انظر إلى أدب الرسول صلىاللهعليهوسلم مع الحق سبحانه تعالى مع قطعه بأنه يموت ، فإن الله يقول له : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) كيف استثنى لما أتى البقيع ووقف على القبور وسلّم عليهم قال : [وإنا إن شاء لله بكم لاحقون] فاستثنى في أمر مقطوع به ، فبقي على الأصل أدبا مع الله ، لما أتى في قوله [لاحقون] باسم الفاعل استثنى امتثالا لأمر الله تعالى لقوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) والموت أشرف من القتل ، فإنه صفة الأشرف صلىاللهعليهوسلم ، لأن الأكابر لا يتميزون بخرق العوائد ، فهم مع الناس عموما في جميع أحوالهم بظواهرهم ، وصحبة الرفيق الأعلى أولى ، والرفيق بعبده أرفق ، وهو عليه أشفق ، اختار الرفيق ، من أبان الطريق ، وهو بالفضل حقيق ، خيّر فاختار ، ورحل عنا وسار ، ليلحق بالمتقدم السابق ، ويلتحق به المتأخر اللاحق ، فلعلمه بأنه لا بد من الاجتماع ، اختار الخروج من الضيق إلى الاتساع ـ تحقيق ـ قال صلىاللهعليهوسلم : [كنت نبيا وآدم بين الماء والطين] يريد أن العلم بنبوته حصل له وآدم بين الماء والطين ، واستصحبه ذلك إلى أن أوجد جسمه ، فلم يشرك كما أشرك أهله حتى بعث للناس كافة ، فكان يذكر الله على كل أحيانه ، وقال صلىاللهعليهوسلم عن نفسه وهو الصادق [إنه تنام عينه ولا ينام قلبه] فأخبر عن قلبه أنه لا ينام عند نوم عينه عن حسه ، فكذلك موته إنما مات حسا كما نام حسا ، فإن الله يقول له : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) وكما أنه لم ينم قلبه لم يمت قلبه ، فاستصحبته الحياة من حين خلقه الله ، وحياته إنما هي مشاهدة خالقه دائما لا تنقطع ، فهذه حياته من غير موت معنوي وإن مات حسا.
(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣٣)
كنّى سبحانه وتعالى عن محمد صلىاللهعليهوسلم في هذه الآية بالذي جاء بالصدق ، فهو الأول الصادق (وَصَدَّقَ بِهِ) وهو الآخر الصديق ، فالخبر لا يكون أبدا إلا من الأول ، والتصديق لا يكون أبدا إلا من الآخر ، فالصدق متعلقه الخبر ومحله الصادق ، وليس بصفة لأصحاب الأدلة ، ولا للعلماء الذين آمنوا بما أعطتهم الآيات والمعجزات من الأدلة على صدق دعواه ،