يجعل لكم فرقانا). فعندما توجهت قلوبهم وهمهم إلى الله تعالى ولجأت إليه ، وألقت عنها ما استمسك به الغير من دعوى البحث والنظر ونتائج العقول ، كانت عقولهم سليمة وقلوبهم مطهرة فارغة ، فعندما كان منهم هذا الاستعداد تجلى الحق لهم معلّما ، فأطلعتهم تلك المشاهدة على معاني هذه الأخبار والكلمات دفعة واحدة ، وهذا ضرب من ضروب المكاشفة ، فإنهم إذا عاينوا بعيون القلوب ما نزهته العلماء المتقدم ذكرهم بالإدراك الفكري ، لم يصح لهم عند هذا الكشف والمعانية أن يجهلوا خبرا من هذه الأخبار التي توهم ، ولا أن يبقوا ذلك الخبر منسحبا على ما فيه من الاحتمالات النزيهة من غير تعيين ، بل يعرفون الكلمة والمعنى النزيه الذي سيقت له ، فيقصرونها على ما أريدت له ، وإن جاء في خبر آخر ذلك اللفظ عينه فله وجه آخر من تلك الوجوه المقدسة ، معيّن عند هذا الشاهد ، وطائفة أخرى ليس لهم هذا التجلي ، ولكن لهم الإلقاء والإلهام واللقاء والكتابة ، وهم معصومون فيما يلقى إليهم بعلامة عندهم لا يعرفها سواهم ، فيخبرون بما خوطبوا به وما ألهموا به وما ألقي إليهم أو كتب ، وقد تقرر عند جميع المحققين الذين سلّموا الخبر لقائله ولم ينظروا ولا شبّهوا ولا عطلوا ، والمحققين الذين بحثوا واجتهدوا ونظروا على طبقاتهم ، والمحققين الذين كوشفوا وعاينوا ، والمحققين الذين خوطبوا وألهموا ، أن الحق تعالى لا تدخل عليه تلك الأدوات المقيدة بالتحديد والتشبيه على حد ما نعقله من المحدثات ، ولكن تدخل عليه بما فيها من معنى التنزيه والتقديس ، على طبقات العلماء والمحققين في ذلك لما فيه وتقتضيه ذاته من التنزيه ، وإذا تقرر هذا ، فقد تبيّن أنها أدوات التوصيل إلى أفهام المخاطبين ، وكل عالم على حسب فهمه فيها وقوة نفوذه وبصيرته ، فعقيدة التكليف هينة الخطب ، فطر العالم عليها ، ولو بقيت المشبهة على ما فطرت عليه ما كفرت ولا جسّمت ، وجاء في هذه الآية الاستواء على العرش بلفظ العرش ولفظ الاستواء ، وما هو نص في ظرفية المكان ، بخلاف اسم لفظة المكان ، فإنه نصّ بالوضع في ظرفيته ، والمتمكن في المكان نص فيه ، فعدل إلى الاستواء والعرش ، ليسوغ التأويل الذي يليق بالجناب العالي لمن يتأول ولا بد ، والأولى التسليم لله فيما قاله ، ورد ذلك إلى علمه سبحانه بما أراده في هذا الخطاب ، ونفي التشبيه المفهوم عنه ، بقوله (ليس كمثله شي) ـ المسألة الثانية في الاستواء ـ ذكر تعالى أنه استوى على العرش على طريق التمدح والثناء ، إذ كان العرش أعظم الأجسام ، والاستواء حقيقة معقولة معنوية