاة موسى مدبّرا لأمر بني إسرائيل سبعا وعشرين سنة ، ومات النقباء في التيه بغتة غير كالب ويوشع ، فسار يوشع بهم إلى أريحا بعد مضيّ ثلاثة أشهر من فوت موسى ، وقاتل الجبابرة. وروي أنّ الشمس غابت في أثناء المحاربة ، فدعا يوشع فردّ الله تعالى عليهم الشمس حتى قتلوا الجبابرة وفتحوا أريحا ، وصار الشام كلّه لبني إسرائيل.

وقيل : لم يدخل الأرض المقدّسة أحد ممّن قال : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) وهلكوا في التيه ، ولمّا نشأت ذراريهم قاتلوا الجبّارين ودخلوها. فيكون التقدير : كتب الله لكم الأرض المقدّسة بشرط أن تجاهدوا أهلها ، فلمّا أبوا الجهاد قيل : فإنّها محرّمة عليهم.

والتيه المفازة الّتي يتاه فيها ، فقد روي أنّهم لبثوا أربعين سنة في ستّة فراسخ يسيرون كلّ يوم من الصباح إلى المساء ، فإذا هم كانوا بحيث ارتحلوا عنه ، وكان الغمام يظلّهم من حرّ الشمس ، ويطلع عليهم بالليل عمود من نور يضيء لهم ، وينزل عليهم المنّ والسلوى ، وماؤهم من الحجر الّذي يحملونه ، ولا تطول شعورهم ، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله.

وقيل : كان موسى وهارون معهم ، لقوله : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

وقيل : كانا معهم ، إلّا أنّه كان ذلك روحا لهما وسلامة ، كالنار لإبراهيم ، وملائكة العذاب. وهذا قول أكثر المفسّرين والمؤرّخين.

(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) خاطب به موسى لمّا ندم على الدعاء عليهم. والمعنى : فلا تحزن عليهم ، فإنّهم أحقّاء بذلك لفسقهم.

٢٤٥

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))

واعلم أنّ الله سبحانه بعد تبيين قصّتهم أراد أن يبيّن أنّ حالهم في نقض العهد وارتكاب الفواحش ، كارتكاب ابن آدم عليه‌السلام في قتله أخاه ، وما عاد عليه من الوبال ، فأمر نبيّه أن يتلو عليهم أخبارهما ، تسلية له فيما ناله من جهلهم وتكذيبهم ، وتبكيتا لهم ، فقال : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) قابيل وهابيل. روي أنّ الله تعالى أوحى إلى آدم أن يزوّج كلّ واحد منهما توأمة الآخر ، فسخط منه قابيل ، لأنّ توأمة قابيل ـ وهي إقليما ـ أجمل ، فحسد عليها أخاه وسخط ، فقال لهما آدم : قرّبا قربانا فمن أيّكما تقبّل تزوّجها ، فقبل قربان هابيل ، بأن نزلت نار فأكلته ، فازداد قابيل حسدا وسخطا ، وتوعّده بالقتل. وقيل : لم يرد بهما ابني آدم لصلبه ، وإنّهما رجلان من بني

٢٤٦

إسرائيل ، ولذلك قال : (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) (١). والأوّل أكثر وأشهر وأصحّ.

والمعنى : اتل على بني إسرائيل نبأهما تلاوة ملتبسة (بِالْحَقِ) والصدق.

ويحتمل أن يكون حالا من الضمير في «اتل» أو من «نبأ» أي : ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأوّلين.

(إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) ظرف لـ «نبأ» ، أو حال منه ، أو بدل على حذف مضاف ، أي : أتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت. والقربان : اسم ما يتقرّب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو غيرها ، كما أنّ الحلوان اسم ما يحلى ، أي : يعطى. وهو في الأصل مصدر ، ولذلك لم يثنّ. وقيل : تقديره : إذ قرّب كلّ واحد قربانا.

وروي أنّ قابيل كان صاحب زرع وقرّب أردأ قمح عنده ، وهابيل صاحب ضرع وقرّب جملا سمينا.

(فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) وهو هابيل (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) هو قابيل : لأنّه سخط حكم الله ، ولم يخلص النيّة في قربانه ، وقصد إلى أخسّ ما عنده (قالَ) أي : قال الّذي لم يتقبّل قربانه منهما ـ وهو قابيل ـ للّذي تقبّل قربانه وهو هابيل : (لَأَقْتُلَنَّكَ) توعّده بالقتل ، لفرط الحسد له على تقبّل قربانه ، ولذلك (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) في جوابه ، كأنّه قال له : لم تقتلني؟ قال : لأنّه تقبّل منك ، ولم يتقبّل منّي. قال : إنّما أتيت من قبل نفسك ، لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي فلم تقتلني؟

قيل : إنّ سبب أكل النار للقربان أنّه لم يكن هناك فقير يدفع إليه ما يتقرّب به إلى الله تعالى ، فكانت تنزل نار من السماء فتأكله.

وعن إسماعيل بن رافع : أنّ قربان هابيل كان يرتع في الجنّة حتى فدي به ابن إبراهيم.

وفي الآية دليل على أنّ الله إنّما يتقبّل الطاعة ممّن هو زكيّ القلب متّق ، وأنّ

__________________

(١) المائدة : ٣٢.

٢٤٧

الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ، ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا ، لا في إزالة حظّه ، فإنّ ذلك ممّا يضرّه ولا ينفعه.

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) مددت إليّ يدك (لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) لأنّ إرادة القتل قبيح ، وإنّما يحسن من المظلوم قتل الظالم على وجه المدافعة له ، طلبا للتخلّص من غير أن يقصد إلى قتله ، فكأنّه قال : لئن ظلمتني لم أظلمك ، اي : لئن بسطت إليّ يدك على سبيل الظلم والابتداء لتقتلني ، ما أنا بباسط يدي إليك على وجه الظلم والابتداء (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) في مدّي إليك يدي لقتلك.

قيل : كان هابيل أقوى منه ، ولكن تجنّب من قتله واستسلم له خوفا من الله ، لأنّ الدفع لم يبح بعد ، وكان الصبر عليه هو المأمور به ، ليكون الله هو المتولّي للانتصاف. وإنّما قال : (ما أَنَا بِباسِطٍ) بالجملة الاسميّة في جواب (لَئِنْ بَسَطْتَ) ، للتبرّي عن هذا الفعل الشنيع رأسا ، والتحرّز من أن يوصف به ويطلق عليه ، ولذلك أكّد النفي بالباء.

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) هذا تعليل ثان للامتناع عن المعارضة والمقاومة. والمعنى : إنّما أستسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي ، وإثمك ببسطك يدك إليّ قبل قتلي. وهذا منقول عن ابن عبّاس وابن مسعود والحسن وقتادة ومجاهد والضحّاك. ونحوه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المستبّان ما قالا فعلى البادي ، ما لم يعتد المظلوم» أي : البادي عليه إثم سبّه ، ومثل إثم سبّ صاحبه ، لأنّه كان سببا فيه. ومثل ذلك ما قيل : إنّ معناه : بإثم قتلي وإثمك الّذي هو قتل جميع الناس ، حيث سننت القتل.

أو المعنى : إنّي لا أبدؤك بالقتل ، لأنّي أريد أن ترجع بإثم قتلي وإثمك الّذي من أجله لم يتقبّل قربانك.

وكلاهما في موضع الحال ، أي : ترجع ملتبسا بالإثمين حاملا لهما. ولم يرد بذلك معصية أخيه وشقاوته ، بل قصده بهذا الكلام أنّ ذلك إن كان لا محالة واقعا ،

٢٤٨

فأريد أن يكون لك لا لي. فالمراد بالذات أن لا يكون له ، لا أن يكون لأخيه.

ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته ، وإرادة عقاب العاصي جائزة.

(فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) فتصير بذلك من الملازمين النار (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي : عقاب العاصين المتعدّين.

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) فسهّلته ويسّرته له ووسّعته ، من : طاع له المرتع ، إذا اتّسع. وذكر «له» لزيادة الربط ، كقولك : حفظت لزيد ماله. (فَقَتَلَهُ) عن مجاهد : لم يدر قابيل كيف يقتله ، فظهر له إبليس في صورة طير ، وأخذ طيرا آخر وترك رأسه بين حجرين فشدخه ، ففعل قابيل مثله. وقيل : هو أوّل قتيل كان في الناس. (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) فصار ممّن خسر الدنيا والآخرة ، وذهب عنه خيرهما ، إذ بقي مدّة عمره مطرودا محزونا ، وبعد الموت يرجع إلى العذاب الأليم.

قيل : قتل هابيل ، وهو ابن عشرين سنة ، عند عقبة حراء. وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.

وروي أنّه لمّا قتله تركه بالعراء ، وتحيّر في أمره ، ولم يدر ما يصنع به (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ) أي : يحفر (فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) إذ كان أوّل ميّت من بني آدم ، فقصده السباع ، فحمله في جراب على ظهره حتى أروح (١) ، وعكفت عليه الطير والسباع ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، ثمّ حفر له بمنقاره ورجليه ، ثمّ ألقاه في الحفيرة.

والضمير في «ليري» لله ، أو للغراب. ولمّا كان سبب تعليمه فكأنّه قصد تعليمه. و «كيف» حال من الضمير في «يواري» ، والجملة ثاني مفعولي «يرى».

والمراد بـ «سوءة أخيه» جسده الميّت ، فإنّه ممّا يستقبح أن يرى. وأصلها الفضيحة ، لهذا كنّى به عن العورة.

ولمّا رأى ذلك قابيل (قالَ يا وَيْلَتى) كلمة جزع وتحسّر ، والألف فيها بدل

__________________

(١) أروح الماء : أنتن وخبثت رائحته.

٢٤٩

من ياء المتكلّم. والمعنى : يا ويلتي احضري ، فهذا أوانك. والويل والويلة الهلكة.

(أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) لا أهتدي إلى ما اهتدي إليه. وقوله : (فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) عطف على «أن أكون» ، وليس جواب الاستفهام ، إذ ليس المعنى : لو عجزت لواريت (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) فصار منهم على قتله ، لما كابد فيه من التحيّر في أمره ، وحمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل ، وتلمّذه للغراب ، واسوداد لونه ، وتبرّء أبويه منه ، إذ روي أنّه لمّا قتله اسودّ جسده ، فسأله آدم عن أخيه ، فقال : ما كنت عليه وكيلا ، فقال : بل قتلته ، ولذلك اسودّ جسدك ، وتبرّأ منه ، ومكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك ، ولم يظفر (١) بما فعله لأجله.

وعن ابن عبّاس قال : لمّا قتل قابيل هابيل ، أشاك الشجر ، وتغيّرت الأطعمة وحمضت الفواكه ، وأمرّ الماء ، واغبرّت الأرض ، فقال آدم : قد حدث في الأرض حدث ، فأتى الهند فإذا قابيل قتل هابيل ، فأنشأ يقول :

تغيّرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغيّر كلّ ذي لون وطعم

وقلّ بشاشة الوجه الصبيح

وقالوا : لمّا مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة ، وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ، ولدت له حوّاء شيثا ، وتفسيره : هبة الله ، يعني : أنّه خلف من هابيل ، وكان وصيّ آدم ووليّ عهده. فأمّا قابيل فقيل له : اذهب طريدا شريدا فزعا مذعورا ، لا تأمن من تراه. وذهب إلى عدن من اليمن ، فأتاه إبليس فقال : إنّما أكلت النار قربان هابيل لأنّه كان يعبدها ، فانصب أنت نارا تكون لك ولعقبك ، فبنى بيت نار ، وهو أوّل من نصب النار وعبدها ، واتّخذ أولاده آلات اللهو من الطبول والمزامير والعيدان ، وانهمكوا في اللهو ، وشرب الخمر ، وعبادة النار ، والزنا والفواحش ، حتّى غرقهم الله أيّام نوح بالطوفان وبقي نسل شيث.

__________________

(١) أي : لم يظفر قابيل بما أراد من قتل أخيه ، وهو التزوّج بتوأمته.

٢٥٠

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))

ثم بيّن سبحانه التكليف في باب القتل ، فقال : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) بسببه وبعلّته (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) قضينا عليهم. وأصل «أجل» مصدر : أجل شرّا إذا جناه ، يأجله أجلا ، استعمل في تعليل الجنايات ، فإذا قلت : من أجلك فعلت كذا ، فكأنّك أردت من أن جنيت فعله وأوجبته فعلت ، ثم اتّسع فيه فاستعمل في كلّ تعليل. و «من» ابتدائيّة متعلّقة بـ «كتبنا». وذلك إشارة إلى القتل المذكور ، اي : ابتداء الكتب وإنشاؤه من أجل القتل المذكور.

(أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) بغير قتل نفس يوجب القصاص (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أو بغير فساد فيها ، كالشرك وقطع الطريق وإخافة السبيل (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) فكأنّه قصد لقتلهم جميعا ، من حيث إنّه هتك حرمة الدماء ، وسنّ القتل ، وجرّأ الناس عليه. أو من حيث إنّ قتل الواحد والجميع سواء في استجلاب غضب الله والعذاب العظيم. أو من حيث إنّه قتل أخاهم ، وصاروا خصماءه في قتل النفس.

(وَمَنْ أَحْياها) أي : ومن تسبّب لبقاء حياتها بعفو ، أو منع عن القتل ، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة (فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) فكأنّه فعل ذلك بالناس جميعا ، يأجره الله على ذلك أجر من أحياهم باسرهم ، لأنّه في إسدائه

٢٥١

المعروف إليهم بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كلّ واحد منهم ، لأنّ فعله باعث على اقتداء الناس به بمثل فعله ، فصاروا كلّهم سالمين عن القتل ، فكأنّه أحياهم كلّهم. والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ، ترهيبا عن التعرّض لها ، وترغيبا في المحاماة عليها.

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أي : بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية ، وأرسلنا إليهم بالآيات الواضحة ، تأكيدا للأمر ، وتجديدا للعهد ، كي يتحاموا عنها ، وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ، ولا يبالون به. وبسبب هذا اتّصلت القصّة بما قبلها. والإسراف التباعد عن الاعتدال في الأمر.

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))

ولمّا قدّم سبحانه ذكر القتل وحكمه ، عقّبه بذكر قطّاع الطريق والحكم فيهم ، فقال : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي : يحاربون أولياءهما ، وهم المسلمون ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) (١). جعل محاربتهم محاربتهما تعظيما. وأصل الحرب السلب. (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي : مفسدين.

__________________

(١) الأحزاب : ٥٧.

٢٥٢

ويجوز نصبه على العلّة أو المصدر ، لأنّ سعيهم كان فسادا ، فكأنّه قيل : ويفسدون في الأرض فسادا.

وروي عن أئمّتنا عليهم‌السلام أنّ المحارب كلّ من شهر السلاح ، وأخاف الطريق ، سواء كان في المصر أو خارجه ، فإنّ اللصّ المحارب في المصر وخارجه سواء.

وهو مذهب الشافعي أيضا ، والأوزاعي ومالك. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنّ المحارب هو قاطع الطريق في غير المصر.

ولمّا كان «إنّما» موضوعة للحصر ، فيكون معنى الآية : ما جزاؤهم إلّا (أَنْ يُقَتَّلُوا) أي : من غير صلب إن اقتصروا على القتل ، ولم يأخذوا المال (أَوْ يُصَلَّبُوا) أي : يصلّبوا مع القتل ، إن قتلوا وأخذوا المال. وللفقهاء خلاف في أنّه يقتل ويصلب ، أو يصلب حيّا ويترك ، أو يطعن حتّى يموت. (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى ، إن أخذوا المال ولم يقتلوا (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أي : ينفوا من بلد إلى بلد ، بحيث لا يتمكّنوا من القرار في موضع إلى أن يتوبوا ، إن اقتصروا على الإخافة.

ويؤيّد ذلك التفسير ما روي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : «أنّ جزاء المحارب على قدر استحقاقه ، فإن قتل فجزاؤه أن يقتل ، وإن قتل وأخذ المال فجزاؤه أن يقتل ويصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل فجزاؤه أن تقطع يده ورجله من خلاف ، وإن أخاف السبيل فقط فإنّما عليه النفي لا غير».

وبه قال ابن عبّاس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والسدّي ، والربيع. وعلى هذا فلفظة «أو» ليست للإباحة هاهنا ، بل هي مرتّبة الحكم باختلاف الجناية. وقيل : للتخيير ، والامام مخيّر بين هذه العقوبات في كلّ قاطع طريق. والصحيح الأوّل.

(ذلِكَ) أي : ما ذكرناه (لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) فضيحة ومذلّة وهو ان فيها (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لعظم ذنوبهم. هذا دليل على أنّ الحدود لا تكفّر

٢٥٣

الذنوب والمعاصي ، لأنّه بيّن أنّهم يستحقّون العذاب العظيم في الآخرة ، مع إقامة الحدود عليهم. وليس في الآية أنه يفعل بهم ذلك لا محالة ، لأنّه يجوز أن يعفو الله عنهم ، ويتفضّل عليهم بإسقاط ما يستحقّونه من العذاب.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) استثناء مخصوص بما هو حقّ الله تعالى. ويدلّ عليه قوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أمّا القتل والجرح قصاصا وأخذ المال فإلى الأولياء ، إن شاؤا عفوا ، وإن شاؤا استوفوا. وتقييد التوبة بالتقدّم على القدرة يدلّ على أنّها بعد القدرة لا تسقط الحدّ ، بل يجب إقامة الحدّ عليه ، وإن أسقطت العذاب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥))

ولمّا تقدّم ذكر القتل والمحاربين ، عقّب ذلك بالموعظة والأمر بالتقوى عن المعاصي والمفاسد ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي : ما تتوسّلون به إلى ثوابه والزلفى عنده ، من فعل الطاعات وترك المعاصي وسائر المقبّحات ، من : وسل إلى كذا ، إذا تقرّب إليه. وقيل : الوسيلة أفضل درجات الجنّة.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنّها درجة في الجنّة ، لا ينالها إلّا عبد واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو».

وروى الأصبغ بن نباتة عن عليّ عليه‌السلام : «في الجنّة لؤلؤتان إلى بطنان العرش ، أحدهما بيضاء ، والأخرى صفراء ، في كلّ واحدة منهما سبعون ألف غرفة ، فالبيضاء الوسيلة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته ، والصفراء لإبراهيم وأهل بيته».

(وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

٢٥٤

بالوصول إلى الله تعالى ، والفوز بكرامته ، أي : اعلموا على رجاء الفلاح والفوز.

وقيل : «لعلّ» و «عسى» من الله واجب ، فكأنّه قال : اعملوا لتفلحوا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧))

وبعد وعد المؤمنين ذكر وعيد الكافرين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من صنوف الأموال ومن الأولاد والملك (جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) ليجعلوه فدية لأنفسهم (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) اللام متعلّقة بمحذوف تستدعيه «لو» ، إذ التقدير : لو ثبت أنّ لهم ما في الأرض. وتوحيد الضمير في «به» والمذكور شيئان ، إمّا لإجرائه مجرى اسم الإشارة في نحو قوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (١) ، أو لأنّ الواو في «ومثله» بمعنى «مع» فتوحّد المرجع ، أو من قبيل : فإنّي وقيّار بها لغريب (٢).

(ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) ذلك الفداء. جواب «لو» و «لو» بما في حيّزه خبر «أنّ».

والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم ، وأنّه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه بوجه (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تصريح بالمقصود منه. وكذلك قوله تعالى : (يُرِيدُونَ) أي : يتمنّون (أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) إنّما قال : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ) بدل : وما يخرجون ، للمبالغة (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم ، ثابت ، لا يزول ، ولا يحول.

__________________

(١) البقرة : ٦٨.

(٢) بيت شعر صدره : «فمن يك أمسى بالمدينة رحله» وهو لضابئ بن الحرث البرجمي كما في هامش الكشّاف ١ : ٦٢٩.

٢٥٥

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

لمّا ذكر سبحانه الحكم فيمن أخذ المال جهارا ، عقّبه ببيان الحكم فيمن أخذ المال سرّا ، فقال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) جملتان عند سيبويه.

والتقدير : فيما يتلى عليكم : السارق والسارقة ، أي : حكمهما. وجملة عند المبرّد.

والفاء للسببيّة ، دخل الخبر لتضمّنهما معنى الشرط ، إذ المعنى : والّذي سرق والّتي سرقت. والسرقة أخذ مال الغير في خفية. وإنّما توجب القطع إذا كانت من حرز ، والمأخوذ ربع دينار ، أو ما يساويه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القطع في ربع دينار فصاعدا».

ووضع الجمع موضع المثنّى ، كما في قوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (١) اكتفاءا بتثنية المضاف إليه.

والمراد باليدين اليمينان ، دلّت الأخبار الصحيحة عليه. وأطلقت لغة وعرفا على الجارحة المخصوصة ، من الكتف إلى رؤوس الأصابع ، وشرعا من المرفق إلى الرؤوس ، كما في آية (٢) الوضوء ، ومن الزند إلى الرؤوس ، كما في التيمّم عندنا ، وعلى الأصابع لا غير ، كما في قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (٣). ولم

__________________

(١) التحريم : ٤.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) البقرة : ٧٩.

٢٥٦

يبيّن في الآية المراد ، وحينئذ ليس أحد الاحتمالات أولى من الآخر ، فيكون اللفظ مجملا يبيّنه السنّة.

وذهب الخوارج إلى أنّ المقطع هو المنكب (١) ، والعامّة إلى الرسغ (٢). وعند أصحابنا الاماميّة أصول الأصابع اليمنى ، وتترك الإبهام والكفّ ، وفي المرّة الثانية يقطع الرجل اليسرى من أصل الساق ، ويترك عقبه يعتمد عليها في الصلاة ، فإن سرق بعد ذلك خلّد في السجن. هذا هو المشهور عند أصحابنا ، والمنقول عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(جَزاءً بِما كَسَبا) مجازاة بكسبهما (نَكالاً) عقوبة على ما فعلاه ، صادرة (مِنَ اللهِ) منصوبان على المفعول له ، أو المصدر ، ودلّ على فعلهما «فاقطعوا» (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب على كلّ ما يريد (حَكِيمٌ) عالم بوجوه الحكم والمصالح.

(فَمَنْ تابَ) من السرّاق (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي : سرقته (وَأَصْلَحَ) أمره ، بالتفصّي عن التبعات ، والعزم على أن لا يعود إليها (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقبل توبته ، فلا يعذّبه في الآخرة. أمّا القطع فلا يسقط بها عند الأكثرين من العامّة. وقال أصحابنا : بسقوطه بالتوبة قبل الثبوت عند الحاكم. أمّا بعده فإن ثبت بالبيّنة فلا سقوط ، وبالإقرار قيل : يتحتّم الحدّ كما في البيّنة ، وقيل : يتخيّر الامام.

وتحقيق ذلك في كتب الفقه.

(أَلَمْ تَعْلَمْ) الخطاب للنبيّ أو لكلّ أحد (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له التصرّف فيها بلا دافع ولا منازع (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) إذا كان مستحقّا للعذاب (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) إذا عصاه ولم يتب (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قدّم التعذيب على المغفرة ، إتيانا على ترتيب ما سبق ، أو لأنّ استحقاق التعذيب مقدّم ، أو لأنّ المراد به القطع ، وهو في الدنيا.

__________________

(١) المنكب : مجتمع رأس الكتف والعضد.

(٢) الرّسغ : المفصل ما بين الساعد والكفّ ، أو الساق والقدم.

٢٥٧

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤))

ولمّا تقدّم ذكر اليهود والنصارى ، عقّبه سبحانه بتسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمانه من

٢٥٨

كيدهم ، فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي : صنيع الّذين يقعون في الكفر سريعا ، يقال : أسرع فيه الشيب ، وأسرع فيه الفساد ، بمعنى : وقع فيه سريعا ، فكذلك مسارعتهم في الكفر ووقوعهم وتهافتهم فيه ، أسرع شيء إذا وجدوا منه فرصة. (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي : من المنافقين. والباء متعلّقة بـ «قالوا» لا بـ «آمنّا». والواو تحتمل الحال والعطف.

(وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) عطف على «مِنَ الَّذِينَ قالُوا» (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم سمّاعون. والضمير للفريقين ، أو لـ (الَّذِينَ يُسارِعُونَ).

ويجوز أن يكون مبتدأ ، و «من الّذين» خبره ، أي : ومن اليهود قوم سمّاعون. واللام في «للكذب» إمّا مزيدة للتأكيد ، أو لتضمين السماع معنى القبول ، أي : قابلون لما تفتريه الأحبار من الكذب على الله وتحريف كتابه ، أو للعلّة ، والمفعول محذوف ، أي : سمّاعون كلامك ليكذبوا عليك فيما يسمعون منك.

(سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أي : لجمع آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك ، وتجافوا عنك تكبّرا ، أو إفراطا في البغض. والمعنى على الوجهين : مصغون لهم قابلون كلامهم ، أو سمّاعون منك لأجلهم ، وللإنهاء إليهم. ويجوز أن تتعلّق اللام بالكذب ، لأنّ «سمّاعون» الثاني للتأكيد ، أي : سمّاعون ليكذبوا لقوم آخرين.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي : يميلونه عن مواضعه الّتي وضعه الله تعالى فيها ، إمّا لفظا بإهماله أو تغيير وضعه ، وإمّا معنى بحمله على غير المراد ، وإجرائه في غير مورده. والجملة صفة أخرى «لقوم» ، أو صفة لـ «سمّاعون» ، أو حال من الضمير فيه ، أو استئناف لا موضع له ، أو في موضع الرفع خبر لمحذوف ، أي : هم يحرّفون. وكذلك (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) أي : إن أوتيتم هذا المحرّف فاقبلوه واعملوا به (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي : فاحذروا قبول ما أفتاكم

٢٥٩

به.

روي أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان ، وحدّهما الرجم في التوراة ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، فبعثوهما مع نفر منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم (١) فاقبلوا ، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا.

فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وشعبة بن عمرو ، ومالك بن الصيف ، وكنانة بن أبي الحقيق ، فقالوا : يا محمّد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا.

فقال : وهل ترضون بقضائي في ذلك؟

قالوا : نعم.

فنزل جبرئيل بالرجم ، فأخبرهم بذلك ، فأبوا أن يأخذوا به. فقال له جبرئيل : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، ووصفه له.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تعرفون شابّا أبيض أعور يسكن فدكا يقال له : ابن صوريا؟

فقالوا : نعم.

قال : فأيّ رجل هو فيكم؟

قالوا : هو أعلم يهوديّ بقي على ظهر الأرض بما أنزل التوراة على موسى عليه‌السلام.

قال : فأرسلوا إليه. ففعلوا ، فأتاهم عبد الله بن صوريا. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي أنشدك الله الّذي أنزل التوراة على موسى ، وفلق لكم البحر فأنجاكم ، وأغرق آل فرعون ، وظلّل عليكم الغمام ، وأنزل عليكم المنّ والسلوى ، هل تجدون في كتابكم

__________________

(١) حمّم الشيء : صيّره أسود.

٢٦٠