بابه (أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي اختبرناه ، فإن الفتنة في اللسان الاختبار ، تقول العرب : فتنت الفضة على النار أي اختبرتها ؛ والفتنة الابتلاء ، وليس الابتلاء مما يحط درجة العبد عند الله ، بل ما يبتلي الله إلا الأمثل فالأمثل من عباده ، فإن الحق أوصى داود بقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) فاستغفر داود ربّه أي طلب الستر من الله الحائل بينه وبين الهوى المضل ليتصل به ، فيؤثر في الحكم الذي أرسل به ، فطلب طلبا مؤكدا الستر من ربه ، فإن الاستفعال يؤذن بالتوكيد (وَخَرَّ راكِعاً) ووقع خاضعا (وَأَنابَ) ورجع إلى الله فيما طلب لا لحوله وقوته ، فكان سقوطه إلى الأرض اختيارا قبل أن تسقطه الأهواء ، فكان ركوعه رجوعا إلى أصله من نفسه ، فهو عين الستر الذي طلبه في الاستغفار ، فعصمه الله وستره ، فما خر داود عن زلة أتى بها ، بل رجوعا إلى أسّه.
(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥)
(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) فقضينا حاجته فيما رجع إلينا فيه ، وسترناه عن الأغيار ، فجهل قدره ، مع تصريحنا بخلافته عنا في الحكم في عبادي والتحكم والتصريف (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) تقريب مما هو له منا ، لا يرجع من ذلك إلى الأكوان والأغيار شيء (وَحُسْنَ مَآبٍ) وخاتمة حسنة ، والسجدة هنا ليست من عزائم السجود ، وقد سجدها داود عليهالسلام توبة وشكرا معا ، وهي لمن سجدها سجدة شكر ـ إشارة ـ لما كان آدم أول من ظهر فيه أحكام الأسماء الإلهية ، ولم يزل يرتقي في أطوار بنيه ، لأن خلافته لم تكن منبسطة تماما لقلة عدد هذا النوع معه ، ولذلك كان نوح عليهالسلام أول الرسل حتى بلغ ذلك إلى داود عليهالسلام ، ومن ثمّ وقع النص على خلافته في الأرض ، وتزوج تسعا وتسعين امرأة ضرب مثال من الأسماء ، فلما طمع في الظهور باسم الذات ، ضرب له المثل المعروف السابق ذكره.
(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ